الجمعة، ديسمبر 17

الخيط الاسود لجمال القيسي.. صورة البطل في شبابه


قراءة في "الخيط الاسود" لجمال القيسي..

صورة البطل في شبابه

إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 17/12/2010

تنقسم رواية جمال القيسي "الخيط الأسود" إلى أربعة أجزاء هي: "صوت"، "صدى"، "صوت" و"آخر الصدى". ويشتمل كل جزء على فصول قصيرة. وتمتاز الرواية التي تقع في 154 صفحة، بتعدد الرواة، حيث يسرد الرواية راوٍ رئيس بصيغة الغائب العليم، بالإضافة إلى السرد على لسان اثنين من شخصياتها بصيغة الأنا: "واصل" بطلها، والشيخ يوسف، صديقه وابن حارته. وتعتمد الرواية على أسلوب تداخل الزمنَين الماضي والحاضر، واستدعاء الذكريات وصور الماضي البعيد. ونلمح منذ البداية أنها تدخل عالم الشباب المتدين، وتطرح صراعات الجماعات والأحزاب الإسلامية، ومشكلاتها من الداخل.

يروي الجزء الأول من الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم في بيروت، والدار الأهلية في عمان بدعم من وزارة الثقافة، قصة الشيخ يوسف وأسرته. ويظهر البطل "واصل" في مستهل الرواية صبيا صغيرا يحضر جلسات صديقه الشاب، بينما تسرد الأجزاء الثلاثة الأخرى سيرة حياة واصل، وتفاصيل طفولته ودراسته في المدرسة، ورحيل والده، وسفر أخيه إلى روسيا لدراسة الطب، وجو المناكفة بينه وبين شقيقته، وكل ما يتصل بعد ذلك بتحولاته الفكرية وانتماءاته الحزبية.

تُبرز الرواية سيرة حياة بطلها منذ صغره وحتى خريف العمر، وما مر بها من أحداث وتحولات، بوصف ذلك جزءاً من التغيرات التي طرأت على المجتمع الأردني من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وذلك من خلال تناول حياة البطل التي تعبّر عنها علاقاته، وصداقاته، ومناكفاته، وانتماءاته الدينية، وتقلباته من جماعة الإخوان المسلمين إلى حزب التحرير، إلى طلاقه النهائي لهما وهو كبير، وقد نضجت تجربته واستقرت قناعاته على ضوء ما شاهده من التباين بين التنظير والممارسة، وبين الحقائق والواقع.

تؤسس الرواية مسرح أحداثها عبر المكان والزمان، من خلال تطور حبكتها، وتفاعلات شخصياتها منذ بداية الثمانينات، حينما كان واصل فتىً في الرابعة عشرة، وحتى وقتنا الحاضر، حيث صار كبيراً ولديه عائلة. وينتقل مسرح الأحداث من منطقة سحاب مقابل المقبرة الإسلامية، حيث يسكن الشيخ يوسف، وحي الشعيلية في شارع مادبا، حيث يعيش واصل في بداية الرواية، إلى المدينة الرياضية حيث تنتهي الرواية بمشهد واصل جالساً على شرفة منزله، غارقاً في تأمل حصاد تجربة حياته بحلوها القليل ومرها الكثير.

يشكل استغلال الدين منذ الصغر نقطة خلاف جوهرية بين واصل ويوسف رغم علاقتهما الوطيدة، ويصبح مفتاحاً لفهم شخصيته وقناعاته، ويشكل نقطة مرجعية منذ الصغر لدى واصل في الحكم على الأشخاص والمواقف والأفكار. يلمح الشيخ جبريل منذ البدء عقل واصل النابه الشرود، مما يؤدي إلى اقصائه من المشاركة. لم يكن السؤال غير عادي، إلا أن الموقف برمته ينطوي على نقد ثقافة دينية لا تسمح بالاختلاف معها.

ورغم أن الرواية لا تنطوي على أحداث مأساوية أو مواقف كبيرة غير متوقعة أو غير اعتيادية، ورغم مألوف شخصياتها وأحداثها، إلا أنها تشد القارئ بلغتها وأجوائها التي تثير النوستالجيا لكونها ترصد الكثير من ملامح الحياة في عمان قبل ثلاثة عقود.

تتناول الرواية مرحلة من تاريخ مدينة عمان في الثمانينات حينما كان بريد سكان الحي يوزّع عند بقالة الحي، وحينما كانت هناك صحيفة أسبوعية اجتماعية تدعى "أخبار الأسبوع"، تخرج عن خط الصحافة اليومية ذات التوجهات الرسمية، وتملأ فسحة من اهتمامات الناس الاجتماعية والأقاويل في تلك المرحلة.

