الخميس، يوليو 24

العيد الذي لا يحبه أبي


نظرة في "رجل بلا تفاصيل" لجمال ناجي
العيد الذي لا يحبه أبي أنموذجا ً

بقلم : اياد نصار

وضع الروائي والقاص الاردني جمال ناجي خطواته الاولى في عالم السرد في عام 1982 حينما أصدر رواية "الطريق الى بلحارث"، ثم أتبعها بروايته الثانية "وقت" في عام 1984 ، ثم نشر رواية "مخلفات الزوابع الاخيرة" في عام 1988 . ومن الرواية انتقل الى القصة القصيرة على عكس كثير من الروائيين الذين يباشرون بكتابة القصة القصيرة وربما اصدار مجموعات قصصية قبل التفكير في نشر رواية. فنشر مجموعته القصصية بعنوان "رجل خالي الذهن" في عام 1989 ، ثم عاد للرواية بروايته "الحياة على ذمة الموت" في عام 1993 . وبعدها بعام أصدر مجموعته القصصية الثانية التي هي موضوعنا في هذه المقالة بعنوان "رجل بلا تفاصيل". وبعد استراحة محارب طالت لمدة عقد نشر روايته " ليلة ريش" في عام 2004 . وأخر انتاجه هو مجموعته القصصية الجديدة " ما جرى يوم الخميس".

كان ناجي رئيساً لرابطة الكتاب الأردنيين خلال الفترة التي امتدت بين 2001-2003، وكان قبلها عضواً في الهيئة الإدراية للرابطة لعدت دورات. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية للرواية عن العام 1989، وعلى جائزة تيسير سبول للرواية لعام 1994. وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب أيضا ً.

تلعب التفاصيل دورا ً رئيسيا ً في مجموعته رجل بلا تفاصيل التي صدرت عام 1994 عن رابطة الكتاب الاردنيين. وهي ما يضفي معنى حقيقياً على حياة أناس عاديين مجهولين وربما مهمشين على حافة المجتمع فتعطي التفاصيل حياتهم قيمة حين تصبح هذه التفاصيل هي الطقوس التي ترسم واقعهم. وتخلق شعوراً بالانتماء وتساهم في تشكيل ذاكرة الشخصيات وزيادة احساسهم بخصوصية المكان. واذا لم تكن الشخصيات ذات تفاصيل كبرى تجعل منها شخصيات هامة ، فان هذه التفاصيل الصغيرة تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الوعي وصنع الذكريات للشخصيات الاخرى، كما تعطي الراوي مساحة كافية لابراز أحداث ما بالنسبة له غير عادية وسط تفاصيل يومية مكرورة مما يجعل شخصياته ممتعة ويكتشف القاريء أنها شخصيات تنطوي على بعد عميق في التفكير والتعامل مع المواقف.

وفي آخر حوار أجري مع جمال ناجي حول المصدر الذي يستمد منه تفاصيل شخصياته ومادته القصصية ، فقد ذكر أنه يستمدها من التفاصيل الملقاة على الارصفة والتي لا ينتبه لها الناس ، وقال أنه هنا تأتي مهمة القاص بأن يستدل على الحدث المشحون والمتوتر ويلتقطه لكي يوظفه. ولكن التوظيف يحتاج الى مهارة في التخلص من الزوائد اللفظية الرشيقة العبارة بما يكثف الاحداث.

في قصة (العيد الذي لا يحبه أبي) هناك وصف طقوس قدوم العيد في حي فقير في قرية ما. وكأي قرية أو حي فقير أو مخيم في مدينة. يبدأ منذ بزوغ شمس العيد. وقد جسد الراوي العيد كالطيف الجميل او كحامل الهدايا الذي لا ينسى أن يمر على كل أجزاء القرية من سوقها وأزقتها وبئرها ونسائها الى أن يدخل بيت الراوي! واذا كان العيد هو تلك اللحظة التي تتوقف عندها القرية من رتابة وبؤس تفاصيل الحياة لتعيد تقديم ذاتها والتفكير بولادة جديدة، الا أن العيد بالنسبة للاب وربما لكثير من الاباء مثله هو امتحان صعب يهزم فيه دائما!

يستوقفنا في القصة ذلك الصراع الخفي بين البطل وهو والد الراوي وبين جارهم ابي عاهد. فهما النقيضان في كل شيء اللذان لا يتفقان على شيء، الا أن ابا عاهد يخسر دائما في الدفاع عن ارائه أمام اراء الاب الذي يحتد ويفرض رأيه بالقوة الا في يوم العيد فانه ينتصر! وهذا هو السر الذي تقدمه القصة. ولكن هذا الصراع الفكري يقابله علاقات اجتماعية شكلية تتمثل في الزيارة الطقوسية التي يقوم بها أبو عاهد مع أولاده التسعة كل صباح يوم عيد لبيت الراوي وما يتعبها من سلام وتقبيل ليد والدة الراوي لانها تذكره بأمه. والحديث عن طقوس تقبيل الايدي عند الصغار واعطائهم العيدية كصورة للنمطية البطريركية في المجتمع العربي التي تعرف كيف توظف استغلال المال!

ولكن الازمة تكمن في تصرفات اولاد أبي عاهد التسعة الذين يمارسون كل انواع الشيطنة والضجيج ومن ثم التهام كل ما يوضع امامهم للضيافة كالجراد. وفي الوقت الذي يشعر الاب فيه بالضيق من هذه التصرفات ومحاولته منع ما يقومون به بكل الوسائل التي تعبر عن احتجاج خفي كي لا يثير حفيظة ابي عاهد، الا أنه يفشل وينتهي به الامر الى أن ينهر اولاده من حوله بينما يلتهم اولاد أبي عاهد كل شيء. وخلال كل هذا الوقت يبقى تركيز الاب على الاطفال وعلى الصحون التي يقدمون فيها الضيافة! فهم كالشياطين الذين يلتهمون كل شيء، فلا يستطيع التركيز على حديث أبي عاهد والرد عليه او افحامه او مجاراته فتتاح له الفرصة أن ينتصر ويفرض أراءه في يوم العيد فقط من بين أيام السنة كلها!

واضح ما تطرحه القصة من موضوع الفقر ولقمة العيش التي تجعل من الاب يقبل بالهزيمة والسكوت وعدم الدفاع عن أرائه امام خصمه حرصا على صون بيته من العبث ومن التهام جيش الصغار. وواضح طرح موضوع معاناة الاب من عبء الاسرة والاطفال وهموم التربية وضيق المكان. كما يبدو واضحا موضوع الضغوط الاجتماعية التي تتمثل في العادات والتقاليد التي صارت عبئا وشكليات أكثر منها سلوكيات حقيقية نابعة من الداخل وتأثيرها على مصير الاخرين وعلى مصير العلاقات الاجتماعية ذاتها التي تصبح عبئا بلا احساس حقيقي. تطرح القصة هموم العلاقات الاجتماعية في القرية والمناطق الفقيرة التي تحرم الانسان من خصوصيته فيصبح الانسان ضحية علاقات اجتماعية شكلية بلا روح. وبهذا تصبح التفاصيل الحياتية اليومية هي التفاصيل الاساسية التي تعطي الشخصيات ملامحها وارتباطها بالمكان ومعاناتها فيه. كما تطرح القصة موضوع علاقة الاب بالابناء، فمعاناة الاب قد اصبحت ذكريات جميلة للراوي. فالعيد لا يحبه الاب وحده كما يؤكد ذلك العنوان وليس الاسرة بكاملها وليس الابناء أيضا ً. فالاهتمامات مختلفة! كما تطرح القصة هذه المفارقة في الطقوس الاجتماعية، فالعيد الذي يعتبر فرصة للتوقف وسط المعاناة اليومية للشعور بالفرح، يصبح أكبر مصدر للهم للاب، بينما مصدر فرح ولعب للابناء. وهذه ثيمة رئيسية في المجتمعات العربية الشرقية التي لم تعد للمناسبات فيها أية قيمة للسعادة والفرح لدى الكبار من شدة المعاناة والفقر على نقيض من الصغار، بل تصبح مواسم لمزيد من العبء! كما تطرح مفارقة من نوع أخر تدل على وعي الراوي رغم أنه ما يزال طفلا يحتفي بالعيد حين يرسم رسم صورتين متناقضتين لسلوك ابناء ابي عاهد في مقابل سلوك الراوي وإخوته.

قدمت القصة بلغة شعبية جذابة أجواء العيد وهمومه في قرية او حي ما من أية مدينة وخاصة في بلاد الشام! ورغم أن الراوي يقترب من طرح المشكلات الاجتماعية بلغة شفافة رمزية بشكل سريع، الا أن ذلك مفهوم من ناحية فنية فهو مجرد طفل ينقل الاحداث، ولكن طريقة السرد تدل على فهم عميق للمغزى. فالعيد غداً على الابواب ولكن ذكراه السنوية ترسخت في ذهن الراوي وهذه المفارقات التي يرسمها تدل على أنه بدأ يعي مبكراً السبب الذي لا يحب أبوه من أجله العيد!

* اللوحة أعلاه للفنان المصري أحمد حسين بعنوان "حرمان ودمى"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق