الجمعة، يناير 24

مناورة!



مناورة!


قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قبل يومين التقطت ذاكرتي ذاك اليوم الذي مرَّ ولم نعبأْ به. كان في بالي منذُ بدايةِ الصيف ولكنّ زحمةَ الايام كفيلةٌ بأن تنسي المرءَ حتى تاريخَ ميلاده! أهلكنا الصيفُ بموجاتِه المتلاحقة ، فصرت أحلم بذلك اليوم بشوقٍ كلما داهمنا الحرُّ بحضوره الثقيل. صرتُ مثلَ كائناتِ الارض التي تستشعرُ البردَ والمطرَ قبل أوانه فتبني لها بيوتاً تختبيء فيها، أو مثلَ الشجر الذي يبدّلُ لونَ أوراقه مع تغيّرِ الفصول. منذ الصباح تهب الريحُ الباردةُ العليلةُ ، والغيوم البيضاء المنخفضة تمرُّ في السماء بلا توقف. منذ شهورٍ لم أرها بمثل هذا التشكيل. ارتاحت نفسي وهي تعبر الاعتدال الخريفي. شعرت أنني قد نجوت هذه السنة!
كان صيفاً يخنق التماسيح في بِرَكِها الخضراء. في المساء هبت نسمةٌ معطرةٌ بروائح الشجر وأزهارِ الياسمين الممتدةِ على السور حوالي المبنى وتسللت إلى طاولتي من نافذة الغرفة. ارتشفتُ من كوب الشاي السيلاني الاحمر الصافي وأنا أتلذّذ بطعمه. كان يوماً طويلاً جفت فيه الروح من العطش. فأحسستُ أن العشبَ عاد يملأُ شقوقَ الارض العطشى بعد موسم الجفاف.جلستُ أنتظرُها. كانت شاشةُ الكمبيوتر شاحبةً بيضاء لا حياة فيها. تشاغلتُ بقراءة الصحيفة. عناوينها باهتةٌ. لا شيء فيها غيرُ الخراب والموت والحروب التي لم تنتهِ منذ أن وُلدتْ الديناصورات!
فجأة إلتمعَ لونُ رسالتها الاحمر يضيء بأسفل الشاشة. نبتتْ ورقةٌ خضراءُ كالبرعم على غصنٍ يابس. تهللت أساريري. لقد جاءتْ اليومَ مبكرةً على غير عادتها. فتحتُ صفحةَ رسالتها وقرأتُ بلونِ خطها الوردي: مساء الخير!
كتبتُ: مساء الفل. أهلاً بكِ
- شكراً.. هذا لحسن ضيافتك لي في عقر دارك!
- هذا غزوٌ مثل اقتحام طروادة بالحصان الخشبي، ولكن يحمل في أحشائه فارسةً مهيبة!
- التشبيهات التاريخية تغريني..
- التاريخ منجمُ فكرنا الذي يغرينا بالتعلّق به!
- أخاف أن نتحدثَ عن نيرون لاحقاً!
- "نيرون مات ولم تمت روما"
إبتسمتْ وكتبتْ: روما. آه.. للمدن سحرٌ غريب.. تعيشنا.. تشهدُنا بكل تفاصيلنا.
توقّفتْ قليلاً ثم سألتْ: هل تناولت شيئاً؟
أجبتُ وأنا أبحثُ عن الحروف أمامي: الان يعود الدماغ للعمل كالمعتاد وخاصة على رشفات شاي كالياقوتِ اللامعِ تحت الضوء.
- آه.. كدت أموت من الجوع قبل قليل مثلك.
- تفضلي إحتسي معي الشاي! ماذا أكلتِ؟
همهمت ببعض الاصوات ثم قالت: أمممم وهي تمطها بأنوثة. ثم قالت: سجّلْ عندَكحساء فريكة ، سلطة روسية صنعتها بيدي! وصينية من الكبد وأشياء أخرى لم أحفل بها ولا أريد أن أتذكرها!
تدخلت وقلت: من لا يحبُ الكبد لا يعرفُ لذةَ الاكل ولا يعرف لذّةَ الحب!
أحسستُ بنظراتِ استغرابٍ في عيونها دون أن أراها. قالت وداد: هل ما زلتَ تهذي من الجوع؟! كتبتُ لها: رماه كيوبِد بسهمِه فَوُلِد الحبُ من دمائه التي تقطر قانيةً دافئة! ولاكَهُ البشر من هوسِ الجوع والانتقام!