وتقدم الرواية صورة مصغرة لمظهر اجتماعي واقتصادي طرأ على المجتمع في بداية الثمانينات. يعكس قدوم العائلة المصرية للعمل في الأردن حالة تدعو للدهشة والابتهاج بين سكان الحي. "استقبلت الحارة وجودهم كأنهم سياح قدموا من السويد إلى حواري الهند الكريهة". بدأت الأيدي العاملة المصرية بالقدوم إلى الأردن مع بداية الثمانينات. وسر الدهشة والابتهاج أن الناس في تلك الفترة كان لا يسمعون اللهجة المصرية الجميلة، ولا يشاهدون المواطن المصري سوى في المسلسلات والافلام، والآن صار بين ظهرانيهم.

تطرح الرواية مسألة استلاب الوعي لدى الشباب من جانب الجماعات الدينية قبل أن يتفتح وعيهم. ويشير الراوي إلى بداية وعي واصل بجماعة الإخوان المسلمين التي يشير إليها تورية باسم "الإخوان المستقلين"، وإلى وصايا مؤسسها حسن البنا الذي لا يذكره صريحاً بالاسم، بل يلمح اليه باسم الشهيد الإمام حسن. أهمل دروسه وصار يقرأ منشورات الجماعة وكتبها التي تدعو إلى أسلمة المجتمع، ما يشي بأن ما تقدمه من حلول لا يرى في الدنيا نشاطات إنسانية تستحق الاهتمام سوى الدين.

طرحت الرواية موضوع الدين بشكل أساس بوصفه مكوناً مهماً من مكونات ثقافة المجتمع الذي هيمن عليه الإسلاميون، خصوصا الجماعة، لفترة طويلة من الزمن تجاوزت خمسة عقود. غير أن الرواية تشير إلى تمرد البطل "واصل" على الفكر الذي حاول تدجين عقله، وسخر من قراءاته المستقلة وعدّها "أشكالاً فارغة حمقاء"، وصادر انتقاداته، بل ووصل الامر إلى حد تشبيهه بـ"القوارض" لقيامه بقرض الشعر. تمثل ثورة واصل نقداً للأحزاب التي تسعى إلى مصادرة حق الإنسان في التفكير الحر. وقد وظف التلاعب بالاسم لتوجيه النقد حينما قال على لسان أحد الأشخاص: "الإخوان المتسلّقون".

برز تطور الشخصية في الرواية في حالة واصل، حيث غدا من أكثر الشخصيات جاذبية نتيجة النضوج والمؤثرات التي مرّ بها. فلم يعد تلك الشخصية البسيطة المسطحة، بل تطورت تدريجياً، عاكسة التحولات التي طرأت على فكره، الذي بدأ يثور على المفاهيم التي نشأ عليها في بيئته الاجتماعية التقليدية، ويتمرد على الفكر الحركي. ولعل ما قاله له غسان الذي ينتمي إلى "حزب التغيير"، في تورية تشير إلى حزب التحرير، يعبّر عن ذلك بوضوح: "أنت لا تصلح لهم، ولا هم يصلحون لك"، أو كما قال الراوي: "اليوم تفتحت آفاق ورؤى جديدة، بعيدة الآماد في عينيه".

يشعر واصل بأفق أوسع للحرية مع غسان، ولكن عقله الشرود لا يتوقف عن الأسئلة. يسأله: "لماذا مقر حزبنا في لندن؟"، فيقول له إن "بريطانيا دولة قانون وتحترم حرية الفكر". وتوقعه الإجابة في حيرة، لماذا لا يكون الهدف هو الوصول إلى الديمقراطية بدلاً من دولة الخلافة!.

وبدا أن تطور الشخصيات الأخرى خلال الرواية كان بحاجة إلى اشتغال أكبر، حيث جرى تجميد شخصيات رئيسة وإبعادها عن مسار الأحداث، مثل الشيخ يوسف وشقيقه المسافر، فتحول الراوي عنهما كلياً ولم نعد نسمع عنهما شيئاً. بل إنه ترك العائلة المصرية عند تلك النقطة من الزمن. وركز كلياً على معالجة شخصية واصل حتى نهاية الرواية. وبعد أن تركهم الكاتب في الظل زمناً، عاد في الصفحة قبل الأخيرة ورسم نهايات سريعة مقتضبة لكل منهم.

يلاحَظ في النصف الأول من الرواية غياب الوصف إلى حد كبير، وغياب تدخل الراوي في تحليل الحالات النفسية للشخصيات، وقلة الإسقاطات الفلسفية إلا في حدها الأدنى، حيث تميل لغة الرواية إلى سرد الوقائع بقليل من الانعكاسات الفكرية، ومن دون توسيع زاوية الرؤية أو تداخل الأحداث والزمن، وغياب اللجوء إلى تداعي الأفكار أو المناجاة أو الهلوسات أو الأحلام مما تشتمل عليه الرواية الحديثة إلا في إطار ضيق.

