الجمعة، أكتوبر 24

أزهار تموت في المساء


أزهار تموت في المساء

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

تستند للخلف بظهرها على الكرسي مستغرقة في قراءة الصحيفة وقد فتحت صفحاتها على مدى ذراعيها. تنم جلستها عن طباعها: سكون وتأمل ووداعة وميل للتفكير أكثر من الكلام. جميلة الملامح ذات وجه طفولي وشفتين صغيرتين وشعر كستنائي فاتح. شالها الانيق ذو اللون الاحمر المائل للبرتقالي مطويّ ومتدلٍ على حافة يد الكرسي الذي تجلس عليه. تلبس تنورة خفيفة بيضاء اللون ذات طبقات من الكورنيش والدانتيل المخرم الابيض فوق طبقة حريرية عليها أشكال كأنها بقع من الثلج في يوم شتائي. تضع في قدميها حذاءً عليه بكلتان مثل الوردتين في أعلى مقدمته. قميصها برتقالي اللون مطرز من حواف أردانه وفتحة الصدر الواسعة. لا يمكن أن تخطيءالعين لمسةَ الفن في ذوقها في إختيار ملابسها: بساطة وأناقة وإنسجام في الالوان. أمامها طاولة سفرة من النوع الفاخر، وفوقها مزهرية كبيرة من الكريستال الروسي فيها أزهار الغاردينيا بأوراقها الكبيرة البيضاء. تحفة فنية رائعة أثيرة الى نفسها تبدو عليه سمات الارستقراطية. إشترتها ذات يوم من براغ حينما أقامت معرضاً فنياً فيها.

تجلس فاديا مبتعدة بكرسيها عن الطاولة قليلاً. والى جانبها طاولة صغيرة وفوقها فنجان من القهوة. كانت رائحتها تثير اللذة في خلاياها العصبية! تجلس في مواجهة نافذتين واسعتين بعرض الحائط. تغطي ستائر مخملية خضراء موشحة بلون أسود جوانب النافذتين ، بينما تغطي ستائر شفافة بيضاء واجهاتهما. أرضية الصالة من الجرانيت اللامع الذي يشبه قواقع الاصداف في تموجاته. كانت ترفع بصرها بين حين وآخر لتنظر جهة النافذة، ثم تعود لتحدق في الصحيفة. عناوين جذابة وصور وصخب لوني يثير شهيتها للقراءة والاستغراق.
من خلفها كانت لوحتان كبيرتان بألوان الزيت تملأن الواجهة. "درب الى القمر" و"أزهار تموت في المساء". لم ترتجف يدها حينما أمسكت الفرشاة مثلما ارتجفت في تلك الايام حين رسمتهما. ثلاث سنوات مرت بين اللوحة الاولى والثانية، لكنها أحست بذات الاحساس يضرب عميقاً في أعماق قلبها. تتذكر كيف كانت فرشاتها ترسم صورة حياتها بكل عفوية أمامها، كأنها تتحرك على القماش وحدها فترسم فرحها وحزنها الابدي.. ميلادها وموتها. لقد علقتهما على الحائط ليكونا أمام عينيها كل يوم. إنهما اكثر لوحاتها قرباً الى نفسها. لقد حملتهما معها الى كل المعارض في كافة أنحاء الدنيا. رفضت بإصرار أن تبيعهما. ثم قررت بعدها تعليقهما في بيتها. منذ خمس سنوات لم تغبا عن عينيها. كلما نظرت اليهما، أحست بمرارة في القلب وغصة في الحلق حتى تكاد تهمي دمعة خجولة على إسحتياء من عينيها. بالأمس كانت هنا في ذات المقعد تشرب القهوة مع صديقتها الفنانة الجديدة جاكلين وهي تحدثها عنهما. في الاسبوع القادم ستسافر مع جاكلين الى برلين لاقامة معرض مشترك. أحست جاكلين أن صوتها متحشرج كأنما ستختنق بكلماتها من أسى الذكريات.

ما يزال الصباح الربيعي تتخلله نسمة هواء باردة. الشمس تطل خجولة على الدنيا وتحتجب خلف غيوم بيضاء كجبال من قطن تلتقي لتصنع أشكالا غريبة تم تتمزق بلا إنتهاء. تعودت أن تبدأ نهارها بفنجان من القهوة والصحيفة. لا شيء يثير شغفها مثل صفحة الفنون. تعشق الفن الذي يستكشف عالم الاحلام والحنين الى ماضٍ غامض. لقد شاركت في معارض فنية كثيرة حول العالم. ولكنها صارت في الايام الاخيرة إنتقائية. حينما ترسم ، تهطل الوانها على رقعة القماش كالمطر. تولد اللوحات لديها كما تولد كلمات الشاعر في لحظة عشق صوفية.

ترى في لوحاتها امرأةً متسربلةً بجمال حزين مستغرقةً في التأملات. وفي عينيها مسحة من براءة وطفولة يؤرقها مستقبل حالم. كتب عنها أحد النقاد ذات يوم: "إنها صوت المرأة وروحها التي تتشكل أطيافاً من الوان أثيرية لتهوّم في عوالم النور والاشراق والجمال والاحلام. فيها مسحة حزن عميقة لا تدركها سوى عين متأنية".

إفتتحت فاديا جاليري للفنون تعرض فيه بعضاً من لوحاتها وتقيم فيه معارض للفنانين الشباب منذ ثلاث سنوات. كان حلماً يراودها منذ أن كانت في الجامعة، ولكن خريفاً وراء خريف من حياتها أطفات الشعلة في صدرها وانكفأت على ذاتها تعيش على أحزانها ومرارة ذكرياتها. إعتزلت الناس واعتكفت في مرسمها. في تلك الايام البعيدة حينما كانت الشعلة الزرقاء متقدة بينها وبين جبرانها، كان لليل والفرشاة والسهر طعم آخر. كانت مي زيادة رفيقتها الدائمة. وكان هو فيه مسحة الثوري الفلسفية التي تذوب كقطع الثلج بين الصخور فتنبت أعشاب وأزهار برية.

كان كامل أول حب في حياتها وربما الاخير. كان رفيق الدرس والمرسم واللون الزاهي. كان يعيش ثورة في أعماقه تريد أن تغير العالم كله. حينما كان يجتمع الاصحاب ، كان ضباب دخان السجائر يغطي على أحاديثهم فيعطيها شكلاً آخر. كان الكل يعرف كامل بروحه الثورية وشعاراته. لم تكن تحدث مظاهرة أو مسيرة دون أن يشارك بها. كان يقضي أياما غائباً عن المرسم حينما تشتد العيون عليه. لكن الشوق لم يكن من السهل إحتماله. كانت فاديا حلمه ومعاناته فلم يكن يستطع الغياب طويلاً. فكان يدفع الثمن دائما بإصرار. كانت أيام الاحتجاز طويلة مريرة، وكان الشوق قاسياً.

صارا عاشقين. لم يكن الحب الذي جمع بينهما وحده. كان الحلم واللوحة والثورة والكتب والانكسارات التي ألقت بظلالها في كل مكان. وكان القمر بصفائه الازرق وقصص الاساطير وتقلبات الطبيعة بأعاصيرها وأمطارها هي عالمهما. كانا يسهران في المرسم ساعات طويلة، وعندما يقترب موعد المعرض السنوي كانت الشلة تسهر للصباح بين علب الالوان والفراشي وألواح الخشب وقطع القماش. عندما كانت تتعب فاديا من السهر ،كانت تنتحي زاوية من المرسم الواسع فتنام على الواح الكرتون وتتغطى بلفافات الورق العريضة.

في السنة الاخيرة زاد قلق كامل عليها. كانت تخفي عنه الموضوع فتفضحها نظراتها الحزينة. فاديا من أسرة مدنّية ميسورة. والدها طبيب وأمها محامية. يمارس والدها الرسم ليرتاح من عناء الادوية والكتب الضخمة وأنات المرضى. وأمها تحب القراءة والكتابة وتشارك في الندوات واللقاءات. كامل من أسرة فقيرة كبيرة العدد بالكاد يستطيع الفرد فيها أن يحلم مجرد حلم. لم يحالفه الحظ كثيراً في دراسته ولكنه كان موهوباً في الرسم. كان أبوه معلماً يتمنى أن يصبح إبنه طبيباً، ولكنه إستسلم في النهاية للاقدار التي إختارت له طريق الفن حينما رأى ذات يوم رسوماته التي خبأها تحت سريره. كان كامل يستشعر حزناً في عيون فاديا. يلح عليها أن تتكلم. لكنها كانت تلوذ بالصمت. كان يشعر أن أحداً ما سيظهر على حين غرة ليحول بينه وبينها. كان يتلوّى ألما في صمته وهو يرى ضعفه في مواجهة الموقف.

أحست فاديا به وبألمه الذي يعتمل في أعماق صدره ولا يستطيع البوح به. هذه طبيعته أن يلوذ بالصمت دائماً. أرقه التفكير. لم يتخيل أن تنتظر أحلام فاديا على باب المجهول. كان يلوك حزنه بصمت .. يتجرعه بمرارة وإستسلام. رأته في أمسيات وقد إنكب على ذاته وأمسك رأسه بكلتا يديه. عرفت سبب ألمه وإحساسه بالضياع ، فلم تتخل عنه وخاضت حرباً مريرة على جبهة أخرى بصمت من غير أن يشعر بها كامل. تحملت في سبيله الكثير من الرفض و"المنطق" الاجتماعي من أهلها! واجهتم بشدة حتى شقيت به ولكنها احتملت بصمت.

يوم أن تم الاقتران، لم تكن اللغة قادرة أن تصف فرحتهما. حلم بعيد المنال تحقق.. منتهى السعادة التي يمكن أن يرسمها أي منهما في لوحة. بالنسبة لها كان هو روميو ، وكانت هي جولييته التي غيرت مجرى المأساة. يومها رسمت فاديا لوحتها "درب الى القمر". ولكنهما بقيا خائفين أن تتكرر المأساة التي إستطاعا إيقافها أو أن تتحول الى كوميديا مفجعة. شعر كامل بأن درباً طويلاً من المسؤولية قد ألقي على كاهله المثقل، وشعرت فاديا أنها رهنت أحلامها في يدي كامل ولم يبق سوى الانتظار.

مرت سنة لم يترك كامل مكاناً لم يطرقه في سبيل العمل. بحث في كل مكان، ووسّط الاهل والاصدقاء. لم يجد سوى مرارة الانتظار. شعر أن أحلامه ستضيع من بين يديه. أدرك أن الظروف أقوى منه فبدأ يتنازل عن أحلامه. قبل أعمالاً لم يكن يتخيل أن نهاية فنه ستكون فيها. ولم تنقطع لقاءاته بفاديا طوال هذه الفترة. كانت في عينيه مثال المرأة التي رسمها في لوحاته وكان هو مثال الرجل الذي رسمته في خيالها. كانت تنتظر فاديا بصمتها المعهود. وهو يتجرع مرارة الايام والانتظار المجهول.

في ذلك الصيف تغيرت الدنيا في بيروت وإشتعلت الحريق. وامتدت النار تحرق كل شيء في طريقها. لكن الرجال إستبسلوا الى حد أسطوري. كان كامل يرى الدم يسيل على الشاشات والمباني تحترق وتنهار والقنابل تنهمر على رؤوس المحاصرين كالمطر فيتفجر غضباً وقهراً. كان الدم يثور في عروقه من إحساسه بالظلم والعجز عن مواجهته. صارت أصوات الضحايا وألوان الموت السوداء وألوان الدمار الرمادية تملأ اللوحة كلها. عاد الجانب الثوري فيه ينتفض مرة أخرى. لم يستطع أن يبقى ساكناً وهو يرى ويسمع ما يجري. لم يعد من حديث له حينما يلتقي بأصحابه سوى المأساة. إتفق كامل وسعد وناصر أن يسافروا ثلاثتهم سراً للمشاركة مع المقاتلين. كانت صور الصمود تشحن كامل ورفاقه الى حد الاشتعال.

أقلقها غياب كامل.. لم يكن يمضي يوم أو بضعة أيام حتى تراه. فماذا حصل له حتى توقف عن السؤال عنها أو زيارتها أو الاتصال بها؟ في آخر زيارة لها بقي معها حوالي ساعتين. أحضر لها علبة الوان هدية لترسم بها لوحاتها وقال لها ضاحكاً: "لعلها تساعدك قليلا على الانتظار فلا تملّي أو تيأسي ريثما أصبح جاهزاً". نظرت اليه وإبتسمت إبتسامة رضى. بعد عدة ايام فتحت فاديا العلبة فوجدت بداخلها ورقة مطوية مخبأة تحت الالوان. كتب لها أنه لم يستطع البقاء ساكنا بينما يشاهد ما يجري. عرفت كل شيء فأخذت تبكي خوفاً عليه. بعد شهرين عاد سعد وناصر، ولم يعد كامل. قالوا لقد كان خائفاً أول الامر فلم يعرف الخوف مثلما عرفه هناك. ولكنه سرعان ما هزم تردده. كان صامداً خلف المتراس. أصابته شظية في رأسه فبقي ينزف الى أن فقد الوعي. لم يستطع أحد إسعافه في الخندق فقد كان الرصاص ينهمر كالمطر. عندما هدأ صوت الرصاص قليلاً حملوه وخط الدم يسيل من رأسه الى أسفل عنقه، ولكنه لم ينتظر. ودّع الدنيا بإبتسامة ونظرات فيها خشوع.

سالت أنهار من دموع فاديا حتى جفت مآقيها. كانت الصدمة أكبر من أن تحتملها أعصابها الرقيقة. شعرت بالالم يحطمها. صارت تهذي في بعض الليالي من شدة حرقتها. إعتزلت الرسم والناس وكل شيء. لم يعد سوى الحزن رفيقها. لم تعد تحس بأي معنى للحياة. بقيت أشهراً على هذه الحال. لم تستطع أن تتعايش مع غيابه الابدي. وذات ليلة حزينة بقيت واقفة على قدميها الخائرتين طوال الليل ترسم اللوحة حتى أكملتها مع الفجر. كتبت في أسفل اللوحة "أزهار تموت في المساء". إبتعدت خطوات عنها وراحت تتأملها بعيون دامعة، إنهارت ووقعت من الاعياء على أرض مرسمها. لم تشعر بنفسها فبقيت نائمة فوق بقع الالوان على الارض حتى الصباح.

* اللوحة أعلاه بعنوان الرقص في الريح للفنان الكندي دون لي ليجر

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف5:41 م

    كتبت جمان التعليق التالي:

    لعبت بالكلمات في وصف صوره فنيه استطعت بعبقرية احساسك انك تجعلني أري فاديا و كامل و حياتها سواء معاه او في غرفتها رأي العين...لم أتوقع النهايه أنما كنت صادق حينما اوصلتلي ان "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه" كلنا بنمر بعقبات لكن مش كلنا في صبر و جلد فاديا..الصور الفنيه في القصه أكثر من روعه فعلا

    ردحذف