الاثنين، مارس 2

ذات يوم شتائي


ذات يوم شتائي

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

تهطل قطرات رذاذ من بقايا ليلة ماطرة. تتشكل دوائر في بقع المياة الراكدة في وسط الشارع. تكبر وتتسع ثم تتلاشى. تقف تحت عمود الانارة وهي ترتجف من البرد. بجانبها عمود قصير وضعت عليه لوحة خضراء صغيرة تحمل اسم الشارع. تحمل حقيبة أنيقة سوداء في يدها، وتلبس معطفاً طويلا خمرياً من قماش فاخر. تلف رقبتها بغلالة من الفرو وتلبس على رأسها قبعة سوداء يلفها شبر حريري أبيض يعطي القبعة شكلاً أنيقاً. تلبس حذاء نسائياً أسود اللون عالي الكعب مدبب الرأس. ترتدي فوق ساقيها جرابات طويلة شفافة رمادية. تمسك بيدها الاخرى القبعة خوف أن تطير. تهب ريح قوية فينفتح معطفها فيبدو فستانها الازرق الكحلي تحته. تنظر الى آخر الشارع ويداها ترتجفان من البرد.

السماء داكنة ملبدة بغيوم ثقيلة توحي بالكآبة والوحدة. من خلفها يمتد حقل واسع منحدر من الاعشاب والحشائش الخضراء. تلمع قطرات المطر على أوراق الحشائش. تركض فتاة صغيرة عبر وسط الحقل، بكنزتها الزهرية المونّسة بلون ذهبي وقبعتها الحمراء. تلبس بنطالاً رمادياً فضفاضاً. تحمل على كتفها حقيبة قماش سوداء ثقيلة منتفخة. يسير أمامها كلب أسود صغير الحجم غير عابيء بمياه المطر. تبدو البيوت العشوائية بعيدة صغيرة في نهاية الحقل الواسع بألوانها الباهتة. تنظر يُسرى الى آخر الشارع لعل سيارة تلوح بعد إنتظار طويل. يمر من أمامها رجال غير مبالين بالمطر، ونساء يحملن مظلات زاهية الالوان. أوراق الشجر على رصيف الشارع مثقلة بحبات المطر. تسقط القطرات وتتألق الاوراق لمعاناً.


يقف رجل يلبس معطفاً بنياً من الكتان ويلف وجهه ورأسه بشماغ مخطط بالابيض والاسود على حافة السور المقابل. يمسك بيديه طفلين يحملان حقيبتين على الظهر. ستمر الحافلة بعد قليل. ينظر الى سيل المياه الجارف الهادر عبر القناة خلف السور. مياه موحلة من الطين تضطرب وتندفع في القناة المكشوفة. ترتفع أمواجها ساحبة في طريقها كل شيء. ينظر برهبة الى المياه المندفعة ويسمع صوتها العنيف. تستغل يسرى لحظات إنشغاله. تنظر الى الطفلين وتبتسم لهما. يبتسمان لها أيضاً. ينظر اليها وهي تقف مرتعشة. تنظر اليه. تتلاقى العيون. تشيح بوجهها بعيداً. تمر سيارة مسرعة. تمد مظلتها كي تتوقف، لكن السيارة تستمر في سيرها. مرت سيارة أخرى فارغة رفعت مظلتها لكنها لم تتوقف. تنظر الى ساعتها بقلق وملل. تقف منذ حوالي نصف ساعة ولم تتوقف لها سيارة. كم تصبح المدينة كئيبة باهتة باردة القلب في الشتاء.


