الجمعة، سبتمبر 26

مناورة!


مناورة!

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قبل يومين التقطت ذاكرتي ذاك اليوم الذي مرَّ ولم نعبأْ به. كان في بالي منذُ بدايةِ الصيف ولكنّ زحمةَ الايام كفيلةٌ بأن تنسي المرءَ حتى تاريخَ ميلاده! أهلكنا الصيفُ بموجاتِه المتلاحقة ، فصرت أحلم بذلك اليوم بشوقٍ كلما داهمنا الحرُّ بحضوره الثقيل. صرتُ مثلَ كائناتِ الارض التي تستشعرُ البردَ والمطرَ قبل أوانه فتبني لها بيوتاً تختبيء فيها، أو مثلَ الشجر الذي يبدّلُ لونَ أوراقه مع تغيّرِ الفصول. منذ الصباح تهب الريحُ الباردةُ العليلةُ ، والغيوم البيضاء المنخفضة تمرُّ في السماء بلا توقف. منذ شهورٍ لم أرها بمثل هذا التشكيل. ارتاحت نفسي وهي تعبر الاعتدال الخريفي. شعرت أنني قد نجوت هذه السنة!
كان صيفاً يخنق التماسيح في بِرَكِها الخضراء. في المساء هبت نسمةٌ معطرةٌ بروائح الشجر وأزهارِ الياسمين الممتدةِ على السور حوالي المبنى وتسللت إلى طاولتي من نافذة الغرفة. ارتشفتُ من كوب الشاي السيلاني الاحمر الصافي وأنا أتلذّذ بطعمه. كان يوماً طويلاً جفت فيه الروح من العطش. فأحسستُ أن العشبَ عاد يملأُ شقوقَ الارض العطشى بعد موسم الجفاف.جلستُ أنتظرُها. كانت شاشةُ الكمبيوتر شاحبةً بيضاء لا حياة فيها. تشاغلتُ بقراءة الصحيفة. عناوينها باهتةٌ. لا شيء فيها غيرُ الخراب والموت والحروب التي لم تنتهِ منذ أن وُلدتْ الديناصورات!
فجأة إلتمعَ لونُ رسالتها الاحمر يضيء بأسفل الشاشة. نبتتْ ورقةٌ خضراءُ كالبرعم على غصنٍ يابس. تهللت أساريري. لقد جاءتْ اليومَ مبكرةً على غير عادتها. فتحتُ صفحةَ رسالتها وقرأتُ بلونِ خطها الوردي: مساء الخير!
كتبتُ: مساء الفل. أهلاً بكِ
- شكراً.. هذا لحسن ضيافتك لي في عقر دارك!
- هذا غزوٌ مثل اقتحام طروادة بالحصان الخشبي، ولكن يحمل في أحشائه فارسةً مهيبة!
- التشبيهات التاريخية تغريني..
- التاريخ منجمُ فكرنا الذي يغرينا بالتعلّق به!
- أخاف أن نتحدثَ عن نيرون لاحقاً!
- "نيرون مات ولم تمت روما"
إبتسمتْ وكتبتْ: روما. آه.. للمدن سحرٌ غريب.. تعيشنا.. تشهدُنا بكل تفاصيلنا.
توقّفتْ قليلاً ثم سألتْ: هل تناولت شيئاً؟
أجبتُ وأنا أبحثُ عن الحروف أمامي: الان يعود الدماغ للعمل كالمعتاد وخاصة على رشفات شاي كالياقوتِ اللامعِ تحت الضوء.
- آه.. كدت أموت من الجوع قبل قليل مثلك.
- تفضلي إحتسي معي الشاي! ماذا أكلتِ؟
همهمت ببعض الاصوات ثم قالت: أمممم وهي تمطها بأنوثة. ثم قالت: سجّلْ عندَكحساء فريكة ، سلطة روسية صنعتها بيدي! وصينية من الكبد وأشياء أخرى لم أحفل بها ولا أريد أن أتذكرها!
تدخلت وقلت: من لا يحبُ الكبد لا يعرفُ لذةَ الاكل ولا يعرف لذّةَ الحب!
أحسستُ بنظراتِ استغرابٍ في عيونها دون أن أراها. قالت وداد: هل ما زلتَ تهذي من الجوع؟! كتبتُ لها: رماه كيوبِد بسهمِه فَوُلِد الحبُ من دمائه التي تقطر قانيةً دافئة! ولاكَهُ البشر من هوسِ الجوع والانتقام!

