الجمعة، يناير 13

صمت


صمت
قصة قصيرة
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 13/1/2012
تجلس إلى جانبي في الحافلة بصمت وجمود. تلبس ثوباً أسود اللون وقد غطت نصف وجهها براحة يدها. نظرتُ حولي. كل شيء يبدو عادياً. نظرت إليها نظرات سريعة، لكنها بقيت صامتة تنظر إلى الأمام مثل تمثال.

لم يكن على وجهها سوى غلالة من حزن. جلستُ ساكناً ملولاً وعرفت أن الرحلة ستكون طويلة أكثر من المعتاد. تذكرت تلك القصة التي قرأتها ذات يوم، وأدركت معنى أن الطريق تُقطَع بالكلام. كل دقيقة فيها ستمر كأنها دهر! أشعر بالملل من أولها وأنظر إلى ساعتي مرات كثيرة. ما تزال المسافة بعيدة.

أشعر بالتوتر حيال جلوسي بجانبها، فأي التفاتة مني إلى النافذة لرؤية المشهد في الخارج ستثير الظنون والصمت المتوتر. تجلس متسمرة في مكانها ولم تنْدُ عنها أي حركة أو التفاتة. أحس أنها تتصنع الخجل أو الحزن، وتجبر نفسها على الجلوس صامتة بلا حركة لإظهار الرزانة.

لم يكن هناك شيء أفعله لقتل الملل سوى قلمي ودفتري وحكاياتي. فتحت الحقيبة التي كانت تحت الكرسي واستخرجت دفتر مذكراتي وأخذت أكتب فيه:

«كان طوال الشهرين الماضيين عصبي المزاج، ضيق الخلق، يثور لأتفه الأسباب. لم يكن يحتمل صراخَ أولاده الثلاثة الصغار، فيعلو صوته بالتهديد والوعيد. لم يعرف أولادُه سببَ ثورته المفاجئة أو تحوله خلال الأسابيع الأخيرة إلى هذه الشخصية العصبية التي تزرع الخوف في أوصالهم. لم يكن من عادته أن يتصرف هكذا من قبل. فما الذي أصابه وغيّره إلى هذا الحد؟ لكن شيماء كانت تعرف الحقيقة المرّة فتبقى ساكتة. عندما يخمد من ثورته تحاولُ أن تخففَ عنه بكلمات فيها بصيص من أملٍ، لكنه لا يجد له مكاناً في حياته منذ أن وقعت الكارثة، فتزداد عصبيته ويصرخ بها أن تصمت».

سمعتُ صوت نشيج مكتوم. توقفتُ عن الكتابة.. تلفتُّ حولي. نظرتُ ناحية المرأة. كانت تنظر إلى خارج النافذة ويدها على خدها. هممت أن أسألها ولكني ترددت. توقف الصوت. فعدت لكتابتي:

«رهن زيدان كل شيء لديه لأجل مستقبل موعود! لكن المستقبل لم يكن سوى حلمٍ من أحلام يقظة داهمته تحت وطأة الطمع والحياة القاسية التي عاشها ومرارة الماضي التي لم يتخلص منها بعد. كانت أسرته تكبر وتكبر معها متطلباتها. وزاد جنونُ الأسعار مخاوفَه. إلى متى ينتظر الفرج؟ سنوات عمره انقضت وهو ينتظره عبثاً. لماذا ينتظر المجهول. لماذا لا يضع أمواله معهم وهم سيتكفلون بالباقي. علي الميري لا ينفك يحدثه عن أرباحه. لقد فعلها جواد بنفسه قبله. جواد ابن أخته الشاب اليافع صار يتحدث بالآلاف. كان يأخذ مصروفه من أبيه قبل سنتين، والآن يطلب والده منه أن يعاونه! جواد دخل السوق وضرب ضربته. كانت هناك إشاعات تتردد حول الشركة. قالوا إنها ربما تنهار تحت وطأة الديون. بلغ سهمها الحضيض. رماها الناس من أيديهم. صارت قيمتها مثل فتات لا يغني ولا يسمن من جوع. لكن جواد فهم أصول اللعبة، وعرف كيف يصطاده، فلما عاد للصعود كما أراد الكبار صعد معهم فوق ظروفه وفقره. لكن زيدان لا يفهم السوق مثل جواد ولا ألاعيبها ولا أي شيء فيها».

انتبهتُ فجأة إلى ذات الثوب الأسود، فوجدتها تقرأ في النص الذي أكتبه بطرف عين.

سألتها متلعثماً بابتسامة خجولة: هل أعجبك؟

- منذ متى تعرف زيدان؟

- لا أعرفه. الاسم وليد الصدفة.

- لماذا أردت أن تكتب عنه الآن؟ لا تقل لي إنك لا تعرفه.

- إنها مجرد قصة.

- وهل كل هذه التفاصيل التي كتبتها محض خيال؟

- لا ، كنت في زيارة صديق عزيز في المستشفى الأسبوع الماضي وبقيت قصته تؤرق خيالي.

قالت بصوت حزين يتخلله نشيج مكتوم: «توفي زيدان الأسبوع الماضي. لقد كنت للتو في زيارة عند قبره».

قلت بذهول: مستحيل. هل أنت شيما..؟

- هل عرفتَ الآن سبب حزني وصمتي؟