تنظر الى الفتاة الصغيرة تركض، والكلب أمامها وسط الحقل الاخضر. تتابعها بنظراتها. تبتعد وتصغر. تسرح بأفكارها. تنظر الى جهتي الطريق. تمر سيارات مسرعة ولا أحد يتوقف. ترشقها القطرات من عجلات السيارات.. تبتعد للخلف قليلاً. تشعر بالحنق وتلعن في داخلها لعنات مكبوتة. ستتأخر عن الدوام. من سيصدقها في المكتب؟ أنها تقف هنا منذ اكثر من نصف ساعة. لقد تأخرت في الايام الماضية رغماً عنها. لم يقل رياض لها شيئاً ، ولكن نظرات التكذيب بائنة في عينيه. شعور ينغص عليها يومها ويقتلها من الداخل. لا تريد أن يتجاسر عليها اذا استمرت تتأخر كل يوم. ربما يخرج عن صمته ويوجه لها ملاحظة قاسية. ستكون بداية تنذر بمعاملة أخرى. يكيفيها ما بها. لا تريد أن يزيد العمل من مراراتها المكبوتة. لقد استيقظت مبكرة هذا الصباح الماطر. ولكن الحظ يعاندها.


يسمع الرجل صوت الحافلة تقترب. ينظر الى ساعته. كل يوم ينتظرها في الصباح. صار سائق الحافلة يعرفه. تبدل السائقون منذ ثلاث سنوات، وهو يقف كل يوم مع الطفلين في ذات المكان. يصعد الطفلان الى الحافلة البرتقالية. تراقب يسرى الموقف بكل تفاصيله. تعود غصة من تجاويف الذاكرة، فتحس لها بطعم المرارة في الاعماق. تبلع ريقها. تنسى الاحساس بالبرد والوقت، وهي تتأمل منظر الطفلين يصعدان للحافلة. لم تعد تحس بشيء من حولها. تراه يلوح لهما بيديه مودعاً. تتحرك الحافلة وهو ما يزال ينظر اليهما. تتابعه بنظراتها. يلاحق الحافلة بنظراته حتى تختفي عند آخر الشارع. يعود أدراجه، فتبتلعه البناية. تنظر اليه يسرى وهو يختفي في رحم البناية المقابلة. تشرد بنظراتها الى الحقل المنحدر الواسع. لقد إختفت البنت الصغيرة. هدوء يسود المكان. تنتظر ملولة قلقة. ترتجف يداها من البرد. لكنها بقيت متسمرة مكانها. ربما يشفق عليها القدر فتتوقف لها سيارة. في آخر الشارع ينتظر كثيرون. لن تكون فرصتها أحسن حالاً. أحست بالضيق. لقد فات الوقت وهي ما تزال هنا. ستؤرقها نظرات رياض مثل كل يوم.


ما يزال رذاذ المطر يتساقط خفيفاً. تتسع الدوائر أمام ناظريها ثم تتلاشى. قصفة ريح تعبر وجهها فتحس بقشعريرة تسري في بدنها. توقفت حافلة برتقالية على الطرف الاخر. نزل منها طفلان يحملان حقيبتيهما على ظهريهما. نظرت اليهما. لم تصدق المفاجأة. لين بمعطفها الاحمر الغامق يلف جسدها وطاقية من الصوف المشغول باليد تغطي خصلات شعرها الذهبية. وعلاء يتلفع بمعطفة الكحلي الغامق من الجلد، وطاقية سوداء تغطي شعره الاشقر الناعم. وقفت مذهولة غير مصدقة. صرخت لين..علاء. التفت الطفلان اليها.. تبسمت.. بقي الطفلان صامتين. مشيا ناحية مدخل البناية. نسيت نفسها وهي تنزل الرصيف. غاصت قدماها في بركة ماء في الشارع. أحست بلسعة الماء البارد داخل حذائها. نادت مرة أخرى لين.. ماما.. علاء. قطعت الشارع من غير وعي. توقفت سيارة فجأة. كان صوت صرير عجلاتها مدوياً. ركضت اليهما. إحتضنتهما وهي تبكي. أخذت تقبلهما وتضمهما الى صدرها، وزفرات أنفاسها الحارة تخرج مع تنهداتها. أين كنتما؟ نظر الطفلان اليها بعيون مستغربة تملأهما الدهشة. بقيا صامتين. كانت تضمهما بكل حنان، وهما يشعران بحيرة.. لا يدريان شيئاً مما يجري.


لقد اشتاقت لهما كثيراً. لم ترهما منذ سبع سنوات. كل ليلة تحلم بهما. ما تزال صورتهما منطبعة في رأسها. إستقيظت في الليل على رائحة الغاز. اضطربت خوفاً. أيقظت غنام. نهض من فراشه وجرى للمطبخ. قفزت عن سريرها. لين نائمة في سريرها بكل هدوء، وعلاء في سريره الخشبي المشبك الصغير الى جانبها ووجه للاسفل على المخدة. انتابها خوف مرير مفاجيء. هزتهما بقوة. صرخت ماما.. ماما.. لم يستيقظا.. تسلل خوف مريع الى أعماقها .. رأت بوادر حركة على جفونهما المغمضة.. وأحست بأنفاسهما. إطمأن قلبها. جلست عند سريرهما تبكي. دخل غنام ووضع يده على رأسها وأخذ يهديء روعها.


ضمتهما الى صدرها أكثر. قالت والدموع في عينيها. أين كنتما. كنت أنتظركما كل يوم. هل نسيتما ماما؟ تحسستهما من معطفيهما أكثر. عادت الصور سريعاً كأنها تحدث الان. حين عادت للبيت في ذلك اليوم، لم تستطع فتح الباب.. كان هناك شيء ثقيل وراءه. بقيت تدفعه شيئاً فشيئا حتى إنفتح. لم تعرف ماذا جرى بعدها. حين فتحت عينيها كانت ممددة على السرير ومن حولها ستائر بيضاء. كانت أمها تمسك بيدها والممرضة تسجل في الاوراق على سريرها. لقد حطمتها الفاجعة. لم تحتمل بشاعتها. تعيش على المسكنات والابر المهدئة. لم تنهر أعصابها وحدها. لقد إنهار كل شيء في حياتها في غمضة عين. لا تزال الى الان ترفض التصديق. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟ أي بشر يمكن أن يفعل هذا؟ كيف استطاعت أن تسلبه تلك الاجنبية الشقراء عقله؟ كيف حولته الى وحش بلا قلب ليقتلهما بدم بارد؟ ما تزال صورة لين، وهي ترتمي على الباب، تحاول أن تفتحه قبل أن تلفظ أنفاسها، منطبعة في ذاكرتها. وعلاء يرقد على بعد خطوات منها مثل قطعة ثلج باردة.


أفاقت من شرودها على صوت ينادي عليها ويربت على كتفها. شكرا على إهتمامك بهما. أقدر كثيراً ما قمت به لاجل سلامتهما. كيف يتركانهما في الشارع هكذا؟ سأعرف كيف أتصرف معهم. ماذا لو لم أكن بالبيت؟ هذه المدرسة كلها فوضى. رن جرس مزعج قطع عليها حلمها. رفعت رأسها كان الظلام ما يزال يلف الغرفة والستائر مسدلة. فركت عينيها لم تتبين الوقت جيداً. حملت الساعة بين يديها. كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً! أحست بخيبة أمل. أسكتتها بقبضة من يدها، وعادت للنوم مرة أخرى. بقيت تتقلّب بقلق. وضعت رأسها تحت الفراش، وراحت تبكي في نشيج مكتوم متواصل.

* اللوحة أعلاه بعنوان صلاة لأجل المطر للفنان السوري الراحل فاتح المدرس 1922- 1999

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف4:14 م

    أسلوبك رائع و مشوق في سرد الأحداث,
    دعني أقول لك بكل صراحة ودون مجاملة مذ أن رأيتك للمرة الأولى عرفت أني أرى مبدعاً يستحق الثناء والتقدير شكراً لك على هذه المدونة الرائعة.

    ردحذف
  2. شكرا على كلماتك اللطيفة ايمان. اسعدني مرورك الجميل على مدونتي، وقراءتك لقصة ذات يوم شتائي. أرحب بك وبتعليقاتك وأتمنى استمرار كتاباتك على أوراقي.

    ردحذف