الجمعة، فبراير 15

لوحة


لوحـــــــة
قصة قصيرة
بقلم: ايــاد نصــار

كل شيء ارتدى لونه الأبيض واختفى تحت وطأة الثلج المتراكم .. السقوف المدببة التي تناثرت على جانبي الطريق كانت تنوء بهذه الكتل القابعة في سكون .. بعض الاشجار التي آنست وجود البيوت حولها وقفت عارية، بدت كأشباح تصارع الفضاء الرمادي. وفي الاعلى كانت قطع الغيوم الداكنة تتداخل وتتمزق بلا انتهاء.

على التلال كانت بعض أطراف الثلج تتحول الى قطرات ماء.. ثم تنحدر ببطء وصمت لتستقر في الطريق. وفي أعلى تلة من بعيد ظهرت بناية ضخمة قديمة كانت تنتهي ببرج مدبب يكاد يلامس الغيوم المثقلة. تخيلتها كنيسة كتلك التي رسمها فان غوخ في لوحته. كان واضحاً أن شبابيك البيوت الصغيرة وأبوابها قد أوصدت بعناية.

يا لرهبة هذا السكون المجلل.. كأنما الموت غشي كل الاشياء الا هذه الخيالات الثلاثة. على الطريق المبللة الموحلة، حيث كانت ما تزال بعض قطع الثلج صامدة، وقد اختلط الطين ببقع المياه الراكدة، كانت ثلاثة خيالات تتجه نحو نهاية الطريق الصاعدة. امرأة تلبس معطفا أسود، منحنية القامة ومعها طفل صغير يلبس قبعة، يبدو أنه ابنها..وبينهما كان كلب صغير مربوط بحبل قد أمسك الطفل بطرفه.

عجباً ما الذي خرج بهم في هذه الساعة في مثل هذا الجو الشتوي البارد؟! الى أين يتجهون؟! ليتني كنت أعرف! حدقت فيهم طويلا. كانت هيئتهم تدل على انكسار يمتزج بالحزن. كأن الايام قد عصفت بهم. تأملت في نهاية الطريق المتلاشية لعلي أرى مقصدهم، لكن البيوت المحتشدة هناك احتوت عيني وحجبت عني ما خلفها.

تركتهم وشأنهم.. عدت الى مقعدي في ركن الغرفة ودفنت رأسي بين كفي. بعد قليل كنت قد نسيت التفكير فيهم.. انشغلت بأمري.. عدت افكر بنفسي.. لم كل هذا؟ انها ليست المرة الاولى.. كلا انني لا أتذكر أي مرة هذه.. الخامسة.. العاشرة.. اكثر .. لاأدري. هكذا هي على الدوام ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد..لكنني لن أقبل أن تستمر.. سأضع حدا لها الى الابد. لم أطقها قط ويكفيني ما ذقته حتى الان. لم أعد احتمل اكثر من ذلك.

فجأة فتح باب الغرفة .. دخل أخي الاكبر .. وقف أمامي.. لم يطل صمته كثيرا: هذا هو اليوم السابع .. ألم تغير رأيك؟! وتوقف هنيهة ثم تابع: عليك ان تكون ألين من ذلك. ليس جديرا بك ان تثور تحت أقل مشكلة. منذ الامس وأنا صامت .. كنت متلهفا لكي ابوح .. أتحدث ..أصرخ.. أثير الموضوع من جديد. رفعت رأسي بتثاقل.

- لماذا علي وحدي أن اصبر وأتحمل؟ لماذا لا يفعلون هم ذلك؟ لماذا لا تقول لها شيئا؟!

قلت هذه الكلمات ودفنت رأسي من جديد بين يدي. ويظهر أن أخي احس بصلابة موقفي فقد خرج دون أن ينبس بكلمة أخرى، وصفق الباب خلفه.
لقد جئت الى بيت أخي الاكبر هاني منذ اسبوع تقريبا. لم أعد احتمل جحيم البيت. لست أدري مصدر هذا الهوس عندها في اثارة المشاكل.. بل لست أدري لماذا تمقتني الى هذا الحد.. لماذا ترميني بين الحين والاخر باتهامات مختلفة، وتفتعل نزاعات بلا سبب حتى يتسنى لها أن أترك البيت؟! لماذا كل هذا العذاب؟! وهآنذا الان عند أخي مرة أخرى.
لقد تزوج منذ عدة سنوات، وآثر أن يقيم في مدينة أخرى مع زوجته الالمانية وأطفاله الثلاثة ليكون قريبا من مكان عمله. ان حياة أخي -هاني- تستحق أن يكتب الانسان عنها رواية، ولو كنت أعرف الكتابة لما ترددت أن أفعل..لكنني أجبرت على ترك المدرسة وأنا في الصف السادس الابتدائي. لقد قالوا أنه لا خير في بقائي فيها، وحكموا بأنه لن تفلح المدرسة في تغيير الحقيقة! وهي أنني غبي! ولم يكن حال أخي الاكبر أحسن من حالي. ترك المدرسة هو ايضا مبكرا مثلي، ولاقى المتاعب ألوانا. ولم يكن يستقر في عمل اكثر من شهرين. كان وما يزال عالي النفس .. مرهف الاحساس.. لا يطيق النقد ولا يتحمل أن يجرحه أحد بكلمة أو يستفز كرامته! فلاقى في سبيل ذلك العنت، ولم يستقر في مهنة! ولكنه استطاع ان ينجو من هذا الجو المتكدر.. فقد هرب الى المانيا!

قضى عشر سنوات فيها لا أعرف حقا ماذا كان يعمل خلالها أو كيف كان يتدبر العيش هناك. كل ما أعرفه عنه خلال تلك المدة الطويلة يغلفه الضباب والغموض.. كأنما قطع مجزوءة من الذاكرة لا تربطها ببعضها اية علاقة. لكن الشوق .. وآه من الشوق.. استطاع أن يتغلب على مرارة تلك الايام التي عاشها معنا.. فعاد بثروة متوسطة وزوجة شقراء!

ولماذا اشغلك معي بقصة أخي.. فلربما نسيها هو نفسه. أما أنا فلن أنساها ما حييت، فانني أكاد أرى حياتي تسير على خطاها! ولكن الى حين. فلن أسمح أن اصبح صورة عن أخي!

نهضت من مقعدي.. رحت أتجول في الغرفة التي كانت في الطابق العلوي من المنزل. وقفت أمام النافذة.. كل شيء في الخارج يبدو لي مثيرا للاشمئزاز والكآبة.. عدت أقف امام اللوحة المعلقة على الجدار من جديد وأتأمل فيها: المرأة وابنها والكلب الصغير.. كنت اتساءل في نفسي.. ما الذي خرج بهم في هذا الوقت، وقد انتشر الرداء الابيض في كل مكان!

لم أقبل بهذه اللحظة الانطباعية كما هي في اللوحة وحسب! بل رحت ارسم في ذاكرتي امتدادات شتى لها.. أتخيل نفسي أسير معهم الى المجهول. كنت أود من أعماقي أن أعرف الى اين يذهب هؤلاء الثلاثة المساكين! وأخيرا لم أدر كيف أقنعت نفسي أن هذه الام ذاهبة لزيارة ابنها الراقد في بقعة ما تحت التراب في اطراف القرية. لم تستطع أن تتركه وحيدا في هذا الشتاء القارس يعاني البرد والعزلة الابدية. أتستطيع أن تترك الثلوج تغيبه في احشائها فوقما فعل به التراب، بينما تنعم بدفء الموقد؟ شعرت بشيء من السرور وأنا اتوصل لهذه النهاية المرضية للوحة. تركتها وحاولت أن اشاغل نفسي عنها. عدت الى التفكير في متاعبي التي لا تنتهي، وحياتي التي استحالت جحيما لا يطاق. أخذت استعيد في ذاكرتي أحداث كل مرة أجد نفسي فيها خارج المنزل. وتذكرت أمي عندما كنت صغيرا. لم تمح اشراقتها من خيالي. تذكرت حبها الذي افتقدته. كانت تشعرني انني كل ما لها في هذه الدنيا. دمعت عيوني وانا اتذكر حنانها الاسطوري. هل يمكن ان تكون هناك أم مثل أمي؟ وما هي الا لحظات حتى كان المعطف يلف اكتافي والحذاء في قدمي! ونزلت الى الصالة بالاسفل. كان أخي جالسا بجانب التلفاز وبجانبه زوجته. اقتربت منه.. أخبرته انني خارج. قال متسائلا: الى أين؟ الى البيت؟ تمهل سأوصلك بسيارتي. همهمت بكلمات مخنوقة وأنا اسير نحو الباب. لا أعرف ان كان قد سمعها أحد غيري! وفتحت الباب وخرجت وأنا اصرخ في داخلي: يكفي .. يكفي .. وتلاشت خلفي نداءات أخي.
مرت سنوات غبت فيها عن الانظار. كنت متشردا هنا وهناك.. عانيت الكثير وكنت دائما أتذكر كلمات كنت قد قرأتها مرة في رواية عن العيش في بلاد تموت من البرد حيتانها! امتهنت الكثير لاعيش ولم أكن أفكر بغير يومي. فالمستقبل صار ترفا وشيئا من العبث التفكير به وأنا لا أجد مكانا أنام فيه. لا احب ان اتذكر تلك الايام وكل ما احبه هو رؤية تلك اللوحة التي لا اعرف اين صار مصيرها الان. ولكن لان قلبي أخيرا فأمسكت قلما وورقة بعد كل هذه الايام الطويلة. كنت أحس اصابعي عاجزة عن الكتابة وفكري كأنما تعطل.. لا أعرف ماذا أكتب.. واخيرا كتبت هذه الكلمات: " أخي العزيز هاني .. اطمئن انني بخير هنا في المانيا وقد وجدت عملا جيدا"!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:08 م

    السلام عليكم
    الحنان الاسطوري عبارة تخللت وصفك للام فاسترعى انتباهي ان الاستاذ اياد ماترك جانبا يخص النفس البشرية فى مضمون القصة الا واحاط بها وكلما توغلنا فى كتابات اياد نصار وجدناه فعلا اديبا شاملا لا يتوانى عن التطرق لكل ما يخص الانسان فى مجالات الحياة المختلفة فيحيطها بادبه المتميز لغة واسلوبا وفحوى ويضفي عليها من علمه وثقافته الغزيرة دون اهمال الجانب الفنى والجمالى مما يضفى على اعماله رونقا لا يضاهى مقدما لنا اروع اللوحات المتوجة باحساس راقي لانملك الا ان نحييه ونجزل له الشكر على عطائه الانسانى مع كل دعواتى بالتوفيق من قلب يملؤه العفاف

    ردحذف
  2. تستحق كتابتك أكثر من مجرد اطراء او ثناء، فهذه الاشارات الذكية حول تجسيد الشخصية في القصة، اضافة الى التطرق الى الاساليب اللغوية والفنية والجمالية تدل على تذوق رفيع للقصة وقدرة واضحة على تحليل عناصرها في اطار شمولي من الاهتمام بالمضامين الانسانية للقضايا التي تتطرق اليها. اسعدني هذا التوقف الراقي، ولك شكري الجزيل على عبارات التقدير. لا شيء يسعد الكاتب أكثر من أن يحظى بقارىء يملك حساً أدبيا عالياً يقف على معاني القصة الرئيسة بهذا التفاعل الرائع. مع خالص مودتي

    ردحذف