جو جميل للسهر. أحملق في شرابِ التفاح المثلج وقطراتُ الماء المتكثفة تسيل على جوانبه على أنغام موسيقى أندلسية طواها التاريخ ولكنها تعلقتْ بالقلب والذاكرة. تعزف وداد على قيثارتها الصغيرة كلماتٍ تغمر القلبَ بأسرارٍ صوفية. صوتها جميل. شعرتُ كأنما نظرت في عيوني وقالت: هل كلمات أغنيتي حلوة؟
- تعويذةُ سحر.
- لك مذاقٌ متعالٍ .. شامخٌ.. يحدس ما خلف النكهات.. يشمُّ الروائحَ بقلبٍ مرهف.
توقفتُ قليلاً لا أدري ما أكتب، ثم هلّتْ الفكرة فأسرعتُ إثرَها: تنهمرُ الكلمات من قارورة عطرك على راحة يدي فأشمها فأنتشي بها. كتبتْ لي: بل أنا وجدتك في عطري .. في لوحتي.. تخضبني بلون الحياة وبرائحة الربيع الذي لم أعشه بعد.
- لا تحسبي أنني أستطيع محوك من دفاتري. أنتِ لوحةٌ كالموناليزا. كلما نظرت اليها تزداد غموضاً ساحراً.
- وحدك دافنشي. يحق لك أن ترسم شيئاً ما على رقعتي كي أشتهر بك. أخاف أن أفقد في لحظة قدرتي على مجاراتك. بدأت ألهث وجئت اليك أبحث عن ذاتي.. أخاف أن أفقد إيماني بكل شيء.. سوى باللحظات العابرة.
- سنبحر معاً تارة في بحر من الهدوء والصفاء وتارة في بحر من الصخب والامواج العاتية حتى تصل السفينة إلى جزيرة الكنز. نحن لسنا قراصنة بل بحارة نبحث عن اللؤلؤ الدفين.- في خلايا جسدي شيء حزين. أتوجس لكل انفراجة في الفرح فأغترب أكثر.قلت: إن أجملَ ألحاننا تفيض دائماً بالأسى. لن نضعَ نهايةً حزينة في بداية قصة جميلة. ولن نرسم قصوراً للأمير والأميرة. قصة متمردة لا تعرف أين ستذهب، تحملها الامواج إلى جزيرة بعيدة.
- لم تقل لي رأيك بهند؟
إستجمعت أفكاري وأخذت أكتب لها: هند امرأة ينتظرها مستقبل لامع في الكتابة إذا عملت بجد على نفسها. لديها لغة تعبيرية خاصة بها ، وذات مفردات ثرية لا ينضب جمال صورها التي تبدعها. بل أتعجب كيف تسيل كلماتها الملهمة بعفوية على السطور. بارعةٌ إلى حد الجنون في الوصف والتصوير. وأضفت: هند فتاة ليست من هذا الزمان! لا أريد لها أن تضيع موهبتها بين فراغات العمر الرمادية.
- ماذا قالتْ لكَ؟
- وعدتني أن تستمر بالكتابة. يجب أن تشجعيها لكي تبدع. تبدو لي مثل طفلة معجزة
كنا نسمع أغنيةً معاً بينما كانت هي تكتب كلماتها:
"وأمسح وجهي بشعرك الملتاع
وأولد في راحتيكي
جنيناً وأنمو وأنمو وأكبر"
قلت لها: راحتيكِ. فردّت علي وقالت: حسناً راحتيكِ! فالنساء يُجِدن الكسر.
- لم يكسرْ قلبَ الرجال مثلُ النساء ولكنهن يجبرنه مرة أخرى.
- وقلب المرأه لا يكسره سوى الرجل. إذاً هما متعادلان؟
- متعادلان في دورة الكسر والجبر والتكامل والتفاضل بالصفات. وأضفتُ بتسرّعٍ: أنا صنف نادر يعترف ويقرُّ بسرعة ويتقبلُ الهزيمةَ بسهولة!
ضحكتْ وقالت: لا عليك من المناورة! في كثير من الأحيان لا يكون هنالك فرقٌ كبير بين الفوز والهزيمة.
- في مسائل الحب كما في مسائل الحرب قد لا يكون الفرق كبيراً حينما يسقط ضحايا على كلا الجبهتين، وتسيل أنهار من الدماء في خوذات الجنود فتملأها، وتتمرغ البنادقُ في الطين وتتدلى الاجسادُ على سواتر الرمل.
بقيت صامتة تراقب المواقف والكلمات.
قلتُ بصوتٍ عالٍ وأنا أطبع حروفها: هل نكسب الحب إذا خسرنا من نحب في لحظات غرور وكبرياء زائف؟ وهل نخسرُ الحبَّ إذا كسبنا حبيباً يدمي القلب بصدّه اللعوب؟
قالت: قد نتسامى على آلامه وقد يغرقُنا في دوامة مرارته ، ولكننا ندمنُ تعاطيه!
شربتُ من كأس عصير التفاح المثلج قليلاً وكتبت:
- وماذا يفيد الانسان لو كسب العالم كله وخسر من يحب؟!
- قد نخسر ذاتنا سخية على أعتاب مذبح الحب لأجل أن نكسب حبيباً.
تأملتُ كلماتِها .. نظرتُ في لوحة المفاتيح وأخذتُ أكتب:

- أريد أن نتحرر من خوف متأصلٍ فينا. لا أريد أن نذبح ذاتنا على مذبح الرغبة ولا نحنطها على هيكل الرزانة الفرعونية.
- واخجلتاه حينما نضحك نخجل. وعندما نحب نخجل. وعندما نموت نخجل من دموع أمهاتنا!
تساءلتُ قائلاً: هل هذه مناورةٌ في الحب أم في الخجل؟! فقالت: ربما الاثنين.قلتُ: سنقيمُ رقصةً حول النار مثل عشاق غجريين يحملون قيثارة للحياة ويغنون للفرح والحزن معاً.قالت: سأغدو قيثارتك .. قطعني وتراً وتراً.. أعلني مقطوعتك الاخيرة.ضحكتُ وقلت لها: اشتقت لرؤية تلك الطفلة ذات الشعر الأشقر!

أرتني ذات يوم صورتها وهي صغيرة. طفلة شقراء في غاية الجمال. لا أدري كيف تبادر إلى ذهني ساعتها أسطورة. كتبت لها: قالوا كانت تسير في طرقات البلدة فلقيتها حورية خرجت للتو من البحر فاختطفتها. لم يعد الناس يرونها في الطرقات. بحثوا عنها في كل مكان. لم يجدوها. وجدوا خطاً أزرق على الجدران كتبته أناملها الرقيقة. وفي ذات يوم بعد سنين طوال ولدت في الحي شاعرةٌ متصوفة تشبهها. تكتب قصائدها بحزن ملائكي على جدران غرفتها الزرقاء. تقضي ليلها تعزف أنغاماً شفيفة كرذاذ المطر أو كرائحة غليون من فم فيلسوف ذي لحية كثيفة أو كورقة ريحان تملأ الشرفات الصباحية في تموز.
قالت: أكملْ أغنيتَك. سأرحل بعدها وأعود للبحر.
- مكانك هنا. سنعيش معاً كل خربشات القلم وصلواته.عندما إنتهت الاغنية، هربتْ إلى غرفتها الزرقاء. انتظرتُ قليلاً، لكنها لم تعد. قمت أنظر من نافذة غرفتي. الياسمينة تملأ الساحة بالاسفل. هبت نسائم هواء باردة. قررت أن أعانق الضيف الاثيري الذي انتظرته طويلاً. نزلت سريعاً وأخذت أمشي في الشارع وأنظر للنجوم تتلألأ في صفحة سوداء. يشع القمر الرخامي في أقاصي اللوحة الليلية صوفية وإلهاماً. في الجو هبة ريح رقيقة ورائحة النباتات تملأ الأنف. تغفو الاوراق والورود في الاحواض على جانبي الطريق. عرفت ساعتها كم من موناليزا حولنا ولا نراها!

* اللوحة أعلاه بعنوان "حب متجمد" للفنان الفرنسي المعاصر جان بول أفيس

الأربعاء، سبتمبر 17

عود على بدء

عود على بدء:
وقفة مع بدايات القصة القصيرة في الاردن وفلسطين

بقلم: اياد نصار

لقد خطرت لي هذه التداعيات وتمثلت في صورة حنين لبدايات القصة القصيرة في الاردن وفلسطين حيث لم يكن هذا الفن شعبياً مستقراً كم هو الحال اليوم. بل لم يكن شيئاً غريباً أن تجد في تلك الفترة من يشكك بقيمة هذا اللون الادبي مقارنة بالابحاث والدراسات الادبية! ولعل ذلك يعطي إحساساً بالمعاناة وربما التجاهل الذي لقيه الرواد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. عشت مع سيرة حياة ثلاثة من رواد القصة القصيرة في الاردن. ولا شك أن هناك آخرين ممن أسهموا في تطور فن القصة القصيرة عبر المراحل الماضية، ولكن اختياري كان بمحض الصدفة. وقد عادت بي الذاكرة عقوداً للوراء أحاول أن أتخيل طبيعة الحياة في المجتمع في فلسطين والاردن في بدايات القرن العشرين من واقع القصص ذاتها ومن واقع المواضيع التي تطرحها، ووصف الاماكن التي تدور فيها الاحداث، واهتمامات الشخصيات وسلوكها وأنماط تفكيرها والموروثات الشعبية الفلكلورية التي تلمحها في ثنايا النص. حاولت أن أقرأ ما بين السطور وأستشف صورة المجتمع وطبيعة الحياة وأسلوب العيش آنذاك. فتراءت لي صورة البساطة والرتابة ومكونات الفلكلور الشعبي تصبغ أغلب جوانب حياة الناس مع نزعة للتمدن والثراء وتسيطر عليها العناصر الشعبية المحلية التي تعكس احتياجات الناس برغم قلة الامكانيات. ووجدت فيها تلك الرغبة العارمة في الكتابة والابداع برغم قلة ذات اليد والاهتمام بتفاصيل جوانب حياة الناس المحلية من منظور كلاسيكي فلم يكن الناس قد عرفوا بعد وسائل الاتصال التي تأتيهم بأخبار الدنيا كل ساعة وهم جالسين في أماكنهم. كما تجد القيم والثيمات والصور الاخلاقية المحافظة بشكل بارز بأعمالهم بسبب طبيعة الجو التربوي الذي عملوا فيه سنوات طويلة.

كنت أقرأ عن حياة رائد القصة القصيرة في الاردن محمود سيف الدين الايراني وعن أمين فارس ملحس وأمين شنار، فلاحظت كم كانت سيرهم تعكس طبيعة حياة الناس في تلك الفترة المبكرة، ولمست ذلك الشبه الكبير في الادوار والوظائف التي قاموا بها والتي شكلت تاريخهم الادبي والوظيفي. ولد ثلاثتهم في فلسطين ما بين يافا والقدس والبيرة. وقد كان للنكبة تأثير كبير على حياتهم كحال كل أبناء الشعب الفلسطيني الذي تشرد في دول الشتات والاغتراب فحملوا معهم ذكريات الارض الطيبة وصور البيوت والشوارع ومفاتيح البيوت. وبقيت فلسطين حاضرة في أعمالهم بقوة.

وقد كان للتربية والتعليم مكانة بارزة في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة وبعدها. ويتجلى ذلك في اتجاه غالبية أدباء الرعيل الاول من شعراء وأدباء فلسطين الى العمل في المجالات التربوية ومن أشهر الامثلة على ذلك ابراهيم طوقان الذي مارس التعليم وإشتهرت قصيدته في معارضة أحمد شوقي، فقد عانى طوقان من متاعب التدريس فكتب تلك القصيدة الساخرة التي يسقط فيها المعلم بين المقاعد مقتولاً!

ويكـاد يقلقنـي الأّميـر بقولـه.......... كاد المعلـم أن يكـون رسـولا

لو جرّب التعليم شوقـي ساعـة....... لقضى الحياة شقـاوة وخمـولا

لا تعجبوا إن صحتُ يوماً صيحة.... ووقعت ما بيـن البنـوك* قتيـلا

يا من يريد الانتحـار وجدتـه.......... إنَّ المعلـم لا يعيـش طـويـلا

والبنوك في المحكي الفلسطيني هو المقاعد الخشبية التي يجلس عليها التلاميذ في قاعة الدرس. ورغم معاناة المدرس بسبب تدني مستوى الوعي ومحدودية الاطلاع والثقافة بين الطلبة بسبب ظروف اسرهم المعيشية وعدم انتشار واتباع الاساليب الحديثة في التربية، الاّ أن الاقبال على التعليم بين كافة أطياف المجتمع كان يعكس القيمة العالية للعلم والمعلم في المجتمع في تلك الفترة، كما كان يمثل الامل الذي يتعلق به الفلسطيني في الشتات بعد أن فقد أرضه وبيته ليصنع من ذاته شيئاً.

وقد أتيح لهولاء الرواد الثلاثة الدراسة ومن ثم التدريس في مدارس وكليات الضفة الغربية. وعندما انتقلوا الى عمان بعد النكبة فقد جمع العمل ثلاثتهم في سلك التربية والتعليم فترة طويلة. عمل محمود سيف الدين الايراني معلماً في عمان ثم أصبح مدير مدرسة قبل أن يُعين مديراً لدائرة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم، كما عمل أمين فارس ملحس مدرساً في بداية حياته العملية في الاربعينيات. وبعد نكبة فلسطين عام 1948 سافر إلى العراق وعمل في التدريس أربع سنوات، ثم عاد إلى القدس وعمل في معهد دار المعلّمين، ثم مفتّشاً في دائرة التعليم التابعة لوكالة الغوث. كما تقلّد عدة مناصب في وزارة التربية والتعليم في الاردن منها: رئيس قسم التوثيق التربوي. كما عمل لمدة ثلاث سنوات في بداية السبعينيات في المملكة العربية السعودية وشارك في إعداد المناهج التربوية هناك. أما أمين شنار فقد عمل أغلب سني حياته في سلك التربية والتعليم ، وحتى بعد أن تقاعد من العمل الحكومي فقد عاد للتدريس في مدارس الاقصى بعمان حتى التسعينيات الى أن إعتزل الناس وابتعد عن المشاركة في اللقاءات والنشاطات الادبية فترة طويلة في أواخر سنوات حياته.

كما انتقلوا من التربية والتعليم الى مجال الاعلام والثقافة فترة من حياتهم. فكان أمين شنار صحفياً في جريدة المنار في فلسطين ، ثم مديراً للتحرير في مجلة الافق، وظل يكتب زاويه يوميه ثابته في جريدة الدستور في عمان بعنوان لحظات يوقعها باسم "جهينه" لمدة تزيد عن 30 عام، وزاويه اسبوعيه تحت اسم مع الحياه و الناس. كما عمل مديراً لبرامج التلفزيون الاردني حتى عام 1971. وقدم عدداً من البرامج للاذاعة وللتلفزيون. أما أمين فارس ملحس فقد عمل مستشاراً ثقافياً في محطّة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في القدس وقدّم لها عدداً من البرامج والموادّ الإذاعية. أما الايراني فعمل ملحقاً ثقافياً ومستشاراً في وزارة الإعلام سنة في بداية السبعينيات، ورئيس تحرير مجلّة "رسالة الأردن" ثم مجلة "أفكار".

ولا بد من الاشادة الى أن الايراني يتعبر بحق رائد القصة القصيرة في فلسطين والاردن . فتجربته الادبية كانت ناضجة ومحترفة ذات أسلوب رفيع تدل على كاتب يتقن فنه ببراعة من ناحية الشكل والمضمون. كرس الايراني معظم كتاباته للقصة القصيرة حيث أصدر سبعة مجموعات بين عامي 1937 و1972 بدأها بمجموعته المسماة أول الشوط وآخرها غبار وأقنعة. أبدع الايراني في أسلوبه القصصي الذي كان يدل على احتراف في كتابة القصة باسلوب حديث من حيث جاذبيته في الوصف واختيار مواضيعه التي يلتقطها من واقع حياة الناس ومعاناتهم، وانتقاء المفردات والجمل القصصية البارعة التي تضع القاريء في جو النص مباشرة، واستخدام العبارات القصيرة المثقلة بالاشارات العميقة على لسان الراوي، وتجسيد الافكار التي تدور في ذهن الشخصيات، والسرد الذي يجذب الانتباه في متابعة الحبكة، والمزج بين الوصف والتداعيات.

ومن قصته الرصاصة الاخيرة أخترت هذه الفقرة "كان لا بد من هزّة كبيرة، بل هي الرجّة الشاملة من الرأس إلى القدم، لكي نصحو من نوم القرون".. هكذا كان يتحدّث ذلك الرجل. لا أدري أين رأيته. أتراني رأيته فعلاً؟ هؤلاء الناس يتشابهون. البدلة الثمينة الجديدة، ربطة العنق المحكمة، القميص الأبيض الناصع، الشعر المسرّح بعناية، المشية المتّزنة، والكلمات التي تقال باتّئاد.. تخرج بطيئة من دخان السيكارة في الهواء.. دائماً هذه الكلمات تقال للصحاب والجلساء في رحاب فندق كبير أو مقهى أنيق. والآخرون أيضاً ينفخون مع سكائرهم كلمات.. كلمات.. كان هذا متوقّعاً.. كل شيء ينذر بالنكسة.. الكارثة.. النكبة.. كلمات، كلمات.. ومعها أحياناً ابتسامات ما أغربها! لا أستطيع أن أفهم كلّ شيء، وهذه الكلمات تذهلني، وأكثر منها الابتسامات.. عاد الرجل يقول بوقار: "كان لا بدّ من هزّة.. بل رجّة لكي..." وكنت قد حملت صينيّة المشروب، والكؤوس الفارغة فوقها، وكان لا بدّ أن أدير ظهري وأمشي.. هم متشابهون في شرفات وأبهاء الفنادق، هنا في عمّان وهناك في القدس يوم كانت القدس لنا.. "يجب أن أكون سعيداً." هكذا قيل لي.. قالها رجل من أولئك، ربّما كان في الخمسين أو دونها أو فوقها. من الصعب أن يميز الإنسان أعمارهم وإنّما البدلة هي الجيّدة دائماً، وربطة العنق الثمينة، والشعر المسرّح وتلك الكلمات.. والابتسامات وهزّة الرأس أحياناً. يجب أن أكون سعيداً لماذا؟"


* اللوحة أعلاه من ريشة الفنان الفلسطيني المعاصر سليمان منصور

الجمعة، سبتمبر 12

"أشياء في الذاكرة" في الصحافة العربية
























"أشياء في الذاكرة" في الصحافة العربية

نشرت صحيفة الدستور الاردنية في عددها الصادر يوم الثلاثاء 16/9/2008 تقريرا حول صدور مجموعتي القصصية (أشياء في الذاكرة) ومما جاء فيه: عن دار فضاءات للنشر والتوزيع صدرت المجموعة القصصية الاولى للكاتب اياد نصار تحت عنوان "اشياء في الذاكرة" وتضم 15 قصة تجري في فضاءات متخيلة وتتناول هموما وآلاما انسانية مختلفة. وقد قدم للمجموعة الناقد سليم النجار الذي اشاد بمستوى القصص الفنى وقال"نصار اختزل انسانه المنفي الى جغرافياه وحشوها كالسيف القديم في غمد هذه الجغرافيا المزخرفة ، لا يتوقف التاريخ عن التبدل لكن البشر يعيشون ويعملون ويعشقون ويمرضون ويموتون ، هذا ماقصه نصار في"أشياء في الذاكرة" التي تبقى ابرز محطات الانسان".ويشير نصار الى ان قصصه من نسج الخيال واذا تشابهت بعض التفاصيل فيها مع الوقائع والاحوال فليس ذلك الا من محض الصدفة كما يقول ويضيف" هموم الانسان وآلامه تبقى في جوهرها هي ذاتها وان اختلفت التفاصيل والجزئيات وليست هناك اية نية لدى الكاتب في الاشارة او التلميح الى اية شخوص او امكنة بعينها مما يوحي بالربط بينها وبين مجريات الاحداث في هذه القصص ".ومن اجواء قصة "هروب" من المجموعة"كانت الغرفة كئيبة متسخة معتمة..وقد أثارت حساسية انفي برائحتها المتربة ..وكان فيها نافذه عريضة مفتوحة على مصراعيها من غير اي شبك او حديد للحماية ..كان هناك سريران في جانبي الغرفة اشار الى السرير الذي يجانب النافذة وقال : هذا لك بإمكانك ان تنام هنا".

وكانت بعض الصحف الاردنية والعربية قد نشرت خلال الاسبوع الماضي أخباراً ومقتطفات حول صدور كتابي أشياء في الذاكرة مثل صحيفة الراية القطرية وصحيفة الاتحاد الاماراتية وصحيفة العرب القطرية وصحيفة الرأي والعرب اليوم الاردنيتين كما تحدث موقع رابطة جدل الثقافية في اليمن عن الكتاب. وبالامكان الاطلاع عليه من خلال الرابط المبين.

الجمعة، سبتمبر 5

قصة كاتب ميت!


قصة كاتب ميت!

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قبل أن أموت كتبت القصة التالية. كنت سعيداً بها. بل كنت في غاية السعادة. قصة فريدةلم يُكتب مثلها من قبل، لا شكلاً ولا مضموناً! كان من عادتي حبُ التجريب وابتداعُ أنماطٍ جديدةٍ للتعبير. أحسستُ دائماً أن هناك قوالبَ أخرى لم تكتشفْ بعد، وأن فنوناً أخرى لم يعرفها البشر لم تولدْ بعد. مكثت أسبوعاً وأنا أكتبها. كلما شعرت أنني فرغت منها، فأعدت قراءتها وجدت أنها لم تكتمل. أعدتُ النظرَ فيها مراراً. كلما عدت اليها مرة أخرى، تراءى لي شيء جديد. فأحدث نفسي إنه من الافضل لو أضفته للقصة. بقيت أزيد تفاصيل أخرى هنا وهناك. شعرتُ في كلَّ مرةٍ أنها أصبحت أكثر روعةً وجمالاً. فلم أنته منها!

عندما شرعت في كتابتها، سيطرت على أفكاري قصةٌ إنسانيةٌ راودت خيالي منذ أمد بعيد. ولكنها كانت باهتةً في الذهن غير مكتملة الرؤية. كنت أركنها جانباً وأبدأ بأخرى. مرت أعوام وأعوام والفكرة لم تبارح خيالي، لكنها لم تجد همّة أو إلهاماً لكتابتها. أظن أن هذا ليس شيئاً غريباً على من أصابته الكتابة بدائها! فكم التمعت في الذهن بادرةٌ، أو مرت في لحظات الرغبة والصفاء فكرةٌ تستهوي القلم كنجمة متألقة بعيدة في السماء في ليلة صيف. ولكنها بقيت حبيسة الخاطر! وذات يوم وجدتها تتسلل هادئةً غامضةً في طقوس الكتابة وأجوائها. أمسكتُ خيوطَها ولم أفلتها هذه المرة. شعرت بتأنيب الضمير على هجرانها طوال هذه المدة.

لقد عشت القصة بكل تفاصيلها ومجرياتها وأحاسيسها. لم تكن من ابداعِ خيالِ قاص ٍ ولا من ريشةِ فنان ولا من إلهامِ شاعر. كانت حقيقيةً إلى حد الخيال، وخياليةً إلى حد اللامعقول. عشت كل لحظة فيها وأدركت معنى أن تنقلب حياتك رأساً على عقب ولا تستطيع وقفها. كانت كالقدر المكتوب الذي تجد نفسَك أمامه مشلولَ الارادة. أحسست أن كلَّ جزءٍ منها قد رسمه القدر. فاستسلمت للمصير. لم يكن في بالي أن أكتبها، ولم أتصرف كما لو أنني سأكتب عنها ذات يوم. كلما أمعنت التأمل فيها، شعرت أنها قد غيرت مسار حياتي كلها.

كنت أعرف مسبقاً أن القصة ستثير التساؤل والاستهجان. شكل جديد لم يألفه الكتّاب من قبل. أيقنت أنها ستجدُ من يقف معها ويدافع عنها كأي شيء جديد يرمي في البركة الراكدة حجرا. لكنني أدركت أنها ستجد من يقف ضدها ويحاربها. ليس من السهل على الناس قبولُ الشيء الجديد. يحاربونه ويقفون ضده بالمرصاد! عرفت أنهم سيلقون عليها بكل الاتهامات والصفات الذميمة، وكأن الواقع شيء رائع! وسيترحّمون على أيام زمان! يريدون الجديد الذي لا يسبب شكاً ولا صداعاً ولا رمادية ولا ضبابية ولا يغير في عاداتهم شيئاً!

عشتُ دائماً أحلم بتقديم شيء جديد. كنت أحسب أن العملَ الجديد سيفرض نفسه، ولكنني كنت مخطئاً جداً! اكتشفت بعد سنوات طويلةٍ أن الامر لا يعدو أكثرَ من علاقاتٍ عامة وقليلٍ من الصدفة أو الحظ! ولكن ذلك لم يحطم إرادتي في أن أحقق حلمي. آه كم استهوتني هذه العبارة. "أنا عندي حلم". فلماذا لا يكون لي حلمي الرائع؟! ولكن الحلم يتحول أحياناً إلى كابوس من المصاعب والشكوك والإعراض من الاخرين. قد يبدو حلمي شيئاً غريباً أو نرجسياً ، أو نوعاً من الغرور ، أو نزوة في مجرد تقديم شكل آخر. وقد ينظر اليه ناقد أنه نوع من الخربشات والهلوسات! ولكن الامر في حقيقته ينبع من الرغبة في استكشاف عوالم جديدة للتعبير.

تعبتُ ليالٍ طويلة من السهر وأنا أكتبها وأدقق بها وأحسّنها. ومن سخرية القدر أنها لم تكن هي ذات القصة التي كانت في خيالي عندما شرعت بها! لقد خرجت عملاً آخر غير الذي كان في ذهني!! صحيح أنها رائعةٌ ونوعٌ جديد من أنماط التعبير، ولكن نهايتها غير ما كنت أتخيله! بقيت الفكرة الاساسية كما هي في ذاكرتي ولكنني أضطررت لتعديل الحبكة والشخصيات وشكل القصة والنهاية!! إنها تجربة جديدة ولكن لم تجد من يقدرها. كنت متأكداً من الابداع والابتكار فيها ولكن لم يلتفت لي أحد! الناس تبحث عن الاسماء الكبيرة قبل أن تحكم على الاشياء. كنت أعزي نفسي فأقول سيأتي يوم ويعرفها الناس. بقيت أنتظر ذلك اليوم. مرت السنوات ولم يأت!

أعرف أني أطلت في حديثي قبل أن أسرد القصة الغريبة. ولكن هذه الحيثيات لا بد منها لتعرفوا كيف ولدت القصة. ولتعرفوا الحلم الذي راودني طويلاً حتى كتبتها بعد كل هذه السنوات. دفعت بها إلى صديق معروف بأبحاثه ومقالاته وكتبه. يحب القصة والرواية ويجد متعته في تحليلهما والكتابة عنهما. كنت أسمعه في جلسات الاصدقاء يقول إنه من رواد التجديد ودعاته، وأنه أخذ بيد العديد من الكتّاب في بداية حياتهم وصنع منهم أقلاماً وأسماء كبيرة. مرت أيام وشهور ولم أسمع منه شيئاً عنها. كنت أتلهف لسماع رأيه فيها أو أن أراها منشورة مع تقديم يتناولها بالنقد! ومرت الايام والشهور ولم أر شيئاً. وفي يوم من الايام التقينا صدفة على هامش مؤتمر أدبي. حينما دخلت إلى القاعة. كان يجلس أمامي. لم أنتبه أول الامر، ولكن حينما تململت في مكاني وتطلعت هنا وهناك رأيته. اقتربت منه برأسي وسلمت عليه. كان لقاءً ودياً أشعرني بأن حبال المودة لم تزل قائمة! اعتذر عن انشغاله الدائم. قال إنه يستقبل كل يوم روايات كثيرة وقصصاً قصيرة وبالكاد يجد وقتاً لقراءتها! أسرّ لي بحكم الصداقة إن الاسماء الكبيرة تأخذ الأولوية! لا يستطيع تأخيرها وإلا غضبوا عليه! وعدني أن يقرأها في الايام التالية. مرت أسابيعٌ وشهور ولم يحرك ساكناً.

مرت عشر سنوات منذ أن فارقت الحياة. نسيت التفكير في تلك القصة منذ ذاك اليوم. لم أجرؤ على السؤال عنها ولم أجرؤ على نشرها في مكان آخر. ولكن أصابني فضول شديد لمعرفة إن كان ما يزال يتذكرني أحد بعد كل هذه السنوات. فخرجت أتجول وأقرأ عناوين الصحف وملاحقها الادبية! لقد كتبت الصحف عني في ذكرى وفاتي العاشرة وخصصت لي بعض الملاحق الأدبية صفحات للحديث عن أدبي ومساهماتي في رفد الحركة الادبية، وأشادت بي كثيراً. كتبوا كلاماً كثيراً في تأبيني وأبرزوا بعناوين عريضة ملاح موهبتي وأسلوبي المتميز وقدرتي على التجديد! رأيت كلاماً لم أكن أسمع به من قبل في حياتي! واستغربت إن كان ذلك موجوداً فيّ فعلاً، ولماذا لم أسمع كلمة واحدة منه طوال حياتي؟! كنت أقرأ في الملاحق ذلك اليوم حينما وقعت عيني على مقالة طويلة لصديقي الناقد وهو يشيد بقدرتي على التجديد وتقديم شكل جديد من أشكال التعبير القصصي وقد نشر في أسفلها تلك القصة، ولم ينسَ أن يكتبَ في زاوية مقاله بأعلى الصفحة عبارةً بخطٍ عريض تقول قصة رائعة جديدة لم تنشر من قبل للكاتب الراحل!

* اللوحة من ريشة الفنان الفرنسي أندريه ديرين (1880-1954)

الاثنين، سبتمبر 1

لا قمرَ في بغداد!


لا قمرَ في بغداد!

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

العرق يتصبب من جبينه. المخدة مبللة تحت رأسه وعلى جانبيه مثل بقعة ماء كبيرة. الغطاء مكوّم عند قدميه. نام من غير أن يتغطى بشيء. ظهره للأسفل وعيناه تحدقان في السقف. الغرفة غارقة في الظلام، ولكن ضوء القمر يتسلل من نافذة الحجرة من خلف الستارة. الجو حار وجسمه قد التصق بغطاء السرير من شدة الرطوبة. يغمض عينيه. ترتسم ملامح مختلطة على وجهه. تارة يبدو كأنما يحلم بشيء جميل. يحرك شفتيه فتظهر أسنانه البيضاء. تفترُّ عن بوادر ابتسامة توحي بالسرور. وتارة يبدو مقطبَ الوجه عابساً غاضباً. يقطب جفنيه ويزم شفتيه. ترتسم ملامح غاضبة توحي بألم ، أو كابوس يعاني وطأته في هذه الليلة. يتقلب في فراشه. يغمض عينيه ساعة ثم يصحو من وطأة الحمى والرطوبة. لقد احتمل الصيف بحرّه ورطوبته الثقيلة ولياليه التي لم يذق فيها أحياناً طعماً للنوم. ولكن الليلة شديدة الوطأة عليه. لا يذكر أنه عانى مثلها منذ سنوات.

ظلّ يتقلب في السرير. يشخر ويهذي بكلمات غير مفهومة. يعلو صوته فجأة يدمدم ببضع كلمات ثم يهدأ مثل سكون العاصفة. ينادي على ليلى بصوت عالٍ. ليلى .. ليلى .. ثم يخمد صوته قليلاً حتى لا يبقى سوى ملامح حزن ترتسم على وجهه. جسمه يزحف نحو الحافة من غير أن يدري. استلقى على جنبه الأيسر على حافة السرير. استمر يهذي وينادي على ليلى. أخذ يحرك ساقه فجأة بحركة عنيفة ثم يهدأ من جديد. انزلق عن الحافة وسقط عن السرير بكل هدوء من غير أن يحس به أحد. هوى في فضاء سحيق بين سحب الدخان الرمادية الكثيفة. بقي يتقلب في العدم والظلام ويخترق كتل السحب الكثيفة كالجبال. الطقس بارد جداً، والغيوم مثقلة بالماء، والرياح تسحبها هائمة على وجهها كأنه زمهرير الشتاء. أحس بدمه يتجمد في عروقه من شدة البرد والخوف. ظهرت له صور أشباح في كل مكان وهو تائه في الظلام. كانت تقترب منه، تحمله على يديها ثم تقذف به للاعلى فيهوي مرة أخرى. أحس بخوف شديد. أحس بنفسه معلقاً في غياهب الفضاء الرمادي.

بقي يهوي وهو يحرك يديه ورجليه كالغريق الذي يصارع الأمواج. ارتطم بالأرض. صدر صوت عالٍ لارتطامه . قام يتأمل نفسه وينفض الغبار عن ظهره. فأدرك أنه وقع بين شواهد للقبور. إنها بغداد يعرفها جيداً. ربما لن يعرفها كما ينبغي! الارض عشبية طرية مبلولة بالماء. منذ ليلة أمس والمطر يسقط على شواهد القبور يمسح عنها الغبار والنسيان وأتربة المحاجر المهجورة التي انتشرت حول المقبرة وتسللت إلى داخل أطرافها من جهة الشمال والشرق. زاد هطول المطر واشتدت الرياح فامتلأت الطرقات بالوحل والطين وسالت القنوات في كل مكان. زاد نباح الكلاب المتشردة. كلاب متشردة شرسة هربت من عالم البشر الاحياء وأنست للموتى فسكنت بينهم. لقد أفسد عليها المطر والريح وصوت القذائف التي تنطلق بين حين وآخر فتضيء سماء المدينة سكونها الليلي. فقامت تتجول بين القبور. شاهدته يسقط من السماء إلى الارض وشمت رائحته عن بعد. أطلقت قوائمها للريح وأخذت تعدو ناحيته. سمع أصواتها العالية المرعبة. حاول أن ينهض فلم يستطع. زاد صوت نباحها اقتراباً وشراسة. تحامل على نفسه ونهض متمايلاً كأنما سيقع مرة أخرى. أخذ يجري كالأعرج خوفاً منها. بقي يركض وقلبه يخفق باضطراب. صار يتنفس كالمخنوق وصوت خفقان قلبه وهو يلهث من الركض واضحاً. تمكن من الافلات منها ووصل الشارع. تمر السيارات مسرعة من جانبه. الدنيا ظلام دامس. لم يتوقف له أحد. من سيخاطر بحياته ليلتقط راكباً في هذا الوقت على أبواب المقبرة؟!

انتبهتُ إلى صوت أمي تجلس على حافة سريري وتناديني. لم أستطع فتح عينيّ أول الامر. إستجمعت قواي وفركت عيني. كانت تنظر اليّ. وتحمل في يدها كأس ماء. العرق يتصبب من جبيني ، وجسمي يسبح في بركة من العرق. انتشلتني من كابوس مريع. فتحت عينيّ. بدأت أرى ملامح الاشياء من حولي. الشمس في سقف الحجرة. لقد عادت الكوابيس مرة أخرى. أحالت حياتي جحيماً لا يطاق! ليتني أستطيع الهروب منها. تطاردني كوابيس مجنونة كل ليلة. لا تفارقني صورته. إنه ذاته يترصدني دائماً في منامي. صورته لا تنمحي من ذاكرتي وكوابيسي.. هو ذاته في كل واحد منها. صارت صور الحمى والتعذيب والدماء والآهات والقبور من أبجديات كوابيسي. يقول الطبيب أن أعصابي رقيقة مرهفة لا تتحمل الضغوط والقهر وصور التعذيب والموت.

كان صحفّياً مثلي. تخرجنا معاً في الكلية ذاتها وعملنا في صحف مختلفة. كنا مشاغبين مشاكسين. لم تطل إقامتنا في صحيفة واحدة أكثر من ثلاثة أشهر! كنتُ ناقماً لا يعجبه شيء وغاضباً على الواقع البائس في بداية عملي، ولكنني كنت معجباً بمنجد. كان يجد ذاته في ملاحقة المتاعب ، وبارعاً في فتح الجبهات وخوض المعارك. كنت أحذّره فلا يستمع لي. ولكنني في أعماقي كنت أحسده على جرأته التي لم أمتلك مثلها. وبرغم ذلك، فقد كنا فريقاً متفاهماً.

عندما وقعت الحرب في العراق، قررنا أن نجازف. كان الوضع خطيراً ولم يسلم الصحفيون مثلنا من نهايات مأساوية كانت تنتظرهم. كل طرف يعتبرنا عدواً له! كنا نسافر معاً إلى بغداد ونتسلل من بين دروب النار وحدائق الجحيم ،كالذي يتلمّس طريقه بين حقول الالغام التي لا يعرف متى تثور تحت قدميه.

كنا نلهث وراء الاحداث ثم نودّع بغداد. وكنا بالكاد نغيب عنها يومين أو ثلاثة حتى تضطرنا الاحداث للعودة. كان منجد يلمز بطرف قلمه اللاذع أصحاب الموت العبثي ، ويهاجم مشاريع جنونهم العصابي. كنا نرى صور ضحايا أحلامهم المجنونة في كل زاوية وكل شارع. وصارت كل الاماكن مرعبة ومسكونة بالارواح الشريرة ، تثور فيها زوابع الدخان والدمار والأشلاء والدماء في أية لحظة.

ذلك اليوم محفور بأعماق ذاكرتي. لا أظن أنني سأنساه. صعد مجموعة من الملثمين إلى الحافلة. أنزلوا الركاب قسراً تحت تهديد السلاح والضرب بأعقاب البنادق. واقتادوني أنا ومنجد إلى عربة جيب كانت معهم وهم يسوقوننا أمامهم بكل عنف ويركلوننا ويضربوننا بأعقاب بنادقهم ويصرخون علينا. عصبوا أعيننا واقتادونا إلى مكان بعيد. لم نعرف إلى أي مكان أخذونا. ولكنني أظن أنه كان بعيداً خارج المدينة، وربما في أحد البساتين المهجورة التي تركها أصحابها خوفاً. كان يسوده الهدوء بعيداً عن حركة الشوارع والسيارات. ولكن الهدوء فوق الارض كان يخفي عالماً من الوحشية تحتها. رموننا في زنزانة مظلمة ثم فصلوننا عن بعضنا. كنت أسمع صوت صرخات منجد وأناته وهم يعذبونه في الزنزانة التي بجانب زنزانتي. صار التعذيب زادنا اليومي من غير أن يقولوا لنا شيئاً. لم نكن نعرف من هم فقد كانوا يأتون ملثمين ويخرجون ملثمين. كانوا يتفنّنّون في تعذيبنا بتعليقنا من أرجلنا وفي ضربنا بأسواط لاذعة نحس بقسوتها وهي ترتسم خطوطاً حمراء ودماء على جلودنا. تملكنا الخوف والرعب من مصير مجهول.

عذبوا بمنجد كثيراً ولم يتركوه وحده فترة طويلة. كنت أسمع أصواتهم وهم يكيلون له الشتائم والاهانات. عرفت من كلماتهم أنهم ينتقمون منه لأنه لم يسكت على مشاريعهم المجنونة. صبوا جام غضبهم على يده التي تكتب وأطفأوا سجائرهم في صدره وظهره. كانوا يأتونه في آخر الليل وهو يكاد يقع من الاعياء وقلة النوم، ويبتكرون طرقاً جديدة في تعذيبه. وعندما يفرغون منه يأتون اليّ. رأيت الموت في عيونهم وأدواتهم. كانوا يضربونني بأحذيتهم وبالسوط حتى ينزف الدم مني، ويلتهب الالم في كل مسامة من لحمي.

كنت أنهار من شدة التعذيب ويغمى علي. يتركونني ساعات قليلة قبل أن يعودوا مرة أخرى ويغرقوني بالماء حتى أكاد أختنق. سيطرت صور الخوف والتعذيب على تفكيري. صارت مثل كوابيس مفزعة تحاصرني في النوم واليقظة. لقد قرأت عن الحروب وكوابيسها ولكن كوابيس بغداد كانت مختلفة. كانوا غرباء لا تعرف قلوبهم الرحمة.

في تلك الليلة، سمعت أنّات منجد عالية ً من شدة التعذيب. كان صوت أسواطهم وإهاناتهم يثير فيّ الخوف لأن دوري سيأتي بعد وقت قصير. كان يصرخ من غير أن ينهار أو يستسلم. عرفت بحدسي أنهم أرادوا اتباع أسلوب جديد في قهره. راودتني أفكار أنهم سيصفّون منجد تلك الليلة. حاولت أن أتخلص منها وأتفاءل، لكن وقع الصوت وألمه لم يدع لي مجالاً. بدأ يضعف صوت منجد ويتضاءل وتخور مقاومته. مضى علينا تلك الليلة أسبوع على ما أظن. لقد تورمت عيناي ويداي ورجلاي ولم أعد أقوى على الوقوف. لم أعد أحس بالعالم الخارجي. هل يفكر بنا أحد بالخارج؟ هل يتذكرنا أحد أم قد طوانا الاهمال والنسيان في هذا المكان الرهيب؟ هل ما زال يطلع القمر في ليل بغداد أم صار الشفق الاحمر المخضب بالدم لا يغيب من أفقها؟ في تلك الليلة لم أعد أسمع صوت منجد. لم أعرف ماذا حصل له. هل قتلوه؟ أم نقلوه لمكان آخر؟

مرت الليلة ولم أعد أسمع صوت منجد نهائياً. مرت ليال كثيرة وأنا وحدي من غير أنيس في الزنزانة المجاورة. كانوا يحاولون ترهيبي بالقول إنهم سيجعلونني أرى ماذا حلّ بمنجد. ولكنني بقيت صامداً على وشك الانهيار. صرت أفكر بالاستسلام والسقوط. كانت صورة منجد ومعاركه تقفز إلى ذاكرتي فتجعلني أصمد. بقيت ضيفاً ثقيلاً عليهم فترة طويلة. تركوني بعدها وشأني في الزنزانة. ولكنني كنت أتوقع أن يأتوا في أية لحظة وبأيديهم السيوف ويقرأوا البيان وينتهي كل شيء! وفي يوم لم أر أحداً يمر من أمام زنزانتي أو أسمع صوت إنسان. دفعت الباب فانفتح. لم أصدق كيف حصل ذلك. فتسللت خارجاً وهربت. عشت فترة كالهارب المتشرد خوفاً من إنتقامهم. أعرف أنهم سيبحثون عني بشتى الوسائل في كل مكان.

نظرت في عيون أمي تجلس على حافة سريري. مسحت عرقي عن جبيني وتنفست الصعداء. لاحظت أمي هواجسي التي كانت تملأ وجهي، وأحست بكوابيسي التي تهاجمني كل ليلة، فناولتني حبة دواء وكوب ماء لتهدأ أعصابي. ثم قدمت لي فنجان قهوة. صارت قهوتها دوائي الذي تهدأ به أعصابي من دوامة الليل. أخذت رشفة. كانت مرّةً مثل الذكريات.

* اللوحة أعلاه بريشة الفنان العراقي المعاصر منير الكيلاني