الأحد، يوليو 5

يوميات طفولية


يوميات طفولية

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار


في الصباح أعدت أمه له الشطيرة وهي تبكي. بكت طوال الليل حتى نامت على الكرسي. في تلك الليلة صرخ أبوه وهم على العشاء في وجه أمه بصوت عال وراح يهذر ويشتم. ارتفعت حدة صوته وزادت عصبيته ثم قذف فجأة بصحن العشاء الى السقف. ارتسمت خيوط خضراء في السقف وعلى الجدران والارض! خشي من ردة فعله، فبقي متسمراً مكانه من الخوف. بقي إخوته متجمدين في أماكنهم خشية أن يتحول غضبه اليهم. كانوا محظوظين على غير عادة تلك الليلة.. لم يصرخ في وجوههم بأي شيء!

***

في ذلك اليوم جاء المعلم علوان مبكراً بعد نهاية الحصة الاولى وقال لهم إنه سيأتي معه زائر من الوزارة، وأنه سيعيد شرح الدرس الذي شرحه لهم يوم أمس. قال بلغة فيها تهديد والعصا تتحرك في يده: "إياكم أن تقولوا أنني شرحت لكم الدرس بالامس". وأضاف: "أريد منكم أن تشاركوا في الاجابة على الاسئلة عندما تُطرح عليكم، وبالذات أنت". دخل معه الزائر وجلس في نهاية الغرفة. كان الاولاد ينظرون اليه بين الحين والاخر ولا يعرفون لماذا جاء وماذا كان يفعل وهو جالس في آخر المقاعد في الغرفة. ثم وقف أمامهم وأخذ يسأل أسئلة تذكروا أنهم سمعوها بالأمس. أجاب الاولاد عنها بنشاط وسرعة! لكنه أثار إعجاب الزائر بإجاباته. قبل أن يخرج الضيف أخذ يشكر الاستاذ علوان كثيراً وتوجه الى الطلاب وقال: "لديكم أفضل معلم في المنطقة كلها" وخرج.

***

يضرب العريف بعصا خيزران طويلة اللوح الطباشيري الاخضر بكل قوة والاولاد ينظرون الى استعراض عضلاته في جلد الجدار! وقعت الممحاة البيضاء الصغيرة من يده فركض من غير وعي وراءها. شعر أن الدنيا كلها تدور حوله والسماء حمراء برتقالية. أحس بألم حاد كلسعة لهب ينخز مؤخرة رأسه. غامت صور الجالسين في عينيه ووقع مكانه على الارض وغاب عن الوعي. هجم الاولاد يحاولون إيقاظه فكان مثل جثة هامدة. ركض أحدهم وأحضر بعض الماء من دورة المياه في يديه ورشه على وجهه. لكنه لم يستيقظ . شعر الاولاد بالخوف. هجم آخر على العريف وانتزع العصا من يده وأخذ يصرخ في وجهه. عاد ذاك الصبي مرة أخرى وأحضر ماءاً في يديه ورشه على وجهه. ارتسم خوف غامض على كل الوجوه وهي تترقب إشارة لعودة الوعي اليه قد يوحي بها وجهه أو نظرات من عينيه. بعد لحظات حرجة فتح عينيه فجأة، نظر في الجموع حوله ثم أخذ يصرخ من الالم ويضع يده على مؤخرة رأسه الذي إنتفخ مثل حدبة صغيرة.

***

يركض في أرض الساحة هارباً من بين أقدام الكبار وأحذيتهم ذات المسامير المدببة خشية أن تصطدم به الكرة. يقذفونها بكل قوة فتطير في الهواء كالصاروخ. خشي أن تصطدم في وجهه أو بطنه فربما ألقت به أرضاً أو سببت له عاهة. تعثرت قدمه في أرض الساحة المليئة بالحجارة والحصى فوقع على الارض وكُسرت سن في مقدمة أسنانه. لم يلتفت اليه أحد من اللاعبين. نهض والدم يملأ يديه ووجهه. أحس بحد السن المكسورة يؤلم لسانه بخشونته. التقط الجزء المكسور عن الارض وهو يبكي. لقد بقي أثر تلك الحادثة في وجهه كلما فتح فمه! مرت سنوات طويلة قبل أن ينسى الاحساس بقسوة القدر وسوء الحظ!


* اللوحة أعلاه بعنوان صبي حزين للرسام البولندي كريستوف ايوين

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف3:59 م

    السلام استاذي الرائع اياد
    الطفولة اجمل مراحل العمر تزخر بذكريات جمة منها ما ينسى ومنها ما يعلق بالاذهان ولعل اهمها هي ذكريات المدرسة وقد تناول الاستاذ اياد جانبا مهما منها بطريقة ادبية ممتعة وادرج اساليب للوصف جد دقيقة مثل حوادث وقوع الاطفال وما تتركه من اثر عليهم لا بجسمهم فقط وانما بنفسيتهم الهشة
    لقد ابدعت فعلا استاذي الكريم بطريقتك وجعلت القارىء يرى نفسه بطل قصتك وكانك تسرد حياته هو
    ومن خلال موضوعك الهام ادرجت معطيات سمحت لنا بالاطلاع على مستوى المعيشة والحالة الاجتماعية مع تطرقك لمستوى التعليم واساليب القسوة والعنف فى معاملة الاطفال
    فعلا موضوع القصة جد مهم واسلوبها رائع واختيار اللوحة جد موفق بارك الله فى عملك ووفقك لمزيد من النجاح
    اسفة على الاطالة لكن من يطلع على اعماك الادبية الرائعة لا يملك الا ان يحبها ويعجب بها ويتفنن فى وصفها عله يصل الى جزء بسيط من مستواك
    مع اسمى التقدير والامتنان ...عفاف

    ردحذف
  2. العزيزة الاديبة عفاف
    لك من بصيرة النقد ورشاقة العبارة ونفاذ الرؤية حظوظ كبيرة. لقد أثبتت تعليقاتك مدى قدرتك على التعبير والتحليل، وأظهرت ثقافتك العالية ووعيك الثقافي ومهارتك في التعرف على النواحي الضمنية لثقافة المكان. سعدت كثيرا بمرورك الرائع. وتبقى كلماتك شهادة أعتز بها وتنم عن تذوق وفهم عميقين. لك خالص مودتي وتقديري.

    ردحذف