الأحد، يوليو 13

عشرة هنود


عشرة هنود

قصة: إيرنست هيمنجواي
ترجمة وتعليق: اياد نصار

في نهاية أحد أعياد الرابع من تموز/ يوليو(1) عاد "نك" متأخراً الى بيته من البلدة في العربة الكبيرة مع جو غارنر وعائلته ، وعلى طول الطريق مروا عن تسعة هنود سكارى. تذكر أنه كان هناك تسعة هنود لأن جو غارنر شدّ لجام الخيل اليه وهم يسيرون وقت الغسق ثم قفز الى الطريق وجرّ هندياً بعيداً عن طريق العجلات.
كان الهندي يغط في النوم ، ووجهه الى الأسفل في الرمل. جرّه جو الى شجيرات كانت على طرف الطريق ، وعاد الى مكانه في العربة.
قال جو: لقد صاروا الان تسعة فقط بين طرف البلدة وهنا.
قالت السيدة غارنر: إنهم هنود.
كان نك يجلس في المقعد الخلفي مع إثنين من أولاد غارنر وكان ينظر من مكانه الى الهندي حيث جرّه جو الى طرف الطريق.
سأل كارل: هل كان بيلي تابلشو؟
- كلا
- سرواله كان يبدو ضخماً مثل سروال بيلي.
- كل الهنود يلبسون نفس النوع من السراويل.
قال فرانك: لم أره أبداً، لقد قفز أبي الى الطريق وعاد ثانية قبل أن أرى شيئاً. ظننت أنه قتل أفعى.
- أعتقد أن عدداً كبيراً من الهنود سوف يقتلون أفاعي الليلة ، علّق جو غارنر
- إنهم هنود. قالت السيدة غارنر.

استمروا في السير بالعربة في الطريق الممتد أمامهم ، ثم انحرفوا عن الخط الرئيسي السريع الى طريق فرعية صاعدة عبر التلال. صار الأمر عسيراً على الخيل الان أن تجرّ العربة، فنزل الاولاد منها، وراحوا يمشون على أقدامهم. كانت الطريق رملية.
التفت نك ببصره الى الوراء ، وهو على قمة التلة بجانب مبنى المدرسة فرأى أضواء بلدة بيتوسكي ، وعلى الجانب الاخر عبر خليج ترافيرس الصغير أضواء ميناء هاربر سبرنجس. تسلقوا العربة مرة ثانية.
قال جو غارنر: كان عليهم أن يفرشوا تلك الطريق ببعض الحصى.
سارت العربة على الطريق عبر الغابة وقد جلس جو وزوجته بجانب بعضهما في المقعد الأمامي ، بينما جلس نك في الخلف يتوسط الولدين.

إجتازت العربة الغابة حتى وصلت الى منطقة خالية من الاشجار.
- الى اليمين هنا دهس والدي ذات يوم الظربان(2).
- بل كانت أبعد من هنا
- إنه لا يغير من الأمر شيئاً أينما كانوا. قال جو بدون أن يحول نظره عن الطريق، وأردف: أي مكان فهو جيد مثل غيره لدهس ظربان.
قال نك: رأيت إثنين منهم الليلة الماضية.
- أين؟
- بالأسفل جانب البحيرة. كانا يبحثان عن سمك ميت على الشاطيء.
قال كارل: ربما كانت حيوانات الراكوون(3).
- كانت ظربان. أعتقد أنني أعرف الظربان.
- يبدو عليك ذلك. قال كارل وأضاف: فأنت لديك صديقة هندية.
قالت السيدة غارنر: توقف عن الحديث بهذه الطريقة يا كارل.
- إن لهما رائحة متشابهة.
ضحك جو غارنر. قالت السيدة غارنر: توقف عن الضحك يا جو. أنا لا أقبل أن يتكلم كارل بتلك الطريقة.
سأل جو: نك ، هل لديك صديقة هندية؟
- كلاّ
- بل لديه هو أيضا يا أبي. قال فرانك وتابع: صديقته تدعى برودنس ميتشل.
- إنها ليست صديقتي.
- إنه يذهب لمقابلتها كل يوم.
رد نك: لا ، لا أفعل. وكان ما يزال جالساً بين الولدين في الظلام. شعر بفراغ ممزوج بالسعادة في أعماقه من محاولتهم إثارة حفيظتة بشأن " برودنس ميتشل." قال: إنها ليست صديقتي
إغتاظ كارل وقال: صدقوا كلامه إن شئتم ، لكنني أراهما معا كل يوم.
- كارل ليس باستطاعته أن يتعرف على فتاة. قالت أمه وأضافت: ولا حتى هندية حمراء. بقي كارل صامتاً. قال فرانك:
- كارل ليس لطيفاً مع الفتيات.
- إخرس
قال جو غارنر: أنت على ما يرام يا كارل. الفتيات لا يجدن رجلاً أبداً في أي مكان. أنظر مثلاً الى أبيك.
- " نعم ، ذلك ما كنت تود أن تقوله". ردت السيدة غارنر وقد مالت قريباً من جو عندما ارتجّت العربة فجأة. وأضافت: لقد كان هناك عدد كبير من الفتيات في وقتك.
- أنا أراهن إن كان والدكم قد تعرف حتى على فتاة هندية.
رد جو: ألا تصدق ذلك ؟ من الافضل لك يا نك أن تحترس لئلا تفقد برودنس.
همست زوجته في أذنه ، فضحك جو.
سأل فرانك: على ماذا تضحكون؟
- ألم تقلها أنت بنفسك يا غارنر؟ نبهته زوجته ، فضحك مرة أخرى.
قال جو: نك يستطيع أن يحتفظ ببرودنس. أنا عندي فتاة رائعة.
قالت زوجته: تلك هي الطريقة التي يجب التحدث بها.

كانت الخيل تجر العربة متثاقلة في الرمل. أخرج جو سوطه في الظلام وراح يضرب به. أخذ يصيح بالخيل: هيّا ، إسحبي العربة. إن ّ عليك أن تجري أقوى من ذلك غداً.
نزلوا طريق التلة المنحدر الطويل بينما كانت العربة ترتج متمايلة بمن فيها. وقفت أخيرا أمام البيت في المزرعة، فنزل الجميع منها. فتحت السيدة غارنر الباب ، ودخلت المنزل ثم عادت تحمل مصباحاً في يدها. أنزل كارل ونك الأغراض من صندوق العربة، بينما جلس فرانك في المقعد الأمامي ينتظرهما كي يقودها للحظيرة ، ويبيّت الخيول.
صعد نك عدة درجات ، وفتح باب المطبخ. كانت السيدة غارنر تشعل النار في الموقد. تركت صب الكاز على الحطب. والتفتت الى نك يودعها قائلاً: مع السلامة سيدة غارنر ، شكرا على أخذي معكم.
- أووه .. لم يكن شيئا يستحق الذكر، نكي.
- لقد قضيت وقتا رائعاً
- نود لو تبقى عندنا. ألن تمكث هنا وتتناول العشاء معنا؟
- أفضل أن أذهب .. أعتقد أن والدي ينتظرني.
- حسناً إذهب الان. أرجوك أن تنادي على كارل وأنت خارج.
- حسناً
- ليلة سعيدة ، نكي
- ليلة سعيدة ، سيدة غارنر

خرج نك ، إجتاز ساحة المزرعة وذهب للحظيرة. كان جو وفرانك يحلبان البقر. بادرهما قائلاً: تصبحان على خير. لقد قضيت معكم وقتاً رائعأ حقاً.
رد جو: تصبح على خير. نك ،ألن تبقى معنا للعشاء؟
- لا، لا أستطيع . لو سمحت أن تخبر كارل أن أمه تريده.
- حسناً ، ليلة سعيدة نكي

مشى نك حافي القدمين في الممر عبر المرج الأخضر خلف الحظيرة. كان الممر طرياً وناعماً ، وأحس بالندى بارداً تحت قدميه العاريتين. تسلق السياج في نهاية المرج ثم هبط نحو النهر الذي يمر من الوادي. غاصت قدماه في طين المستنقع، ثم صعد عبر أرض غابة أشجار الزان الجافة حتى رأى ضوء الكوخ.
تسلق سياج الحديقة ، ومشى حتى وصل المدخل. شاهد والده من خلال النافذة يجلس بجانب الطاولة يقرأ في ضوء المصباح الكبير. فتح نك الباب ودخل. بادره أبوه قائلاً : أكان يوما جميلاً يا نكي؟
- قضيت وقتا رائعا يا أبي. كان الرابع من شهر تموز / يوليو عيداً رائعاً
- هل أنت جائع؟
- كن واثقاً من ذلك.
- ماذا فعلت بحذائك؟
- لقد تركته في العربة في بيت السيد غارنر.
- تعال الى المطبخ

حمل والده المصباح ومشى أمامه. وقف ورفع غطاء صندوق الثلج، بينما دخل نك المطبخ. أحضر له أبوه قطعة من لحم الدجاج البارد في طبق ، وإبريقاً من الحليب ، ووضعهما أمامه ، ووضع المصباح بجانبه على الطاولة.
- هناك شيء من الفطيرة أيضاً ، هل يكفيك هذا؟
- هذا عظيم
جلس والده على كرسي بجانب الطاولة المغطاة بقماش مزيت ، فتكوّن له ظل كبير على جدار المطبخ المقابل. سأل: من فاز بلعبة الكرة؟
- فريق بيتوسكي. خمسة الى ثلاثة.

كان والده ينظر اليه وهو يأكل ، وملأ كأسه من إبريق الحليب. تناول نك عشاءه ، ومسح فمه بمنديله. قام والده وتناول صحن الفطيرة من على الرف. قطع لابنه قطعة كبيرة . كانت فطيرة التوت الاسود.
- ماذا فعلت يا أبي؟
- ذهبت لصيد السمك في الصباح
- ماذا اصطدت؟
- سمك البيرش فقط
جلس والده ينظر اليه وهو يأكل الفطيرة.
- وماذا فعلت بعد الظهر؟ سأل نك.
- تمشيت بجانب المخيم الهندي.
- هل رأيت أحداً؟
- لقد كان الهنود جميعهم في البلدة يشربون حتى سكروا.
- ألم تشاهد أحداً على الاطلاق؟
- رأيت صديقتك برودي.
- أين كانت؟
- كانت بين الاشجار مع فرانك واشبيرن. التقيتهم مصادفة . كانا يقضيان وقتهما معاً.

كان والده يتكلم دون أن ينظر في وجهه.
- ماذا كانا يفعلان؟
- لم أمكث هناك لأعرف ماذا كانا يفعلان.
- أخبرني ماذا كانا يفعلان؟
رد والده : لا أعرف .. لقد سمعتهما يدوسان على سنابل القمح
- كيف عرفت أنهم كانوا هم؟
- لقد شاهدتهما
- ظننت أنك قلت أنك لم تشاهدهما.
- أووه ، بلى رأيتهما
سأل نك: من الذي كان معها؟
- فرانك واشبيرن
- هل كانا ... هل كانا ...
- هل كانا ماذا؟
- هل كانا سعيدين؟
- أحسب ذلك

نهض والده من على الطاولة وخرج من باب المطبخ. عندما رجع كان نك ما يزال يحدق في الطبق وهو يبكي. التقط الأب السكين ليقطع الفطيرة.
سأل ابنه: أتريد مزيداً من الحلوى؟
- لا
- من الافضل لك أن تتناول قطعة أخرى
- لا ، لا أريد أبداً
أخذ والده يمسح سطح الطاولة من بقايا الأكل. سأله نك : أين كانوا بين الاشجار؟
- فوق هناك .. خلف المخيم. من الافضل أن تذهب للنوم ، نكي.
- حسناً

دخل نك غرفة نومه . خلع ثيابه . نام فوق سريره . سمع والده ما يزال يتحرك في غرفة الجلوس. استلقى نك على السرير. دفن وجهه في الوسادة. كان يحدّث نفسه: لقد تحطم قلبي. ما دمت أشعر بهذا فإن قلبي قد تحطم.
بعد برهة قصيرة سمع والده يطفيء المصباح ، ويدخل غرفته. سمع صوت الريح تهب عبر الاشجار بالخارج. وأحسها تتسلل باردة عبر النافذة. إستلقى على السرير فترة طويلة ووجهه مدفون في الوسادة. بعد قليل نسي أن يفكر في برودنس ثم نام أخيراً.
عندما استيقظ أثناء الليل سمع الريح ما تزال تداعب أغصان الشجر خارج الكوخ، وأمواج البحيرة تتكسر على الشاطيء. ثم غاص في النوم ثانية.

في الصباح كانت هناك ريح قوية تعصف بأوراق الشجر والامواج تتراكض مسرعة تتطاول بأعناقها حتى تصل الشاطيء. مرت فترة طويلة منذ أن استيقظ من نومه قبل أن يدرك أن قلبه قد تحطم.

(1) الرابع من تموز / يوليو يشير الى يوم عيد الاستقلال في الولايات المتحدة حيث تنتشر فيه الاحتفالات
(2) الظربان: حيوان أمريكي صغير منتن الرائحة له فرو يشبه فرو السنجاب
(3) الراكوون: حيوان أمريكي ثديي من أكلة اللحوم له فرو وينشط خاصة في الليل ويشبه الثعلب

التعليق:

لن أتطرق في هذا التعليق الى سيرة حياة الاديب الامريكي ايرنست هيمنجواي ، فقد سبق أن كتبت تعريفا به وبأعماله عند ترجمة قصة أخرى له بعنوان " عجوز فوق الجسر". يرجى الرجوع اليها.

وردت هذه القصة " عشرة هنود" في كتابه الصادر عام 1927 بعنوان (رجال بلا نساء) الذي ضم مجموعة قصصية تتكون من 14 قصة قصيرة . وقد ذكر أنه لم يكن ينوي استخدام هذا العنوان، بل كان يريد اختيار اسم أخر ، وقد استعار انجيلاً لهذا الغرض، ولكنه وجد أن الشاعر رديارد كبلنغ قد استخدم أبلغ الاقتباسات التي كانت في باله! إقتبس هيمنجواي اسم عشرة هنود من أغنية شهيرة للاطفال انذاك. نشر هيمنجواي في عام 1925 كتابه الذي ضم مجموعة قصصية بعنوان (في زماننا)، وفيها جاءت قصته الرائعة " مخيم هندي" التي كانت عملا متكاملا. وقد طور في هذه القصة شخصية البطل نك ادم وهو شاب في سن المراهقة، وقد سافر الى قرية هندية وفيها رأى والده الطبيب يجري عملية ولادة قيصرية لامرأة هندية ، وقد دار بينهما حوار عن الموت . ولكن في هذه القصة ، فان الشاب المراهق نك يعود للبيت في عربة السيد جو غارنر وعائلته بعد الاحتفال بعيد الاستقلال الامريكي، وعلى الطريق فإننا نكتشف من الحوار الدائر بين الشخصيات في القصة أنهم شاهدوا تسعة هنود سكارى. وفي كل مرة ينزل السيد جو غارنر من عربته ويقوم بجر الهندي الى جانبي الطريق لكي يستطيع المرور. وحينما يصل البيت يخبره والده أن رأى صديقته برودنس ميتشل مع شاب اخر فيشعر أنه قد تحطم قلبه وانهار حبه. وهكذا تطرح القصة خيانة الحب كموضوع رئيسي في القصة. ولكن على الطريق الذي تجري فيه العربة قبل الوصول للبيت يدور حوار بين أفراد عائلة غارنر يشارك به نك، يبدو فيه مواقف شخصيات القصة التي تطلق التعليقات والمواقف العنصرية الساخرة من الهنود الحمر، كما نلاحظ الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة والحب.

كما نلاحظ أن هناك مقارنة بين نموذجين مختلفين لعلاقة الاب أو الاسرة بالإبن. فهناك كارل وفرانك ابناء السيد جو غارنر الذين يأخذان موقف الصراع من بعضهما ويستخدمان لغة شرسة في ايذاء مشاعر بعضهما، وفي نهاية القصة نرى موقفا مقابلا لعلاقة الاب بإبنه كما ظهر ذلك في قصة نك ووالده الذي أظهر كل اهتمام ورعاية بابنه عندما حضر له عشاءه وبقي جالساً الى جانبه. وقد ألمحت القصة الى دور الاب الذي يلعب تأثيرا كبيرا على حياة ابنه من خلال اظهار ظله الضخم على جدار المطبخ ونك جالس يتناول عشاءه.

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان الامريكي G. Soto

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:17 م

    السلام عليكم يااستاذ اياد. القصة جميلة بس ياريت دايما تكتب تعليقك بعد كل قصةلانه بيوضح المغزى من القصة. ادام الله حياتك فناً (امال)

    ردحذف
  2. شكرا لتوقفك الجميل وكلماتك اللطيفة. أحاول دائماً أن أقدم للقاريء العربي تعريفا بحياة وأعمال الكاتب وأسلوبه الادبي مع التطرق لمضمون القصة المترجمة بالتعليق أو التحليل. تحياتي دائما

    ردحذف