تنتقد الرواية، من خلال توظيف أسلوب المفارقة والتناقض بين القول والفعل وازدواجية معايير الرجل، الثقافة الذكورية القامعة التي يمارسها المجتمع ضد النساء. بل لعل عدم ذكر اسم الأخت الكبرى لـ"واصل" هو بحد ذاته نوع من التهميش الذي يمارَس ضد المرأة إلى الحد الذي تبقى معه بلا اسم أو هوية. ومما يلفت النظر أن الرواية ليس فيها بطلة أنثى أو شخصية نسائية رئيسة! هناك البنت الكبرى لأبي سليمان (الظريفة) التي توصف بأنها جسورة وشرسة وذات حيلة، لكنها تبقى شخصية ثانوية. وهناك نيفين المصرية التي جاء زوجها للعمل في الأردن، وقد استحوذت على عقل واصل، وعلى عقل أخيه الأكبر. وهناك شقيقة واصل الكبرى التي أنقذته من الاحتراق بالنار، وهناك فتاة المدرسة التي يدعوها "الغريبة"، في إشارة إلى توقيعها على كتابها باسم "غريبة الديار". نشأ بينها وبين واصل حب مراهق نتيجة الجفاف العاطفي في بيئة قاسية، ثم لا نراها بعد ذلك إلا وهي في أواخر الأربعينيات وقد تزوجت وصار عندها أولاد.

أبدع القيسي في تجسيد تجارب البطل الأولى في التعرف على الجانب الجنسي في الإنسان من خلال رصد تفاصيل العلاقة بين الفتى الصغير ونيفين الزوجة المصرية العشرينية الجميلة، التي أثارت نوازعه، فاشتعلت ثورة الجسد. كما أبدع في نقل أجواء اللقاء الحميم الأول بين نيفين وواصل، الذي سمّته وهي تضمه، "شيطاناً صغيراً": "خشي أيّ طارئ كوني يقطع عليه هذه النشوة الأولى، وطعم النار الأول، وكنهَ التكوين، وسر الحياة، وعمق النهايات والبدايات!"

في الجزء الأخير من الرواية تتسارع النهايات، حيث نلاحظ حرقاً للمراحل كما سماها الراوي، إذ يعقد مقارنات إزاء مقولات حزب "التغيير"، ما يدعو للحيرة والتشظي، كما يعبّر عن الصراع الداخلي الذي أحس به إزاء "الإخوان"، حيث يتذكر مقولة "أسلمة المجتمعات لاستعادة الحضارة"، ويتذكر قول ابن خلدون أن الحضارات إذا انطوت لا تعود.

وتبلغ الحيرة والتشظي ما بين مقولات الحزبين وتبريراتهما لدى واصل ذروة التأزم. ويدرك أنه احترق في "أتون التجارب المريرة الموجعة المرشومة بالطعنات". ولكن في الوقت نفسه تأتي النهاية، فقد "طلّق الأحزاب وعاقر الأحزان".

تنتهي الرواية بفصل "ما يشبه الخريف"، وهو في حقيقته حصاد العمر المر. لقد استنفد البطل طاقاته في الصراعات الفكرية التي مرّ بها مع الحزبين بحثاً عن "المنهج الصحيح المؤدي إلى الحياة الفضلى". كما نرى واصل متزوجاً وقد حاصره السأم والوحشة، بعد أن ولت أيام "الشباب والعنفوان والطيش".

ومن داخل الجزء الأخير يفسح الراوي المجال لواصل كي يسرد بنفسه عبر تداعي الذكريات خاتمة الرواية، التي تعد أجمل فصولها، بلغة تأملية مثقلة بالتلوينات النفسية والفكرية، وفيها يعرّج بالتحليل على أحداث سيرته ومصائر الآخرين الذين شاركوه التجربة ليصل إلى استيعاب دروس الحياة. وتنتهي بإدراك البطل المنكسر حقيقة وجودية مغرقة في التشاؤم: "في عصر ثورات العلم والمعرفة، وهيمنة الصورة، واجتياح الحدود والعقول، تزعزع الإيمان، وتزلزلت القناعات، بل وانفرط عقد الأمان الاجتماعي، وبزغت فردانية الذات، وتقوقعها. الوشائج الحميمة هلكت، والأواصر العذبة ماتت، وها أنا ذا أعيش على صدى وقعها الماضي، وأعاين نهج الحاضر ولا معقوليته. أنكفئ على نفسي أنشد الخلاص".

رابط المقالة بصحيفة الرأي الأردنية
 
رابط الصفحة الكاملة (انتظر ريثما يتم التحميل)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق