الجمعة، يناير 22

الرواية النسائية العربية: اشكاليات التمرد والوعي





ملامح تطور الرواية النسائية العربية..

اشكاليات التمرد والوعي ونظرة الاخر

بقلم: اياد ع. نصار

تطورت كتابة المرأة العربية كثيراً في أوائل القرن الحادي والعشرين وخرجت الى آفاق عالمية بشكل يلفت الانظار ولم تعد أسيرة الصالونات الادبية والثنائيات العاطفية النمطية كما كانت في أوائل القرن العشرين. ولم تعد الروائية العربية تنظر للكتابة النسوية على أنها منشور ضد القهر ونوع من التمرد على الثقافة الذكورية وحسب. لقد تجاوزت الرواية النسائية العربية عبء هذه الوظيفة، ولم تعد الكتابة مجرد صرخة احتجاج ضد حرمان المرأة من حقوقها في التعليم أو العمل أو مجرد دعوة للتمرد على القيم البطريركية التقليدية. وكما في الماضي ، حين استطاعت الكلمة، الحكاية تحديداً، أن تنقذ المرأة من الموت وأن تخلصها من خوف العبودية والاستغلال كما فعلت شهرزاد، فإن الكلمة، الرواية خصوصاً، هي عنوان تحرر المرأة مع بداية العصر الحديث في الادب العربي، بعد قرون من الارتهان للرجل باستثناء بعض النماذج المضيئة مثل ولادة بنت المستكفي في الاندلس في القرن الحادي عشر.


ترى الدكتورة بثينة شعبان في كتابها "مئة عام من الرواية النسائية العربية"، أن المخاوف من إتهام الروائيات العربيات بأنهن يطرحن قضايا ذات طابع سيري أو قضايا شخصية حول الحب والزواج والاطفال والاسرة وهي ليست ضمن اهتمامات الجمهور، دفعت ببعض الروائيات العربيات الى اختيار بطل ذكر بدلا من بطلة أنثى لرواياتهن، لكي يضفن على رواياتهن خبرة اجتماعية أعمق وأوسع.


عملياً، لم تكن هناك كتابات نسوية مستمرة قبل القرن الثامن عشر. تقول الاديبة الانجليزية فرجينيا وولف: "إن الجواب كامن في حاضر مقفل عليه في مفكرات قديمة، ومخبأ في خزائن قديمة، نصف محذوف من ذاكرة العصور، حيث لا يمكن رؤية أجيال النساء إلا كأشباح". ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن الكاتبات العربيات في القرون الاربعة الاخيرة قبل مطلع عصر النهضة الذي بدأ مع قدوم حملة نابليون على مصر ومشروع التحديث الذي بدأه محمد علي في مصر، وبداية إزدهار الحركة النسوية العربية في ما بعد مع ظهور قاسم أمين وهدى شعراوي.


تعد الرواية العربية بالمقاييس الفنية المعاصرة حديثة العهد، لم يمض عليها سوى قرن من الزمان، لكن الابحاث التي تتناول ولادة الرواية العربية الحديثة تكشف أن المرأة العربية كان لها فضل الريادة وأسهمت قبل الرجل في ظهورها. تورد المصادر بشكل مؤكد عدة محاولات مكتملة البناء الفني كان أولها اللبنانية زينب فواز التي نشرت روايتها الاولى "حسن العواقب أو غادة الزهراء" العام 1899 ، تلتها اللبنانية لبيبة هاشم التي أصدرت رواية العام 1904 بعنوان "قلب الرجل". وفي العام 1904 نشرت لبيبة ميخائيل صوايا من لبنان رواية "حسناء من سالونيك" وقد نشرتها متسلسلة على حلقات في جريدة عربية كانت تصدر في نيويورك آنذاك. وكتبت عفيفة كرم رواية حملت عنوان "بديعة وفؤاد"، وقد صدرت في نيويورك لاول مرة العام 1906 ، وهي في مجملها قصة حب تجري أحداثها على ظهر سفينة متجهة الى الولايات المتحدة وتحمل مهاجرين لبنانيين وتطرح مسائل التخوف من الحياة في البلاد الجديدة وموقف المرأة من العصرنة وتحدي الهوية وعلاقة الشرق بالغرب. وكل ذلك حصل قبل أن ينشر محمد حسين هيكل "زينب" في العام 1914 والتي ساد الاعتقاد فترة من الزمن بأنها أول رواية عربية بالمعنى الفني للكلمة.


وقد اهتم د. جوزيف زيدان، أستاذ دراسات الشرق الادنى في جامعة أوهايو بتأليف موسوعة حول "مصادر الادب النسائي في العالم العربي الحديث 1800-1996". وهي دراسة ببليوغرافية للادب النسائي في العالم العربي الحديث خلال هذه الفترة وقد صدرت في العام 1999. ويذكر أن زيدان ركّز في السنوات الاخيرة على الادب العربي النسائي فوضع كتابه "الروائيات العربيات: سنوات التكوين وما بعدها" الذي صدر باللغة الانجليزية في العام 1995. يورد المؤلف في الموسوعة نبذة أدبية وتاريخية عن ما يزيد عن 1270 اسماً لكاتبات عربيات والتي نُشرت أعمالهن خلال هذه الفترة التي تمتد لقرنين. وكأنما يريد أن يدلل بأن هذا العدد الكبير هو الرد على مقولة أن العالم العربي لا ينجب كاتبات أو مبدعات كما ينبغي، خصوصاً أن أغلب هذه الاسماء تنتمي للقرن العشرين.


كانت الاعمال الروائية النسائية الاولى تقوم على استنباط العبرة من خلال توظيف القضايا الاجتماعية والثقافية أو التوجه التعليمي في مخاطبة القاريء. وكانت دعوات تحرير المرأة وتعليمها في محيط ينكر عليها الاعتراف بمساواتها مع الرجل أو يحرمها حتى من أبسط حقوقها تجد صداها في الروايات، ثم بدأت تدخل مواضيع أخرى تعمّق من التجربة النسائية في الحياة والحب والزواج والعمل بالاضافة الى طرح إشكالية دور المرأة ومكانتها وتجربتها في الحياة العامة، ثم المفارقات في صورة المرأة ودورها بين الشرق والغرب مع ما يرتبط بذلك من تحرر وحداثة وسفر واغتراب وخروج عن التقاليد المحافظة من قبل المرأة ونقد التراث الذي كرس صورة نمطية تقليدية مقموعة للمرأة. ومن روايات الريف الى روايات المدن بتعقيداتها النفسية والزمانية الى روايات الاغتراب والسفر والتأمل في تجربة المرأة بين نموذجين وعالمين.


مرت الروايات العربية، خصوصاً النسائية منها، في موجات من التحول نحو تحطيم النماذج النمطية وفي تطوير الاساليب السردية والصور اللغوية الجمالية ورافقت تحولات البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعبرت عن القضايا الوطنية ومرت بما مرت به تلك القضايا من ازدهار وانكسار. واذا كان ثمة تقاطع في صورة المرأة التي تقدمها الروايات، واذا كان هناك صور للمرأة تسهم في اعادة انتاج القيم الذكورية وتزيد من تهميش المرأة فإن ذلك مرده الى التحولات الحادة التي يمر بها الوعي العربي في مرحلة انتقالية تشهد قيام بنى وقيم جديدة تؤسس لعلاقة أكثر انسانية، وسط رفض تقليدي لا يعدم الهيمنة وتوظيف مختلف وسائل الخطاب ليمنع ظهور صورة المرأة الجديدة.


شهدت الرواية النسائية العربية تطور تقنيات السرد وأساليبه، وتطوير الجملة القصصية والروائية، والتمايز بينهما، وخلق المشاهد والانطباعات وتقنيات الوصف وربطه بالشخصيات والحالات النفسية المختلفة، والتوغل في توظيف مختلف انواع الزمن، والانتقال بين صيغه المختلفة، وتوظيف تقنيات علم النفس والتحليل النفسي، وادخال تقنيات الاعلام المرئي والمسموع المختلفة في بنية الرواية، وغيرها من الاساليب الفنية المختلفة التي انتقلت بالرواية من التقسيم الثلاثي التقليدي من بداية وعقدة ونهاية الى مستويات متعددة للحدث زمانياً ومكانياً وذات تأزمات مختلفة ونهايات مفتوحة، وخلق أجواء غامضة تناسب انقطاع السرد وحركته باتجاهات مختلفة وبأصوات متعددة للروي.


لقد حدث تحول في نظرة الروائية العربية للرجل. فبعد أن كانت تنظر اليه أنه العدو في مجتمع ذكوري هو المسيطر فيه، والصور المرادفة لذلك مثل المنافس والمضطهِد، اصبحت تنظر اليه على أنه ضحية مثلها يطيع بشكل أعمى تقاليد ومتوارثات اجتماعية وقيمية بالية عمرها قرون. وفي هذا المجال يمكن الاشارة الى روايات عكست اصرار المرأة العربية عموماً، والروائية العربية خصوصاً، على تحطيم القيود المفروضة عليها وتحرير النظرة تجاهها من عبء التقاليد الاجتماعية والدينية، سواء من خلال مبيعاتها الهائلة في داخل الوطن العربي وخارجه مثل "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، أو من خلال ترجمة هذه الروايات الى لغات أخرى، ومنها على سبيل المثال "الوطن في العينين" للروائية الفلسطينية حميدة نعنع، و"حكاية زهرة" لحنان الشيخ، و"ضحك الحجر" لهدى بركات.


وترى د. بثينة شعبان أن سحر خليفة أهم روائية في النصف الثاني من القرن العشرين على مجمل رواياتها ومواقفها الجريئة التي سبقت تلك الروايات ومهدت الطريق أمامها للظهور. لقد حفظت الذاكرة الشعبية أعمالها بكل اهتمام مثل "الصبار"، و"لم نعد جواري لكم"، و"عباد الشمس"، و"مذكرات امرأة غير واقعية"، و"باب الساحة"، و"الميراث".


تعد الكتابة العربية النسائية، وبالذات القصة والرواية والسيرة الذاتية الادبية، تعبيراً عن رغبة المرأة العربية في فتح حوار حول قضايا المرأة في المجتمع العربي ودعوة الاخرين للحوار حولها وعن سعيها للتغيير الاجتماعي وحشد التعاطف أو التفهم له وتبرير أسبابه. كما تهدف الى مخاطبة الاخر المتمثل في القراء المؤيدين لنضال المرأة في مجتمعاتها، وفي جمهور القراء والنقاد وحلقات الدرس الاكاديمية أو اللقاءات والمؤتمرات وورشات العمل في الدول الاجنبية.


ومن الكتب الجيدة التي تعرّف القاريء الغربي بالرواية العربية هو كتاب "الرواية العربية 1834 – 2004 " الذي ألفه كاظم جهاد بالفرنسية والذي صدر عن دار "أكت سود" ضمن سلسلة سندباد الشهيرة، وقد أراد مؤلفه من خلاله تعريف الجمهور الكبير بولادة الرواية العربية وتطورها. ويكاد يكون من الكتب القليلة في هذا المجال لأن الكتب الاخرى تقدم الادب العربي بمجمله وليس الرواية بحد ذاتها، وبذلك يقدم المؤلف نافذة واسعة الرؤية للقاريء الغربي ليطل منها على مراحل نشوء الروايات العربية وتطورها، مع التركيز على الكتاّب واختيار نماذج من أعمالهم لتكون دالة على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في تلك الفترة. وقد وصفت الكاتبة الفرنسية مارتين غوزلان في مقالة لها في صحيفة "الثقافة" الفرنسية ما جاء في الكتاب بقولها أنه "يخبيء كل اشكاليات العالم العربي من أمل وجنس وخوف وسجن وحب وديكتاتورية ودين واضطهاد وبترول. إنه الشرق الباذخ والتراجيدي في آن واحد".


ومن مظاهر الاهتمام الغربي المتزايد بالكتابات النسائية العربية، تخصيص درجات علمية أكاديمية أو على الاقل مواد جامعية متخصصة في دراسة الادب العربي، ومن ضمنها تندرج عادة دراسة أعمال الكاتبات العربيات في القصة والرواية. وفي هذا الاطار وضعت أستاذة آداب العالم الثالث في جامعة مانشستر اناستاسيا فلاسوبولوس، كتابها القيم الذي صدر العام 2007 بعنوان "الكاتبات العربيات المعاصرات" وفيه تناولت أعمال كاتبات عربيات من مصر وفلسطين ولبنان والعراق والجزائر. وناقشت فيه قضايا الحركة النسائية والدراسات الجنسوية وتأثير التاريخ والثقافة الشعبية والترجمة والتحليل النفسي ووسائل الاعلام على الادب النسائي. وقد تطرقت في كتابها الى دراسة أعمال أهداف سويف ونوال السعداوي وليانا بدر وحنان الشيخ.


كما أصدرت أستاذة الدراسات الشرق أوسطية في جامعة نيويورك منى ميخائيل كتابها "شوهد وسُمع: قرن من النساء العربيات في الادب والثقافة" في العام 2003. وتناولت فيه تساؤلات تدور حول كيف يرى الاخرون النساء العربيات؟ وكيف ترى النساء العربيات أنفسهن؟ وتتناول الدراسة دور المرأة ومكانتها في المجتمع العربي الحديث، بالاضافة الى تأملات في الثقافة المعاصرة وحول كتابات أبرز الكاتبات العربيات.


ووضعت ليزا مجج، المحاضرة المتخصصة في الادب العربي في كلية امهيرست بالولايات المتحدة كتاباً في العام 1992 بعنوان "المرأة والدراسات الجنسوية" وفيه درست خبرات وطرق تعبير النساء العربيات من خلال مراجعة كتاباتهن خلال الفترة من 1860 حتى وقتنا الحاضر. وقد ركزت على الطرق التي تعبر فيها المرأة العربية عن غياب الموضوعية، والادوار الاجتماعية والاسرية تحت الاختبار والتغيير، وتراث التفاوض، والتجاوب مع الخبرات الادبية والنسائية.


كما وضعت مجج كتاباً في العام 1992 بعنوان "أصوات أنثوية ومفاوضات نسائية: خبرة في تدريس أدب الكاتبات العربيات". وقد طرحت فيه تساؤلات حول الطريقة المثلى التي يمكن بها تدريس أدب المرأة العربي. وأشارت الى أن أسئلة تثور عند التفكير في نصوص اية مجموعة من كتابات المرأة التي تنتمي لسياق ثقافي معين أو لتقسيم جغرافي: هل يجب التركيز على السياق الثقافي للادب؟ أم على قضايا الجندر؟ أم عناصر الادب؟ وما هي تداعيات مثل هذا التقسيم؟ هل هناك مباديء نسائية عالمية يمكن الاحتكام اليها عند دراسة نصوص المرأة؟ ولكن دراسة أدب المرأة العربية يضيف لهذه الابعاد بعداً آخر يتمثل في دراسة الادب مع مواجهة المفاهيم والصور النمطية التي يحملها الغرب عن المجتمع العربي.


في إحدى النقاشات التي أدارتها مجج، ذكرت إحدى دارسات الادب النسائي العربي من الامريكيات: "كغالبية الغربيين، لقد كان عندي صورة أحادية للمرأة العربية- شكل مغطى بالسواد، سلبية، غامضة، وفوق ذلك كله صامتة. وكما أظهرت لي القصص والقصائد والمقالات والروايات، فإن العالم العربي ليس غريباً ولا بدائياً أو غامضاً، لكنه تكوين معقد من الحقائق الانسانية، أحياناً مألوفة وأحيانا غير ذلك. أما بالنسبة للتصور بأنها أمرأة أحادية صامتة داخل عالم أحادي عنيف، فإنني أتعجب الان إن كان هذا موجوداً في الشرق أم الغرب، وكيف أن المرأة تحولت الى شكل رسمه الخيال الغربي، وليس موجوداً في أدب المرأة العربية".


ويقدم د. جوزيف زيدان مساقاً في جامعة أوهايو بعنوان "الادب العربي الحديث في الترجمة: الروايات النسائية العربية". ويهدف هذا المساق الى تقديم نظرة شاملة للطالب حول ظهور وتطور القصة والرواية التي قدمتها المرأة العربية من خلال الاعمال المترجمة، مع التركيز على مفاهيم ونظريات الاتجاهات النسائية كما يعكسها الادب من خلال تناول روايات مختارة تعد نماذج على هذه المفاهيم. ويتناول في مادته مواضيع البحث عن هوية ذاتية والبحث عن هوية وطنية من خلال تناول روايات أمينة السعيد "الجامحة" ونوال السعداوي "مذكرات طبيبة" ولطيفة الزيات "الباب المفتوح" ، وليلى بعلبكي "أنا أحيا" وليلى عسيران "عصافير الفجر" واميلي نصرالله "طيور أيلول" وحنان الشيخ "حكاية زهرة"، وكوليت خوري "أيام معه" وغادة السمان "ليلة المليار"، وسحر خليفة "اشواك برية".


ومن الكتب المهمة التي صدرت باللغة الانجليزية حول الروايات النسائية العربية هو كتاب صدر في العام 2003 عن مطبعة جامعة تكساس لمؤلفته نوار الحسن غولي تحت عنوان "قراءة السير الذاتية للروائيات العربيات: شهرزاد تحكي قصتها". وفيه تؤكد المؤلفة أن الحركة النسائية في الغرب لم يكن لها تأثير كبير في الحركة النسائية العربية، بل كانت مطلباً داخلياً عربياً وتطورت من داخل المجتمع العربي.


وفي هذا المجال تشير مذكرات جين سعيد المقدسي، شقيقة ادوارد سعيد، التي نُشرت في العام 2005 باللغة الانجليزية بعنوان "جدتي وأمي وأنا" الى أنه في حين كانت لمدارس الارساليات المسيحية في الشرق دور تثقيفي وتعليمي في فتح المجال للمرأة العربية لبناء ثقافة عربية غربية عصرية الى حد ما، والتفكير بكيانها كامرأة وبمشكلات واقعها بطريقة أكثر منهجية فكرياً وأكثر تحرراً اجتماعياً، وجدت على غير ما كانت تتوقع أن مستوى تقبّل أسرتها والمجتمع العربي بشكل عام للافكار العصرية الغربية كان محدوداً، وهكذا بقيت تأثيراتها مقتصرة على وعيها وحبيسة جدران محيطها الثقافي.

* اللوحة أعلاه للأخ والصديق الفنان التشكيلي الفلسطيني د.ابراهيم النجار ابو الرب

** نشرت المقالة في صحيفة الرأي الاردنية في الملحق الثقافي الاسبوعي يوم الجمعة الموافق 22/1/2010.
يمكنك عزيزي القاريء رؤية الصفحة الكاملة على الرابط التالي:
الرأي الثقافي - الصفحة الكاملة

كما يمكنك قراءة المقالة من موقع الصحيفة على العنوان التالي:
اشكاليات التمرد والوعي ونظرة الاخر





الجمعة، يناير 15

هذيان امرأة مجنونة



هذيان امرأة مجنونة


قصة قصيرة
اياد ع. نصار

لم يكن من السهل عليّ إقناعه بالفكرة. لديه نزعة فطرية تثور تلقائياً كلما اختبرتها فيه. منذ أسبوع وأنا أحاول معه. يقتلني كعادته بمواعظه. عادل عنيد وكثير الكلام. يتصرف كمن يظن أن لديه حقاً أن يسيطر على إمرأة مثلي. كنت خائفة من مجرد التفكير بالامر. أطرد الفكرة من رأسي، فأجدها أمامي كلما جلست وحدي. قاومت إرثاً ثقيلاً كان يمنعني أن أفكر بالامر. خفت من مجرد تخيّل النهاية. ولكن الاسبوع الماضي أتتني لحظات شجاعة غير عادية. قلت لنفسي سأخبره وليكن ما يكون. لا أظن أن عادل سيخذلني. ولكن سرعان ما شعرت بالتردد. أعرف نفسي شكاكة .. آه.. وخرجت تنهيدة حارة من صدري. أعرفه. لن يوافق. سيفسد كل شيء، وسأندم أنني فاتحته بالامر. ولكني أحتاجه لكي يتصل بهم ويطلب منهم الحضور.


كم أنا بائسة. صدق حدسي. أشعر بالندم أنني صارحته. كتمت الامر في صدري شهوراً عدة، ولكنني لم أعد أطيق التحمل أكثر من ذلك. لقد حول عادل المسألة الى هموم أرقتني والى صداع يكاد ينفجر منه رأسي.


غيوم العصر تهرب بصمت مثل بقايا ثلوج متناثرة تذوب وتتلاشى دون أن يحس بها أحد. تهب نسمة قوية تحرك أوراق الشجر العالية، تتساقط أوراق بنية ومصفرّة ميتة على الارض. تقع من حولي فينقبض قلبي. تدور كالدوامة ثم تستقر في الزوايا. كم هي قاسية رؤية الاحياء يموتون بكل هدوء وصمت ولا يحس بهم أحد. حطمني صمت الناس المريب ونسيانهم. الى متى نموت في صمت مثل هذه الاوراق الذابلة التي تسقط؟ غداً ربما يسمع الناس صوتي ، وربما يقرأ العالم نقطتي في آخر السطر بلون الدم القاني.


كل شيء يبدو صغيراً في الاسفل. تبدو الاشياء نُقطاً لا معنى لها. هنا أشعر بالحرية. أشعر أنني أقرب الى السماء. فهل تسمعني يا ترى؟ كم ناديت وبكيت في ليالي البرد والقهر ولم يسمعني أحد. البشر المتجمعون في الاسفل يبدون صغاراً من هنا. لا أرى ملامح وجوههم، ولا أرى ما يدور في عيونهم. هل يملؤها يا ترى الخوف والترقب؟ أم لا تعرف سوى النظرات الباردة المتشفية؟ ليقولوا ما يريدون. منذ متى كانوا يهتمون بنا أو لأجلنا؟


خمس سنوات وهو مقعد طريح الفراش لم يخرج من غرفته. فلماذا يهتمون الان؟ الامر ليس الا نوعاً من الفضول. تعبت وأنا أراجع لأجل معالجته بدون نتيجة. ليس سوى حبوب ومهدئات. كلما نفدت يعطوننا غيرها. لم يمكث الموظف سوى ربع ساعة. ملأ نموذجاً وطلب العديد من الاوراق والصور. دخت أنا وأمي في سبيل إتمامها. وفي النهاية دنانير معدودة بالكاد تكفي أبي ثمن سجائره الرديئة التي تملأ رائحتها البيت. كم أكرهها. صار سقف الغرفة أصفر اللون من دخان رمادها. يسعل ويتحشرج صدره كلما أشعل سيجارة. أصابعه مصفرة وأسنانه صارت بنية اللون. كل يوم أرى أبي يذبل. لعله يفرغ حزنه المكبوت في حرق السجائر والعبث في الرماد في المنفضة أمامه. لا أعرف كيف يحس في داخله. لم يبق له سوى إجترار الذكريات في صمت. نظراته الحزينة تقتلني من الداخل.


لا أعرف كيف أنهيت السنة الاولى. البيت ضيق مثل قفص. ثمانية أفراخ أنا أكبرهم. بيت صغير قديم متهالك على أطراف المدينة ليس فيه أكثر من قوت يوم. خبز وماء ودرنات يابسة. عندما تقدمت لامتحان القبول أحسست أنني لا أنتمي الى هذه الدنيا. أسئلة عدة عن مقاسات عرض وارتفاع الشبابيك والسقف والابواب وأبعاد حوض الاستحمام والمجلى في المطبخ! خجلت أن أقول للمهندسة التي كانت تمتحنني أنني لا أعرفها. إرتبكت .. كيف أجيب عن أشياء أسمع بها ولا أعرفها .. لا توجد هذه الاشياء في بيتنا ولم استخدمها في حياتي. شعرت أنه لا مستقبل لي. كيف سأخطط بيتاً حديثاً أو بنايةً أو قصراً وأنا لا أعرف أبسط الاشياء فيها. وفرت على نفسي رحلة معاناة ستكون طويلة. وضعت القلم وخرجت. نادتني وقالت لي: ما بك؟ لماذا لم تكملي الامتحان؟ بكيت وبقيت صامتة. قلت لها أرجو أن تساعديني أن أدرس التمريض. على الاقل عندي خبرة في رعاية أبي. واذا ضاقت بي السبل ولم أجد وظيفة، سأخدم أبي في البيت.


لولا البعثة لما درست التمريض. بالكاد تدبرت أمي مصروفي وثمانية أفواه تنتظر لقمة الطعام. لا أعرف كيف نجحت في السنة الاولى. لا أدري ماذا سأفعل في هذا الفصل. لقد مر أسبوع على بدايته وليس لدينا شيء. إذا رسبت سيسحبون البعثة مني ويطالبونني أن أدفع ثمن الساعات التي درستها. لا أعرف ماذا سأفعل. باعت أمي أساورها الاخيرة التي بقيت لها. كانت تتمسك بها في السنوات الماضية. كانت بالنسبة لها أكثر من مجرد ذكريات. رأيت حزناً عميقاً في عينيها يوم أن باعتها. باعت معها بقايا باهتة من أيام فرح مضت بلا رجعة.


يكثر الناس في الاسفل. يتطلعون اليّ باستغراب. بعضهم يصرخ ويتهكم. تنزل دمعة من عيني وأنا أحدق في الارض. هل سيكون السقوط مؤلماً؟ هل ستتحطم أضلاعي أم تتكسر قدماي؟ ماذا لو وقعت على رأسي؟ يا الهي ما أقسى الامر. شعرت برعدة تجتاح بدني كله. لكنها صرخة ودماء وأسرة مفجوعة ثم ينتهي كل شيء. فكرت ماذا سيقول الناس عني؟ ستكثر الاقاويل وسيقولون عني مجنونة. لن أكون هنا لأكترث بما سيقولونه وما ستكتبه الصحف عني. لكني أفكر في أبي المسكين. من سيرعاه؟ وماذا سيحصل له عندما يعرف؟ أخشى عليه من الصدمة. أفكر في وقع الصدمة على أمي وإخوتي الصغار. ستكون كارثة وربما يقتلهم الحزن. ذكرى مرعبة ستحطم نفوسهم مدى الحياة. ولكن ما قيمة حياتي البائسة؟ تذكرت الاوراق التي سقطت في صمت يوم أمس.


نظرت الى الخلف.. رأيت عادل يقف بعيداً على التلة خلف المبنى. عرفته منذ سنة تقريباً. لمست إهتمامه بي. لم أبح له بما شعرت به. منعتني عزة نفسي وخجلي. لكنه صار رفيقي. عندما صارحته بما أفكر به، ثار وغضب كالبركان.. لكنني كنت مصرة.. هدد أن يتصل بالشرطة لمنعي من ذلك. قلت له: بل أريدهم أن يأتوا ليشهدوا نهاية مأساة. قال: ولكن مأساة أخرى ستبدأ بعد ذلك. قلت: لست أنانية ، ولكن الموت لمرة واحدة أفضل من الموت البطيء. لا أطيق أن أخذل أمي وأحطم حلمها.. حلمها الذي باعت أساورها لأجله. وأبي كيف أستطيع أن أنظر في عينيه؟ ألا يكفيه ما به؟ أشعر أنني مشوشة الذهن. لا أعرف ماذا أفعل. كيف يمكن أن أوقظ مدينة تنسى أبناءها يموتون في صمت؟ البناية مرتفعة وأشعر بالتعب والارهاق. قدماي لا تحملانني من شدة التعب.


سمعت صوت سيارات الشرطة ورأيت اضواءها الخاطفة المتقافزة. رأيت سيارات الاطفاء تقف بالاسفل. نزل رجال كثيرون وأخذوا يفترشون الارض فرشات كبيرة، ويرفعون سلماً من شاحنة على جانب المبنى العالي. سمعت أصوات رجال يصعدون الدرج. رأيت واحداً يقترب مني وهو يحمل بوقاً. كنت على حافة إطار السور العلوي. صرخت في وجهه كي يتوقف. وقف مكانه وأخذ يطلب مني الهدوء. شعرت بتوتر كبير.. تزاحمت أفكار في رأسي المتعب دفعة واحدة فأحسست أنني مضطربة. شعرت بخوف يملأ صدري. أصوات المئات المتجمعين في الاسفل تخترق أذنيّ، فأشعر بالغضب والدوار. أخذ الرجل يقترب مني شيئاً فشيئاً. صرت أصرخ كي يبتعد وأهدد بالقفز عن السور. توقف مكانه. ولكنه إستمر في حديثه محاولاً إقناعي بأن أقلع عن الفكرة. أخذ يقترب أكثر. صرخت عليه كي يتوقف والا سألقي بنفسي الى الاسفل. كانت قدماي ترتجفان. عندما نظرت الى الاسفل شعرت برهبة عظيمة تجتاحني مثل إرتعاشة في يوم قارس. غامت عيناي وأنا أنظر الى الناس تحتي. تحول المنظر الى أمواج عاتية في بحر متلاطم. غافلني الضابط وأراد أن يهجم علي. اضطربت في مكاني. إهتزت قدماي المرتجفتان. خرجت مني صرخة مدوية كالرعد ورأيت بقعة حمراء كبيرة تحتي. كانت خصلات شعري متناثرة حول رأسي.


إنتفضت في مكاني. صرخت. رفعت رأسي فجأة بلا وعي عن المخدة. كان الظلام يملأ الغرفة وإخواني يغطون في النوم من حولي مصفدين كالسمك بالكاد تتسع لهم الغرفة. فجأة أحسست بيد أمي الحانية وهي تمسح وجهي بيدها المبلولة. كانت تتمتم بكلمات لم أفهمها ولكنني لمحت أثر الاساور التي كانت ذات يوم في معصمها.


- ما بك طوال الليل وأنت تتقلبين مضطربة؟


- لا أعرف يا أمي. يبدو أنه كان كابوساً مريعاً.

* اللوحة أعلاه للصديق الاديب والفنان التشكيلي السوري بشار زيد نوفل
** نشرت القصة في جريدة الدستور الاردنية / الملحق الثقافي الاسبوعي في عدد يوم الجمعة الموافق 15/1/2010. يمكنك عزيزي القاريء رؤية الصفحة الكاملة على الرابط التالي:
جريدة الدستور - الصفحة الكاملة

كما يمكنك قراءة القصة في موقع الجريدة من خلال الرابط التالي:
جريدة الدستور - هذيان امرأة مجنونة




الأحد، يناير 3

مستقبل الثقافة الرقمية

 

مبدعون : مخرجات الثقافة المحلية تتجه بقوة نحو «الرقمنة» أجرت صحيفة الدستور الاردنية الحوار التالي حول مستقبل الثقافة الرقمية والنشر الالكتروني ومصير الكتب والصحف والمجلات الورقية. وقد نشر يوم الاحد الموافق 3/1/2010 في القسم الثقافي. يرجى الضغط على الرابط أدناه لقراءة الموضوع في الصحيفة، كما يمكنك رؤية وتحميل الصفحة الورقية من خلال الضغط على العنوان أعلاه:مستقبل الثقافة الرقمية - صحيفة الدستور
- الدستور - خالد سامح
هل سحبت المجلات الإلكترونية الثقافية البساط من تحت أقدام مثيلاتها الورقية؟ وما هو مستقبل الصحافة الثقافية الورقية؟ وأي شكل ستأخذ في ظل الانفتاح الإلكتروني وتوجه المثقفين العرب نحو (الرقمنة) كبديل لوسائل النشر التقليدية؟ أسئلة عديدة باتت ملحة في هذه الفترة بالذات حيث الازمة المالية العالمية التي تدفع بالكثير من المجلات العربية الورقية للتوقف عن الصدور والتوجه نحو الشبكة العنكبوتية والتي بات النشر فيها اسهل وأقل تكلفة وربما أكثر حرية كما يرى عدد من الكتاب الاردنيين في هذا الاستطلاع الذي أجرته "الدستور" وقد حذورا فيه كذلك من سلبيات النشر الإلكتروني.

مفلح العدوان: الثقافة تتوجه نحو "الرقمنة"

رئيس اتحاد كتاب الانترنت العرب القاص والمسرحي مفلح العدوان أكد لـ "الدستور" ان جل مخرجات الثقافة المحلية والعربية حاليا من نقد ودراسات وقصص وروايات ومسرح وغيرها تتجه بقوة نحو ما اسماه "الرقمنة" أي النشر الإلكتروني عبر الانترنت ، وقد رحب العدوان بذلك واعتبره من المستجدات التي اصبحت واقعا علينا التعامل معه والقبول به وقال "للنشر الإلكتروني العديد من الميزات فهو سهل ومتاح للجميع كما انه متحرر من القيود ويتمتع بهامش حرية اكبر من النشر في المطبوعات الورقية" وتوقع ان تتجه الكثير من المجلات العربية والمحلية نحو النشر الإلكتروني قريبا كبديل عن الطرق التقليدية.

اياد نصار: ظاهرة ايجابية ولكن أين الحماية؟

القاص والكاتب اياد نصار قال :حول تحول المجلات الورقية نحو النشر عبر الانترنت: "اعتقد ان القضية حتمية وجميع الصحف آجلا ام عاجلا ستصبح إلكترونية فهنالك عدد كبير من القراء باتوا لايشترون الصحف والمجلات الورقية ويتابعون ما ينشر على الانترنت لسهولة ذلك وربما لأفضليته تقنيا".

وتابع نصار "اتوقع ان تنتشر المواقع الثقافية الإلكترونية وان تسود على ما سواها من وسائل نشر ورقية ولكن ذلك قد يحتاج الى بعض الوقت لاسيما ان الكثير من الهيئات والجمعيات الادبية لا تعترف بالادب المنشور إلكترونيا وهذا ما يحصل للأسف في الاردن رغم ان هنالك دولا اصدرت قوانين لحماية حقوق الناشرين إلكترونيا ونرجو ان يستفيد الاردن من تلك التجربة بحيث لايظل النشر الإلكتروني نهبا لأي كان".

جهاد أبوحشيش: لا يمكن تغييب الورق

الشاعر جهاد ابو حشيش أكد ان النسقين ضروريان وتوقع ألاّ تغيب وسائل النشر الورقية رغم الانتشار الواسع للمجلات الإلكترونية وقال"الارتكاز على المادة الإلكترونية من اجل تغييب الورق هذا امر لن ينجح ومن شأنه ان يغيب حقوق الكثير من الكتاب والمثقفين الذين قد تتعرض موادهم لتخريب وحذف وتشويه"

وأكد جهاد ابو حشيش ان المادة الابداعية التي تنشر بالانترنت مرحلية وسريعة ولايمكن معاينتها نقديا كما قال واضاف "كما ان النشر قد يتضمن الكثير من الاخطاء وقد يشوه اللغة مستقبلا".




الجمعة، يناير 1

يوميـــــــات


يوميــــات

اياد نصار

السبت
هذا اليوم بالذات أكرهه. أتحول فيه إلى صاحب الصنائع السبع الذي لا يتقن أياً منها. يوم يضج بالحركة والانشغالات اليومية التي لا تستطيع أن تتفاداها. لا ينفع لممارسة طقوس الكتابة أو التأمل أو الاستمتاع بالشمس الصباحية. إنه نقيض الجمعة في كل شيء. يوم الوجود المادي من حياتي. أصحو على أصوات السيارات وحافلات المدارس والشمس التي تقتحم حجرتي من وراء الستارة، فأحس بأن يوماً طويلا ينتظرني وبأن التعاسة آتية، فأتحسّر بمرارة على يوم الجمعة الرائع. أتمهل وأشاغل نفسي بسويعات قليلة أتصفح فيها بريدي وصحيفة الصباح.


أحاول أن أقتطع لنفسي جزءا من هذا اليوم أمارس فيه طقوسي، فما تبقّى سيضيع في الزحام وصخب الحياة اليومي وممارسة الصنائع السبع. لا يخلو الامر من إصلاح شيء في البيت، فالصغار مولعون باللعب والحركة.


أضيق ذرعاً عندما أحتاج صانعاً أو سبّاكاً أو حدادا أو دهّانا. أعرف أن البعد عنهم سعد بحد ذاته! أحتار في كثير من الاحيان أين أجدهم، ولكن عندما أستغني عنهم أراهم في وجهي كل يوم! تكتب لي زوجتي قائمة طويلة من المشتريات –الضرورية- التي لا تتفق مع المعنى القاموسي للكلمة! في هذا اليوم أصير أقرب إلى مزاج الناس ومعاناتهم وتحايلهم على فقرهم ما بين مساومات السوق ولظى الغلاء. وفيه أدخل خفايا عالم التجار، وأتعرف على أساليبهم في إيهام الزبائن، ولكن عقابهم يأتي سريعاً! فأرى مدى الضيق على وجوههم والعصبية التي يورثها لهم زبون صعب المزاج يجعلهم يندمون على اليوم الذي عملوا فيه بتجارتهم!

الاحد
أجزم بأن الكثيرين يشاركونني الشعور بالكآبة من هذا اليوم. أقضي ليلتي الجمعة والسبت في سهر جميل ، وأصحو صباح الاحد وأنا أردد: "إنقضى الخمر واليوم أمر". أعرف أنها ستكون بداية أسبوع ممل. لست من الذين يحضّرون أشياءهم في الليل استعداداً للصباح. لا أريد التضحية بوقت مهما كان قصيراً من غير طائل. وأعرف أن عليّ أن أستيقظ مبكراً على مضض! ولكن متى أطال النوم عمراً؟! لا بد من وقفة أمام المرآة كل صباح لأتفقد أن وجهي ما زال بخير وأن التجاعيد لم تظهر بعد.. أحدق في وجهي لأوقف الزمن عند شباب يهرب سريعاً قبل أن أصحو من الوهم. لي طقوس أمارسها كل صباح منذ أن وعيت على الدنيا ووجدت أن الشَّعَر بات يزداد على جانبي وجهي وذقني وانبثق شاربي. تأتيني كل أفكار الدنيا وأسئلتها الكبرى وأنا أمام المرآة.


وتهلّ في الذهن عشرات الخواطر في ازدحام عجيب. وتعود الذكريات وصور الماضي حية نابضة بالحياة في هذه الساعة التي أقف فيها متثاقلا أمام المرآة. أود لو أعود للنوم وعيني تختلس نظرات الى الساعة خشية أن أتأخر عن العمل. قناع أبيض من الرغوة.. تقف سلمى التي استيقظت قبلي لتشاهد رسومها المتحركة تتأملني بنظراتها الطفولية وتضحك.. لا بد من رشة عطر.. يستيقظ كريم على شذى الرائحة فيمد يده يريد شيئاً، وتفتر أسنانه عن ابتسامة ساحرة. أتفقد حالي لأتأكد أنني حملت معي هاتفين قبل الخروج! آه كم يسلبنا هذا العصر التكنولوجي بقية راحة بال مفقودة.

الاثنين
شارع الجامعة مزدحم في المساء. والالتفاف حول دوّارَي المدينة الرياضية والداخلية مثل مغامرة غير محسوبة! أشعر بالانطلاق عندما أصعد الجسر نازلاً نحو العبدلي. الطريق الى قاع المدينة تثير فيّ دائما الذكريات. وسط عمان دافيء حميمي مثل طفولة تأبى أن تكبر. اختبرت ذلك أكثر ما يكون في الشتاء. حينما يكسو الثلج جبال عمان وروابيها، يبقى قاع المدينة دافئاً عامراً بروح انسانية.


وفي دار صغيرة في شارع السلط مقابل مكتبة المحتسب، ألتقي بنخبة من الاصدقاء. جعل الصديق والشاعر جهاد ابو حشيش من فضاءات ملتقى الروائيين والشعراء والصحفيين. وتدرك أن الامر لا يحتاج الى دور فاخرة ومبانٍ ضخمة لكي يتألق القلم والنشر، وتصبح عمان مركزاً متوهجاً يرفد الثقافة العربية بالابداع. كل ما تريده ناشر بعقلية أديب يؤمن بحرية الكلمة ودور الفن في اخراج كتاب جميل تفرح له كما تفرح لمولود خرج للتو الى الحياة فتحتضنه بين يديك وتتأمله وأنت تتمنى له مديد العمر والانتشار! وتدرك أنك بحاجة الى ناشر يحسن استخدام قنوات الاتصال والاعلام محلياً وعالمياً لكي يصل الكتاب الى القاريء.

الثلاثاء
أنطلق متفائلا بيوم جديد ، فيتلقفني ازدحام خانق يكشف نرجسية الانسان وأنانيته. ترى صور الاحتقان والغضب والتعبير عن أزمات الحياة في زعيق السيارات التي يقودها أصحابها بروح "اللهم نفسي" كمن يجد لذة انتصار في انتهاك قواعد السير. وتفرح عندما ترى أحدا يقدم غيره على نفسه، أو يتبع مبدأ مفاده أن قيادة السيارة سلوك حضاري حتى لو وصلنا متأخرين. أحاول أن أنسى هذا الشعور المضني، فأدير المذياع أبحث عن صوتها الملائكي. وفجأة يخرج الصوت العذب. تثير فينا فيروز الطفولة الكامنة التي لم تقدر أن تخرج من ذواتنا وتلعب وتكبر كما ينبغي فبقيت قابعة فينا. وتصير طفولتنا رمزاً للوطن الذي يكبر فينا. ويعنّ على بالي أغاني الزمن الجميل ومسرحياته التي تعلقت بالذاكرة وأبطالها.. هدى ونصري شمس الدين وأنطوان كرباج ورونزا ومنى مرعشلي وسهام شماس.


في المساء نتخاطف الوقت بين واجب يقتضي زيارةَ الاهل أو مراجعةَ الطبيب التي اعتقدنا أننا ارتحنا من عذابها وانتظارها أو تسوّقَ ملابس الصغار من محلات تعج بالبشر في المجمعات الكبرى ولا ترى أحدا يحمل كيساً! اتخذت لنفسي تقليداً منذ زمن في أيام العمل؛ أحب أن أعود مبكراً في المساء كي أستريح وأردد "ما أحلى العودة الى البيت" لأشعر بنعمة المساء قبل أن يفاجئي صباح مزدحم حافل آخر.

الاربعاء
أجلس أمام ثقب العالم الفضي وأقرأ وأشاهد أخبار قريتنا الارض. أشعر بالأسى وأنا أرى أرواحا تضيع عبثاً في طواحين الدم المجنونة التي صارت عنوان هذا القرن منذ بدايته. أهرب من مشاهد الالم والخوف والترقب الى ملتقى ثقافي عبر الفضاء الافتراضي ، فأسمع صوت صديقي الليبي الساكن منذ دهر في الاسكندرية يقرأ من شعر فاروق جويدة، وأترنم بصوت مثقفة عمّانية تلقي قصيدة عشق صوفية، وأسرح بعيداً مع حسناء الدار البيضاء بلكنتها المغربية الجميلة وهي تطوف بنا في عالم محمد بنيس الاندلسي أو زقاق محمد زفزاف أو الدروب الخلفية في طنجة التي لم تذق طعم خبزها الحافي. ويأتي صوت صديقنا المهاجر من سيدني حاملاً بعذوبته البيروتية شعر أدونيس. ولكن الليلة مزاجها درويشي سيابي. يتساقط المطر في أنشودته الحزينة على الفارس الذي ترك الحصان وحيداً. عالم جميل جديد لم نعرفه من قبل دخل بيوتنا وأدخل معه ألق الشعر بعد أن حاصرته الرواية في كل مكان. في هذا العالم العنكبوتي تحس أن صديقاً لم تره ويجلس في أقصى زوايا العالم أقرب اليك من البشر الذين يشاركونك البناية التي تسكن فيها ويصبح جارك الاقرب الى نفسك.

الخميس
أنتظره بشغف كل اسبوع كما ينتظر إنسان حبيباً بشوق. في المساء أشعر بالتحرر والانطلاق من ربقة أسبوع عمل حافل. ذهبت مع صديق من أيام الدراسة الجامعية الى معرض فني في دارة الفنون. كنا ضمن مجموعة من رفاق الادب والرسم الذين استهوتهم فلسفات المدارس الفنية في فهم تطور الفكر. في عالم الرسم يمكنك أن تتلمس بوضوح كيف تُصنع الافكار الجديدة التي تشكل معالم مستقبل الانسان. اللوحة كما الرواية والمسرحية تفتح لك آفاق الرؤية التي تمكنك أن تستوعب عالماً يقوم على مجموعة من مباديء الفكر والجمال والاحاسيس والتأثيرات النفسية. شغلني وما يزال بعض هذه المدارس كثيراً كالتعبيرية والرمزية والواقعية والسريالية. أعجبتنا اللوحات فلم تعد دقة التفاصيل وقواعد الاشكال ووضوح الخطوط والالوان وتمايزها عن بعضها تعني الفنان كثيراً. بل صار الاهتمام باستكشاف الجانب النفسي الداخلي أو الجانب الفكري أو التأملي لمشكلات الانسان المعاصر هو الاساس. وانتهى المساء في مقهى في اللويبدة على أنغام عود شرقية.


الجمعة

في هذا اليوم ترى عمّان بأبهى حالاتها. تصبح مثل عروس وادعة. أستمتع بساعات الصباح الجميل وأنا أحتسي القهوة. ولكن رائحة الفلافل وطعم الحمص والخبز الساخن لا يقاوم. يقترح الاولاد إفطاراً خارج البيت. نذهب في السيارة. هدوء يعم الشوارع والاخضرار يمتد فوق سهول المدينة وروابيها وهضابها. ندخل المطعم الواسع الجميل في شارع المدينة المنورة، فنرى الناس يملؤون المكان. نستمتع بافطار صباحي وصوت فيروز يظلل أحاديثنا.




الجمعة هو عالمي الذي أهرب اليه. أعتزل الناس وأدخل صومعتي وأرحل مع القلم الذي يأخذني بين دروب القصة والرواية والنقد. وفي الليل عالم آخر جميل لا يقل فتنة عن النهار. يحلو السهر في ليل عمان مع أصدقاء الفكر والادب في المقهى. تدور الاحاديث من كل حدب وصوب، وترتفع سحب الاراجيل البيضاء من حولنا. تملأ رائحة القهوة اللذيذة الجو، وصوت أم كلثوم يصدح "أغداً ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غد"، فأتوجس من انقضاء الليل! لا أريد لهذه السهرة أن تنتهي ولا أريد للسبت أن يأتي!

* اللوحة أعلاه بعنوان مثابرة الذاكرة للفنان الفلسطيني صالح المصري
** نشرت جريدة الرأي الاردنية مقالتي أعلاه في الملحق الثقافي ليوم الجمعة الموافق 1/1/2010. يرجى الضغط على الرابط أدناه لرؤية المقالة في الجريدة أو الضغط على عنوان المقالة أعلاه لتحميل الصفحة
يوميات - جريدة الرأي