جو جميل للسهر. أحملق في شرابِ التفاح المثلج وقطراتُ الماء المتكثفة تسيل على جوانبه على أنغام موسيقى أندلسية طواها التاريخ ولكنها تعلقتْ بالقلب والذاكرة. تعزف وداد على قيثارتها الصغيرة كلماتٍ تغمر القلبَ بأسرارٍ صوفية. صوتها جميل. شعرتُ كأنما نظرت في عيوني وقالت: هل كلمات أغنيتي حلوة؟
- تعويذةُ سحر.
- لك مذاقٌ متعالٍ .. شامخٌ.. يحدس ما خلف النكهات.. يشمُّ الروائحَ بقلبٍ مرهف.
توقفتُ قليلاً لا أدري ما أكتب، ثم هلّتْ الفكرة فأسرعتُ إثرَها: تنهمرُ الكلمات من قارورة عطرك على راحة يدي فأشمها فأنتشي بها. كتبتْ لي: بل أنا وجدتك في عطري .. في لوحتي.. تخضبني بلون الحياة وبرائحة الربيع الذي لم أعشه بعد.
- لا تحسبي أنني أستطيع محوك من دفاتري. أنتِ لوحةٌ كالموناليزا. كلما نظرت اليها تزداد غموضاً ساحراً.
- وحدك دافنشي. يحق لك أن ترسم شيئاً ما على رقعتي كي أشتهر بك. أخاف أن أفقد في لحظة قدرتي على مجاراتك. بدأت ألهث وجئت اليك أبحث عن ذاتي.. أخاف أن أفقد إيماني بكل شيء.. سوى باللحظات العابرة.
- سنبحر معاً تارة في بحر من الهدوء والصفاء وتارة في بحر من الصخب والامواج العاتية حتى تصل السفينة إلى جزيرة الكنز. نحن لسنا قراصنة بل بحارة نبحث عن اللؤلؤ الدفين.- في خلايا جسدي شيء حزين. أتوجس لكل انفراجة في الفرح فأغترب أكثر.قلت: إن أجملَ ألحاننا تفيض دائماً بالأسى. لن نضعَ نهايةً حزينة في بداية قصة جميلة. ولن نرسم قصوراً للأمير والأميرة. قصة متمردة لا تعرف أين ستذهب، تحملها الامواج إلى جزيرة بعيدة.
- لم تقل لي رأيك بهند؟
إستجمعت أفكاري وأخذت أكتب لها: هند امرأة ينتظرها مستقبل لامع في الكتابة إذا عملت بجد على نفسها. لديها لغة تعبيرية خاصة بها ، وذات مفردات ثرية لا ينضب جمال صورها التي تبدعها. بل أتعجب كيف تسيل كلماتها الملهمة بعفوية على السطور. بارعةٌ إلى حد الجنون في الوصف والتصوير. وأضفت: هند فتاة ليست من هذا الزمان! لا أريد لها أن تضيع موهبتها بين فراغات العمر الرمادية.
- ماذا قالتْ لكَ؟
- وعدتني أن تستمر بالكتابة. يجب أن تشجعيها لكي تبدع. تبدو لي مثل طفلة معجزة
كنا نسمع أغنيةً معاً بينما كانت هي تكتب كلماتها:
"وأمسح وجهي بشعرك الملتاع
وأولد في راحتيكي
جنيناً وأنمو وأنمو وأكبر"
قلت لها: راحتيكِ. فردّت علي وقالت: حسناً راحتيكِ! فالنساء يُجِدن الكسر.
- لم يكسرْ قلبَ الرجال مثلُ النساء ولكنهن يجبرنه مرة أخرى.
- وقلب المرأه لا يكسره سوى الرجل. إذاً هما متعادلان؟
- متعادلان في دورة الكسر والجبر والتكامل والتفاضل بالصفات. وأضفتُ بتسرّعٍ: أنا صنف نادر يعترف ويقرُّ بسرعة ويتقبلُ الهزيمةَ بسهولة!
ضحكتْ وقالت: لا عليك من المناورة! في كثير من الأحيان لا يكون هنالك فرقٌ كبير بين الفوز والهزيمة.
- في مسائل الحب كما في مسائل الحرب قد لا يكون الفرق كبيراً حينما يسقط ضحايا على كلا الجبهتين، وتسيل أنهار من الدماء في خوذات الجنود فتملأها، وتتمرغ البنادقُ في الطين وتتدلى الاجسادُ على سواتر الرمل.
بقيت صامتة تراقب المواقف والكلمات.
قلتُ بصوتٍ عالٍ وأنا أطبع حروفها: هل نكسب الحب إذا خسرنا من نحب في لحظات غرور وكبرياء زائف؟ وهل نخسرُ الحبَّ إذا كسبنا حبيباً يدمي القلب بصدّه اللعوب؟
قالت: قد نتسامى على آلامه وقد يغرقُنا في دوامة مرارته ، ولكننا ندمنُ تعاطيه!
شربتُ من كأس عصير التفاح المثلج قليلاً وكتبت:
- وماذا يفيد الانسان لو كسب العالم كله وخسر من يحب؟!
- قد نخسر ذاتنا سخية على أعتاب مذبح الحب لأجل أن نكسب حبيباً.
تأملتُ كلماتِها .. نظرتُ في لوحة المفاتيح وأخذتُ أكتب:

- أريد أن نتحرر من خوف متأصلٍ فينا. لا أريد أن نذبح ذاتنا على مذبح الرغبة ولا نحنطها على هيكل الرزانة الفرعونية.
- واخجلتاه حينما نضحك نخجل. وعندما نحب نخجل. وعندما نموت نخجل من دموع أمهاتنا!
تساءلتُ قائلاً: هل هذه مناورةٌ في الحب أم في الخجل؟! فقالت: ربما الاثنين.قلتُ: سنقيمُ رقصةً حول النار مثل عشاق غجريين يحملون قيثارة للحياة ويغنون للفرح والحزن معاً.قالت: سأغدو قيثارتك .. قطعني وتراً وتراً.. أعلني مقطوعتك الاخيرة.ضحكتُ وقلت لها: اشتقت لرؤية تلك الطفلة ذات الشعر الأشقر!

أرتني ذات يوم صورتها وهي صغيرة. طفلة شقراء في غاية الجمال. لا أدري كيف تبادر إلى ذهني ساعتها أسطورة. كتبت لها: قالوا كانت تسير في طرقات البلدة فلقيتها حورية خرجت للتو من البحر فاختطفتها. لم يعد الناس يرونها في الطرقات. بحثوا عنها في كل مكان. لم يجدوها. وجدوا خطاً أزرق على الجدران كتبته أناملها الرقيقة. وفي ذات يوم بعد سنين طوال ولدت في الحي شاعرةٌ متصوفة تشبهها. تكتب قصائدها بحزن ملائكي على جدران غرفتها الزرقاء. تقضي ليلها تعزف أنغاماً شفيفة كرذاذ المطر أو كرائحة غليون من فم فيلسوف ذي لحية كثيفة أو كورقة ريحان تملأ الشرفات الصباحية في تموز.
قالت: أكملْ أغنيتَك. سأرحل بعدها وأعود للبحر.
- مكانك هنا. سنعيش معاً كل خربشات القلم وصلواته.عندما إنتهت الاغنية، هربتْ إلى غرفتها الزرقاء. انتظرتُ قليلاً، لكنها لم تعد. قمت أنظر من نافذة غرفتي. الياسمينة تملأ الساحة بالاسفل. هبت نسائم هواء باردة. قررت أن أعانق الضيف الاثيري الذي انتظرته طويلاً. نزلت سريعاً وأخذت أمشي في الشارع وأنظر للنجوم تتلألأ في صفحة سوداء. يشع القمر الرخامي في أقاصي اللوحة الليلية صوفية وإلهاماً. في الجو هبة ريح رقيقة ورائحة النباتات تملأ الأنف. تغفو الاوراق والورود في الاحواض على جانبي الطريق. عرفت ساعتها كم من موناليزا حولنا ولا نراها!

* اللوحة أعلاه بعنوان "حب متجمد" للفنان الفرنسي المعاصر جان بول أفيس