الجمعة، ديسمبر 3

سؤال فينكلر.. رواية كوميدية لكن خطيرة


فازت بجائزة البوكر للرواية البريطانية لهذا العام

تحدثت عن حماس ومنظمة التحرير وحزب الله
سؤال فينكلر.. رواية كوميدية لكن خطيرة

إياد نصار
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور يوم الجمعة 3/10/2010

أثارت رواية «سؤال فينكلر» The Finkler Question للروائي البريطاني اليهودي هوارد جاكوبسون الاهتمام منذ لحظة إعلان فوزها في شهر تشرين أول الماضي بجائزة مان بوكر للرواية المكتوبة بالانجليزية لعام 2010 ليس في الصحافة العالمية فحسب، وإنما في الصحافة العربية أيضاً لعدة أسباب: لم تكن الرواية في عداد التوقعات الأوفر حظاً بالفوز، وخاصة أن الروايات الست التي تأهلت الى القائمة القصيرة التي تسبق الاعلان عن النتيجة النهائية، اشتملت على روايتين، كان الفوز متوقعاً لإحداهما، وهما "سي" للروائي البريطاني توم مكارثي، و"الببغاء وأوليفيه في أمريكا" للروائي الاسترالي بيتر كاري. ولم تحظ رواية "سؤال فينكلر" بموافقة جميع أعضاء لجنة التحكيم الخمسة، حيث صوّت ثلاثة لصالحها فقط.

وكانت هذه أول مرة تمنح الجائزة لرواية كوميدية منذ أن مُنحت الجائزة لأول مرة عام 1969، مع أن رواية "الشياطين الكهول" للبريطاني كينغسلي آميس والتي فازت بالبوكر في عام 1986 كانت تتسم بروح فكاهية. تتناول الرواية مسألة "اليهودية" كدين وكشخصية في إطارها التاريخي والسياسي، وتركز على المشكلات الثقافية والعرقية والاجتماعية التي ترتبط بمسألة أن تكون يهودياً في بريطانيا، من خلال حوارات شخصياتها الطويلة والمملة أحياناً، والتي تأخذ قسطاً كبيراً يعوّض عن قلة الحدث في الرواية. لم تتطرق الصحافة الغربية التي غطت أخبار فوزها الى الجانب السياسي المرتبط بفلسطين، والنضال الفلسطيني، والنظرة الى الصراع مع الصهيونية، ومقاطعة اسرائيل، وما يسمى بمعاداة السامية، وقصرت الحديث عن أزمة الهوية بالنسبة الى الشخصية اليهودية في بريطانيا، بينما انقسمت بعض الصحف العربية حيالها، بين من رآها تشن حملة شعواء على الصهيونية بفضل النقد الشديد الذي تنطوي عليه على لسان بعض شخصياتها، وبالتالي رأت أن كاتبها معادْ للصهيونية، وبين من عدّ الكاتب صهيونياً. وبرأيي فإن كلا الموقفين لم ينطلقا من قراءة تأملية تعاين مضمون الرواية، وإنما اعتمدا على تاريخ الكاتب، ومواقفه، وبعض المقتطفات التي وردت في الصحف الاجنبية أثناء التغطية. وفي بعض الاحيان اختارت صحف أخرى طريقاً أسلم من "وجع الراس" في نقل الخبر كما هو، مع إغفال كل ما يتعلق بالجانب اليهودي، وهو ما انتقدته "فيروز التميمي" في تعليقها الاسبوعي في "الدستور" في الشهر الماضي.

تقع الرواية التي صدرت هذا العام عن دار نشر بلومزبري في بريطانيا في 320 صفحة، تقسم الرواية الى قسمين رئيسين وخاتمة قصيرة للغاية. يتكون القسم الاول من خمسة أجزاء، والثاني من ثمانية.

يبدو أن المؤلف شرع في كتابة الرواية في بداية عام 2009، حيث يرد فيها كثيراً ذكر غزة، والحرب على غزة، أكثر من أي شيء آخر يرتبط بفلسطين وتاريخ القضية الفلسطينية. كما تعكس الرواية، وبكثير من القلق لدى أبطالها في حواراتهم، ما رافق الحرب من احتجاجات عالمية واسعة النطاق، ودعوات انطلقت من أماكن مختلفة ومطالبات من شخصيات أدبية وأكاديمية بمقاطعة اسرائيل.

تتحدث الرواية عن حياة أبطالها الثلاثة وهم: إثنان من الرجال الأرامل اليهود، صمويل فينكلر وليبور سيفشيك، ورجل انجليزي يعد نفسه "أرملاً فخرياً" بينهما، اسمه جوليان تريسلَفْ، لأنه يعيش بمفرده بعد أن هجرته النساء اللواتي أحبهن في حياته، وخاصة جوزفين وجانيس، اللتين أنجبتا منه ولدين، ألفريدو ورودلفو، رغم أنه لم يتزوج منهما. تفتتح الرواية بصوت الراوي يتحدث بضمير الغائب عن تريسلف الذي "كانت حياته سلسلة من فشل الى آخر". رجل متشائم يعيش أزمة الفقدان والوحدة، ويحاول أن يجد لحياته معنى من خلال التعرف على "اليهودية"، فيدخل في عالم الأقليات الدينية، وما يكتنفه من خوف وتشبث بالهوية، ويبدأ يعيش الصراعات السياسية التي تجري بين أتباعها، وكما يقول الراوي في افتتاحيتها: "رأى الاشياء آتية لا محالة. ليس هواجس غامضة قبل النوم وبعده، لكن مخاطر حقيقية قائمة في وضح النهار" في إشارة تحضّر القارئ نفسياً لكي يدرك المخاطر والتهديدات، التي تظل الشخصيات اليهودية الأخرى تعبّر عنها، والتي تعتقد أن اليهود يواجهونها في المجتمع البريطاني خاصة، أو في العالم عامة، فيتعاطف معهم، لأنهم، كما يزعمون، ضحايا يدفعون ثمن ما يجري في مناطق أخرى مثل غزة.

تمتاز لغة السرد بتوظيف الكوميديا والسخرية في كثير من المواضع، وخاصة في أثناء الحوار. يُظهر الموقف التالي بين عشيقتي تريسلف الجو الفكاهي الساخر الذي يسيطر على حوار الشخوص في الرواية، أو يصبغ السرد حينما يعلّق الراوي على تصرفات الشخوص وقناعاتهم وأحاديثهم. قالت جوزفين تخاطب جانيس: "أستطيع أن أتفهّم أن يذهب الى امرأة سمراء لديها ثديان كبيران وفخذان مستديران وذات مزاج لاتيني ناري، ولكن ماذا كان يظن أنه يرى فيك ما لم يجده لديّ؟ فكلتانا بقرة أنجلو سكسونية ممصوصة الجسد". لم يكن تريسلف البالغ تسعة وأربعين عاماً سعيداً في عمله مقدمَ برامج لسنوات طويلة في هيئة الاذاعة البريطانية البي بي سي، وتدل سيرة حياته العملية في الاذاعة أنه ظل شخصاً هامشياً يشعر بالعزلة والاغتراب، وقد عبّر في كتاب استقالته عن تساؤل مرير: "هل سيشعر أحد بغيابي إذا توقفت عن الحضور؟" بعد أن ترك البي بي سي، عمل في عدة وظائف مختلفة، ما كان يوحي للنساء بأنه يحب التغيير والمغامرة، حتى يكتشفن لاحقاً أن الحقيقة غير ذلك، فكنّ يتهمنه بالملل وخنق إبداعهن، ويتركنه من غير تمهيد أو رسالة. لذا نجد في نهاية الرواية أن صديقته اليهودية "هيفزيبا" التي تعلق بها كثيراً، وصار يعدّ نفسه يهودياً نتيجة تأثيرها وتأثير أصدقائه الآخرين عليه، قد تركته دون أن تترك له كلمة.

كانت حياته سلسلة من الخسارات، وانتهت كل علاقاته بالفشل الذي حطم استقراره النفسي. وجد تريسلف في اللقاءات المتكررة بأصدقائه فينكلر وليبور ضالته المفقودة. ورغم الاختلافات بينهم في السن، والوظائف، والأفكار إزاء المرأة، أو الزواج أو الدين أو السياسة أو حتى نظرتهم الى أنفسهم، فقد جمع بينهم عامل أقوى هو الشعور بالحرمان.

على صعيد الحدث، تفتتح الرواية حبكتها بعودة جوليان تريسلف ذات ليلة من عشاء مع صديقيه فينكلر وليبور الى البيت في لندن، وقد أراد أن يتمشّى في طريق العودة، لكنه تعرض لإعتداء من قبل امرأة مجهولة، تهجم عليه، وتسلبه هاتفه الخلوي ومحفظته، وساعته، وتدفعه الى واجهة محل للموسيقى يبيع الكمنجات، حتى تهشم الزجاج.

شكلت الحادثة محور اهتمام تريسلف طيلة الرواية، وصارت هاجساً وانشغالاً يومياً بالنسبة له، تغيرت معها حياته بعدها الى الأبد. يتناول الراوي تفاصيل الحادثة، مثلما يفعل في أكثر المواقف الجادة، بروح الكوميديا. يتحرق تريسلف لمعرفة من قامت بها، ولماذا هاجمته، وهل قصدته هو، أم أنها ظنت أنه يهودي، أم كانت مأجورة من جهة ما لتنفيذ ذلك. بقيت كل هذه الاسئلة بلا إجابات. كان الشيء الوحيد الذي قالته المرأة عندما هاجمته "أنت جو".. وظل يحلل هاتين الكلمتين.. هل كانت تقصد أنت جوليان؟ أم كانت تقصد أنت يهودي "تُلفظ كلمة يهودي في الانجليزية جو". وهكذا راح يربطها باليهود، واستنتج أن لها صلة بالغضب الشعبي على مستوى العالم ضد اسرائيل نتيجة الحرب على غزة. تتضح خطورة تحليلات تريسلف حين يتم ربط حادثة اعتيادية، يمكن أن تقع لأي انسان بفكرة العداء لليهود أو كما تسميه الرواية "معاداة السامية"، لإثارة التعاطف مع اليهودي الضحية.

أما ليبور سيفشيك، فهو أرمل يهودي أصله من التشيك، في حوالي التسعين من عمره، ترك بلاده في عام 1948 هرباً من القمع الشيوعي. وانتهى به الأمر في بريطانيا معلماً لتاريخ التشيك في المدارس، وهي مهنة كان يمقتها. "يعلم سخافات تاريخ التشيك الى طلاب المدارس الانجليز في إحدى مدارس شمال لندن الحكومية. إذا كان هناك من شيء أكثر سخفاً من تاريخ التشيك فإنه تاريخه هو". ترك ليبور التدريس والتحق في دائرة التشيك في البرنامج العالمي لهيئة الاذاعة البريطانية نهاراً، وكان يكتب في الصحافة عن حياة نجمات هوليوود وإشاعاتهن ليلاً.

كان ليبور متزوجاً لمدة تزيد على نصف قرن من امرأة اسمها مالكي. كانت مالكي هوفمانسذال تحب الموسيقى، وكانت عائلتها تتوقع لها أن تكون عازفة كونشيرتو مشهورة لولا زواجها منه. وإذا كانت الرواية تقرن جمال مالكي ورائحتها بالروائح العطرة للجزيرة العربية، وإذا كانت الرواية لا تهاجم العرب بشكل مباشر، كما اعتدنا في بعض الروايات ذات الميول الصهيونية، إلا أن هناك صوراً وتشبيهاتْ سلبية للعربي وردت في أكثر من موضع ما بين نموذج شره الى إرهابي أعمى. ففي حوار بين ألفريدو ورودلفو حول إن كان والدهما يهودياً، تتدخل جوزفين قائلة: "لا يمكنك أن تكون يهودياً أبداً اذا اعتمدت على أبيك وكان عربياً كبير الجثة وله أسنان ذهبية". وقالت جانيس: "اصمتوا" وهي تحذرهم بنظرات عينيها، فقد كانوا في مطعم لبناني.

تعبّر مواقف ليبور عن توجهاته اليهودية اليمينية التي تؤمن بالمشروع الصهيوني. ولا يرى أي عيب في ممارسات اسرائيل ضد الفلسطينيين: "إن أغلب ما يقوله نقاد اسرائيل عنها هو عملياً ليس عنها"، أما الشخصية الرئيسة الثالثة والاكثر حيوية وإثارة للجدل بسبب آرائها الجريئة في النقد السياسي والثقافي والديني فهو صمويل فينكلر الذي غير اسمه الى سام فينكلر، والذي توفيت زوجته تايلر بشكل مفاجيء، ما "جعله أكثر غضباً من كونه حزيناً". حدثت خلافات بين سام وتايلر، وكانا على طرفي نقيض من موقفهما من اليهود، واسرائيل. كانت تايلر تبدو دائماً منطوية وكتومة بعض الشيء. ونعرف فيما بعد، أنها قبل وفاتها، كانت على علاقة جنسية حميمة مع تريسلف. والآن، كما يؤكد السارد، فإن أسرارها قد دفنت معها.

كان تريسلف وفينكلر زميلين أثناء الدراسة. ولكن في أكسفورد تخلى فينكلر عن انتمائه الصهيوني نهائياً. تقدم الرواية وعلى نحو ذكي وفكاهي الصورة النمطية السلبية التي كان يحملها تريسلف عن اليهود قبل أن يتعرف على فينكلر، وتبرزها على أنها نموذج لما يحمله الاخرون، وحتى المثقفون منهم، عن اليهودي، ما يضع القارئ في موقف التعاطف ورفض الصورة النمطية.

يشكل نموذج فينكلر نقيض ليبور في كثير من آرائهما السياسية، ومواقفهما من اسرائيل، والصهيونية، وحتى اليهود أنفسهم، ويبقى الصراع بينهما محتدماً طيلة الرواية. يمثل فينكلر اليهودي الذي يكره الصهيونية كرهاً شديداً، ويكره إسرائيل، ويرفض الاعتراف بها، ويمقت ممارساتها ضد الفلسطينيين، ويتفهم أسباب العداء ضدها، وضد السامية.

التحق فينكلر بمجموعة من الاكاديميين اليهود الذين أطلقوا على أنفسهم تأثراً بأفكاره اسم اليهود الذين يشعرون بالخجل، أو "اليهود الخجلين". كانت الحركة ذات أطياف مختلفة تشمل يهودا يخجلون من الصهيونية. وكان فينكلر عضواً قيادياً وفاعلاً في الحركة. لا يخلو حديث الراوي عن أعضاء المجموعة من التهكم نتيجة هذه التوليفة الغربية في النشأة والدوافع، ويضرب مثالاً على أحدهم الذي اكتشف أنه يهودي فقط من خلال البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، وفي آخر مشهد في الفيلم يظهر وهو يبكي عند نصب الضحايا في معسكر الاعتقال النازي في اوشفيتز على أجداده الذين لم يعرفهم. يقول الراوي: "لقد ولد يهودياً يوم الاثنين، وأصبح عضواً في اليهود الخجلين يوم الاربعاء، وشوهد وهو يهتف "نحن كلنا حزب الله خارج السفارة الاسرائيلية في يوم السبت"، غير أن القارئ يكتشف أن هناك جانباً خفياً خطيراً يتمثل في أن هذا الصوت اليهودي المعارض يتم تصويره وكأنه ملاك العدالة الذي يبحث عنه الجميع، يقول الراوي: "لقد احتاجته الحركة، واحتاجه الفلسطينيون، واحتاجه نادي غروشو [النادي الذي كانوا يعقدون فيه لقاءاتهم]"، أدرك فينكلر وتريسلف أنه عندما يتكلم ليبور عن اسرائيل، فإن الهدف من كلامه، هو حقن الناس بحقيقة وجودها، أكثر من الرغبة في العيش فيها. وعندما ينطق بكلمة اسرائيل، فإن صوت الراء يخرج "كما لو أن في الكلمة ثلاثة حروف مشددة، ويسقط حرف اللام، لكي يشير الى أن المكان يخص الله". وفي المقابل، لم يسمح فينكلر لنفسه أن يستخدم كلمة اسرائيل أبداً. "لم يكن هناك اسرائيل. كان هناك فقط فلسطين. بل لقد سمعه تريسلف يقول في مناسبات إنها بلاد كنعان. كان سام فينكلر يبصق الكلمات المرتبطة باسرائيل مثل صهيوني، وتل أبيب، والكنيست كما لو أنها كانت لعنات".

يقدم الراوي الكثير من الاراء والتحليلات النفسية والدينية والتاريخية والسياسية في معرض سرده، أو تعليقه على الشخصيات، ما يلقي الضوء على تفكير الشخصية كما يراها، والاسئلة التي تدور في ذهنها، ويمارس الراوي في كثير من الاحيان دوره السردي بنبرة تعليمية حيث يقحم وجهة نظره وتفسيره لما يجري بشكل واضح. لكن ميله المفرط للتعليق والتحليل يجعله يبدو أحيانا كأنه مجرد واجهة يختبئ المؤلف خلفها، يضع الكلمات في فمه، لكي لا يترك للقارئ فرصة أن يرى الشخصية كما يحسها ويفهمها، بل كما يريدها المؤلف.

ومثلما يختلف فينكلر مع ليبور حول الموقف من اسرائيل، والشعور بالخجل إزاء ممارساتها، فإن الامر ذاته ينطبق على نظرة كل منهما الى ما يسمى في الصحافة الغربية بمعاداة السامية. يتهم ليبور فينكلر بأن أصدقاءه معادون للسامية، لكن فينكلر ينفي، ويفضح منطلقات ليبور بقوله: "أي يهودي ليس من النمط الذي تريده تعده معادياً للسامية. إن هذا سخف وعمل شرير".

ومن جهة أخرى، التقى ليبور بامرأة يهودية لم يرها منذ نصف قرن تدعى ايمي اوبنشتاين بعد حادثة وقعت في لندن لحفيدها الشاب الذي تعرض للطعن في الوجه وفقدان البصر، على يد رجل جزائري كان يصيح بالعربية "الله أكبر"، و"الموت لليهود". تستغرب المرأة كيف يكون فقدان بصر حفيدها مبرراً بما حصل في غزة. وترى أن الناس لا يحتاجون الى سبب لكي يكرهوا اليهود.

يتضح من الحوار بينهما ومن تدخلات الراوي الكثيرة، والتي تبدو، في معظم الاحيان، مقحمة على النص لدفع الأمور باتجاه معين، والايحاء للقارئ بتفسيرات معينة أو ترسيخ مواقف في ذهنه، أن هناك ايحاءً بأن كراهية اليهود عادت من جديد، وأن العداء متأصل منذ قديم التاريخ. وهكذا تصبح أفعال اسرائيل والجرائم التي ارتكبتها في غزة في الظل، بينما حادثة الاعتداء على الشاب هي القضية الأهم، كما أن الرواية لا تتطرق الى ما جرى في غزة الا مروراً عارضاً في سياق الاحداث في المرات كلها التي ذكرت فيها، بينما تصبح هذه الحادثة وكل حوادث "معاداة السامية" هي بؤرة الاهتمام.

إن الاسلوب المسهب في الشرح الذي كتبت به بعض نصوص الرواية، والذي يصل حد استخدام النقاط الفرعية المرقّمة للتعبير عن موقف فكري، يبين طبيعة الأسلوب الذي يهيمن على الرواية، وتشعر أن اللغة الأدبية قد توارت أحياناً، وتحول النص الى نص تقريري سياسي أو فكري.

ما يلفت النظر في الرواية وبشكل صارخ هو تقديم صورة مقارنة متحيزة تقوم على ابراز الديمقراطية لدى الجانب اليهودي والايمان بالحوار رغم الاختلاف، ونقيضها أو غيابها لدى الجانب العربي والمسلم. فبرغم انتقادات فينكلر المريرة والساخرة للصهيونية ولاسرائيل، وشعوره بالخجل منهما، وعدم الاعتراف باسرائيل أو حتى ذكر اسمها، إلا أنه لم يكن يخشى من ردة فعل اليهود المؤيدين، ولم يكن يكترث من الانتقام منه، بل ظل يحاورهم دون أن يبدو أن هناك أي خطر يمكن أن يلحق به نتيجة ذلك، بينما ركزت الرواية على إظهار ردة الفعل العربية والاسلامية من خلال التهديدات التي يتعرض لها اليهود في لندن.

يتضح إصرار المؤلف على تقديم صورة زاهية عن الشخصية اليهودية المؤثرة في الاخرين انطلاقاً من موقفها الأخلاقي، من خلال دور فينكلر وبعض الشخصيات الأخرى التي تشاركه قناعاته. ويبدو لي أن للمؤلف هدفاً غير معلن يتمثل في إبراز وجه آخر جميل بشكل غير مباشر، رغم بشاعة الواقع وحجم الانتقادات للصهيونية واسرائيل في الرواية، والادانات الدولية للحرب على غزة. تدفع الرواية على نحو خفي ذكي باتجاه كسب التعاطف مع الشخصية اليهودية التي تصورها قادرة على إثارة الاعجاب، وتبييض الصورة التي تلطخت بالدماء والعار في مكان آخر.

يجب الاشارة الى أن هناك توافقاً بين مواقف المؤلف هوارد جاكوبسون التي يعبر عنها في مقالاته التي ينشرها في الاندبندنت بخصوص رفض مقاطعة إسرائيل، وآراء فينكلر في الرواية. في أثناء نقاش مسودة بيان للنشر في الغارديان، يقول فينكلر: "غزة تحترق ونحن نتجادل حول ما نستطيع فعله، بينما في الوقت نفسه نشكو بأن قصف غزة بالصواريخ والقنابل لم يكن متكافئاً". غير أن هذا الموقف الرافض للحرب، والذي يرفض حتى الاعتراف باسرائيل ويظل يشير اليها باسم فلسطين، حتى صارت زوجته تناديه بتهكم يا "مستر فلسطين"، يبدو متناقضاً مع نفسه، حين يصل الامر الى المطالبة بمقاطعة إسرائيل دولياً. لا يؤيد فينكلر دعوات المقاطعة، وخاصة المقاطعة الثقافية الشاملة للجامعات والمؤسسات الاسرائيلية، ويعتبرها أقسى أنواع المقاطعة. وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه جاكوبسون في تصريحاته بهجومه على المطالبين بالمقاطعة.

من الشخصيات التي تتبنى مواقف متقدمة في نظرتها الى الأمور في الرواية هي الناطقة باسم الحركة تمارا كروسز، وهي تؤمن بأن على اليهودي أن يظهر أن كونه يهودياً، فهذا أمر لا يحمل التزاماً بالدفاع عن اسرائيل في وجه الانتقادات التي تثار ضدها. وبالنسبة لها، فإن النموذج الصهيوني هو إجرامي منذ البداية، وضحايا ذلك الاجرام ليسوا الفلسطينيين وحدهم، ولكن اليهود أيضاً في كل مكان.

لا بد من الاشارة الى أن الرواية تقرن بأسلوب غير عادل بين خطايا اسرائيل وأخطاء حماس، وتغفل أن ظروف الاحتلال وممارساته القمعية والحصار هي المسؤول الاول والاخير عن أية تصرفات تنتقدها المنظمات الانسانية الدولية، فظروف الحياة غير الطبيعية في القطاع كفيلة أن تفرز ممارسات غير طبيعية. تذكر تمارا بأنه خلال وجودها في فلسطين، فقد التقت بمجموعة من ممثلي حماس لتعبر عن قلقها من برنامج الأسلمة الاجباري، وحذرتهم أن من شأن ذلك أن ينعكس سلبياً على دعم حماس الذي تتطلع اليه من مجموعات متعاطفة في أوروبا وأمريكا.

ينتاب تريسلف قلق حينما كان شاهد يهودي ضخم الجثة يدخل ويخرج من الكنيس على دراجة نارية سوداء، وقد لفّ وجهه بكوفية منظمة التحرير الفلسطينية [كوفية فلسطينية هكذا يسميها]. وبينما ينشغل تريسلف بالتفكير في الكوفية، تتوارد أفكار الى ذهنه تعكس مدى التأثير الصهيوني عليه، الى درجة يظن فيها أن الكوفية، التي تشكل جزءاً من اللباس الشعبي الفلسطيني، ورمزاً من رموز النضال، يهودية في الاصل، لبس مثلها موسى وابراهيم، في تزوير لتاريخ فلسطين لم يسلم منه اللباس. كما يربط الكوفية بمنظمة التحرير وكأنها مجرد رمز حركي، التي يرى أنها ـ أي المنظمة ـ صارت "أقل ما يثير قلق إسرائيل".

يمارس الراوي، ومن خلفه المؤلف، لعبة ذكية خطيرة، فعلى الرغم من أن شخصية فينكلر أكثر جرأة على رفض الموروث، والخروج من سطوة المحرقة، وكل الأحداث والأساطير التي ترتبط بالتاريخ اليهودي، وأكثر قدرة على التحليل والنقد، وأكثر ذكاء وعمقاً، إلا أن الرواية تقدمه بصورة الرجل الذي لا يكترث لحب زوجته، ولا لمعرفتها بخياناته لها، ولا يهتم بذكراها بعد رحيلها، ولا يغضب لمعرفته بخيانتها، كما أن أفكاره المعادية لإسرائيل وللصهيونية، تبدو مدانة ومرفوضة بشدة من قبل الاخرين حوله، وحتى من قبل ولديه، ما يضعف من مصداقيته، ويحطم نموذجه الثوري المثالي، ويظهره بمظهر الشخص الشاذ أو الخارج عن السرب، يقول الراوي: "زوج سيء، أب سيء، مثال سيء، يهودي سيء، وفي كل الحالات فيلسوف سيء أيضاً".

وكجزء من مخطط الرواية في ابراز أن نموذج فينكلر هو مجرد نموذج وصولي قد ينسى كل شعاراته عند الحاجة، ومن أجل إفقاد نقاد اسرائيل المصداقية، فإن فينكلر يبدأ في التغيّر. فعندما جاء الى العشاء مع ليبور، كان هادئاً وغير راغب في الحديث عن إسرائيل، وذلك لأنه لا يريد أن "يخسر جولة محاضرات مدفوعة التكاليف بالكامل الى القدس وتل أبيب وايلات".

توضح الرسالة التي كتبتها تايلر قبل وفاتها أن هناك أهدافاً أخرى خلف نقد فينكلر الحاد، وهي أنه عندما ينظر الى اليهود في كل مكان، يرى أنهم يعيشون بحالة ليست أفضل من أي شعب آخر، وذلك يعني بالنسبة له أنهم سيئون جدا، وهو يعتقد أنهم يجب أن يكونوا متميزين على نحو استثنائي يجعلهم مثالاً للآخرين. وتنبع خطورة الرسالة من أنها رد ذو نبرة عدائية تهكمية على قناعات زوجها "الحكيم" كما تسميه، ومحاولة تبرير أفعال اسرائيل اللاأخلاقية. ينم مضمون الرسالة عن رفض صريح لفلسفته حول اليهودي النموذج الذي يحلم به.

في نهاية القسم الثاني للرواية ينسحب فينكلر من الحركة بسبب الخلافات وتنامي المعارضة لتأثيره الطاغي. وفي تلك الليلة في آخر الرواية يتحدث الراوي عن انبثاق الفجر، لكن عالم تريسلف وهيفزيبا لم يكن جيداً، وكان فينكلر يموت في أحلامه، ولم يصبح تريسلف يهودياً، فقد شعر أنه وصل نهاية طريق مسدود، ولذلك قال لهيفزيبا: "إن دينكم صعب. تظلون تميلون الى الغيبيات".

تنتهي الرواية بوفاة ليبور، واضطرار فينكلر أن يدخل الكنيس ليؤدي الصلوات على الميت، ويبدو أنه لن يتوقف عن أدائها بعد الثلاثين يوما حسب التقاليد، كما يرى الراوي، بينما مُنع تريسلف من تلاوة الصلوات لأنه ليس يهودياً، في انتكاسة لكل الافكار والاحلام والمشاريع التي كانوا يحملونها، ولهذا تختتم الرواية بقول الراوي: "لا حدود لحًداد فينكلر".

يبدو لي أن الظرف الدولي الذي أفرزته الحرب على غزة من تأييد ساحق للفلسطينيين، وإظهار الوحشية التي تتعامل بها اسرائيل مع مطالبهم في إنهاء الاحتلال، وما رافق ذلك من تظاهرات ضخمة، وربما بعض الاعمال العدائية تجاه بعض التجمعات اليهودية، جعل كثيراً من اليهود في العالم، ومنهم جاكوبسون يشعرون بالفزع تجاه العداء لليهود على نطاق واسع، وفي الوقت ذاته لم يعد ممكناً الدفاع عن ممارسات اسرائيل، وعن الافكار التي تصورها أنها ضحية وسط محيط عدائي، وهذا ما يبرر انتشار الدعوات الى مقاطعة اسرائيل مقاطعة ثقافية شاملة، وأعتقد أن هذه إحدى أكثر الدعوات التي أراد جاكوبسون الوقوف ضدها، لأنها تعبر عن مزاج شعبي مدعوم من جانب المثقفين في أوروبا، دون أن يبدو أنه يقف في وجه الغضب العارم، والنقد الواسع لاسرائيل والصهيونية، مع الزعم أن النموذج اليهودي يتصف بالتنوع والديمقراطية والاختلافات الداخلية. وأعتقد أن هذا هو الاطار العام الذي بنيت حوله الرواية.

رابط المقالة بصحيفة الدستور الأردنية

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم التحميل)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق