الثلاثاء، مايو 27

عجوز فوق الجسر


عجوز فوق الجسر

قصة: ايرنست همنجواي
ترجمة وتقديم: اياد نصار

لقد إستوحى الروائي وكاتب القصة القصيرة الامريكي الشهير ايرنست هيمنجواي أغلب قصصه ورواياته من واقع الاحداث والاماكن التي خدم بها وأحبها وارتبط اسمه بها. ومن مصادفات القدر أنه عاش الحربين العالميين الاولى والثانية والتي أثرت تأثيرا مباشرا على حياته وأدبه وفلسفته في الحياة. أحب عالم الصحافة فاصبح مراسلا صحافيا وهو في سن الثامنة عشر بعد تخرجه من المدرسة مباشرة. لقد اراد التطوع في الجيش في الحرب العالمية الاولى ، ولكنه فشل بسبب ضعف بصره، فالتحق كسائق عربة اسعاف مع الصليب الاحمر في أوروبا على الجبهة الايطالية حيث اصيب في ساقه مما اضطره للعمل في المستشفى. كما أقام في باريس فترة من الزمن وارتبط اسمه بما عرف انذاك ب" الجيل الضائع". وبعد الحرب عاد الى الولايات المتحدة حيث بدأ بكتابة اولى قصصه ورواياته والتي توجت بروايته "وداعا للسلاح". ثم عاد مرة أخرى الى اسبانيا في ثلاثينات القرن العشرين ليكون مراسلا صحافيا خلال فترة الحرب الاهلية الاسبانية. وعندما انتهت الحرب بدأ بكتابة روايته "لمن تقرع الاجراس". ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية فقد شارك بها. كان يعشق الثقافة الكاتالونية وأقام في برشلونة وفي أماكن أخرى من اسبانيا كمدريد. ولكن حبه لحلبة مصارعة الثيران لم يكن له حد.

كان شديد الانتباه الى التفاصيل الدقيقة لتلك الامكنة التي عاش بها واستوحى منها أغلب أعماله. كما سيطرت أجواء الحرب على العديد من أعماله. كانت رواية "الشيخ والبحر" التي نال بسببها جائزة نوبل للاداب عام 1954 تتويجا لمسيرته والتي عكست الروح الانسانية التي تقهر المستحيل وتتحدى القدر لينتصر الامل بالحياة وينتصر معه الانسان. فالامل والتصميم هما اساس قوة الانسان الذي تكاد تقهره الظروف ويعانده الحظ ويشعر بالخوف والعزلة فينكفيء على نفسه منبوذا. فكانت الشيخ والبحر هو الامل واستمرار الحياة كرد على الدمار والاضطراب الذي اصاب المجتمعات الغربية نتيجة الحرب العالمية.

امتاز باستخدام لغة رشيقة تميل الى الاختصار والبساطة في قصصه القصيرة ورواياته، فكانت مواضيع البشر العادية اليومية تثير اهتمامه، فكيف عندما تكون في ظروف الحرب كما يظهر من القصة التي اخترتها (عجوز فوق الجسر). وبرغم بساطة الاحداث والحوار، الا أن هيمنجواي وظف التفاصيل الصغيرة للاحداث كالحيوانات مثلا لاضفاء ابعاد رمزية ، كما اعتمد دائما في قصصه ورواياته اسلوب الحوار المباشر البسيط بشكل مكثف لتحديد ملامح شخصياته وهمومها لنقل اشارات ضمنية عن المغزى الاكبر للقصة. وفي كل اعماله ركز على المعاناة الانسانية بصورها المختلفة.

ولد عام 1899 وتوفي منتحرا عام 1961 .

القصة:

على جانب الطريق جلس رجل عجوز مغبر الثياب، يلبس نظارة ذات اطار معدني، وكان هناك عربات تجرها الدواب وشاحنات ورجال ونساء وأطفال يعبرون الجسر العائم الذي أقيم فوق النهر.

كانت العربات التي تجرها البغال تترنح صاعدة الضفة الشاهقة من الجسر، والجنود يدفعونها ويمنعونها من التقهقر، والشاحنات تصعد متحركة للأعلى بضجيجها المزعج.. ثم تبتعد حتى تتلاشى.. وكان الفلاحون يعبرون بتثاقل قد هدَّهم التعب، وغطى التراب والغبار أقدامهم. لكن الرجل العجوز جلس هناك وحده دون حراك فوق الجسر.. كان منهكا من التعب فلم يعد قادراً على المسير.

كان واجبي أن أعبر الجسر، وأتفقده من الامام والخلف، واستكشف الى أي حد قد تقدم العدو.. وقد قمت بذلك وقفلت عائدا فوق الجسر.. في ذلك الوقت كانت العربات التي تجرها الدواب قد قلّت.. ولم يبق سوى أعداد بسيطة من اؤلئك الماشين على أقدامهم.. لكن الرجل العجوز كان ما يزال جالسا هناك.

اقتربت منه وسألته: من أين أتيت؟

- من سان كارلوس. أجاب وقد ندت عنه ابتسامة.

كانت تلك بلدته الاصلية .. شعر بالسرور والفخر وهو يذكرها فكانت الابتسامة. واضاف قائلا: لقد كنت أعتني بالحيوانات.

- أوه.. قلتها ولم أفهم تماما مقصده.

- نعم ، وأضاف "لقد عشت عمري فيها كما ترى أرعى الحيوانات.. كنت آخر شخص يترك سان كارلوس.

لم يكن يبدو عليه أنه راعٍ. فقلت وأنا أنظر الى ملابسه الرثة السوداء تنوء بالغبار الذي عليها ووجهه الرمادي والنظارت ذات الاطار المعدني التي علاها الغبار أيضا:

- أية حيوانات كانت؟

هز رأسه وأجاب: حيوانات مختلفة. اضطررت لتركهم.

كنت أراقب الجسر والريف ذي الملاح الافريقية الذي يضم مصب نهر" ايبرو"، وتساءلت في نفسي متعجبا كم يا ترى سيطول بنا الوقت حتى نقابل العدو.. وكنت طوال الوقت أصغي بانتظار الصرخات الاولى.. الصرخات التي تقول أن حدثا رهيبا غامضا قد بدأ اسمه المواجهة.. والرجل العجوز ما زال جالساً هناك.

سألته ثانية: أية حيوانات كانت؟

- كان هناك ثلاثة حيوانات معاً.. عنزتان وقطة، وفيما بعد أصبح هناك أيضا أربعة أزواج من الحمام.

- صار عليك أن تتركهم الان.. أليس كذلك؟

- نعم.. بسبب المدفعية.. لقد أخبرني القائد أن علي أن أرحل بسبب قصف المدفعية.

- أليس لديك عائلة؟ سألته وأنا أراقب الطرف البعيد من الجسر حيث كانت عربات معدودة باقية تغذ المسير مسرعة، وهي تنزل الطريق المنحدرة الى الضفة الاخرى.

- كلا.. وأردف قائلا: فقط الحيوانات التي ذكرتها.. القطة بلا شك تستطيع أن تعتني بنفسها وأن تجد ما تأكله! لكنني لا أستطيع أن أتخيل ماذا يمكن أن يقع للاخرين.

- ما هي سياستك؟

- إنني بدون سياسة.. قد بلغت السادسة والسبعين من العمر، ولقد مشيت حتى وصلت هذا المكان الان آثني عشر كيلومترا، وأعتقد أنه لم يعد بمقدوري أن أذهب أكثر من ذلك.. تعبت

- لكن هذا المكان غير جيد للتوقف فيه.. من الافضل أن تغادره. ان هناك بعض الشاحنات على الطريق تستطيع أن تقلك الى "طرطوشة"

- سانتظر هنا لبرهة قصيرة ثم أذهب.. اين تمضي هذه الشاحنات؟

أجبته: نحو برشلونة.

- لا أعرف أحدا بذلك الاتجاه.. وعلى كل حال انني اشكرك كثيرا.. شكرا جزيلا مرة اخرى

نظر الي مشدوهاً، قد خلا وجهه من أي تعبير، وقد ارتسمت عليه امارات التعب.. وقال كمن يود أن يشاركه شخص ما في محنته: القطة ستكون بخير، انني متأكد، لا داعي للاضطراب بشأن القطة. لكن الاخريات. ماذا تظن بشأن الاخريات؟

- لماذا؟ من المحتمل أن يخرجوا من الحرب سالمين!

- أنت تظن ذلك؟

- لم لا؟ أجبته وكنت لا أزال أراقب الجهة البعيدة من الجسر حيث لم يتبق هناك أية عربة

- ماذا سيفعلون تحت قصف المدفعية اذا كنت أنا قد أبعدت بسببها؟!

- هل تركت باب قفص الحمام مفتوحاً؟

- نعم

- إذن ستطير.

- نعم .. بالتأكيد ستطير .. لكن الباقي. ويبدو أنه من الافضل الاّ أفكر بالباقي!

قلت وانا استعجله على الانصراف: اذا استرحت سأذهب. وتابعت بإلحاح: انهض وحاول أن تمشي الان.

- شكرا.. قالها وهو يقف على قدميه ويتأرجح من التعب والكبر من جهة لأخرى.. ثم انحنى للخلف وجلس مرة أخرى في الغبار، وقال بخمول: لقد كنت أعتني بالحيوانات. وما لبثت أن سمعته يستدرك: لقد كنت أعتني بالحيوانات فقط.

لم يكن هناك ما أستطيع فعله من أجله. كنا في يوم عيد الفصح والفاشيست يتقدمون نحو "ايبرو". كان يوما كئيبا ملبدا بالغيوم الكثيفة التي تراكمت على ارتفاع منخفض، فلم تظهر طائراتهم في السماء.

كان ذلك اضافة الى حقيقة أن القطط تعرف كيف تعتني بنفسها هو حسن الحظ الوحيد الذي يمكن أن ينتظر ذلك الرجل العجوز!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق