الاثنين، يونيو 9

الساعات


الساعات.. البحث عن الحب وإيقاف الزمن الهارب

مقاربة نقدية لقصة الساعات للدكتورة هند أبو الشعر
بقلم اياد نصار

استمتعت وتأملت كثيرا قصة الساعات للكاتبة المبدعة د.هند ابو الشعر. انها قصة رمزية مكثفة ذات أبعاد نفسية وفلسفية عميقة.

تدور القصة حول امرأة تملّكها الاهتمام المفرط بذاتها. تنظر الى نفسها في المرآة ، كأنما هي نرجس في الاسطورة الاغريقية الذي ينظر في صفحة الماء فيرى انعكاس صورته. تنظر بطلة القصة الى ذاتها نظرة الفنان الماهر الذي يستغرقه الاهتمام بالتفاصيل، وتسيطر عليها فكرة الاهتمام بالشكل. تفتتح القصة بمشهد المرأة تنظر الى نفسها في المرآة ، وفي ذلك توظيف رمزي للدلالة الى النظر الى أعماق النفس ومحاولة اكتشاف الذات. وهي فنانة تنظر الى جمالها بعين الرضا، وكأنما تريد اعادة بناء شخصيتها على النحو الذي تريده هي. تود أن تعيش في حلم ترسم معالمه بريشتها. ثم هناك رحلة أخرى في زوايا الذاكرة. تتذكر الانسان الذي أحبته وسافرت معه الى حلب. يرمز الوشاح الذي استوقفها في واجهة احد المحلات وأراد هو أن يشتريه لها الى الحب الذي يحيط بها ويملأ عالمها. ويبدو واضحاً أنها تبحث عن الحب الذي صار من الذكرى، ولكن الخوف من الزمن يسيطر عليها. يبدو واضحا في القصة الرغبة العارمة لديها في النظر الى واجهات المحلات. إنها الرغبة في امتلاك ما تفتقده. وهناك اشارة جميلة لماحة الى القلق الذي تعيشه. فهي تنتظر الحب ولكن العمر يمضي. لم تستوقفها كثيراً الاشياء باستثناء الساعة. والساعة تصبح الهاجس الذي يجسد الرغبة بايقاف الزمن والامساك بالجمال فلا يتغير!

إن الاحساس بالزمن وتقدم العمر قد أصبح "فكرة مرعبة في أعماقها". تسعى للتغلب عليه من خلال الاهتمام بذاتها وجمالها. إنه ليس مجرد الخوف من الزمن ، بل هو في جوهره الخوف من الموت. لهذا يتكرر ذكر لحن الرجوع الاخير عدة مرات قرب النهاية في اشارة الى الحب الذي مات للدلالة أن الخوف من الموت صار هاجساً قاتلاً. لذلك لم تستطع التخلص منه وأسرعت تشتري ساعة جديدة. ست ساعات ترمز الى قصص الحب الفاشلة التي مرت بها. ست ساعات توحي بقصة خلق الكون في ستة أيام.. ست ساعات تمثل الحواس الخمس وسادسها الحدس. إن احساسها بالزمن وخوفها من الموت قد أصبح يشغل ويؤرق كل حواسها. القصة تربط دقات الساعة بخفقان القلب. انها الحياة تدور الى نهاية محتومة. وحتى عندما قررت خلع الساعات فقد بقي الاحساس الرهيب بهروب الجمال وفرار اللحظة الآنية قوياً في أعماقها.

الساعات هي محور القصة. الساعات رمز العمر الذي يمضي ويهرب منا سريعاً بلا توقف. وهي ترمز الى رغبة المرأة العارمة في تخليد العمر عند لحظة معينة، واهتمامها المفرط بمظهرها ولباسها هو دلالة على رغبتها في تخليد الجمال عند لحظة معينة فلا يزول والامساك بالزمن الهارب كي يقف. تستحضر فكرة القصة بشكل غير مباشر حلم بيجماليون الذي خلده في نحته لتمثال جالاتيا. تلك المرأة والمثل الأعلى في الجمال التي وقف الزمن عندها فلا تموت. لكنها تبقى جامدة بلا روح فيضجر منها، ويدعو الآلهة أن تدب فيها الروح. ولما تخرج للحياة يعمل فيها الزمن فعله. يبدأ جمالها بالتبدل والعمر بالرحيل. فينفطر قلب بيجماليون من الحزن. كما تستحضر في الذهب باسلوب غير مباشر محور رباعيات الخيام التي تدعو الى الاستمتاع بالحب والجمال والحياة ومتع الدنيا ما دامت هناك حياة في الجسد ، فغداً ينتهي كل شيء. ويشير بحثها عن الساعة السابعة الى فكرة سبع ساعات كرمز لأيام الاسبوع. بل هي رمز العمر كله. هي رمز الكون.

القصة في غاية الجمال النابع من أن البحث عن الحب والسعادة والخلود هو هاجس الانسان الاول. وأن الانسان وان استطاع تخليد الجمال بالفن الا أن الزمن يقهر الحياة. فلا أحسن من رحلة اكتشاف الذات ولكن من المهم أن نقبل أنفسنا بعد ذلك.
لغة القصة تمتاز بأنها قصيرة سريعة تناسب ايقاع الزمن الهارب. ابدعت المؤلفة في استخدام رمز الساعة..وتكرار صوت تك تك عددا من المرات لتعميق الفكرة.

أتطلع الى المزيد من ابداع د. هند أبو الشعر


الساعات
قصة قصيرة
بقلم د. هند أبو الشعر


انتهت من تصفيف شعرها ، تطلعت إلى المرآة برضى ، أفرحتها الألوان الربيعية الدافئة ، فتفقدت وجهها ، تحس بأنها تمتلك يد فنانة مدهشة ، وهي ترسم العينين بدقة ، تتأمل الوشاح المزركش ، حريري مترف ، يرف قلبها لملمسه ، وتستذكره معها في (حلب) كانا معا ،يسيران في الشوارع القديمة ، استوقفته بلهفة ، أمسكت بالوشاح المعلق على الواجهة ، ابتسم ، أحست بأنه يريد أن يشتري لها (حلب) كلها ، وسرعان ما لفت عنقها بالوشاح ، سارا معا ، وصباح حلب الوديعة يصاحبها إلى (القلعة) انبعثت رائحة العطر من الوشاح ، وتذكرته من جديد..

- سأراه اليوم بعد أن أنتهي من الدوام..

صرخت كالملسوعة:- اللعنة.. حان موعد الدوام

لملمت الأشياء بسرعة ، الخاتم ، والقراط ، فضياتها الجميلة، زفرت وهي تبحث عن ساعتها: يجب أن تكون فضية.. ؟ توقفت وهي تستخرج علبة الساعات.. ساعاتها كثيرة.. كثيرة ، تريد الساعة الفضية.. الساعة الفضية فقط.. كومت الساعات أمامها.. واحدة ،اثنتان.. ستا.. ست ساعات.. .. ؟

- ما اغباني.. لماذا كل هذه الساعات.. ؟؟ قرصها الخوف فجأة ، انبثقت فكرة مرعبة في اعماقها ، ارتعشت وهي تتذكر أن كل هذه الساعات تدق حولها ، تدق حول معصمها.. تدق في قلبها ، تضخ الدم.. وانها تحسب الزمن.. نعم الزمن.. أي زمن.. أي زمن.. ؟

قالت بنبرة خائفة:- يا إالهي ، لم يسبق لي أن فكرت بهذا الأمر.. نعم ، إنها تحسب الزمن.. ؟ قررت فجأة بأنها ستتجاهل الساعات ، وأنها لن ترتدي الساعة الفضية ،وأنها قد تهدي ساعاتها لصديقاتها.. ؟

حملت حقيبتها ، كان صوت الدقات المتتالية يلاحقها.. تك.. تك.. تك.. ست ساعات ، يا للقسوة.. ست ساعات تعد الزمن وتلاحقها، تذكرت ان في غرفة نومها ساعة ، وفي الصالة ساعة ، وفي السيارة ساعة،وفي ساحة الجامعة ساعة ، وفي الساحة العامة ساعة كبيرة.. وعلى كل معصم ساعة تراه أمامها ساعة.. شعرت بالخجل يتملكها وهي تتذكر ان هناك أناسا لا يملكون ساعة واحدة ، وأنها نموذج بشع للانانية.. ؟ - ست ساعات ، وغيرك لا يملك ساعة واحدة.. ؟ - أنت شريرة ؟ - أنت .. ؟

سارت بعصبية قطعت الصالة، طرقات حذائها موسيقى جنائزية ، لاحقتها دقات ساعة الصالة.. تك .. تك.. تك.. اختلطت بموسيقى خطواتها ، ارتعشت.. هل هذا هو لحن الرجوع الأخير ؟؟اندفعت بسرعة ، قررت أن تغلق باب الحديقة ، أن تصفقه ليتغير صوت لحن الرجوع الاخير ، وفتحت باب سيارتها ، ألقت حقيبتها على المقعد المجاور ، صاحبتها الساعة المثبتة أمامها.. تك.. تك.. تك؟- اللعنة.. متى ستوقف عن حساب الزمن الباقي.. متى.. ؟

أدارت المحرك، سارت بسرعة جنونية، توقفت فجاة ، نزلت من سيارتها ، ووقفت بذهول أمام واجهة المعرض المضاءة ، كانت بالساعات من كل الأحجام والأصناف ، صرخت كل الساعات في المدى تك.. تك.. تك.. تك.. عزفت كل الساعات لحن الرجوع الاخير.. ابتسم الرجل الواقف أمام الواجهة بفرح ، كأنه لا يصدق أنه يبدأ البيع في هذه الساعة المبكرة.. قالت باستسلام :- اريد ساعة.. أريدها حالا.. أرجوك.

* من المجموعة القصصية " الوشم "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق