الجمعة، ديسمبر 25

على مهلك أيها الليل



تأملات في ديوان "على مهلك أيها الليل"
كراريس الكتابة الطافحة بإيقاع المنفى*

بقلم اياد نصار

صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الديوان التاسع للشاعر عمر ابو الهيجاء "على مهلك أيها الليل" الذي جاء في 275 صفحة من القطع المتوسط. وهو تتويج لمسيرة شعرية ابداعية تمتد عبر عشرين عاماً بدأها عام 1989 بديوان "خيول الدم" الذي صدر عن دار ابن رشد في عمان. ومنذ البدء تبدو القضية الفلسطينية بكل تجلياتها وأبعادها وانكساراتها وألامها حاضرة في ديوانه كما في دواوينه الاخرى، بل تكاد تكون هي المحور الوحيد في أغلب قصائد الديوان ، فقد صدّر ابو الهيجاء ديوانه باقتباس من شعر محمود درويش:
"وأنت تعود للبيت، بيتك
فكر بغيرك..
لا تنسَ شعب الخيام"

يشتمل الديوان على ثلاث وعشرين قصيدة تحمل الوجع الفلسطيني عبر أربعة محاور هي الذات، والفضاء الفلسطيني المسكون بالارض والموت والدم والجنائز والثورة وذاكرة الشعب التي تجسدها أغانيه ومواويله وأهازيجه، والفضاء العربي الممزق الذي يحس فيه الانسان الفلسطيني بأنه وحيد في الساحة يتجرع الهزيمة وانكسار الحلم، والفضاء الانساني الارحب الذي يقوم على ابراز معاناة الانسان مما ينتقل بالشعر من المحلية والخصوصية الى فضاء أوسع يتجاوب مع سعي الانسان المتعب المظلوم في كل مكان الى الحب والطمأنينة.

على صعيد الذات تبرز رغبة الشاعر التي لا تخلو من احساس بالحزن واليأس في التعبير عن رؤاه وأحلامه، ولكن الكلمات تعبت منه. واستوطنت توابيت الكتب المركونة وتركت قلبه المعنى يقاسي بحثاً عن لغة أخرى للتعبير عن كوامن نفسه، ولكن لا تفقس اللغة غير الاجابات المريضة. تستحضر القصيدة الطويلة الجميلة "تعبتُ مني" ذات البعد التاريخي "الملحمي" التي تصبح "سطراً من الملاحم على تراب راس العين" ذكريات المكان وأوجاعه، فرأس العين إشارة تاريخية الى بداية ولادة عمان كمدينة احتضنت المهجرين والمنفيين في مستهل القرن العشرين وما تلاه. كما تسعى الى التأكيد على الاحساس بالمرارة برغم براءة الرؤية الشعرية التي تفيض بالالهام والدهشة. ويبدو الشاعر وحيداً متمسكاً بالكلمة رغم أنها تعبت ولم يتعب هو من السؤال.. متمسك بالكلمة التي تصنع الحلم والحبر الذي يصبح مثل وردة العشاق جسراً للحب والتواصل بينما ينطوي المشهد على النسيان والرتابة والرقص على جرح المنفيين.

لي سرّ اكتمالي، براءة الحرف
لي أن ابارك
ابتهاج البياض
لمّا يعانق أسود حبري،
لي احتراقات رمل خطوي،
وشذاي،
ما كان لي،
أن أبقى سردي القتيل،
على مهفة الليل،
دون أن أمرر في مقام
النوى
تراتيل الناي،
أنا غرامي،
وغرامي شيعته الريح
في خيام التاريخ،
فشممت أيامي
وشممتني
الجراح


وتعد قصيدة "تعبت مني" من أهم قصائد الديوان والتي تتجلى فيها ملامح بناء شعري متكامل يعكس عالم ابو الهيجاء الفني واللغة ذات الانزياحات الحداثية المتواصلة التي طورها عبر تجربته الطويلة، ويقدم فيها مقومات الرؤيا الشعرية التي تعكسها أعماله. تتضمن القصيدة تسع مقدمات لتسع فواصل شعرية متسلسلة مترابطة تستخدم لغة الحكاية الفلكلورية والمناجاة والأغاني الشعبية الفلسطينية الطفولية. تظل المقدمات التسع التي تلخص تجربة الشاعر وذكرياته واحتراقه ومعاناته مع الواقع والتاريخ واشتراطات اللغة في سبيل تقديم حلمه الشعري المتفرد الذي يتسامى فوق المكرور تردد عبارة أعطت القصيدة إسمها "تعبتُ مني". وتلخص هذه المقدمات وعي الشاعر بالمأساة منذ الطفولة وامتداداتها المكانية والزمانية وارتباطه بقضايا الارض والانسان والحلم.. وتنتهي بصوت منكسر كصرخة في واد أو صيحة في البرية يتردد طويلاً في نهاية القصيدة تعبت مني.. تعبت مني...الخ

إسقاطات تاريخية
تقوم القصيدة في إطار سياقها الذاتي الفردي باسقاطات تاريخية وتوظف الرموز والأساطير في سبيل إبراز معالم المعاناة الطويلة والحنين للوطن والانتماء الازلي للارض، لتؤكد أنها ليست معاناة شاعر بقدر ما هي معاناة شعب بأكمله عبر سنوات شقاء المنافي الطويلة. ومن باب الاسقاطات التاريخية وتوظيف الرموز تستحضر القصيدة وقصائد أخرى في الديوان أسماء عمان القديمة مثل عمون وتايكي لتأكيد الحب المتأصل للمكان وعمق التجربة لهذا الانسان الضاربة أصوله في التاريخ ورمز الحنين الى فجر الحضارة وطفولة الانسان والمكان على السواء. وهنا يلجأ الشاعر الى توظيف اليد التي ترسم معالم الطريق الجديد وتمحو ذاكرة المرارة لتخرج الكلمات بيضاء، يد تفتح كوة من الامل في جسد الكلام الميت. وتبرز ثنائية عشق المكان التي تمنح الحياة والخلود واضحة، فالأرض السليبة صارت حلماً يتعلق به الشاعر، ويعطي الحياة لشعره فكأنما يمنحه الخلود، وصارت عمون المكان والتاريخ العريق هي المعادل الموضوعي للذات الانسانية التي تقتات على الحب فتمنحه الحياة.

وهناك مفارقة شفافة يمكن أن نلحظها. ففي حين لا تغيب عمان كما يعشقها عن الديوان، إلا أنه يكدس مئات الصور من الاماكن التي صارت مثل محطات حزن ساكن بأعماقه ، وبدلا من أن تمنحه قلبها وحبها فإنها تقدم له نساء عطاشاً وتفاحاً قتيلا وأراجيل مخنوقة وأحذية خرساء وصور زجاج مهشم. تبرز في الديوان فكرة اساسية ترد في عدة مواضع وهي أن الشعر يمنح الخلاص والتطهر وبلوغ الحقيقة، وهنا يقدم الشاعر شعره كرقية أو تعويذة لعمان بدلاً من انتظار المجهول. يبدع ابو الهيجاء في إبراز دوره ليس كشاعر وحسب، وإنما كمدافع عن الحلم يصونه من الريح بفعل موقفه الذي عبر عنه ذات لقاء بأن الشاعر لسان حال المتعبين.

يبني ابو الهيجاء علاقة حميمية بالمكان، ويغازل المدن والشوارع والاحياء وكل التفاصيل الدقيقة في شعره من خلال القصص التي عاشها أو سمعها عنها او تلك التي روتها له الامكنة وهو صغير، فاقترنت صورها بالورد وطائرات الطفولة الورقية فيتداخل العام والخاص معاً:

كل شيء هنا،
حدثني عني،
أنا معجم البلاد،
خفيفاً أمرّ يضمني كتابي،
.......
أراني الان في الصفوف الاولى
طفلا يتهجى نشيده البكر في أباريق الندى


ولكن تبدو الامكنة الاخرى في القصيدة خادعة مثل وهم أو فخ في اشارة لماحة للفضاء العربي. نعى الشاعر مكانه في صورة رمزية توحي بضياع وطنه المرمري، ثم أبحر في المنافي يكتب شعره شاهداً على الرحيل:
كلّ الامكنة فخاخٌ،

ووحدي أنعى مكاني،
ورقصي
حاضرٌفي منازلي
المرمرية،
والشعر شاهد الرحيل،
ودمي عنواني،
"أي فتى أضاعوا"
في شجر المنافي،
ليبحر في بحر القصيدة،
يناجي يد الغيم،
كي تفيض غناءعلى مخدة العشق
تغسل السؤال،
من ضلالات الزمان.

يتردد في القصيدة كثيراً ضمير الانا المتكلم مما يعزز الذاتية التي ترى في موهبتها الشعرية والتزامها بالحلم الذي تعبر عنه القصائد "وأخذتني قافيتي الى مبتغاها" اكتمالاً لدور الشاعر ووفاء منه لرسالته نحو شعبه.

الفضاء الفلسطيني
يبدو الفضاء الفلسطيني واضحاً تماماً في الديوان بكل ما يتضمنه من أغاني الحزن والفرح، ومن صور الحياة الشعبية بكل تجلياتها التي تناقلتها الاجيال وصور الشهادة والعذاب والمنافي والتشرد. يوظف الشاعر أسلوب السرد لتقديم التراث الشعبي الذي يحتفي بالارض الفلسطينية من خلال حكايات الاباء والامهات، كما يوظف أغاني الزجل والمواويل والفلوكلور الشعبي والاغاني والميجنا للانتقال من الفضاء الذاتي الى الفضاء الفلسطيني:

لا أشبهني الآن،
ولست سواي،
طوّعتني القصيدة،
باركتني مراياي،
وأنا إبن خمسين كسوفا،
تمرجحن بي،
ومنفاي
هو منفاي.

أهدى الشاعر قصيدة كبرى ذات مفاصل تاريخية للراحل محمود درويش. ففي قصيدة "الارض تنهيدتك.. لحنك الاخير"، قسم الشاعر القصيدة الى مقاطع تاريخية تتناول رحلة الالم الفلسطيني منذ النكبة وحتى رحيل درويش مرورا بالنكسة وحرب تشرين واجتياح بيروت وسقوط بغداد. ووظف دلالة الرقم في القصيدة بأسلوب رمزي فجعل في رأس كل مقطع رقما يدل على سنة الحدث في اشارة رمزية ذكية تستحضر في ذهن القاريء سلسلة من المآسي التي شكلت معالم الوعي العربي المعاصر مما ينتقل بالشعر من الفضاء الفلسطيني الى الفضاء العربي.

يا سيد الحلم/
كل شيء يستوي الآن،
في باب الرحيل،
يستوي/ في شهوة التراب،
تنام الطرقات،
في وحل القدمين،
وشاهدة المعنى،
تفاحة خبأها القلب
وانزوى
في عشب الشتات،

حوارية
يفتتح الديوان بحوارية معبرة بين الشهيد وغزة. وبرغم أنها حوارية تستدعي البوح والمكاشفة والاسلوب المباشر ورغم أنها كتبت مباشرة بعد الحدث، إلا أنها عمل شعري فني ناضج يحفل بالرموز والاشارات والصور الفنية في لغة شعرية عالية التوتر بعيدة عن المباشرة. وبالرغم من خصوصية تجربة الشاعر وصوته الخاص المعبر عن عالمه الفني الذاتي، إلا أن القاريء يلمس في القصيدة هذه توارداً شعرياً ، مع أسلوب درويش الشعري وخاصة في قصيدة مديح الظل العالي، ربما اقتضته طبيعة الحدث في كلا القصيدتين، حيث يقف المقاتل وحيداً في وجه أكثر من صمت وحصار ، وحيث تحين ساعة رثاء الصحراء وعتابها وكشف الحقيقة المرة.

قال الشهيد:
كانت السهول أمام وهج الدمع تغتسلُ
ودمي يحملني
لنشيد شجري في الطرقات،
وكل المنازل بدمي تكتحلُ،
أنا ابن دمي،
بدء الطلقات،
أول الداخلينَ الى الحلم
وحلمي بموجي يحتفلُ

قالت غزة:
وأنت تعدُ
نشيدكَ
وخطى الدربِ
وتمضي
بين يديك الكفنُ
لا تؤجل صلاتك في بوابة العشقِ
مروا جميعهم على جرحك
وغابت عنك المدنُ
لا لم تعد بنادق أخوتك صالحةُ
اصابها العفن

يخيم على الديوان طيف حزن مقيم يمتد من الاندلس الى يومنا الحاضر وأجواء حلم ضائع لا نستعيده الا ببراءة الشعر، ورثاء الابطال العاديين والمدن، وحنين الى الماضي: ماضي المكان وماضي الزمان الذاتي، مثلما يخيم عليه أجواء الغياب والرحيل. وتكثر في متن القصائد كما في عناوينها مفردات الموت والشهادة والرحيل والجنازة والتوابيت والمسلات وشواهد التراب واللحن الاخير والغربان وخزائن السواد. وتتماهى الخيوط بين القصائد الذاتية مثل سيرة بنت فاطمة التي أهداها الى أمه وبين عكازة الرحيل التي أهداها الى المناضل الراحل محمد ابو الهيجاء، وبدلا من أن تبكي الشخصيات المدن المفقودة تصبح القصائد مثل وقفة وداع المدن لابطالها المجهولين.

ليس هناك في الديوان قصيدة تحمل العنوان "على مهلك أيها الليل" إنما هي افتتاحية قصيدة "فراش الكتابة". ولكن أهميتها أنها تعكس إدراك الشاعر أنه حمل رسالة الشعر ومعاناته، ولكن الرؤية لم تر النور ولم ينبثق الفجر الموعود. فراش الكتابة تؤذن بأجواء الرحيل والاستعداد للغياب. يرى القاريء في القصيدة إنساناً منكسراً إنهار حلمه ، حتى بلغ الظلام قاع الرؤية وأطفأ سراج الشعر. ويأتي الاعتراف "أنا قتيل الهوى أنهض من خراب الى خراب". وبطبيعة الحال، فإن الليل يرد في الديوان في مواضع كثيرة بمعنى الزمن والظلم وفقدان الامل وطول المعاناة وإقامة الشقاء حى يكاد الفجر يبدو بعيداً. ولكن في قصيدة "خزائن سوداء"، يتجسد الليل في شخصية طاغية تستوطن ذاكرة كل شيء..يصير الليل عنوان الغياب المقيم، وحدّ السكين التي تمزق في الاعماق وتشق قصائدها.. يصير الليل وطناً لا ينام ولا يمنح هدوءا لعاشقي الارض الحزانى. ويأتي النداء مثقلا تارة بسخرية وتارة بحرقة من عمق الرجاء "أين تذهب الليلة يا ليل؟"

يكاد يقيم الشاعر في هذا الديوان قاموس الشعر الفلسطيني المعاصر. إذ تحتوي القصائد على أغلب مفردات الشعر الفلسطيني ورموزه وأسمائه وأفعاله التي تكرست في شعر أهم اعلامه المعاصرين المرتبطة بالمكان والانسان والفلوكلور والتاريخ والتي تعطي شكلا وجوهراً للهوية الفلسطينية. على مهلك أيها الليل ديوان شعري فلسطيني الروح والهوى والنكهة يستحق القراءة وإضافة متميزة للشعر العربي المعاصر وتتويج جميل لتجربة عشرين عاماً من شعر عمر ابو الهيجاء.


* العنوان مأخوذ من قصيدة حقول ماطرة

نشرت جريدة الدستور الاردنية مقالتي أعلاه في القسم الثقافي من عدد يوم الجمعة الموافق 25/12/2009 . يرجى الضغط على صورة المقالة المنشورة للانتقال الى الصفحة الكاملة في الجريدة . يرجى الانتظار قليلا الى أن يتم تحميل الصفحة.



الصفحة الكاملة جريدة الدستور

الجمعة، ديسمبر 11

رجل كثير الشكوى



رجل كثير الشكوى


قصة قصيرة

بقلم اياد نصار

منذ سبعة عشر عاماً وهو ينتظره. يقترب منه ويبتعد عنه لكنه يؤمن أنه سيجده ذات يوم. يراه عند كل ناصية درب وفي صفحة الجريدة التي تنشر أرقامه. يراه في أيدي الباعة على الرصيف. يراه تارة قريبا كأنه في متناول يده وتارة بعيداً كالسراب.. يبقى طوال الشهر يفكر به ويمنّي النفس بالحلم، وفي اليوم الموعود يتبخّر كل شيء، فيترك في النفس غصة. كل شيء في الحياة يدعو للسخرية والرثاء. هكذا تقول ملامح وجهه ونظرات عينيه الحادة وأسنانه العريضة في مقدمة فمه. عندما التحق بقسمنا في ذلك الشتاء الكئيب من عام 1993 كان أصلع مقدمة الرأس كثيف الشعر حول عنقه. فكانت جبهته العريضة تسح عرقاً حتى في أيام البرد، وصوت لهاثه يُسمع عالياً. لا أذكر أني رأيته منذ أن عمل في المصنع بدون تلك الابتسامة الساخرة على شفتيه. أتعجب من قدرته على الثرثرة المتواصلة، فلا يمل من ندب حظه العاثر!


في ذلك اليوم الرمادي رمى أحجيته أمامي ووقف ينتظر ردة فعلي. فكرت فيها ولكني شعرت بالعجز ومخي توقف عن التفكير. أحسست أنني تورطت في خضم متاهة مسدودة. رأيت خبثاً في طرف عينيه. تبسم ومد يده. "ياسين" ذكي ولكن لم تشفع له كل مهاراته الرياضية. بقيتُ أفكر في الثأر لنفسي. باغته ذات يوم في مسألة توهمُ الناسَ بأرقامها الخادعة، لكنه أذهلني. خاب ظني في الثأر! لم أفهم لماذا يتذمر ما دام يمتلك كل هذا الذكاء. لا أمل له في الانصاف كما يقول، فكل يوم يزداد أصحاب التوصيات عدداً وهو يزداد تراجعاً في آخر القائمة. يسلبون الفرص من أمام ناظريه وهو منسي في قاع الدنيا كما يردد. كنت أحاول أن أتفادى الوقوع في مصيدة مزاجه المتعكر. عندما التحق بنا تلك السنة، شعرت أنه مقتول الطموح وخائر الهمة. كنت ألومه بيني وبين نفسي على صبره الدهري.


يرتسم على وجهه حزن ينتظر معجزة. يظن أن الحظ وحده سيقلب الاشياء في حياته. "أحمق من لا يشتري ورقة يانصيب، وأحمق من يشتري أكثر من ورقة"! هكذا يردد دائما. حفظت شعاره وصرت أردده بلا وعي! لم تخل محفظته يوماً من ورقة يانصيب. فكّرت في مقولته. قلت لنفسي إن في الامر منطقاً. كل هولاء الذين زارهم الحظ ألم يكونوا من قبل يشعرون باليأس وطول الخيبة؟ لم يكن لديهم سوى أمل ضئيل، بل ربما صار الامر عادة، وربما تمكّن "سيد الهامي" من التأثير فيهم لابتياع ورقة بأسلوبه الاسكندراني! أغبط سيد على بساطته عندما يدعو لي بالفوز، وأحس أنه ليس له في الحياة من فلسفة سوى بيع الاوراق. واكتشفت مصادفة ذات يوم أن ياسين صار يتحايل على شعاره. فقد صار يبتاع منه ورقة يانصيب باسم ابنه مرة وباسم ابنته مرة وباسمهما معاً مرات أخرى!


ياسين معروف بأسلوبه في الاقناع والتبرير. لا يعجز عن تبرير مواقفه المتناقضة! لقد أثّرت فيّ مقولاته. يعرف كيف يقنعك بالشيء وضده! صرت مثله أحرص على طقوس ورقة اليانصيب كل شهر. كنت في بعض الاحيان لا أجد "سيّداً" عند زاوية الشارع فأظل أياماً بلا قرار أبحث عنه. أظن الامر صار إدماناً. ألا يمكن أن يطرق الحظ بابي؟ هل الاخرون محظوظون وأنا كُتبت علي التعاسة؟ يحاول سيد معي دائما أن أشتري أكثر من ورقة. فأقول له تلك العبارة التي صرت أحفظها عن ظهر قلب بزهوٍ بادٍ على وجهي. استولت تلك العبارة على تفكيري. امتدّ اهتمامي إلى البحث عن قائلها. لا بد أن ياسين سمعها من شخص ما أو قرأها في صحيفة هنا أو هناك. لعلها لبرناردشو. هذا هو أسلوبه الساخر. ثم اكتشفت أنها ليست له. بحثت ولكني لم أعثر على قائلها. ولماذا أهتم بمن قالها؟ يكفي أنها ترتبط في ذهني بياسين وهذا كافٍ بحد ذاته.


مرت سنوات ونحن نطارده، ولم نعثر عليه. كنت أفقد الامل في بعض الشهور وأشعر بأنني أنفق دنانيري بلا طائل. ولكن ياسين بقي عند ايمانه الذي لا يتزعزع به. صرت أتناسى ورقة اليانصيب في بعض الاحيان وأتظاهر أمامه أنني اشتريتها. لم يعد من حديث بيننا عندما نلتقي سواه. واكتشفت ذات يوم أن ياسين يلاحق أخباره في كل مكان. بل إنه صار يحفظ مقولات شتى حول المسألة. أعدت التفكير في الامر. أيقنت أن من الحماقة ألا أشتري ورقة. فصرت أتفنن في اختيارها. وتولدت عندي مهارات في الحكم على الرقم من النظرة الاولى.


منذ أسابيع لم أعد أرى سيد الهامي. شعرت بانزعاج. أخذت أدور في الشوارع بحثاً عنه. ولكنه اختفى. بحثت عن آخرين كنت أراهم دائماً لكنني لم أجد واحداً. أين اختفوا؟ كانوا دائما يذرعون شوارع الحي. لا استطيع أن أتخيل بعد الان أن يفوت شهر دون أن أشتري ورقة. صارت تجبرتني الرغبة على الذهاب الى قاع المدينة. إنه يقف عند الزواية ذاتها كل يوم. يلبس معطفاً سميكاً وقبعة ملونة عجيبة تميزه عن غيره. لاحظ ترددي الدائم عليه فصار يستوصي بي في اختيار الورقة. يعرف أنني لا أحب شراء نصف ورقة. لا يستحق الأمر ندم العمر كله لو ربحت! يقترح "جودة" علي أرقاماً ويقول إنها حلوة ويجب ألا تفوتني. ولكنني دائماً أعتذر وأردد تلك العبارة التي أراحتني من إحراجه والحاحه! أحسست بيد تربت على كتفي من الخلف.. سمعت صوته وضحكته الساخرة: "ليست المسألة مهارة بل مجرد حظ! إقطع أول ورقة وخذها".


أصر ياسين أن نذهب الى المقهى. كانت روائح الارجيلة تعبق في المكان، والايدي مشغولة في ترتيب الاوراق. الوجوه واجمة كأنها تمارس الحياة برتابة طقوسية بلا متعة أو معنى.


- ألا ترى أننا ما زلنا مكاننا. عشر سنوات وأنا وأنت ننتظر الفرج. ماذا يفيدني إن طرق بابي في آخر العمر؟!


- ما الذي حرّك فيك الامر الان؟ لست أنت من يقول ذلك.


- ألا تذكر طلبي القديم برغبة الانتقال للعمل في المصنع باليمن؟ لقد اتصلوا بي وعرضوا علي النقل.


- معقول؟ لقد مضت عليه خمس سنوات.


- ألم اقل لك بأن أصحاب التوصيات يصعدون القائمة سريعاً؟!


- وكيف صعدتها أنت؟ هل من أوصى بك؟


ضحك وهزّ رأسه ولم يقل شيئاً. سألته بقلق: وهل تفكر فعلا بالسفر؟


- المسألة حظ. أريد أن أجرب حظي.


- وكيف ستعيش هناك بدون يانصيب؟!


- لا عليك، أخي سيتكفل بالامر هنا. لقد أوصيته!


مضت عشر سنوات طويلة منذ ذاك اليوم. لم أعد اسمع أخبار ياسين خلالها، وفتر الاتصال بيننا حتى انقطع مع مرور الزمن. لا بد أن أموره تحسنت فلم يعد يتصل بي. انتقلت من المصنع الى المبيعات وازدادت مشاغلي ومسؤولياتي. وشيئاً فشيئاً بدأت أنسى التفكير في اليانصيب. عندما انتبهت بعد ثلاث سنين اكتشفت أنه قد مضت عليّ سنة بكاملها لم أشتر ورقة واحدة. لا أعرف كيف أقنعت نفسي أن المسألة برمتها لا تستحق. أنفقت مالاً كثيراً طوال سنوات بلا نتيجة. إزداد حجم العمل وصارت العمولة تنقذني في نهاية كل شهر. خامرني شك في جدوى تلك العبارة. أحسست أنني كنت أحمقاً! صرت أمرُّ عن جودة ولا يحرك نداؤه في ّ شيئاً. أظن أنني هجرته للابد.


كان يوماً في بداية صيف حار العام الماضي. كنت منهمكاً في العمل. فجأة سمعت صوته في الممر يقترب. شككت في نفسي أول وهلة. لكنه دخل من باب المكتب يصيح مبتسماً بصوته الأجش: أين رفيق الورقة؟! هل ما زال هنا؟ خيّل اليّ أنني عرفته. نهضت لاستقباله. لقد تغيرت ملامحه وصار مكتنزاً وبديناً وأصلع الرأس. ولكنه ما زال ياسيناً كما عرفته. ما زال سيد الشكوى والتذمر. قلت له: ألن تغير من طبعك؟! قال: "بل هذه هي الحقيقة. لقد كانت المغامرة قاسية ولم أجن منها سوى الغربة والحرمان". شعرتُ بالرثاء لظروفه البائسة. بعد كل هذه السنوات لم يستطع أن يشتري شقة متواضعة. ما زال يعيش بالأجرة، وأصيب بألم مزمن في ظهره. "عليكم أن تتحملوا ثرثرتي فأنا في إجازة لمدة أسبوعين"؟! قال، ثم سألني عن اليانصيب. خجلت من قول الحقيقة. قلت بصوت خفيض أنني ما زلت أجرب حظي. قال إنه سيسافر الى بيروت. استغربت وقلت: "منذ برهة وأنت تشكو الفقر والان ستسافر الى لبنان"؟! قال: "لا، سأذهب ليوم أو يومين لأشتري يانصيبا من هناك"! فغرتُ فمي من الدهشة وضحكت مقهقهاً. ولكنه أضاف: "لا تتعجب فقد اشتريت بطاقة يانصيب بالفيزا من ايطاليا أيضاً"! وقبل أن تبدر مني أية ردة فعل سألني: هل تتذكر سيد الهامي الذي كنا نشتري منه الأوراق؟


- نعم، ولكنه اختفى بعد أن سافرت لليمن.


- ربح الجائزة الاولى وعاد لبلده.

* اللوحة أعلاه بعنوان بائعة اليانصيب للفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي (1934- 1978)

نشرت جريدة الدستور الاردنية القصة في ملحقها الثقافي الصادر يوم الجمعة بتاريخ 11/12/2009. يمكن الضغط على الرابط أدناه لقراءة القصة من موقع الجريدة:
الدستور - رجل كثير الشكوى

أو الضغط على العنوان أعلاه أو الصورة أدناه لتحميل الصفحة الكاملة والاطلاع عليها:









السبت، ديسمبر 5

"قليل من الحظ" في جريدة الرأي الاردنية



نشرت جريدة الرأي الاردنية موضوعاً حول صدور مجموعتي الثانية "قليل من الحظ" في صفحة ثقافة وفنون في عدد يوم السبت الموافق 5/12/2009. وكانت صحيفة الدستور الاردنية قد نشرت موضوعاً حول صدور المجموعة في وقت سابق. كما نشرت عدد من الصحف العربية مثل صحيفة اخبار الخليج الاماراتية وصحيفة الوطن القطرية وعدد كبير من المواقع العربية الثقافية والاخبارية الالكترونية على شبكة الانترنت.
يمكنك عزيزي القاريء الضغط على الرابط التالي لقراءة الموضوع في جريدة الرأي

"قليل من الحظ" في جريدة الرأي الاردنية 

كما يمكنك رؤية المادة المنشورة من خلال الضغط على صورة الصفحة أعلاه.

الثلاثاء، ديسمبر 1

"قليل من الحظ" في صحيفة "الوطن" القطرية



"قليل من الحظ" في صحيفة "الوطن" القطرية

نشرت صحيفة الوطن القطرية في القسم الثقافي من عددها الصادر يوم الجمعة 27/11/2009 موضوعاً حول مجموعتي القصصية الثانية "قليل من الحظ".
يمكن قراءة الموضوع على الرابط التالي: