الأحد، سبتمبر 26


هل تتحقق مقولة جائزة لكل روائي عربي؟

جوائز الرواية العربية والعالمية: تشجيع أم تقليد أم تكفير عن الماضي؟
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 24/9/2010

هل ما يزال الشعر ديوان العرب الاصيل الذي يحتل الصدارة، أم تراجع، الان، لصالح الرواية؟ الجوائز الادبية، في مجال الرواية، عربياً وعالمياً، والتي صارت مثل زخ المطر، تقول غير ذلك. الدكتور جابر عصفور أكد أن الزمن الذي نعيشه هو "زمن الرواية"، والناقد وأستاذ المسرح، الراحل علي الراعي، عدّ الرواية "ديوان العرب المحدثين". كما أن آخر شيء يحبذه أصحاب دور النشر، الان، هو نشر دواوين لشعراء جدد! وآخر شيء يتوقعونه أن ينتشر ديوان لشاعر جديد، ويفرض حضوره مثلما تفعل الرواية! في حين يزداد احتفاء العالم كله بالروائيين، ما بين الجوائز وبرامج دعم النشر وانتشار الترجمات وغيرها، وقد تحول الامر ـ في بعض الاحيان ـ الى هوس في جمع أكبر قدر من الجوائز، والاعلان عن الفوز بها، بغض النظر إن كانت معروفة أو هامشية مجهولة، ولدت على الانترنت، في ليلة ظلماء!



ذكر الناقد المتخصص في الرواية البريطانية المعاصرة، جيمس ف. انغلش، الذي ألف ـ في عام 2005 ـ كتاباً بعنوان "اقتصاد المظاهر: الجوائز وانتشار القيمة الثقافية"، في مقالة له بعنوان "كسب اللعبة الثقافية: الجوائز والمنح وقواعد الفن"، والتي نشرت في مجلة "تاريخ أدبي جديد" الصادرة عن مطبعة جامعة جون هوبكنز: "هناك عدد من الجوائز يفوق الابداع، مما يفسر وجود حقل نقدي مختص بتوزيع الجوائز والمنح الأدبية". ويقول الكاتب والمسرحي الأمريكي، غور فيدال: "إن هناك جوائز في الولايات المتحدة يفوق عددها عدد الكّتاب الامريكيين". ويقول الشاعر الأسترالي بيتر بورتر: "هناك عدد كبير من الجوائز في أستراليا، حتى لا يوجد كاتب في سيدني لم يحصل على واحدة". و قد تندر روائي بريطاني، خلال حضوره مؤتمراً أدبياً كبيراً في بلومزبيري، في بريطانيا، حيث اكتشف أنه أحد اثنين، فقط، لم يحصلا على جائزة أدبية من بين كل الحاضرين".‏

عالمياً:
يوجد في دول العالم المختلفة، حالياً، ما يزيد عن 500 جائزة أدبية معروفة، ذات تاريخ متواصل، ومخصصة لمجالات الابداع الادبي: كالرواية والقصة القصيرة والشعر والنص المسرحي والنقد وأدب الطفل، غير أن الجانب الاكبر منها مخصص للسرد. ويشير هذا العدد فقط الى الجوائز ذات النهج المؤسسي المعروفة، أو ذات المكانة الادبية المرموقة، أو التاريخ العريق، أو الشهرة الدولية أو الاقليمية أو الوطنية، أو ذات القيمة الرمزية المهمة، أو المكافأة المالية العالية. وتتنوع الجوائز، تبعاً لذلك، بحسب موطنها ولغتها ومعاييرها وقيمتها، بدءاً من جائزة نوبل في الآداب 1901، وهي الاشهر والاضخم، التي تبلغ مكافأتها ما يزيد عن مليون يورو، الى جائزة أكوتاغاوا اليابانية، التي أُحدثت في العام 1935 ، في أقصى الشرق، الى الميداليات الذهبية للاكاديمية الامريكية للفنون والآداب، والتي تأسست في العام 1915 ، في أقصى الغرب.


يبلغ عدد الجوائز العالمية المفتوحة أمام جميع الجنسيات اثني عشرة جائزة، ومن أشهرها: نوبل، وهانز كريستيان أندرسن لأدب الطفل، وهناك جائزة القدس التي أُحدثت في العام 1963، وجائزة فرانز كافكا، في عام 2001. وآخر من حصل على جائزة القدس، في عام 2009 هو الروائي الياباني هاروكي موراكامي. كما حصل عليها، من قبلُ عدد من أشهر الروائيين مثل خورخي بورخيس، وسيمون دو بوفوار، ويوجين ايونسكو، وجي. إم. كوتزي، وماريو فارغاس يوسا.


ومن الجوائز المشهورة والمرموقة، عالمياً، جائزة أمير أستورياس الاسبانية التي تمنح سنوياً في حقول الفنون، والانسانيات، والعلوم، والتعاون الدولي، والاداب، والعلوم الاجتماعية، والرياضة. تأسست الجائزة في عام 1980، وقد حصل عليها، هذا العام، في مجال الاداب، الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف.


إن أكثر دولة يوجد بها جوائز أدبية، حالياً، هي الولايات المتحدة، التي يصل عدد جوائزها المؤسسية المعروفة، والممنوحة في المجالات الابداعية والنقدية، الى حوالي 70 جائزة. وهناك، نيوزيلندة، تلك الدولة الصغيرة، التي يوجد لديها، 50 خمسون جائزة مختلفة، ثم اليابان، بينما، تمنح، في المملكة المتحدة حوالي خمس وعشرين جائزة. ولا تشمل هذي الاعداد الجوائز ذات الصفة العالمية، المتاحة المشاركة فيها لكل من يكتب أدباً بلغة البلد، الذي يمنح الجائزة.


يوجد، في الولايات المتحدة، ست وعشرون جائزة مكرسة للأدب الروائي، ما يعكس الاهتمام والاحتفاء بالرواية والروائيين. وأغلب الادباء الامريكيين، المعروفين على مستوى العالم، هم من كتاب الرواية.


ومن أشهر تلك الجوائز ذات السمعة العالمية، جائزة بوليتزر للسرد المستمرة منذ العام 1918، وهي احدى جوائز بوليتزر في مجالات الصحافة، والادب، والتأليف الموسيقي. تبلغ قيمة الجائزة عشرة الاف دولار، وتمنح لاحسن رواية أمريكية. ومن طريف ما يذكر أن لجنة التحكيم أوصت في عام 1941 بمنح الجائزة الى ايرنست همنجواي على روايته "لمن تقرع الاجراس"، ووافق مجلس أمناء الجائزة على التوصية، إلا أن رئيس جامعة كولومبيا، آنذاك، اقنع اللجنة بعدم منحها له، لأنه اعتبر أن الرواية عدائية، وبالتالي لم تمنح الجائزة تلك السنة.


هناك جائزة كتاب أنسفيلد وولف التي تأسست في عام 1935، وتمنح في مجالات عدة منها الرواية، وقد سبق أن فاز بها في العام 2008 الروائي جنوت دياز، من الدومنيكان، والروائي الامريكي، من أصل باكستاني، محسن حامد، والروائي وليم ميلفن كيلي. وهناك جائزة جانيت هيدنغر كافكا للسرد النسوي الامريكي، منذ عام 1975، التي تماثل جائزة أورانج البريطانية للرواية النسوية، التي تمنح لاحسن رواية كتبتها امرأة بالانجليزية.


ومن الجوائز المهمة جائزة الكتاب الوطني، التي تهدف الى دعم أفضل نتاج الادب الامريكي ونشره. تأسست عام 1950، وقيمتها 10 الاف دولار، وفاز بها عدد من الروائيين الامريكيين المشهورين، من مثل وليم فوكنر، وبيرنارد مالمود، وفيليب روث، وجون أبدايك، وجويس كارول اوتيس، وسوزان سونتاغ. وهناك جائزة وليم فوكنر للرواية، التي تأسست عام 1980، وتبلغ قيمتها 15 ألف دولار للفائز الاول، وخمسة آلاف دولار للفائز الثاني. ومن المعروف أن وليم فوكنر تبرع بقيمة جائزة نوبل، التي فاز بها عام 1949، لتشجيع الروائيين الجدد.


أما الجوائز المخصصة لمواطني دول الكومنولث البريطاني، في الاداب، فهي أربع، ومن أقدمها جائزة مان بوكر للرواية، والتي أنشئت في العام 1968، وتمنح سنوياً لأفضل رواية مكتوبة باللغة الانجليزية، وقد سبق أن فازت بها الروائية الجنوب افريقية، والحائزة على جائزة نوبل نادين غورديمر، والروائي وليم غولدنغ، والروائي سلمان رشدي، وآخر من فاز بها الاديبة البريطانية هيلاري مانتل في العام الفائت، عن روايتها "قاعة الذئب".


ومن أشهر الجوائز العالمية في ايطاليا جائزة مونديللو بريمو، التي تمنحها مدينة باليرمو، في صقلية، والتي أحدثت في العام 1975. وقد حصل عليها، في العام 2009، الروائي الليبي ابراهيم الكوني، عن مجموعته "وطن الرؤى السماوية". حصل على هذه الجائزة عدد من كبار الروائيين في العالم، من مثل، جونتر جراس، ودوريس ليسنغ، وخوسيه ساراماغو، وجي. ام. كوتزي، والبرتو مورافيا، وميلان كونديرا، وايتالو كالفينو.


وهناك جائزة غرينزاني كافور الايطالية، التي تأسست في عام 1982، في مدينة تورينو، وهي ذات طبيعة عمومية، حيث يشارك في قراءة الاعمال، والحكم عليها، عدد كبير من النقاد، والكتاب، والصحفيي، والشخصيات الادبية الايطالية، ويلعب الطلاب دوراً بارزاً، حيث تتشكل سبع عشرة لجنة من الطلبة في ايطاليا كلها. تمنح الجائزة في سبعة ميادين تخص الادب الايطالي، وخاصة الرواية، بالاضافة الى جائزتها العالمية. ومن الادباء الذين فازوا بها غونترغراس وفي. إس. نايبول، ودرويس ليسنغ، والتركي أورهان باموك، والنيجري وول سونيكا، والشاعر العربي أدونيس (فاز بها في العام 2008).


وفي الاداب الفرنسية هناك جائزة غونكور Goncourt، التي أشهرت منذ منذ عام 1903. جاء انشاء الجائزة رداً على عدم قبول الاكاديمية الفرنسية أدباء الاتجاه الواقعي، مثل أونوريه دي بلزاك، وجوستاف فلوبير، واميل زولا. ومن بعدها بسنة ظهرت الجائزة النسوية المشهورة فيمينا Femina. وقد فاز بجائزة غونكور، من الادباء العرب الفرانكوفونيين، أمين معلوف، والطاهر بن جلون. ومن الفضائح التي ارتبطت بهذه الجائزة حصول الروائي رومان غراي، عليها مرتين: الاولى عام 1956 عن روايته "جذور السماء"، والثانية كانت عندما فاز بها باسم مستعار (إميل آجار) في عام 1975، عن روايته "الحياة أمامنا".


أما في الادب الاسباني فإن أشهر جائزة هي ميجيل دو ثيربانتيس، التي أنشئت عام 1976، لتكريم المنجز الابداعي بأكمله، لكاتب يكتب بالاسبانية. تبلغ قيمة الجائزة 125 الف يورو، وتمنح لأي من مواطني الدول الناطقة بالاسبانية. ومنذ تأسيسها منحت لمواطني تسع دول، هي: كوبا، والارجنتين، والاوروغواي، وتشيلي، والباراغواي، والمكسيك، وكولومبيا، والبيرو، بالاضافة الى اسبانيا ذاتها. ومن أشهر الروائيين الذين فازوا بها الارجنتيني خورخي بورخيس، والمكسيكي أكتافيو باز، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا.


أما من حيث القيمة المادية، فإن أغلى جائزة في العالم، من بعد جائزة نوبل، هي جائزة بريمو بالينتا الاسبانية، التي تقدمها دارالنشر بالينتا منذ عام 1952، وتمنح لرواية مكتوبة بالاسبانية، وتصل قيمتها الى 601 ألف يورو. ومنذ عام 1974 صار الكاتب الذي يحل في المركز الثاني يحصل على جائزة قيمتها 150 الف يورو.


عربياً:
مرّ زمان كانت الجوائز العربية حالة نادرة وغير معروفة، ولم يكن الامر يتعدى حفلة تكريم يتنادى لها الادباء، وكانت صورة الجائزة الوحيدة، التي عرفها تاريخ الادب العربي، منذ القدم، هي أعطيات الخلفاء والولاة والتي لم تكن بغير ثمن مرٍّ، أحياناً، كما تجرّعه المتنبي!


غير أننا نجد، في المغرب العربي، سبقاً الى إنشاء الجوائز الادبية، وربما ما كان ليحدث لولا أن السلطات الاستعمارية الفرنسية أنشأت ما عُرف بـ"جائزة المغرب الادبية الكبرى"، عام 1925، والتي بقيت حكراً على الفرنسيين حتى عام 1949، حين فاز بها الاديب المغربي، وأحد رواد الادب الفرنكوفوني، أحمد الصفريوي. وبعد الاستقلال أعيد إحياء الجائزة، عام 1974. ومن الجدير بالذكر أن القاص المغربي، أحمد بوزوفور، رفضها، عام 2009، احتجاجاً على سياسة الحكومة الثقافية.


ازدحمت الساحة بالجوائز، منذ أوائل التسعينيات من القرن الفائت، تحت مسميات شتى، حتى صرت تحس أنها محاولة للتكفير عن زمن قحط الجوائز وغياب التكريم. ويتساءل المرء، هل هدف كل هذه الكثرة من الجوائز، وخاصة الروائية منها، تقدير المبدعين، وتكريم جهودهم، واعتراف بدور الادب في الحياة؟ فلماذا، إذن، تأخر العالم العربي، كثيراً، حينما نجد أن العديد من الجوائز العالمية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من مثل: نوبل، وبوليتزر، وغونكور وغيرها؟ أم هو وعي متأخر بقيمة الجوائز ودورها، وخير أن تأتي متأخرة من ألا تأتي ابداً؟ لا تخلو المسألة من تقليد طبيعي للغرب، بعد هذا الانفتاح على الاداب الاجنبية، من خلال الترجمة، ورؤية مهرجانات الجوائز والمشاركة فيها. ولا شك أن وسائل الاتصال الحديثة، والعولمة، والابتعاث الاكاديمي الى الجامعات الغربية، والصحافة، لعبت دوراً في انتشار الجوائز العربية. كما أن رغبة بعض الانظمة، والحكومات، في تحقيق سمعة تصورها راعية للابداع والمبدعين يدفعها لذلك. ولا ننسى دور المثقفين أنفسهم في الضغط باتجاه إحداث الجوائز واقرارها، وأحياناً، ريادة السبق قبل الدولة في تكريس مسألة الجوائز، كما فعلت أحلام مستغانمي في تكريس جائزة مالك حداد للرواية في الجزائر.


أما على صعيد الواقع الحالي للجوائز العربية، فلا تخلو الساحة من كثرة منها، هنا وهناك، لكن بعضها موسمي: يظهر ويختفي، وبعضها لا يملك التمويل اللازم للاستمرار، فتجدها تعتمد على قناعة الاثرياء بجدواها، أو على قدرة منظميها في الحصول على دعم جهات أو مؤسسات تؤمن برسالة الجائزة، أو بأهمية ابداع من تسمّى باسمه، لابقائه حياً في الذاكرة، وفي أحيان كثيرة تتبرع هذه الجهة، أو تلك، من باب الخجل من مسؤوليتها الاجتماعية، أو اتقاء لنقد الاقلام، ولهذا لا تعيش الجائزة سوى سنوات معدودة، وربما أقل. وهناك جوائز تفتقد المنهجية والمعايير الواضحة التي تحكم اجراءات منح الجائزة، وأعني، بذلك، الخطوات والمعايير التنفيذية الواجب مراعاتها منذ الاعلان عن الجائزة، واستقبال الترشيحات وحتى تشكيلة لجنة النقاد، أو الحكام، ومراحل التنافس واعلان الفائزين.


لا تخضع قرارات لجان التحكيم الى التدقيق أو الطعن بها. وفي أحيان كثيرة يكتفي النقاد، في لجان التحكيم، بتقديم فقرة انشائية عامة يضمنونها ميزة العمل الذي تم اختياره، من غير تقديم أية ورقة نقدية أو تعليل المنح بشكل كاف، أو نشر حيثياته، أو حتى نشر مداولات النقاش والتصويت على الرواية الفائزة، التي ربما يظهر للملأ حجم اعتبارات الشخصنة، والمجاملة، والهيمنة من طرف أعضاء على آخرين، وتأثير العلاقات العامة والمصالح المتبادلة.


في أحيان كثيرة تتغافل الهيئات المشرفة، على تنظيم الجوائز، مسألة الاتصال والتواصل مع المشاركين الذين شاركوا في التنافس على نيل الجائزة، مثلما تتغافل عنهم، بعد ذلك، اذا لم يفوزوا، ولا تفكر في بحث دعمهم مادياً، أو معنوياً، أو دعم نشر أو ترجمة أعمالهم، إذ لا بد أن من بين من تنافسوا على الجائزة من قدموا أعمالا جيدة تستحق الدعم، رغم عدم فوزها. إن غياب الخبرة المتراكمة، والفساد الاداري، والخلط بين الشخصي والمهني، ووقوع القائمين على الجائزة تحت ضغوطات الصداقة والاعتبارات الذاتية والمصلحية الاخرى، تجعل من بعض الجوائز عالماً من الغموض.


ومن الجوائز المهمة: الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة باسم البوكر. وتعد الجائزة ثمرة تعاون مشترك بين المؤسسة التي تمنح جوائز البوكر الدولية، في بريطانيا، ومؤسسة الامارات في أبو ظبي. وقد تم اعلانها في بداية عام 2007، وتبلغ مكافأتها المالية عشرة آلاف دولار لكل رواية تصل قائمة الترشيحات النهائية، وخمسين ألف دولار للفائز. وتغير ادارة الجائزة لجان التحكيم في كل عام، وتتبع المعايير ذاتها في اجراءات الترشيح والاختيار كما في النسخة الانجليزية.


وقد اعتادت الساحة العربية على كثير من اللغط والتشكيك وحملات المقاطعة، التي ترافق مجريات المسابقة، عبر مراحلها الثلاث، الى حين إعلان الرواية الفائزة. لكن اللافت، هذا العام، كان الخلافات بين أعضاء لجنة التحكيم، بصورة علنية، في الصحافة، ووسائل الاعلام، ما كاد يعصف بالجائزة، ويعطل مسيرتها، بعد انسحاب بعض أعضائها، واتهام البعض الآخر بأن لهم يداً في صفقة تهدف الى فوز رواية ما.


أدت حمى جائزة البوكر، بالاضافة الى الجوائز الروائية الاخرى، الى طفرة ملحوظة في انتاج الروايات وتدفق نشرها، حيث صار يعكف الروائيون على تأليف روايات بغية المشاركة في الجائزة، بالمقام الاول، فصرت تلاحظ أن كثيراً من الروائيين العرب، الذين اعتادوا على تأليف الروايات، ونشرها، على مدى سنوات متباعدة، يستعجلون انتاج رواية، كل سنة. بل صرنا نسمع قصصاً عن كتاب لا يراجعون رواياتهم، من أخطاء املائية أو نحوية أو طباعية أو معرفية أو أسلوبية، ووصل الامر الى تغيّر اسماء الشخصيات أثناء الرواية! ونقل عن أحدهم قوله: "في الوقت الذي أدقق فيه روايتي أكون قد ألفت رواية أخرى"!


هناك جائزة سلطان العويس، في الامارات العربية المتحدة، التي تم انشاؤها في العام 1987 وتمنح كل عامين مرة، في مجالات عدة، منها الرواية. وسبق أن فاز بها من الاردن، عبر سنواتها السابقة، د.احسان عباس، ود. ناصر الدين الاسد، والمفكر د. فهمي جدعان، والروائي ابراهيم نصر الله. ومن غرائب الامور أنه تم سحب الجائزة، في عام 2004، من الشاعر العراقي المعروف، سعدي يوسف، بعدما منحت له في العام 1990، وشطبه من سجلاتها. وقد أثار القرار انتقاداً لما ينطوي عليه من ربط الجائزة بموقف الفائز السياسي، مما يشي بأن الجائزة لا تمنح على اساس ابداعي بحت، بل لها ثمن.


ومن الجوائز العربية المعروفة جائزة الشيخ زايد للكتاب، التي بدأت في عام 2006. تبلغ قيمة الجائزة المالية 750 ألف درهم، وتمتاز بشمولها مجالات ثقافية عديدة، مقارنة مع الجوائز العربية، والعالمية الأخرى. ومن مجالاتها اختيار شخصية العام الثقافية. وقد فاز بجائزة الرواية، في دورتها الاولى، الجزائري واسيني الاعرج، عن روايته "الامير ومسالك أبواب الحديد"، وفي الدورة التالية فاز بها الليبي ابراهيم الكوني، عن روايته "ما كان بعيداً"، وفاز بجائزة الدورة الثالثة جمال الغيطاني عن رواية "الدفتر السادس من دفاتر التدوين – رن".


ومن الجوائز العريقة، في الساحة الثقافية العربية، جائزة أبي القاسم الشابي، التي بلغ عدد دوراتها، منذ تأسيسها، في عام 1984، اربعاً وعشرين دورة، تكريماً لشاعر تونس الاشهر، وتشرف عليها وزارة الثقافة والتراث التونسية. يتغير موضوع الجائزة، في كل دورة، ما بين الرواية والشعر والقصة القصيرة والنص المسرحي. وقد فاز بها، من الاردن، في عام 2005، الروائية سميحة خريس، عن رواية "دفاتر الطوفان"، وفي عام 2008، فاز بها هزاع البراري، عن نصه المسرحي "قلادة الدم". وقد رسا اختيار وزارة الثقافة، في تونس، على أن تكون الرواية هي مجال الجائزة للعام الحالي، 2010.


تأسست جوائز الشارقة للابداع العربي في عام 1997، بأمر من حاكم الشارقة، الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وتسعى الى تشجيع ابداع الشباب في الوطن العربي. تمنح الجائزة لثلاثة فائزين في كل من مجالات: الشعر والرواية والقصة والمسرح وأدب الطفل والنقد الادبي والسيرة الذاتية. وفي الدورة الاخيرة التي أعلنت نتائجها، قبل عدة أشهر، لم يحصل أي أديب أو أديبة، من الاردن، على جائزة فيها. أما في السنة التي سبقتها، ففازت مشاركة، من الاردن، بالمركز الثاني للقصة القصيرة.


أما جائزة دبي الثقافية للابداع، فتقدم لمن هم تحت سن الاربعين، وتشمل سبعة مجالات، هي: الشعر، والقصة، والرواية، والفنون التشكيلية، والحوار مع الغرب، والتأليف المسرحي، والافلام التسجيلية، وقيمة الجائزة ـ لكل فرع منها ـ خمسة وعشرون ألف دولار، توزع على خمسة فائزين.


ثمة جائزة الرواية العربية، التي يمنحها معهد العالم العربي، في باريس، لأفضل الروايات العربية المنشورة بفرنسا. وتأتي في إطار المبادرات الثقافية لمجلس السفراء العرب، في فرنسا، بغية توطيد الحوار الثقافي بين العالم العربي وفرنسا. وتمنح الجائزة للأعمال المكتوبة بالعربية والمترجمة إلى الفرنسية أو المكتوبة بالفرنسية، وقد أنشئت الجائزة سنة 2008، وتبلغ قيمتها 15 ألف يورو. وقد فاز بها في الدورة الثالثة، هذا العام، الروائي المغربي، ماحي بنبين، عن روايته "نجوم سيدي مومن"، والروائي الجزائري رشيد بوجدرة، عن روايته "أشجار التين الشوكي". وكان الروائي اللبناني، الياس خوري، فاز بالجائزة، في دورتها الاولى.


وأشير الى جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية، التي تشرف عليها الجامعة الامريكية في القاهرة. أحدثت الجائزة في عام 1996، وتمنح، كل عام، في يوم الحادي عشر من شهر كانون الاول، الذي يصادف ذكرى ميلاد نجيب محفوظ. وقد جرت العادة أن تمنح الجائزة، في عام، لروائي عربي، وفي عام آخر، لروائي مصري. ومن الفائزين بالجائزة، في دوراتها السابقة: مريد البرغوثي، وهدى بركات، وأحلام مستغانمي، وبنسالم حميش، ومن المصريين خيري شلبي، ويوسف أبو رية، وإبراهيم عبد المجيد. وقد فاز بها، العام الماضي، الروائي السوري خليل صويلح عن روايته "وراق الحب".


هناك الكثير من الجوائز، في مصر، كجائزة الدولة التقديرية والتشجيعية، وجائزة مبارك، وجائزة الدولة للتفوق، وجوائز الهيئة العامة لقصور الثقافة، وجوائز اتحاد كتاب مصر، وجائزة محمود تيمور للابداع، وجائزة احسان عبد القدوس للرواية، وجائزة عزالدين اسماعيل، وجائزة نادي القصة المصرية، غير أنها، كلها، محلية تمنح للادباء المصريين.


وأشير، في هذا الصدد، الى جائزة ملتقى القاهرة للابداع الروائي العربي، الذي يشرف عليه المجلس الاعلى للثقافة، في مصر، والتي منحت، في دورتها الرابعة، عام 2008، للروائي ادوار الخراط. وكان الروائي العربي الراحل، عبد الرحمن منيف، فاز بالجائزة في دورتها الاولى، 1998، وفاجأ الروائي المصري، صنع الله ابراهيم، المجلس الاعلى، برفضه الجائزة، في الدورة الثانية، عام 2003، أما جائزة الدورة الثالثة، 2005 ففاز بها الروائي السوداني الراحل، الطيب صالح.


يوجد في تونس جائزة تدعى جائزة "كومار" للإبداع الروائي باللغتين: العربية، والفرنسية، وتقدمها شركة تأمين تونسية تحمل الاسم ذاته. وقد تم تأسيس الجائزة في عام 1994. وتمنح جائزة الكومار الذهبي لرواية باللغة العربية ورواية باللغة الفرنسية. وقد فاز بها، في عام 2010، الروائي نور الدين العلوي، عن روايته "تفاصيل صغيرة"، وأما الفائزة عن الرواية باللغة الفرنسية، فنالها فوزي الملاح. ومن طريف الامور أن الروائي الصافي سعيد رفض، في عام 2001، ترشيح روايته، وأصر على سحبها من القائمة، ثم تبين، بعد ذلك، أنها كانت الرواية الفائزة!


وفي الجزائر أشرف الروائي الراحل، الطاهر وطار، الذي كان يترأس جمعية "الجاحظية" الثقافية، على جائزة الرواية، "الهاشمي سعيداني" التي تقدمها الجمعية. وتهدف الى تطوير التجربة الروائية في دول المغرب العربي، ودعم الاصوات الروائية الشابة. وقد أحرز الأديب الجزائري الشاب "سمير قاسيمي" جائزة الدورة الثانية هذا العام عن باكورة أعماله الروائية، وهي "تصريح بالضياع".


وفي المغرب أذكر جائزة محمد زفزاف للرواية العربية، التي تمنح على هامش مؤتمر أصيلة الثقافي، في المغرب، وتمنح كل ثلاث سنوات، بالتناوب مع جائزتي"تشيكايا أوتامسي" للشعر الإفريقي و"بلند الحيدري" للشعراء العرب الشباب. وقد منحت الجائزة، في دورتها الرابعة، سنة 2010 للروائي السوري حنا مينة.

* اللوحة أعلاه بعنوان شبح السوق للفنان التشيلي كلوديو برافو

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلا حتى يتم تحميل الصفحة)





الجمعة، سبتمبر 17

نحن سبعة أنموذجاً



ويردزورث رائد الرومانتيكية الانجليزية.. بين الموت والخلود


"نحن سبعة" أنموذجاً

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 17/9/2010
اياد نصار

في واحدة من أجمل قصائده الغنائية المؤثرة، التي تحاكي أسلوب الاطفال، ولغتهم، وبراءتهم، كتب الشاعر الانجليزي الكبير، وليم ويردزورث William Wordsworth، قصيدة "نحن سبعة" في عام 1798. لكنه جعل منها، مثل كثيرٍ من قصائده، وخاصة في ديوانه "قصائد غنائية" 'Lyrical Ballads'مثالاً صارخاً على الشعر السهل الممتنع، الذي يقدم قطعة شعرية موسيقية سهلة، حتى لتبدو نشيداً للاطفال، في بساطتها، لكنها ـ في حقيقة الامر ـ تنطوي على فهم عميق للخلود والارتباط الانساني، مثلما تحمل أجواء الشعر الاروربي عامة، والانجليزي منه، بالتحديد، في تلك الحقبة.


يعدُّ ويردزورث رائد المدرسة الرومانتيكية في الشعر الانجليزي، ومنظّرها الاول، وقد عاش خلال الفترة من أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر (1770 - 1850). وأسس، مع رفيق دربه وحياته، الشاعر المشهور صامويل كولريدج، وبرفقة أخته دوروثي، أعظم إتجاه في الشعر الانجليزي في تلك الفترة التي كانت أوروبا تشهد فيها مولد الرومانتيكية في الادب والفنون. كان غوته وشوبيرت وهيردر وشيلر وموزارت وبيتهوفن في ألمانيا، ومدام دي ستال وشاتوبريان وجان جاك روسو وفكتور هوجو في فرنسا، والشاعر ألكسندر بوشكين في روسيا، وغيرهم كثيرون، يضعون معالم الرومانتيكية المنطلقة، في عاطفتها وتعبيرها وعنفوانها وخيالها، ويبثون روحها الثائرة، التي غيرت وجه الادب الكلاسيكي الى الابد.


كانت الرومانتيكية من أكثر التيارات الادبية والفكرية التي انتشرت على مساحات شاسعة من اوروبا ووصل تأثيرها لمناطق أخرى، كالولايات المتحدة. كما تعمقت الرومانتيكية في اوروبا فترة زمنية طويلة تغطي معظم القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر. وإمتد تأثيرها، لاحقاً، الى الوطن العربي، فانتشرت حركات التجديد ومدارسه، مثل حركة أبوللو الشعرية، التي بدأها الشاعر أحمد زكي أبو شادي، ومدرسة الديوان، والرابطة القلمية في المهجر، حيث تبنى مبادئها عدد من الادباء العرب الذين آمنوا بذاتية الشاعر وموقفه الرافض لقيم المجتمع، واهتموا بإضفاء صفة التأمل الفلسفي، أو الروحي على أعمالهم، من مثل أبي القاسم الشابي، وجبران، وإيليا أبي ماضي، وخليل مطران وغيرهم.


كانت الرومانتيكية ثورة على معايير الادب والفنون الكلاسيكية وقيمهما، التي كانت تمجد دور العقل، وتدعو الى مراعاة الفوارق الطبقية واحترامها ، وتعلي مكانة المجتمع فوق حرية الفرد، وتدافع عن القيم المحافظة والأرستقراطية. كان القلب ـ رائد الرومانتيكيين ـ رداً على عقلانية الكلاسيكية، وقد جعلوا الاساس، في أعمالهم، هو الاحاسيس والخيال والعاطفة واحترام دور الفرد وتمجيد الثورة على الأرستقراطية والطبقية. وكما ذكر النقاد ـ على سبيل المقارنة ـ أنه إذا كانت الكلاسيكية أعطت القياد للعقل والمجتمع، وقيم الطبقات المغلقة، التي لا ترحب بقادمين من طبقات أدنى، فإن الرومانتيكية مجّدت القلب والمشاعر والحب الذي يتخطى الفوارق والحواجز، وأذكت روح المغامرة والفردية والتغني بالتجربة الذاتية، ومعاينة ألم الذات وطموحها الذي يورث العذاب والقلق. كان الالهام وحب الطبيعة والعيش فيها بعيداً عن المجتمع، والنزعة للتمرد، والتساؤل من أهم سمات الشخصية الرومانتيكية. ولهذا عاش وليم وردزورث، أغلب حياته، في الريف يتأمل في معاني الطبيعة، ويستوحي منها الجمال والفكر، كما شدته مظاهر الحياة الريفية البسيطة ببراءتها وعفويتها.


وكان للمجموعة الشعرية المسماة "القصائد الغنائية"، التي كتبها بالاشتراك مع صديقه ومؤسس مذهبه وتأملاته في الشعر الانجليزي الشاعر صامويل كولريدج، دور بارز في تغيير مسار الشعر الانجليزي، والتنظير لعهد جديد من الادب الرومانتيكي، رغم أنهما نشراها مغفلة من إسميهما. وقد انضم لهذا التيار شعراء آخرون بارزون، من مثل جون كيتس، وبيرسي بايش شيلي، ولورد بايرون، وقدموا إسهامات شعرية رائعة ما تزال تستقطب الاهتمام والدراسة والتحليل.


أما القصيدة، فقد قيل أن الشاعر قابل فتاة ريفية صغيرة في احدى رحلاته في أنحاء مقاطعة ويلز، في عام 1793، وبالتحديد في قرية غودريش كاسل، بعد أن انقطعت علاقته بصديقه الحميم وليم كالفيرت. وقد أوحت له تجربة الرحلة، منفرداً، وفي النفس بقايا أسى من انفصام عرى صداقته، التأمل في معاني تجربة المرور من الطبيعة. واكتشف أن الاحساس بتجربة الاحتفاء بالطبيعة والحياة والسعادة في الطفولة قد غادره، وصار يثير في النفس الجانب المظلم من الفكرة، ألا وهو الموت، وقرب وصول الرحلة الى نهايتها، فلم يعد ينظر لهذا الجمال من حوله، كما كان ينظر له عندما كان طفلاً. وهكذا أوحى له حواره مع الفتاة بفكرة هذه القصيدة رغم أنه جرى، قبل خمس سنوات من كتابتها، عام 1798. وقد لقيت استقبالاً كبيراً منذ نشرها. كتب ويردزورث حول هذه المناسبة: "لقد عاودت في ربيع عام 1841، زيارة غودريش كاسل مرة ثانية، خاصة أنني لم أزر المنطقة كلها، عندما قابلت تلك الفتاة الصغيرة في تلك السنة 1793. وكنت سأشعر بالسرور لو أنني وجدت في القرية أي أثار تدل على تلك التي أثارت اهتمامي، لكن ذلك كان من المستحيل، فلسوء الحظ لم أعرف حتى اسمها".


وواضح فيها الفكرة التي كان ويردزورث يرددها، بأن البراءة من الصعب أن تعيش؛ لأن الجنس البشري يدمرها. كما يبرز فيها وعي الفتاة بالخلود وعمق الارتباط الانساني، عبر الزمن. فقد حاول الراوي اقناعها بأن أخويها المدفونين في باحة الكنيسة هما ميتان، ولا يجوز عدهما من ضمن الاحياء، الاّ أنها بقيت ترفض هذا المبدأ بشدة، بأسلوبها الطفولي الجميل، وحرصتْ، لا على الدفاع عن الفكرة فحسب، بل قدمت مشاهد من تواصلها المستمر مع أخويها؛ فهي تشاركهما في كل مظاهر حياتها، من النسج الى الاكل، الى الغناء، الى اللعب حول قبريهما.


واذا كان الموت هو نهاية الحياة والنشاط الانساني، كما بقي يصر الراوي، فإن الفتاة لا تعتبر الموت كذلك، فما تزال تمارس حياتها وتشعر بحضور إخوتها، سواء أكان حضوراً روحياً أم جسدياً. واذا كانت الفتاة تمثل الفكر البسيط الساذج، الا أن الراوي عجز عن تغيير أفكارها، مما يلقي بظلال الشك حول صحة أفكاره هو. تبرز، في القصيدة، نغمة الحزن والرثاء والحنين. وقد عبّر وليم ويردزورث عن أسفه، في قصيدة أخرى له، عما فعله الانسان بأخيه الانسان. ولكن يبرزُ، في هذه القصيدة، وقصائد أخرى من "القصائد الغنائية"، حنينه الى طفولته قبل أن يشوه الانسان براءتها.


ومن طريف ما حصل، أن ويردزورث بدأ القصيدة بكتابة المقطع الختامي لها، خلال سيره في أحد الايام، أولاً، ثم عندما رجع الى المنزل الريفي، حيث كان يعيش مع كولريدج وأخته دوروثي، فقد أخبرهما بما حصل، وطلب منهما أن يقترحا عليه بداية لها، فكان أن اقترح عليه كولريدج بدايتها بقوله "طفلة بسيطة يا أخي جيم"، في اشارة الى صديق لهما يدعى جيمس توبن. فأخذ الشاعر "طفلة بسيطة" وترك "يا أخي جيم". وعندما انتهى منها ضمها لديوان "القصائد الغنائية". ويروي الشاعر أن صديقه جيم، هذا، وقعت عينه ـ صدفة ـ على مخطوط ديوان "القصائد الغنائية"، فقرأه، وأتى ويردزورث، وقال: "لقد رأيت الديوان الذي توشك ـ أنت وكولريدج ـ على نشره. إن هناك قصيدة، أعتقد أنك تتفق معي على حذفها، لأنها، لو نشرت، فستجعلك تبدو سخيفاً". فشعر ويردزورث بالفضول، وسأله عما تكون. فقال صديقه: "إنها تدعى نحن سبعة"! فرفض الشاعر، وذهب صديقه حزيناً محبطاً. ويبدو أنه من حسن حظ الادب، أن الشاعر لم يأخذ بنصيحة صديقه، فقد صارت هذه القصيدة من أشهر قصائده!


تتألف القصيدة من 17 مقطعاً stanza، يتكون كل منها من أربعة أبيات أو أسطر، باستثناء المقطع الاخير الذي يتكون من خمسة. يلاحظ اشتراك البيت الاول والثالث في كل مقطع بحرف روي يتغير في كل مرة، بينما يشترك البيت الثاني والرابع بحرف روي آخر يتغير حسب المقطع. وأورد، تالياً، القصيدة بترجمتي، ويمكن تتبع الكثير من المفاهيم الرومانتيكية مجسدة فيها بوضوح، ولهذا اكتسبت القصيدة كل هذه الاهمية في الشعر الانجليزي:


نحن سبعة


طفلة بسيطة
تتنفس بكل صمت
وتحس بالحياة في كل طرف منها
ماذا عساها تعرف عن الموت؟


قابلت طفلة كوخ صغيرة
قالت إن عمرها ثماني سنوات.
كان شعرها كثيفا ملوّىً
يحيط بوجهها من كل الجهات.


كانت ذات ملامح ريفية
واكتست ملابسها روحا برية
كانت عيناها جميلتين، جد جميلتين
فسرّني جمال الصبية.


"أيتها الفتاة الصغيرة، كم لك
من الأخوات والاخوة أخبريني؟"
قالت: "كم واحد؟ نحن جميعاً سبعة".
ونظرت بتعجّب نحوي.


"وأين هم؟ أرجوك أن تخبريني"
"سبعة نحن" أجابت
"إثنان منا يسكنان في كونواي،
وإثنان قد ذهبا للبحر" قالت


"إثنان منا يرقدان في باحة الكنيسة،
أختي وأخي
وفي الكوخ في باحة الكنيسة
أعيش قريباً منهما مع أمي".


"تقولين بأن اثنين يسكنان في كونواي،
واثنين قد ذهبا للبحر،
إلا ّ أنكما سبعة. أرجوك أن تخبريني
أيتها البنت الحلوة، كيف يكون الامر؟"


فأجابت عندذاك الصغيرة:
" نحن سبعة أولاد وبنات
اثنان منا في باحة الكنيسة
تحت الشجرة يرقدان في بيات"


"أنتِ تمشي فوقهم يا فتاتي الصغيرة
أطرافك حية بلمسة
اذا كان إثنان يرقدان في فناء الكنيسة،
فأنتم فقط خمسة".


"قبراهما أخضران" أجابت الصغيرة
"ظاهران للعيان"
"على بعد إثنتي عشرة خطوة أو أكثر من باب أمي
جنبا الى جنب يرقدان.


لطالما حكت هناك جواربي
ونسجت حاشية منديلي هناك
وغنيت أغنية ً لهما
وأنا أجلس فوق الارض هناك.


ولطالما، بعد الغروب، يا سيدي،
حينما يكون لطيفا ورقيقاً مسائي
أخذت صحني
وتناولت هناك عشائي.


توفيت أولاً أختي جين.
كانت ترقد تئن في سريرها،
ثم رحلت عنا
حينما أراحها الله من الآمها.


فَوُسِّدت الثرى في باحة الكنيسة.
معاً حول قبرها لعبنا
عندما كان العشب جافاً
أخي جون وأنا.


وحينما كانت الارض بيضاء في الثلج
وكنت أتزحلق، أجري
فقد اُجبر أخي جون على الرحيل
وهو ـ الى جانبها ـ يستلقي".


فقلت: "كم واحدٍ إذن أنتم؟
اذا كان اثنان في السماء المرتفعة؟"
فكان جواب الفتاة سريعاً:
"أوه يا سيدي، نحن سبعة".


"ولكنهما ميتان، أولئك الاثنان ميتان
أرواحهما في السماء"
كنت كمن يرمي كلمات هباء
فما تزال الصغيرة تصر بلا رجعة
قائلة: "لا ، نحن سبعة"


* اللوحة أعلاه بريشة الفنانة التونسية رفيقة الظريف.

رابط المقالة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة نسخة pdf 





الأحد، سبتمبر 12

حياة بين الاموات


حياة بين الاموات
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية يوم 13/9/2010
لست أدري.. هل كانت أمي السبب؟ أم أوهامي في لحظة ضعف؟ أم أفكاره الغريبة التي جاءت في غفلة من زمني ورسمت قدري؟ 


رحت الى آخر الدنيا معه، فوضعني في تقويم أناس غرباء، لم يكن يومهم يومي، ولا لسانهم لساني. شعرت أنني غريبة الوجه في أرض جرداء. لا أزال أتذكر تلك الليلة التي رجع فيها سليم الى البيت عند الفجر، وهو مضطرب وخائف، مثل قط يموء في ليل زمهرير. لم يكن كعادته. أدركت بأعماقي أن شيئاً قد حدث. سألته ، فلم يجبني غير الصمت. ألححت عليه، فهَمهم بكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً.. كظمت غيظي مثل كل النساء اللواتي يستشعرن ما يخفيه الرجال، ويصمتن خشية العاصفة. حاوت اقناعه أن يؤجل الزيارة ، لكنه أصر. أراد أن يتصالح معه قبل السفر. الدنيا حياة أو موت، كما قال. حاولت ثنيه، فلم أفلح. عندما رجع، بدا عليه القلق والتوتر. ظننته خائفاً من المغامرة. حاولت إقناعه بعدم السفر، لكنه عنيد.

- ليس عندك خبرة في الزراعة، فكيف تذهب؟ هل نقدر أن نعيش في مثل ذاك الحر؟

- أغلقت الابواب في وجهي، ولم يبق أمامي سواه. الراتب مغرٍ.

تركته يستريح، خشية أن يثور بي. وفي الصباح سافرنا الى الخرطوم.

يساورني القلق، فأكتمه في صدري. أحس بالفزع كلما تحركت بنا الطائرة فجأة.. الوقت يمر بطيئاً، والخوف يكبر في صدري، لكنني أكتم حزني عنه. عند وصولنا استقبلنا بعض أصدقائه في المطار، فارتحت قليلاً. أخذونا الى شقة مؤقتة ريثما يتسنى العثور على بيت مناسب. كان سليم يخرج الى العمل في الصباح فأبقى وحدي. أشعر بالقلق والخوف بين أربعة جدران في بلد غريب. عندما يعود، أمطره بأسلئتي. لعله الاحساس بالوحدة والملل. في اليوم الثالث حدثت مفاجأة لم أكن أتوقعها. رأيت سليم متردداً، وعلى شفتيه بوادر كلام يخبئه.. لكنه باح لي في نهاية المطاف. ستغلق الشركة أبوابها. صعقت.. خرجت مني شهقة لا ارادية.. نظرت اليه بتعجب. استغربت كثيراً. ولم أصدق.. لم يمض على وصولنا سوى أيام معدودة. أكد لي أن هذا ما حدث، وقد تقرر نقله الى فرعهم في كراتشي. شركة عالمية لها فروع ومزارع في دول عديدة. في اليوم الرابع كنت أنا وسليم على الطائرة المتجهة الى الباكستان. كانت رحلة طويلة ومتعبة. كنت متوترة وخائفة فلم أعش في حياتي بعيداً عن بيت أمي. لكن سليم طمأنني. الناس هناك مسلمون وعاداتهم قريبة منا. بدأت أسمع لغة لا أفهمها. يتحدثون بسرعة فأحس بالضيق. بعدما خرجنا من المطار رأيت في استقبالنا مجموعة من أصدقائه. سمعتهم يتحدثون العربية. شعرت بالارتياح. لن نكون وحدنا هنا. أخذونا الى محطة القطارات. ركبنا القطار حتى وصلنا بيشاور.

أمي كانت السبب.
قتلتني ببساطتها وحنانها وطيبتها. مضت الايام وأنا انتظر حظي كالحزينة. كل يوم أرى الحزن الصامت في عينيها، وأسمع زفرات الشكوى في أدعيتها التي تمتليء حسرة. مضت أعوام وأنا في هذا البيت القديم البائس. جدرانه مسودة متهالكة، والارض من حولنا خلاء موحش تعوي فيه الذئاب في الليل. ليس هناك كهرباء. يوماً بعد آخر زحف الناس الغلابى مثلنا وبنوا بيوتاً لهم أشبه بالخشش. إزدحمت المنطقة بعد سنوات، وصارت كالمخيم في إكتظاظها. منطقة مغبرة ذات طبيعة صحراوية بلا حياة! الشوارع متربة ضيقة، والمباني قديمة كالحة تثير في النفس الاحساس بالموت البطيء.

لم أعد أنتظر شاباً أو أتوقع خاطبة منذ سنوات. رضيت بنصيبي بسكوت وحزن كتمته في داخلي عن أعين الاخرين. لا أتذكر متى كانت آخر مرة أتى فيها رجال متزوجون يريدون أن يكيدوا زوجاتهم، أو أرامل يبحثون عن مربية لأطفالهم! روّضت نفسي على القبول بنصيبها. تلاشت آمالي سنة بعد أخرى. صرت في منتصف الثلاثينات، ولم يعد يأتي من يطلب يدي. المتزوجون والمطلقون والارامل لم يعودوا يطرقون بابنا.

بعد وفاة أبي إزداد خوف أمي عليّ. كانت تحمل همومي وخيبتي. كنت أحس ذلك في كلماتها. ذات نبرة قاسية تشف عن لوم وراءها كأنما تحمّلني مسؤولية مصيري. كانت تثيرني كلماتها. وحنين الامومة يثور في داخلي بين حين وآخر. أظنه جاء في لحظة ضعف وانتكاسة حينما صار البيت سجني. جاء في غفلة من أيامي ورسم قدري بألوانه السوداء.

إستولى على عقل أمي بهيئته الرزينة وثوبه. توجست من تشدده ، لكن أمي قالت إن من يعرف ربه يعرف زوجته. في منتصف الاربعين وقد طلّق زوجته. قال إنهما لم يتفاهما، لكني عرفت السبب الحقيقي بعدما تزوجنا. بعد زواجنا بسنة صار سليم عصبياً حاد المزاج، وترك العمل. خشيت أن أناقشه في الاسباب. سكتُ وتظاهرت بالفهم! مضت أشهر وهو يبحث عن عمل آخر. تعرف خلالها الى بعض الشباب، وصار يخرج معهم كل يوم. صار كثير الشكوى والتذمر. كنت أحاول أن أخفف من تأثيرهم عليه، لكنه لم يكن يسمع. صرت أحس أنه يائس من الحياة. زاد شعوره بالبطالة من نقمته على الدنيا. بدأت أخشى من التغير الذي أخذ يطرأ عليه. صار لا يسمح لي بأن أفتح التلفاز الا لمشاهدة الاخبار ثم يقفله، فكنت أنتهز غيابه مع أصحابه فأفتحه.

أمي كانت السبب.
لقد غيّر سليم حياتي. كانت لديه تصورات غريبة كأنما يريد تغيير شكل العالم. كان دائم الحديث عن همومه وإحساسه بأنه يجب أن يفعل شيئاً، فأحس بالقلق، لكني ألوذ بالصمت.

لو عرفت أمي مكاني الان، ماذا كان ليجري لها؟ لا مكان لي في الدنيا سوى هذه المقبرة التي أسكن فيها بين قبور الاموات. لم يعد الخوف من الموت يعني لي شيئاً. لكني أخاف على خولة. ماذا يصيبها عندما تدرك معنى الموت؟ هل تتحمل أعصابها الرعب؟ أسمع طوال اليوم كلاما لا أفهمه. ترطن نساء يلبسن البراقع الزرقاء من حولي كل الوقت. ليست هناك في تلك البقعة امرأة عربية سواي وسوى خديجة زوجة أنس. قصة خديجة تكاد تكون نسخة عن قصتي. جاء بها أنس من الجزائر ومعها طفلتان كأميرتين بشعرهما الاشقر ذي الجدائل المضفورة. لكن أمهما تلبسهما غطاء الرأس اذا خرجت بهما الى السوق. سليم زوجي، أو أبو البراء، كما يدعوه رفاقه هنا، لا يأتي سوى مرة في الشهر. يخشى أن تلاحقه الطائرات وتقصفنا جميعاً. في المرة الماضية دمرت الطائرات البيت الذي كنا نعيش فيه قرب الحدود. لحسن الحظ لم نكن ساعتها فيه. جاءت عند الفجر وألقت قنبلة اقتلعت البيت من أساسه وسوّته ركاماً. صرنا مطارَدين. لم نجد من مكان آمن سوى المقبرة. بنى سليم فيها بمساعدة بعض الرجال غرفة من الطين والحجر لي ولخولة. تأتي بعض النسوة أحيانا بصرر من قماش فيها بعض الطعام لنا، لكني لا أفهم لغتهن. ربما يفهمن كلماتي العربية. هكذا أحس وأنا أنظر الى وجوههن القاسية التي تروي ملامحها عذاب السنين.

أين كان ينتظرني هذا كله؟ صرت هاربة متخفية، وصار الشقاء عنواني الذي يلازمني. أهرب من خرائب الى خرائب، ومن واد الى واد، ومن كهف في الجبال الى آخر. لم تعد تهمني حياتي. أحس أن أيامي معدودة. ولكن من يهتم بخولة من بعدي؟ من يرعاها؟ أي يد حانية تنام عليها؟ من يرفو فستانها الممزق، ويمشط لها شعرها الاجعد؟ هل ستعرف أن تكتب اسمها ذات يوم، أم تبقى أمية مثلي؟

في كثير من الليالي وأنا أصارع الوحدة والخوف أتذكر أمي وأحنّ الى بيتنا القديم. ماتت قبل خمس سنوات من دون أن أراها، وأنا مشردة في أقاصي الدنيا. أحكي لخولة عنها وفي عيني دمعة. كنت أتمنى لو عاشت لترى ابنتي ذات الخمسة أعوام. لقد ولدتها في مخيم لعائلات المقاتلين العرب. كانت ظروف الولادة بدائية بائسة، ولولا مساعدة بعض النسوة لما عرفت ماذا أفعل. كم كانت قاسية وأمي ليست بجانبي. وسليم كان في مهمة قرب الحدود.

رأيت في المخيم بعض النساء اللواتي فقدن أزواجهن، وتقطعت بهن السبل. كل يوم كانت واحدة منا تصبح أرملة. بدا الامر كأنما كل واحدة تنتظر دورها. صار الموت شيئاً عادياً. صرت أخشى على خولة من مصير مجهول لو حدث لي شيء. كيف تواجه طفلة صغيرة الحياة في بلد غريب؟ أشعر بحنين الى بيت أمي، وأتساءل ما الذي أحضرنا الى هنا. ألم يكن لدينا من الهموم والشقاء ما يكفينا؟ فلماذا نحمل عذابات الاخرين أيضاً؟ وهل يحس الاخرون بنا وبحرماننا؟ أم أننا صرنا بيادق في معارك أكبر منا، تديرها رؤوس بها أحلام أكبر من أحلامنا؟ هل لحياتنا أي قيمة عندها؟ أحس أنني في مكان غريب عني، وأهله يرطنون بلغة لا أفهمها، فأشعر بالضيق. هل هذا هو قدري الذي كان ينتظرني؟ غريبة مشردة. بل صرت هاربة خطيرة تبحث عني كل جيوش العالم ومخابراته.

سمعت طرقاً قوياً سريعاً على الباب. أسرعت أفتحه وأنا خائفة متوجسة. كانت خديجة تبكي بصوت عال. وتضرب صدرها بيديها وتشد شعرها. معها ابنتاها، وثلاثتهن يبكين. أيقنت أن الدور جاء عليها. ضممتها الى صدري. كانت ترتجف من الصدمة. احتضنت الصغيرتين وأنا أمسح الدموع عن وجهيهما بيدي. غطى نشيج خديجة على صوتها. سمعت مثل قصة أنس الكثير هنا من النسوة وإن اختلفت الاسماء. تتكرر قصة خديجة مع كل امرأة تأتي هنا. أخذت أفكر في مصير خولة والالم يعتصرني. استيقظت من ذهولي على نحيب النساء من حولي، فانخرطت في البكاء معهن.

* اللوحة أعلاه بعنوان جزيرة الاموات للفنان سلفادور دالي (1904-1989)

رابط الصفحة في جريدة النهار

رابط الصفحة الكاملة pdf (انتظر قليلا ريثما يتم تحميل الملحق)


الجمعة، سبتمبر 3

مدارات الصمت

قصة قصيرة
مدارات الصمت
اياد نصار

* نشرت في جريدة الدستور / الملحق الثقافي بتاريخ 3/9/2010

كنت نائماً، وحدي، في الغرفة الضيقة. الارض طينية موحلة في الخارج، والشوارع مقفرة الا من بعض القطط التي اتخذت من الزوايا والاسوار المتهدمة مساكن لها. بدأت أربعينية الشتاء قبل أيام قليلة. البرد قارس، والمطر يتساقط رذاذاً خفيفاً. الغيوم داكنة، لكن أشعة الشمس الذابلة الباردة ما تزال تنفذ من بين القطرات على إستحياء. لم يتوقف انهمار المطر في الايام الماضية. دفقت السيول قريباً من جدار الغرفة، وسالت الشوارع بلون التراب الابيض الناعم. رحلت مقالع الحجر ومعامل الطوب والبلاط التي كانت هنا، ذات يوم، ولم يبق سوى معامل صغيرة متهالكة. أسمع صوت آلاتها الأجش ودوران سيورها من غرفتي. سنوات طويلة وأنا أسمعها. صرت أعرف مواعيد تشغيلها اليومي وإطفائها. عندما يرتاح العمال قبيل الظهر لتناول الافطار أشعر بالهدوء والراحة!



قبل أن آتي الى هنا، كانت المنطقة حقلاً للتنقيب عن الفوسفات. ثم هجروها فصارت أطلالاً. جبال كبيرة كئيبة من الرمال البيضاء والرمادية المتكدسة تملأ المكان. تدل المقالع المهجورة، والجبال القاحلة، والرمال، على الخراب. إمتصت ما تبقى من حليب الارض، وتركت المنطقة ضرعاً يابساً! تنتشر المعدات الحديدية الصدئة والمخازن المتهدمة في كل ركن. يقول العارفون إنها كانت في الماضي مزارع خضراء على جانبي السيل، ولكنه تلوث بنفايات المصانع ومات. تصلني رائحته الكريهة اذا هبت الريح في اتجاهي. نهب التنقيب خيرات الارض وأحالها أكواماً هائلة من الرمال والاراضي الجرداء، فأصبحت مهجورة، الا من الفقراء الذين لفظتهم الدنيا، مثلي، فاستقر بهم المطاف هنا.


أسكن، وحدي، على رأس التلة. المنطقة هادئة ولكنها موحشة. أسمع زمجرة الذئاب في الليل. ثم جاء جاري أبو محمود وسكن بجانبي. رجل كبير مريض أثقلت الايام جسده بكل الامراض، فحمله أبناؤه وبنوا له غرفة صغيرة بالكاد تكفيه ليرتاح فيها من تعب الحياة. كان أولاده يزورونه في البداية باستمرار. لم يكونوا يمكثون عنده سوى وقت قصير ثم يرجعون. صارت زياراتهم تقل يوماً من بعد آخر، وأخذ يسود المكان هدوء وعزلة من جديد. بعد سنة جاء أولاده، من بعد غياب أشهر. سمعت أصوات عجلات سيارتهم وأبوابها. ترجل بعضهم وبعضهم بقي في السيارة. لم أكن أسترق السمع، ولكن لم يكن سوى أصواتهم. كانت كلماتهم باردة. سمعتهم يقولون أنهم كانوا مشغولين خلال العيد فلم يتمكنوا من زيارته. طلبوا منه أن يسامحهم، لكنه بقي صامتاً ولم يرد. بعد دقائق قليلة سمعت أصوات محركات السيارة تبتعد.


بالامس إنتهت آخر ايام العيد. كانت المنطقة تعج بالسيارات وأصوات الرائحين والغادين، كأنما دبت الحياة، في المكان، من جديد. جاء رجال كثيرون، ونسوة، وشيوخ، وعجائز، وأطفال. لم يكن سوى مجرد تقليد تعودوه! لا يعدو الامر سوى واجب لا بد منه! يقطعون مسافات طويلة لكنهم لا يمكثون سوى دقائق معدودة صامتين أو يتمتمون ببضع كلمات. قبل العيد كانت المنطقة هادئة الا من السيارات التي كانت تأتي، خلال النهار، تنقل الساكنين الجدد ثم ترحل.


الحاجة فاطمة تسكن، وحيدة، على بعد خطوات مني. مضى عليها ثلاث سنوات منذ أن أحضرها زوجها وأولادها هنا. كانت تعاني ضغط الدم والسكري. جاء زوجها مرة مع أولاده لزيارتها، ثم لم يعد. بقي أولادها يزورونها، بين الحين والاخر، لكنهم لم يأتوا في العام الماضي. جاؤوا بالامس للسلام عليها. كانت تريد أن تبكي أمامهم من الشوق، ولكنها تماسكت وبقيت صامتة.


إستقر الجو في الخارج. توقف المطر وبدأت أشعة الشمس تلتمع على حبات الرمل والصخور. ما يزال الهواء بارداً، والارض رطبة من شدة المطر خلال الايام الماضية. عاد السكون الى المكان الا من عربات تأتي، بين الحين والاخر، تحمل الساكنين الجدد. أسمع أصواتها بمجرد أن تقترب من أسفل الوادي.


أسمع أصوات سيارة تقترب. يعلو صوت المحرك كلما اقتربت. أسمع أصوات عجلاتها وهي تدوس على الحصى. لا يدل الصوت على أنها تحمل ساكنين جدداً. نزل منها ثلاثة شباب وإمرأتان. اسمع أصوات خطوات أقدامهم وهي تقترب من جدار غرفتي. كنت متمدداً أفكر في تلك الايام عندما كنت بينهم. رائد وجابر ومهند ودلال وسنية. تقدم رائد أكثر حتى شعرت به يكاد يلامس رأسي. تبعوه بهدوء وأقعوا القرفصاء عن جانبي. تمتم رائد ببعض كلمات، وجابر يردد من بعده. مهند ساكت كعادته. هو أصغرهم. شقي كباقي الاولاد في سنه. كل سنة أرى في عينيه نضوجاً أكثر. لكنه، ربما، لم يستوعب بعدُ معنى أن تكون هنا وحدك. عندما جئت الى هنا كان صغيراً لم يتجاوز عمره سبع سنوات. بكى قليلاً، حينها، ثم نسي.


دلال ولدت قبل مهند بثلاث سنوات. تدرس، الان، في الثانوية. أخشى على مستقبلها. تحملت كل هموم البيت على رأسها. كانت دائما الاولى بين زميلاتها في الصف. لكن الظروف تبدلت. صارت أقسى من أن تحتملها. لقد تراجعت كثيراً في دروسها وتراجعت أحلامها، أيضاً. ظروف البيت ومرض أمها أكبر منها. عندما جئت هنا بكت بكاء شديداً أياماً متواصلة حتى جف ماء عينيها. لكنها نسيت مع مرور السنوات. لم أرها منذ أن فارقتها. هذه أول مرة تأتي لزيارتي منذ ثماني سنوات. آه كم تغيرت ملامحها وكبرت. لا أدري ما الذي حصل حتى جاءت لزيارتي هذا العام.


رائد حبي الاول ومصيبتي معاً. أفنيت عمري في سبيله. أكبرهم في الرابعة والثلاثين من عمره. نادراً ما يأتي لزيارتي. قلبه قاس ولا يعني له الفراق شيئاً. لا أحس أن في قلبه إشتياقاً لي. وربما جاء معهم لأنه يقود السيارة التي يأتون بها. تخرج من كلية الحقوق بعد سبع سنوات. لقد دفعت سنية في سبيل تعليمه كل ما تركته لها ورائي. كان يبذر بغير حساب. له شلة لا يعرف من الدنيا غيرهم ولا يكترث لأحد سواهم. يذهب لآخر الدنيا معهم ولا يأتي هنا الا مرغماً. كان يأتي لزيارتي قبل أن يتزوج، بين حين وآخر، ولكنه، بعدها، لم يعد يأتي أبداً. كانت في يديه مسبحة ملونة يحرك خرزاتها، وسمعته يردد بعض كلمات كمن يردد شيئاً حفظه عن ظهر قلب. لكنها كانت بلا روح.


جابر هو الوحيد الذي بقي يزورني كل سنة. في الثامنة والعشرين ولم يتزوج بعد. بعد أن وُلد رائد. لم تحمل سنية ست سنوات كاملة. لا أدري ما الذي أصابها حتى توقفت عن الانجاب. كنت أريد أن أرى أطفالي وأنا صغير. لم أكن أريد أن أتزوج سنية، لكن أبي أصر عليها لأنها إبنة أخيه برغم ما يجمعهما من تجهم وعناد وتنافر. وانتقل التنافر والعناد الى علاقتي بسنية. عصبية لا تحتمل كلمة. في بداية زواجنا، كانت تترك البيت لأبسط خلاف. وبعد أن وُلد رائد، انشغلت به. مرت سنوات وأنا أنتظر سنية أن تحمل وهي لم تكن تكترث. كنت أرى في عينيها وفي تصرفاتها الجفاء. أطيق كل شيء الا الجفاء. كان يحفر عميقاً في أعماقي ويبعدني عنها، شيئاً فشيئاً. أردت أن اثبت لها أنها لن تستطيع إخضاعي بهذه الاساليب. تزوجت من إمرأة أخرى. غضبت وثارت وتركت البيت حوالي السنة. تدخل وجهاء البلد، أخيراً، وأعادوها.


جابر إبني من مريم. لكننا لم نبق مع بعض سوى سنة واحدة. لم تطق مريم أن يكون لها ضرّة فعادت الى بيت أهلها، وتركت جابر صغيراً ولم تعد. كنت أخشى عليه في هذا الجو المحموم. لكن سنية ربته مثل أولادها. انتقلنا بعدها للسكن في منطقة أخرى بعيداً عن أهلي وأهلها. بدأت تعود المياه لمجاريها، وصارت سنية أكثر ليناً وحناناً. بدأت أكتشف ما لم أكن أعرفه في شخصيتها من جو المشاكل الذي كنا نعيش فيه.


عندما دفنوني زرع جابر بيديه شجرة زيتون، وصار يتعهدها بالسقاية كلما جاء لزيارتي. كانت تأتي سنية معه كثيراً، لكن المرض ومسؤولية البيت أنهكا جسدها المتعب. أراد رائد أن يمشي فسمعت جابر يقول له إنتظر. بقي جابر يدعو بصوت مرتفع. كانت كلماته تؤثر في كثيراً، وتقلّب علي المواجع، وتثير حنيني. بعد قليل تحركوا نحو السيارة. سمعت أصوات خطواتهم تبتعد. ثم عاد جابر وفي يده زجاجة ماء. سمعت صوت الماء المنسكب يسقي الشجرة عند شاهد قبري. ثم حل الصمت مرة أخرى.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الاردني ضيف الله عبيدات

رابط الصفحة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة