الأحد، أغسطس 29

ولادة قصيدة



ولادة قصيدة
قصة قصيرة
اياد نصار


* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم 29/8/2010

مضت عليها سنوات طويلة، لكنها تعود من النسيان، كلما قال أحد أنه كتب قصيدته الاولى. وهي كانت قصيدتي الاولى والاخيرة. في تلك السنة التي التقت فيها نظراتنا، اشتعلت النار في كل مكان، وعلى كل جبهة. كان القلب خالياً، وربما مستعداً لخوض فصل جديد من حلم أعرف أنه لن يدوم طويلاً. حركت ابتسامتها الخاطفة الباهتة شيئاً غامضاً في القلب، وايقظت الإحساس بوخزٍ ناعمٍ في الاعماق. لم تكن سوى لحظات عابرة تتلاقى فيها العيون.. ابتسامات باهتة متبادلة.. خفقة في الصدر.. صمت. ثم ينتهي كل شيء. سرعان ما كنت أنسى التفكير فيها بمجرد ابتعادنا في زحمة الآلاف، الذين يبحثون عن أحلامهم بين تمرد خجول وخواء عاطفي مزمن.


ممر مزدحم ضيق ذو سقفٍ عالٍ في آخره يقع مكاننا المفضل. مطعم صغير معتم في سقفه ثريات صغيرة، ينبعث منها ضوء أصفر، يقع على طالاوت خشبية مصقولة لامعة، فتبدو بعض ملامح وجوه الجالسين. شاب وصديقته يحتسيان قهوة ويدخنان سيجارة. شابان وفتاتان فردوا بعض الكتب والأوراق أمامهم. يدور نقاش خافت بينهم، تتخلله ابتسامات، تعلو أحيانا فيكتمونها بسرعة. وفي آخر الصالة الى اليسار، جلس جابر وجمال. ألقيتُ الكتب جانباً وسحبتُ كرسياً وجلست. يدخن جابر سيجارته بأناقة كالمعتاد.. ينظر بعمق الى جمال وهو يتحدث عن صديقاته. جابر كثيرُ الصمت والتأمل ونادراً ما يتكلم. اذا تكلم، رأيت في حركات يديه طرازاً رفيعاً لمفكّر يتقمص الدور ببراعة. يضحك أغلب الوقت لأبسط التفاصيل ويصغي بانتباهٍ بالغ. لا تثيرني قصص جمال الغريبة عن صديقاته. جمال مقتول من الداخل. لا يستهويه المكان ولا الدراسة. منعزل عن الاخرين. أستغرب كيف أصبح صديقاً لنا. ربما تمجيدنا للقصص التي كنا نقرأ عنها من عالم العزلة والمعاناة وقصص الحب الفاشلة هو السبب! لا يزال جمال يقتات على ماضيه. كل القصص التي يرويها لا تمت للحاضر بصلة.

توقف جمال حينما وصلت. يبدو أنه وصل نهاية المغامرة! استخرج جابر ورقة من جيبه، وقال بصوت ينم عن ثقة واستغراق:
- إستمعا.. أريد رأيكما بها.
أخذ جابر يحضرنا نفسياً لاستقبال قصيدته. قال بابتسام: "هناك دائماً قصص وإشارات وأساطير. أصغيا باهتمام. لا أريد أن تقولا لي جميلة. لا تهمني مفاهيم الجمال". أعرف جابر لا يحب شوبنهاور! يغريه نيتشه في تمجيده للقوة التي لا ترى مكاناً فيها للضعيف. لا يحب جابر الشهرة ولا يطيق جماعات البشر الكثيرة. لا يحب أن يلفت اليه الانتباه، لكنه يظن أنه أديب عظيم لا بد أن يعرفه العالم يوما ماً، ولو بعد موته بقرون!

قرأ جابر قصيدته الانجليزية بلكنة واضحة متمكنة. من يسمعه يلقيها يظن أنه أنجليزي حتى النخاع، وليس إبن فلاح بسيط لم يغادر خارج حدود قريته في سنوات عمره كلها! أذهلنا بالايقاع في قصيدته. لم نفهم منها شيئاً كثيراً، لكنها بدت جميلة متناسقة. بعدما إنتهى من الالقاء سألنا عن رأينا فيها، فضحكنا: كم هي محظوظة لتبقى تكتب لها وهي بعيدة! إبتسم ولم يقل شيئاً. سألنا عن مغزى صورة رمزية فيها ليعرف إن كانت براعة تأليفه واضحة! فلم نستطع جواباً! زمّ شفتيه إمتعاضاً ثم ضحك وقال: أعرف أنكما غبيان، ولكن ليس لي سواكما ليسمعاها!

في الخارج كان الجو ينذر بالترقب، وكانت العيون تنتشر من حولنا في كل مكان. رسائل الاستدعاء والتحقيق تصلنا بشتى الطرق. حرب خفية تدور من حولنا. النشرات الخضراء أو الحمراء توزع سراً. دعوات الى الاعتصام والاحتجاج تضعها أيدٍ على اللوحات. تمتد أيدٍ أخرى اليها فتمزقها قبل أن تتجمهر حولها العيون! الصراع على أشده. إحساس بالعجز والخيبة يطغى على الوجوه. كنا نلوك هامشيتنا على رصيف الحياة، ونحس ببرد الدنيا. في يوم شبه ثلجي تلك السنة، حين كان البرد يهطل خارج النافذة، بقينا نردد قصة فتاة إليوت الايرلندية! لكننا نحلم أن نكون شيئا ما ذات يوم، فنظل نقرأ نيتشه في كل لقاء!

يتحدث جابر دائماً عن إمرأة يحبها ويكتب لها قصائده. إمرأة مختلفة كما يقول. عرفناها من قصائده من غير أن نراها. رقيقة حزينة تعشق الشعر والموسيقى. كنا نستغرب حديثه الدائم عنها، ولم نرها معه ولا مرة. ذات يوم اتفقتُ أنا وجمال أن نكشف السر! قلنا له بصوت واحد: لا داعي لتأليف قصص الحب! نعرف أنها مختلقة لأجل الشعر ليس الاّ! فغضب واعترف! "كانت تسكن في الجوار. وقبل أربع سنوات سافرت الى بريطانيا، لم يعد بيني وبين سجى سوى الرسائل".

سرحت بأفكاري قليلاً. تذكرت نجلاء ونظراتنا اليومية العابرة وابتساماتنا الباهتة. أكثر من سنة تتلاقى عيوننا، ولا نجرؤ على تبادل الكلام. نجلاء خجولة وتحب العزلة. لا تشارك أثناء المحاضرة، ونادرا ما تتكلم. في المرات النادرة التي سمعتها، كان صوتها ناعماً خفيضاً. لم تكن تثير انتباهي، ولا أظن أنني كنت أثير انتباهها أول الأمر. ثم بدأت تتلاقى النظرات بعد ذلك من غير أن تبدو على وجهها أي إشارة. بعد فترة بدأت أشعر باهتمام غامضٍ في عينيها، ولكن لم يكن لديّ جرأة سوى نظرات خاطفة!
أشعلت أحاديث جابر عن سجى حنيناً في داخلي. أحسست به ولكنني لم أبح به. ماذا سأقول؟! هل أحكي لهما عن نظرات خاطفة؟ هل أحكي عن مجرد ظنون أسميها حباً؟! لا بد أن الامر سيصبح موضع تندرهما الدائم!

في تلك الليلة اتصل جابر، وقال إنه يريد أن بسمعني بعض القصائد. أعددت المكان في غرفتي الصغيرة. حضّرت الشاي وموسيقى موزارت التي يحبها. كان لدينا فونوغراف قديم وبعض الاسطوانات التي اشتراها أبي ذات يوم من صديق كان يسكن في بنايتنا. غرفتي في الطبقة الارضية، ولكن جهة الشباك فيها مرتفعة عن سطح الارض. في النهار تمتد الاعشاب والحشائش الخضراء التي تملأ البستان أمامي. وفي الافق البعيد تبدو الجبال مثل لوحة فنية.

في السهرة رأيت جابر العاشق والشاعر والفيلسوف كما لم أره من قبل. كان في عينيه قلق واضطراب. كان مثل "هاملت" في مناجاته ولحظات جنونه. رأيت فيه كل تناقضات العالم: القوة والضعف، الحياة والموت، الناس والعزلة، الرقة والجبروت، حب الذات وإيثار الاخرين. ولعله صار صديقي لأن فيه كل هذه المتناقضات! لطالما سألت نفسي إن كان يعشق صديقته أكثر من شعره أم يعشق شعره أكثر لأجلها. تحركت مشاعر غامضة في قلبي. فكرت في نظرات نجلاء وابتسامتها الخجولة.

شعرت بالغيرة. قررت في تلك الليلة أن أكتب قصيدتي الاولى. لم أكتب الشعر في حياتي قبلا، ولكن الشعر كما يقول جابر لا يحتاج أكثر من عاطفة متقدة. بقيت طول الليل أفكر كيف أبدأ قصيدتي. صرت أكتب وأحذف، ثم أكتب مرة أخرى، ثم أمزق الورقة! لا أذكر كم مزقت أوراقاً، لكنني أذكر أنه لم يبق سوى وريقات قليلة في دفتري. بقيت سهراناً طوال الليل ألملم أطراف عباراتي. وفي النهاية ولدت قصيدتي الأولى. شعرت بالسعادة لهذا المخاض. ستكون نجلاء سعيدة بها. شعرت بجرأة غير عادية تجتاحني.
في الصباح بعد أن أنهيت محاضرتي أسرعت الى المكان ذاته الذي اعتدنا أن نتلاقى فيه في تلك الساعة. بدأ قلبي يضطرب وأنا أنتظر مرورها. قررت أن أضع حدا للنظرات العابرة التي تموت في ساعتها. سأبوح لها بما أشعر به. شعرت أنني ما أزال مترددا مرتبكاً. بل سأعطيها القصيدة وأمشي. ستعرف بحقيقة مشاعري وعندذاك لا بد أن تخطو خطوتها الأولى نحوي. انتظرتها ، ولكنها لم تمر. بقيت أنتظر وقلبي يزداد خفقاناً. مضت ربع ساعة طويلة، وانا أنتظر بقلق واضطراب. لم تعد هناك أعداد كثيرة تمر من الساحة. مرت نصف ساعة ولم تأتي. أيقنت أنني لن أراها ذلك اليوم. مشيت بضع خطوات متثاقلا متأنياً. تلفت حولي لعلي ألمحها من إتجاه آخر. فقدت الامل في مرورها. أعدت القصيدة الى جيبي. تأكدت من أن كتبي في يدي ومشيت.

شعرت بالحيرة وخيبة الامل. لم أعرف أين أذهب. ليس هناك سوى مكاننا اليومي العتيد. دخلت المطعم بأضوائه الساحرة الخافتة. رأيت جابر وجمال يجلسان إلى طاولاتنا المعتادة في الزاوية نفسها. أشرت لهما بيدي ومشيت نحوهما. عندما جلست، لمحت عيني نجلاء تجلس الى طاولة في الزاوية الاخرى وهي تضحك، وأمامها شاب بدا منسجماً في الحديث اليها! امتدت يدي الى جيبي وعجنت الورقة في يدي. لحسن الحظ لم يعرف أحد عن ولادة قصيدتي الاولى!

** اللوحة أعلاه للرسام البريطاني ويندهام لويس وتمثل بورتريه للشاعر تي اس اليوت
رابط الصفحة بجريدة النهار
 
رابط نسخة الصفحة للطباعة
 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق