الثلاثاء، أبريل 29

من الادب المغربي الحديث






محمد زفزاف: كتابات من قاع المدينة

بقلم اياد نصار

ارتبط اسمه بأدب المهمشين على حافة المجتمع وبقصص وروايات الفقراء والمظلومين والمنسيين في قاع المدينة. أعتبره أحد أهم ثلاثة أعلام في عالم القصة والرواية والشعر في المغرب في العصر الحديث. فمن ينسى محمد شكري الذي ابدع رواية الخبز الحافي وارتبط اسمه بمدينة طنجة، والشاعر المبدع محمد بنيس الذي ارتبط اسمه ببيت الشعر في المغرب، ومحمد زفزاف الذي كان نبض الشارع وصوت المشردين والمسحوقين والمهمشين في الدار البيضاء. كان عبق التاريخ والعرق والبساطة ورائحة التبغ والملابس المعلقة على الحبال وتراث الاحياء الشعبية. كان بيته مفتوحا لكل الادباء الشباب يشاركهم في أكله وسجائره. ارتبط اسمه بالاحياء والزنقات التي عاش بها مثل زنقة ابن منير التي تشهد على المعاناة والفقر التي عاشهما وبرغم ذلك بقي وفيا لأدبه ومبادئه وارتباطه بالناس. وسجل كل هذه الاماكن في أغلب رواياته وقصصه القصيرة، وبأغلب مقاهي المدينة حيث يلتقى بكتابها وصحفييها وشعرائها. وقد ارتبطت صورته بلحيته الكثة واسلوب حياته المتحرر.
ولد في مدينة سوق الاربعاء الغرب باقليم القنيطرة بالمغرب في عام 1945. وعاش صباه فيها ثم انتقل الى المدينة التي أحبها ونقل مشاهد أحيائها وحاراتها ودروبها وأهلها ومظاهر المعاناة فيها لاولئك الذين التصق بهم من البسطاء والفقراء والمهمشين في قاع المدينة وبقي مخلصا لهذا الحب والانتماء حتى وفاته في 13 يوليو 2001 . وكما هي عادة المجتمع العربي الذي يتنكر للمبدعين والادباء الذين أفنوا حياتهم في عشقه وتبني قضاياه وتسجيل تراثه ومظاهر الحياة فيه، فلم ينل محمد زفزاف اية جائزة او تكريم في حياته. بينما صار محط الاهتمام بعد وفاته! فقد عاش كما ذكرت رفيق العذاب والفقر ومعاناة المرض بصمت وكرامة، ولكن ولأننا نبقى نصر على أن لا كرامة لمبدع في وطنه الا بعد مماته! فقد تم تاسيس جائزة محمد زفزاف للرواية العربية تمنح كل ثلاث سنوات على هامش مهرجان اصيلة الثقافي وقد منحت الجائزة في دورتها الاولى للاديب السوداني الكبير الطيب صالح، وفي دورتها الثانية منحت للاديب الليبي ابراهيم الكوني. كما تم تأسيس جائزة محمد زفزاف للقصة القصيرة للناشئين من قبل المكتب المركزي لنادي القصة بالمغرب بسلا وقد تم الاعلان قبل ايام عن انطلاق الدورة الخامسة لعام 2008 .
قال عنه الاديب المغربي احمد زيادي: ( محمد زفزاف صريح إلى درجة الإحراج، صادق إلى درجة الفضح، وأنه رجل المبدأ إلى درجة التهور). وبهذا فهو يشارك محمد شكري في صراحته الفاضحة المؤلمة وهو ينقل صور المكان ويجسد شخصياته في صراعهم الدائم لاجل البقاء. ورغم انه يختلف عن محمد شكري في أنه لم يكتب سيرة ذاتية، الا ان كل رواية وكل قصة من أعماله تكاد تكون جزءا أو فصلا من سيرة حياته، فالاماكن هي ذات الاماكن التي عاش فيها، والاحداث هي ذات الاحداث التي مر بها او كان شاهدا عليها! فرواياته وقصصه هي كلها سيرة حياة مدينة البيضاء بقدر ما هي سيرة حياته فيها. امتازت أعماله بلغة روائية موحية وقاسية وجريئة تكشف عن المسكوت عنه. وتعكس أعماله انماط التمرد الاجتماعي والتشرد والرفض والظلم والمشاهد الصادمة بقسوتها وبشاعتها وهو يضفي عليها لمسات من نقده الاجتماعي للقيم التي تغتال انسانية وكرامة الانسان، وفي ذات الوقت ترسم صور الشر الذي اغتال المجتمع براءة اصحابه وحولهم الى أناس يلجأون للعنف والشر للدفاع عن ذواتهم واستمرارها في بيئة تسحق انسانيتهم. ولا شك أنه هذه من أبرز ملامح هذه الرواية العربية المعاصرة عموماً. كما أذكر أنه لم يكتب محمد زفزاف طوال حياته الا بالعربية في مواجهة تيار الحداثة الغربية الفرنكفونية أمثال الطاهر بن جلون الذي ابدع أعمالا نالت شهرة بالفرنسية.
أتاحت له تجربته السياسية في بداية حياته في فترة الستينات والسبعينات عندما كان عضوا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ان يكون قريبا من أفقر الاحياء في الدار البيضاء ليتلمس الفقر والمعاناة التي تحول الناس احيانا الى الجريمة والشر، وبرغم شهرة أعماله ومشاركاته في المهرجانات الدولية الا أنه بقي قريبا بل في خضم نبض المدينة وقاعها. وقد عمل محمد زفزاف بالتدريس في المدارس الاعدادية والثانوية قبل أن يترك التدريس ليتفرغ للكتابة. ولكن بسبب عدم وجود مصدر دائم ينفق منه، فقد عانى كثيرا من الفقر والحرمان والعيش في شقة صغيرة تعشش فيها الرطوبة في حي شعبي فقير.
ومن أعماله:
حوار في ليل متأخر: قصص، 1970.
المرأة والوردة: رواية، 1972.
أرصفة وجدران: رواية، 1974.
بيوت واطئة: قصص، 1977.
قبور في الماء: رواية، 1978.
الأقوى: قصص، 1978 ، وقد أعيد نشره ضمن برنامج كتاب في جريدة الذي اشرفت عليه ورعته اليونيسكو
الأفعى والبحر: رواية، 1979.
الشجرة المقدسة: قصص، 1980.
غجر في الغابة: قصص، 1982.
بيضة الديك: 1984.
محاولة عيش: رواية، 1985.
ملك الجن: قصص، 1988.
ملاك أبيض: قصص، 1988.
الثعلب الذي يظهر ويختفي، رواية، 1989.
العربة، 1993.
كما صدرت مجموعات كاملة لأعماله عن وزارة الشؤون الثقافية المغربية بالرباط، سنة 1999 م
وهذه مقتطفات من بعض رواياته. من رواية محاولة عيش:
"الله يهديك، النساء كثرن هذه الأيام، أصبحن يقبلن حتى على ذوي العاهات، المرأة اليوم تتلهى بواحد كيفيما كان، حتى يأتيهما الله بواحد أحسن منه. والمحاكم لم تخلق للزواج وإنما خلقت للطلاق أيضاً. ولكن كيف يستطيع ذلك البرهوش أن يتزوج؟ إنه أقوى من بغل، يستطيع أن يحبل نساء قبيلة بأكملها. وقالت واحدة: إذا كن حمقاوات وأقبلن عليه. وماله؟ إنه شاب ويشتغل. فكرة الزواج لم تتحدد في ذهن حميد بعد، لكنه حبذها سوف يفعل مثلما يفعل كل الناس، يتزوجون وينجبون، يحترمهم الجميع، بعد ذلك، يلزمه أن يغير من سلوكه. سوف يتحدث بطريقة خاصة مثلما يتحدث الرجال المتزوجون، وسوف يكف عن ارتكاب حماقات مثل تلك التي يرتكبها العزاب، بعض زملائه من بائعي الصحف الأكبر منه سناً متزوجون. لكن يبدو أنهم يعيشون مسحوقين، دائماً رؤوسهم مطرقة، يأكلون بامتعاض وتقزز، غير أن ثيابهم نظيفة، عكس العزاب الذين تظهر ثيابهم مسودة باستمرار بفعل احتكاك الجرائد يومياً بها".
ومن رواية الثعلب الذي يظهر ويختفي
"عندما استيقظت لم تكن لدي أية رغبة في الأكل إطلاقاً. كان الوقت وقت الغروب وأنا لا أحبه. إنه يذكرني بنهاية الكون. كل شيء يرقد لتستأنف المهزلة. المهزلة الكبرى العظيمة. السيرك الكبير حيث تجتمع الطبائع التي تكرر نفسها عبر التاريخ، الحب، الحقد، العدل، الظلم، النفاق، السرقة، المعاملة الحسنة المغلفة بنوايا خلفية قد تكون صادقة أولاً. والآن هو المساء مرة أخرى. كل شيء حدث اليوم لكني كنت غائباً عنه. وفي الواقع، حتى لو كانت مستيقظاً فإني في أغلب الأحيان أكون غائباً. كم من الأشياء تحصل لكنها تتكرر في هذا الزمن أو ذاك. هذا هو المساء وهذه نهاية أشياء بالنسبة لهم، وبداية أشياء بالنسبة لي. ولكن بدونهم، لن تكون هذه الأشياء هي أشيائي. فهم الذين يشعرونني بأنهم لي. إنها لعبة جميلة وقديمة. جزء من المهزلة الكبرى، جزء من المهلة، جزء من السيرك. وكان علي أن أتقمص دوراً في هذا السيرك. أنا لا أعرف الدب ولا أعرف الأسد ولا أعرف النمر. أعرف جيداً الحمار والبغل."
وقد اخترت القصتين القصيرتين التاليتين بعنوان "الحرف" و "السابع" على سبيل تقديم نماذج من أعماله:

الحرف ـــ قصة: محمَد زفزاف
استطاع الحرف أن يتخلص من أيدي حرس القوات المساعدة بسهولة، لأنهم كانوا مشغولين بهدم خيمته على الشاطئ. اختفى خلف كثبان الرمل. ولأنه لم يشكل أية خطورة، لم يهتموا به. المدينة صغيرة، ويمكن غداً أو بعد غد مشاهدة الحرف وهو يتجول أو منعزلاً في ركن من مقهى يدخن الكيف في تأمل.‏
قال الضابط:‏
-لا تهتموا كثيراً. سوف يأتي ويقدم نفسه إلينا غداً صباحاً أو هذه الليلة. هل نهتم بمخبول؟!‏
قال أحدهم وهو يرفس الباش بحذائه:‏
-أخشى أن يرتكب حماقات أخرى هذا المساء.‏
قال الضابط:‏
-كل ما يهمنا هو أننا نود أن نعرف من أين أتى بهذه الخيمة؟ من أين له الفلوس حتى يشتري مثلها؟‏
كان الحرف يرى قاماتهم في الظلام، وأحياناً يميز وجوه بعضهم عندما تنفضح تحت ضوء البطاريات، وفكر بأنه يستطيع أن يتغلب على اثنين منهم على الأقل لو تشاجر معهما، ولكنهم أكثر من اثنين. أخذ يمسح الزبد عن شفتيه ويلعن في الهواء، ورآهم يتكتلون لحمل الخيمة إلى السيارة.‏
كان الحرف معروفاً من طرف الجميع، ولا شك أن قصته مع حرس القوات المساعدة هذه الليلة، ستنتشر في المدينة الصغيرة. سيعرفها الكل، وتبدأ التكهنات كيف يستطيع الحرف أن ينتقم من هؤلاء الحرس. إن حماقاته كثيرة وشاذة، سواء في السجن أو في مستشفى الأمراض العقلية.‏
وعندما ركب الحرس السيارة قال الضابط:‏
-إنها خيمة غالية الثمن. لا يمكن أن يشتري مثلها حتى الباشا نفسه.‏
-هذا الأحمق المعتوه، لا ندري من أين أتى بها؟‏
كان الناس يعرفون من أين أتى بها، لقد ذهب مع هيبية فرنسية إلى تاغازوت. وكانت تدعي أنها التقت بأميرها. كانت تعتقد حقاً أنه أمير. بلحيته القصيرة وبشرته السمراء. وعندما عاد من تاغازوت، حمل معه هذه الخيمة ومعطف فرو، وهذا المعطف هو الذي كان يرتديه الحرف يومياً، رغم الحرارة الشديدة. وكان يرتدي أيضاً سروالاً مقصوصاً فوق الركبتين، بحيث تبدو ساقاه المشعرتان؛ وقدماه الحافيتان المتصلبتان. كل ذلك مع معطف للفرو مرتفع الثمن، والحرارة شديدة.‏
عندما رأى الحرف السيارة تتحرك، دك الرمل بقدميه وأراد أن يصيح. لكن الصوت أنحبس في حنجرته. ودس يده في جيب معطفه الفرو، وتحسس حزمة من الأوراق النقدية. ومشى نحو المكان الذي كانت الخيمة منصوبة فيه، وأخذ يذري الرمل كمن يبحث عن شيء. لكنه لم يعثر على ذلك الشيء. فجلس وأخذ يمضغ ريقه. وقف ثم جلس مرة أخرى ومد رجليه، وشعر بوخز تحت عجيزته، فوقف وتوجه نحو الأضواء القريبة. مر بالقرب من فندق "الجزر". وظهر له مركز الشرطة فاغراً فاه، فانسل إلى زقاق ضيق، فاراً بنفسه منهم. لو ألقوا عليه القبض لأشبعوه ضرباً ورفساً، وأبقوه أياماً في قبو مظلم يتغير زبائنه باستمرار إلا هو، لقد كانت له تجربة في ذلك المكان المظلم الذي يقضي فيه الزبائن حاجتهم أمامك وقد تدلت أعضاؤهم الجنسية. كان الحرف يقبض على حزمة الأوراق النقدية في جيبه بيد حديدية. وعندما رأى شبح أول إنسان في رأس الزقاق ارتجف ووقف في مكانه متصلباً، لكنه عندما عرف أن الأمر لا يتعلق بواحد منهم، مشى بثقة نحو المكان الذي خطر له تواً. كانت جل الحوانيت قد أغلقت أبوابها تقريباً. والقليل منها ما زالت مفتوحة، ضيقة الأبواب. وقد اصطفت كؤوس اللبن الرائب على جوانبها. مر بثلاثة أشخاص ملتفين في جلابيبهم، وسمع اسم "الحرف" يتردد على شفاههم، لكنه لم يعر أحدهم اهتماماً. كانوا يتحدثون عنه من غير شك. ووجد الحرف نفسه أخيراً أمام باب دار يعرفها جيداً ولكنه لا يزورها إلا قليلاً، طرق الباب وهو لا يزال يتحسس حزمة النقود في جيبه. طرق مرة أخرى ففتحت له امرأة عجوز على جبهتها وشم عمودي يقسمها إلى نصفين. قالت المرأة:‏
-الحرف، ماذا تريد؟ اذهب فتش عن مكان آخر يليق بك يا خانز.‏
لكنه لم يستمع إليها. بل دفع الباب بكل قوة وعنف.‏
-سأبيت هنا الليلة. لقد أخذوا خيمتي.‏
-من؟ البوليس؟ لا شك أنك عملتها يا خانز.‏
اجتاز باحة الدار وأصبح وسط الغرفة التي ينبعث منها الضوء. وقالت المرأة بصوت منخفض:‏
-لا ترفع صوتك. الجيران فوقك.‏
كانت ثلاث نساء ممددات. وأخذ يجيل النظر فيهن ليختار واحدة منهن. وعندما لحقت به المرأة قالت:‏
-أنا لا أمزح، أدفع النقود أولاً.‏
أخرج الحرف حزمة النقود وأراها للعجوز، فصرخت في النساء:‏
-ياه! أفقن فالحرف غني هذه الليلة.‏
وأرادت أن تخطف من يده حزمة النقود، غير أنه أعادها إلى جيبه بسرعة. وقال:‏
-أريد تلك.‏
-هي لك، هات النقود. سأعدها لك.‏
-إنها معدودة.‏
-هات يا خانز.‏
-الخانزة هي أمك.‏
وأعطاها ورقة نقدية فاختطفتها من يده وهي تقول:‏
-هل تكفي هذه يا مخبول؟ للشراب أم للنوم؟‏
دفع لها الحرف ورقة أخرى، إلا أنها أرادت أن تستزيد لكنه رفض. وجلس مجيلاً نظره في الغرفة، كانت مستطيلة، مطلية بطلاء يقترب من الأصفر الباهت. وعلى الجدران علقت بعض الصور لسيدنا علي والغول، ولحواء وهي تقدم التفاحة لآدم والأفعى بينهما وقد لوت جسدها حول جذع الشجرة، وكانت نافذة وحيدة صغيرة على شكل شبه منحرف قرب الباب، وقد اخترقها الضوء حتى انتهى وغاب في ظلام خفيف خارج الغرفة.‏
اقتربت إحدى النساء من الحرف:‏
-من التي تختار؟ أنا؟‏
-أريد تلك. أنت أكل جسدك الزهري، ما هذه الدمامل على شفتيك؟‏
-أنت أيضاً تفهم هذه الأمور يا أحمق؟!‏
-الحمقاء هي أمك. ابتعدي عني لا أريد خانزة مثلك.‏
فصاحت المرأة في العجوز:‏
-أمي طامو، هل جننت حتى تستقبلي في بيتك مثل هذا المخبول القذر؟‏
وقالت العجوز:‏
-أقرع وبفلوسه.‏
-يلعن بوها حياة.‏
-اسكتي أنت. إنه لا يريدك ومن حقه ذلك.‏
ودارت العجوز إلى الحرف وأخذت تلاطفه. بالغت في ملاطفتها له، فانتفخ الحرف مثل ديك يستعد لمعركة حقيقية أو معركة جنسية. وأرادت أن تجعل لملاطفتها ثمناً. فقالت وهي تحرك الحرف من كتفيه:‏
-نريد أن نسكر الليلة ونتعشى ونمرح. هات ثمن اللحم والخضر والفواكه والشراب هذه النقود ستأخذها القحبة.‏
-إنني لا أملك بنكاً.‏
أدخل يده في جيبه وأخرج ورقتين نقديتين، تناولتها العجوز مسرورة وهي تقول:‏
-أنت الآن رجل.‏
وللنساء:‏
-ألم أقل لكن أقرع وبفلوسه.‏
التفت الحرف إلى المرأة التي رغب فيها. اقترب منها ووضع كفه فوق كفها. لكنها أبدت بعض التمنع. سحبت يدها من تحت يده وهي تقول:‏
-هل تحبني حقاً؟‏
قال الحرف:‏
-أنا لم أرك قبل الليلة. كيف أستطيع أن أحبك؟!‏
-هل تحب هيبية إذن؟‏
-نعم. أحب كثيرات.‏
وقالت امرأة أخرى وهي ممددة فوق زريبة مهترئة:‏
-لقد أفسدت الهيبيات القذرات السوق علينا. سأذهب إلى الدار البيضاء لأصبح غسالة. وسأتزوج من عسكري.‏
-اسكتي يا فرتلانة، لا تعتقدي أنك ستجدين زوجاً بسهولة هناك. الفتيات كثيرات والرجال أصبحت أعينهم في السماء.‏
-كل زرع له كياله.‏
-إنك لست زرعاً. إنك حنظل.‏
-أقفلي فمك يا قحبة.‏
-القحبة هي أنت.‏
كانت العجوز قد غادرت الغرفة وقد التفت داخل حايك أبيض متسخ. أما الحرف فقد حاول أن يقفل فم المرأة التي بجانبه حتى لا تستمر في الشتم. ولكنها أبعدت شفتيها عن كفه، وقالت:‏
-قم اقض حاجتك، وابتعد عني أيها المخبول.‏
وأراد الحرف أن يرد عليها، لكن طرقات قوية على الباب أسكتتهم جميعاً. وتساءلت الأعين عمن يكون الطارق. وأخذت النساء في الاهتمام بأنفسهن. ربما يكون زبوناً جديداً، لكن الحرف وقف فجأة، وخرج إلى باحة الدار، وأخذ يجيل نظراته في كل مكان، استمرت الطرقات بخفة هذه المرة، فخرجت إحدى النساء الثلاث. وقبل أن تحاول فتح الباب، وضعت أذنها عليه لتستمع إلى الحديث الدائر في الخارج. كان من في الخارج قد أحس بأن شخصاً ما وراء الباب، فصرخ بصوت مرتفع:‏
-بوليس. افتحي يا قحبة!‏
صرخت المرأة صرخة مكتومة: "ناري!".‏
إذ ذاك أخذ الحرف يدور على نفسه. وتوجه بسرعة إلى صندوق كان موضوعاً قرب الحائط القصير. ثم قفز إلى الخارج بعيداً عن سيارة الشرطة. وسمع أصواتاً خلفه وهو يركض: "إنه الحرف. قف يا بغل! يا أحمق يا مخبول". ولم يكن يلتقط من هذه الكلمات إلا بعض الحروف. كان يركض ويركض، ولم يكن أحد يركض خلفه. وقال الضابط:‏
-لا تهتموا بذاك المعتوه. سنقبض عليه الليلة أو غداً صباحاً.‏
ثم دفعوا النساء بقوة داخل السيارة، إلى جانب نساء أخريات ورجال آخرين.‏
كما اخترت أيضا هذه القصة أيضا من قلمه:
السابع - قصة: محمد زفزاف
قالت نوارة:
- لابد أن نجلب جوقا في حفلة النساء تلك لأنه لا يمكن أن تحلو حفلة بدون طرب ورقص.
قال أحمد:
- لو طلبت مني الزوجة الأولى ذلك لما حققت لها هذه الرغبة، أنت تعرفين المكانة التي تحتلينها في قلبي.
نوارة تبلغ الثانية والعشرين، صغيرة الحجم، أنفها أقرب إلى أن يكون أفطس، غير أن ما يغطي على ذلك تورد وجنتيها ووجود ذلك الخال قرب الأنف عند الحنك الأيسر. جسدها لا يبدو ذا بال، لكنها عندما تتعرى تصبح امرأة حقيقية بين يدي الرجل، أي رجل، لذيذة شكل لا يمكن تصوره مثل فاكهة ناضجة في غير موسمها. لذلك قال أحمد:
- تعرفين أيضا أنني ألبي كل طلباتك. لكن جوقا من الرجال لا أتصوره بين مجموعة من النساء.
- وأنا أيضا لا أتصور جوقا من النساء بين مجموعة من النساء.
- سوف أحضر لك جوقا من العمي. كثير من الحفلات النسوية يحضرها جوق من العمي.
حك أحمد تحت إبطه. تفرس فيها بنظرات جد حادة. تأمل جسدها الصغير الحجم اللذيذ مثل فاكهة في غير موسمها، هذا الجسد الذي يغطيه زغب أصهب مثل زغب الخوخ. لا يمكن لجوق من الرجال أن يغني أمام امرأة مثل هذه، لكن لا بأس إذا كانوا عميا.
قالت نوارة:- هذا ولدنا الأول، ويجب أن يكون احتفالنا سابعه احتفالا يغلق أفواه النساء والرجال معا. وأنت تعرف أن الناس يتحدثون حتى عن الأشياء التي لم يروها ولم يسمعوا بها.
- إذا جلبنا جوقا من العمي فإنه لا يمكن لأحد أن يقول شيئا.
- كثير من الناس يقيمون حفلات يختلط فيها النساء بالرجال.
- أنا لست من أولئك الناس.
تظاهرت بالغضب، شعر هو بذلك لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما يفكر فيه. هذا قراره حتى ولو كان يموت من أجل زغب الخوخ. نوارة أرادت، وأحمد أراد، غير أن أحمد أراد ما لم ترده نوارة. ثم سُمعت الزغاريد والتصفيقات، ودخل جوق العمي متماسكين مثل عربات القطار، واصطفوا في مكان معين. احتكت أفخاذ بعضهم بأفخاذ بعض النساء، ومنهن من تجنبن ذلك ومنهن من رغبن في دفئه. هذا سابع سوف يغلق الأفواه: أفواه النساء وأفواه الرجال، خصوصا فم مينة زوجة عبد القادر، فم منانة وفاطمة الحسناوية وخدوج بنت الأصمك، ويغلق كابينة رحمة زوجة العربي الهيش. لذلك حاولت نوارة أن تبدو كما لو لم تخرج قط من حالة النفاس والولادة، حتى لا يقال بأنها ضعيفة وأنه ليس بمقدورها أن تنجب دزينة من الأطفال كما تنجب كل نساء البراريك. وعندما ارتفعت الزغاريد والتصفيقات زغردت هي الأخرى واضعة كفها فوق شفتيها العليا التي ظهر فوقها تقاطع خطوط حناء، في حين كانت اليد الأخرى تحضن الصبي فوق خذيها. وعندما زغردت أخرجت ثديها وحاولت أن تلمه عبثا للطفل الذي كان يحرك عبثا يديه شبه مغمض العينين.
وقالت رحمة زوجة العربي الهيش:- الله يحفظه لأمه وأبيه.
- لم أرد سوى أن أنبهك لأن لي تجربة في الأمر وأم لخمسة أبناء وبنات.
وقالت منانة التي التقطت الحديث رغم أنها كانت تصفق وترشف الشاي:-لم تقل لك غير الحق.
نهضت امرأة من أقصى البراكة وتخطت أقدام بعض النساء وتقدمت نحو الأعمى صاحب التعريجة الذي كان يغني بصوته المبحوح الذي نخره الكيف، وعلقت له بين طاقيته وجبهته ورقة من خمسة دراهم. اضطرب عف الأعمى وأوشكت كلمات الأغنية أن تضطرب في فمه كذلك، لكنه استعاد الإيقاع، بل رفع صوته أكث وأخذ يضرب على جلد التعريجة بحماس. فعلت نساء أخريات مثل المرأة الأولى، وفي نفس الوقت كن يزرن نوارة والصبي. نهضت امرأة فقيرة واقتربت منها وقدمت لها طوبة سكر:
- يا ابنتي يا نوارة اقبلي هذه الزرورة، في عهدنا لم نكن نقدم سوى السكر. عصركم تبدل، ما كنا نعرف الفلوس.
وتراجعت العجوز إلى مكانها. حتى لو كان معها ما كانت لتدمها كزرورة لأن الفلوس تفلس، ولذلك قيل الله يفلسك. ثم خبطت العجوز على فخذيها العجفاوين وقالت للتي تجلس بالقرب منها:
- إنها صغيرة ومسكينة، لكن تبدو أنها من النوع الذي يعيش له الأولاد. وقالت المرأة المتوسطة العمر التي كانت تجلس قربها:
- تقدمي إلى الوسط حتى نراك.
- لا أستطيع أن أرقص مع رجل.
- إنه مجرد أعمى، وفوق ذلك فهو عجوز.
- عيب أن تراقص امرأة رجلا.
- كل شيء عندكن عيب، نحن في الدوار نراقص الرجال.
- لا شك في ذلك، لأنك منصورية، المنصورية لا تخجل حتى من أولادها.
وقفت المنصورية وتخطت بعض الأفخاذ والأقدام والرؤوس، أصبحت قبالة الأعمى في الوسعة الصغيرة، مدت ذراعيها في الفضاء، وأخذت تدك الأرض بقدميها. زغردت بعض النساء مشجعات لها. ارتفع صوت الأعمى وازدادت ضربات أنامله على التعريجة قوة. كانت التعريجة تحت إبطه تكاد تختفي وراء ثوب قشابته، ومع ذلك كان يسمع له صوت حاد. الأعمى صاحب الكمنجة يساعده بترديده لازمة أغنية عن الحصاد والحب والمرأة التي لا تهتم به لأنه مجرد خماس. شعرت نوارة بالبول الساخن يتسرب إلى جسدها. اعتبرت ذلك طبيعيا فتحملته، أخذت تحرك هي الأخرى جسدها الواهن. لاحظت ذلك امرأة فقالت لها:
- لا تحاولي أن ترقصي، الحرارة شديدة. سوف تفسدين الوالدة إذا فعلت. زوجك ينتظر منك أولادا آخرين. تعالي اجلسي.
جلست نوارة عند الباب، واستمرت المنصورية في الرقص، والأعمى ينحني عند عجيزتها وقد أصابه نوع من الحال، يضرب بعنف على التعريجة وصوته المبحوح يخترق أخشاب البراكة. نهضت امرأة أخرى وأخذت ترقص وقد نزعت عن شعرها الأكرت منديلها المزوق، ألقت المنديل في حجر إحدى النساء، ظلت ترقص في مكانها. وقف أعمى آخر كان يضع نظارتين، وتوجه نحو الوسعة الصغيرة وسط البراكة. داس المكان كالتيس، أخذ يرقص مع المنصورية والأعمى صاحب التعريجة، ويردد لازمة الأغنية، لكن صوته كان شبيها بالعواء. نفس اللازمة كانت تردد من طرف أفواه أخرى، أفواه نساء يبرن ورجال لا يبصرون. وقالت امرأة توجد قرب الباب لنوارة:
- لا شك أن زوجك سيشرب زجاجتين من النبيذ هذه الليلة.
- لم يعد يشرب، ولكنه عوضه بالكيف. الكيف أرخص يا أختي.
- أهاه ! مثل زوجي ! لكن الكيف يجعل الرجال كسلاء ويفقدون فحولتهم.
- طبعا، إذا كانت المرأة لا تعرف كيف تستحلب الثور. أقصد إذا أنهكت. أما أنا فما أزال صغيرة وقادرة على استحلاب ثور عمره ثمانون سنة.
- هنيئا لك يا أختي. ثم إن سي أحمد يبدو رجلا فحلا. وهذا العزري الذي في أحضانك لا بد أنه سوف يشبهه.
- الله وحده يعلم بذلك.
أخذت تهدهد الصبي، وتنظر إلى وجهه المغطى بخرق، ثم قبلت الخرقة الملفوفة فوق رأسه وهي تقول:
- الفحل اليوم هو الذي يعرف القراءة، أتمنى أن يتعلم حتى يحصل على شهادات.
- معك حق. لكن إذا لم يطردوه من المدرسة. لقد طردوا كل أبنائي.
- شكيكو ! (وضربت عند خشب البراكة وتفلت في التراب).
قالت المرأة:- ألف شكيكو وشكيكو. لكنها الحكومة.
لم تسمعها نوارة لأن الزغاريد كانت تشق الفضاء، والأصوات تتعالى وتتحدث أو تتغنى ! وشعرت أنها حققت كل شيء. لقد أغلقت الأفواه. ينقص شيء: المشوي والضلعة ! لكن مازال الدهر طويلا عريضا. وفي المرة القادمة سوف يستمر السابع سبعة أيام وسبع ليال بكاملها.

الأحد، أبريل 27

الاســطورة



جولة مع الأساطير

بقلم اياد نصار


تلعب الميثولوجيا أو علم دراسة وتحليل الأساطير دورا كبيرا في الاعمال الادبية من خلال توظيف اساطير الالهة والشخصيات للدلالة على المعاني التي ارتبطت بها تلك الاساطير والدرس أو المغزى الذي حملته وتحمله دائما تلك الاساطير عبر العصور. كما أن الشخصيات التي تدور حولها تلك الاساطير قد أصبح لها بعدا رمزيا متعارفا عليه منذ زمن قديم، وعندما ترد اسماؤها في أي عمل أدبي، سرعان ما يتبادر الى الذهن ذلك الرمز الذي يستدعي في التفكير قصة الاسطورة. وللاساطير قيمة تاريخية وفنية ودينية وادبية ومعرفية تنقل مستوى التفكير الانساني في فجر الحضارة وكيف تعامل مع الظواهر الطبيعية او انماط السلوك الانساني وأنواع الشخصيات من خلال تحليلها باستخدام الرموز، كما تدل على الكيفية التي حاول بها عقل الانسان تفسير الظواهر من حوله التي حار في تفسيرها او تبريرها، وقد وفرت له الاساطير عالما متكاملا واطار فكريا واسعا يمكن أن يلجأ اليه في تفسير أية ظاهرة او محاولة فهمها، فما لا يمكن تطويعه او فهمه بمعطيات العقل البشري انذاك، فيمكن تطويعه بالاسطورة التي تسمح بخلق كائنات وظواهر او تصرفات قد لا تكون ممكنة بعالم الواقع.

وقد كنت دائما معجبا بمستوى تطور التفكير الانساني في مهد الحياة البشرية الذي تبدى في خلق منظومة كبيرة واسعة ومتعددة من الالهة والمخلوقات الاسطورية بحيث تغطي أغلب مناحي الحياة ونوازع الخير والشر وتسعى لتبرير وتفسير الظواهر الطبيعية والبشرية المتعددة، وسبر غور العلاقة بين السماء والارض وبين الالهة والبشر، كما كانت تسد حيرة الانسان أمام الكوارث او الظواهر الكونية المتكررة وتقدم له اطاراً يسد حاجته للايمان وابداء الخشية والخوف مما يحدث ولا يملك السيطرة عليه. ولا شك أن كل تجمع بشري كان له من الاساطير الشيء الكثير في تلك الازمان البعيدة، ولكن من اشهرها اساطير اليونان الاغريق، وأساطير الرومان واساطير الفراعنة وأساطير بلاد ما بين النهرين واساطير الفنيقيين والكنعانيين، والاساطير الصينية والافريقية وحضارت أمريكا اللاتينية كالازتيك والمايا والإنكا.


ومن الاساطير اليونانية المشهورة التي اكتسبت أهمية، والتي تتردد كثيرا في ثنايا القصائد والقصص والروايات والمسرحيات والخواطر والمقالات والابحاث وكل أجناس الكتابة الادبية هناك أسطورة كعب أخيل، ونرجس، وأدونيس، وكيوبيد، وبيجماليون وجالاتيا، وسيزيف... وغيرها الكثير. لكنني أحببت أن اتوقف عند هذه الاساطير الجميلة التي لا تخلو من عنصر مؤثر وقصة فريدة تكاد تبدو حقيقية فتقيم صلة روحية مع النفس الانسانية تدعو للتأمل والتعاطف مع المأساة الانسانية التي تثير إما غضب الالهة أو شفقتها وفي الحالتين تثير التعاطف الانساني معها! وقد استخدم الادباء العرب هذه الاساطير كثيرا في أعمالهم، بل إن بعضهم تسمى باحداها وهو الاديب السوري اللبناني أدونيس او علي احمد سعيد اسبر، كما كتب توفيق الحكيم مسرحيته الرائعة بيجماليون والتي استوحى فيها اسطورة الفنان المعذب بيجماليون.

كعب أخيل:

كان أخيل Achillis أقوى وأشجع أبطال اليونان وأكثرهم وسامة في حروب طروادة ، وقد خلدت ملحمة الالياذة لهوميروس أعماله وبطولاته. كان رمز البطل الخارق الذي يؤثر المجد على الحياة الطويلة. ولكنه أصبح رمزاً لنقطة الضعف التي يقتل منها الانسان. فقد ذكرت الاسطورة أنه كان ابن بيليوس ملك ميرميدونس وامه هي حورية البحر ثيتس في العام 17 للميلاد، ولكي تحصنه وتحميه من الاخطار فقد أمسكت به من كعبه وقامت بانزاله في نهر ستايكس المقدس لكي تحصنه من الاخطار. فأصبح جسده كله محصنا من الضربات الا المكان الذي أمسكته منه أمه وهو كعبه. وقد قيل أن موته كان انتقاما من الالهة لانه قتل الامير الطروادي ابن الملك بريام وهو ترويلوس. وقد قتل عندما أصيب بسهم في كعبه الذي لم يكن محصنا من الضربات. فصار يقال مثلاً "كعب أخيل" للادلة على مكمن ضعف الانسان الذي قد يؤدي به الى الهلاك.

أدونيس:

ورد ذكر أدونيس Adonis في الاسطورة الاغريقية على أنه نصف اله. وقد ورد ما يقابله في اساطير أخرى كانت شائعة آنذاك مثل اوزيريس لدى الفراعنة، وتموز لدى البابليين، وفي الاساطير الجرمانية وغيرها. وقد تعددت الروايات حول شخصيته، ولكن الغالب انه كان نصف اله يولد ويموت ويبعث من جديد كل عام ويبقى دائما في ريعان الشباب. وعندما ولد فقد أذهل جماله الفريد ذو الطبيعة السماوية من حوله. فقررت الهة الحب أفروديت أن تبقيه لها وتحافظ عليه، فأعطته الى بيرسيفون ، الهة الخصب والعالم السفلي ، كي تحافظ عليه. فأعجبتبه بيرسيفون ورفضت اعادته الى أفروديت. وقد فض الخلاف بينهما كبير الالهة زيوس، اذ قضى أن يمضي أدونيس أربعة اشهر في السنة عند أفروديت التي أغوته بمساعدة صديقتها هيلين، وأربعة أشهر عند بيرسيفون، وأربعة اشهر لنفسه. وقد قتل أدونيس بأنياب دب هاجمه. وقيل أن أرتيمس الهة الصيد قد أرسلت الدب لقتله انتقاما من أفروديت لانها قتلت حبيبها هيبوليتس الذي كان يمثل اله الغابات. فلما نثرت أفروديت الرحيق على جسمه بعد قتله، فقد نبت مكان كل قطرة من الرحيق زهرة شقائق النعمان. كما تحول نهر ابراهيم في جبل لبنان احمرا حزنا عليه. وقامت بيرسيفون باعلان أن ادونيس قد اصبح ملكها عندما مات ونزل العالم السفلي. وقد استخدم الشاعران الرومانتيكان الانجليزيان بيرس بايش شيلي والشاعر جون كيتس قصة أدونيس في بعض قصائدهما المشهورة.

نرجس:

أصبح نرجس أو نرسيس Narcissus رمزا متعارفا عليه لحالة الاغراق في الاعجاب بالذات وحبها، ومرادفا للوهم النفسي المرضي الذي يقوم على اعتبار الذات أو الانا مركزا أسمى لكل شيء في الكون او المحيط، فلا يجد في الاخرين وأعمالهم اي شيء يستحق الاهتمام او الاعجاب سوى اعمال الذات في انعكاس واضح لأنانية مفرطة او حالة مرضية من عبادة الذات. واصبحت كلمة النرجسية مرادفا لحالات الاعجاب المفرط بالذات والتعالي على الاخرين والانشغال بجمال الذات او ما يراه حسنا جميلا فيها الى حد يتجاوز المألوف. وكثيرا ما يستخدم الادباء والنقاد هذا المصطلح للدلالة على ما ذكرته، ولو أن بعض الاستخدامات النقدية أحيانا تركز على جانب بشيء من التلميح الايجابي كالجانب المرتبط بالتفرد والابداع والذي ينعكس أحيانا في صورة العزلة عن المجتمع والانكفاء على الذات لان صاحبها لا يجد ما يستحق الاهتمام في الاخرين أو لا يجده مكافئا لموهبته. وقد كان اصل الكلمة هو الاسطورة اليونانية المنسوبة الى نرسيس ذلك الشاب ذي الوجه الجميل الوسيم الذي كان معجبا بجمال وجهه، فكان يجلس دائما على حافة بركة وينظر الى صورته في الماء الى أن ذوى من هذا الهوس المرضي ووقع ميتا على حافة الماء، فنبتت مكانه نبتة جميلة هي عبارة عن زهرة سميت على اسمه باسم نرسيس او نرجس. غير أن المصادر اليونانية ومن بعدها الرومانية مثل اشعار أوفيد في كتاب التحولات تتحدث عن قصص متعددة لنرسيس تختلف في احداثها ووقائعها، ومن هذه الاساطير من أن نرسيس كانله أخت توأم وكانت تشبه تماما وقد أحبها وعاش معها، فلما ماتت صار يتخيل صورته في صفحة الماء كأنها صورة اخته.

بيجماليون:

Pygmalion شخصية اسطورية يونانية من قبرص، ذكرها أوفيد الروماني في كتابه التحولات. ويقال أن الاسم بيجماليون مأخوذ من اسم شخصية فنيقية دارت حولها أحداث الاسطورة. كان بيجماليون فنانا ونحاتا وقد نحت تمثال امرأة فائقة الجمال من العاج سماها جالاتيا. وقد أعجب بيجماليون بها كثيرا لانه صنعها لتكون المثل الاعلى في الجمال والروعة والانوثة. وقد صار بيجماليون لا هم لديه سوى اطالة النظر الى التمثال والاعجاب به حتى وقع في غرام جالاتيا وصار يتخلها أمرأة حقيقية تكلمه وتحبه. ولكن كان حزينا لأن المرأة التي صنعها حسب معاييره لتكون المثل الاعلى في الجمال والروعة لم يكن يبد منها اية اشارة تعطي الاحساس انها تشعر به وبحبه. فصار يرجو الالهة ويطلب منها أن تدب الروح في تمثال جلاتيا لكي تحيا. لم تستجب له الالهة، فصار يلح عليها أن تحقق أمنيته من شدة عشقه لها،وبقي على هذه الحال فترة حتى ظهر عليه الوجد والعشق، فاستجابت الالهة أخيرا لطلبه، فدبت فيها الحياة، ففرح بيجماليون كثيرا ولم يكن يعرف كيف يعبر عن فرحه الغامر بها وقد أصبحت امرأة بكل جمالها وروعتها ورقتها. وعاش معها بيجمالون سعيدا. غير أنها بعد فترة صار يظهر عليها ما يظهر على البشر من علامات الكبر في السن وتبدل الجمال وزواله، والحزن والغضب وتقلب المزاج. فلم يحتمل بيجماليون ذلك. وصار يشعر بالحزن لما حدث لها. وتدريجيا صار يكره هذه التحولات التي طرأت عليها، ولم يعد يستوعب انها وقد دبت فيهاالحياة ستجري عليها كل صفات البشر العاديين. وبلغ به الامر أن صار يكره كل تصرفاتها وتقلباتها. حتى وصل الامر انه لم يعد يطيقها، فقد ضاع الحلم الذي كان يعيش عليه. وصار يرجو الالهة مرة أخرى ان تعيدها تمثالا كما كان. وقد استوحى القصة الاديب الكبير توفيق الحكيم في مسرحيته التي تحمل نفس الاسم، كما تأثربها الاديب الساخر برناردشو! وترمز الاسطورة الى طبيعة الانسان المتقلبة والحب المتبدل الذي لا يستقيم على حال، وترمز الى المثاليات التي يظهر مدى هشاشتها عندما تصطدم بحقائق الواقع. كما ترمز الى المقارنة بين الفن الخالد وبين الحياة الفانية، والى طبيعة الجمال الزائلة مع الزمن. كما ترمز الى التناقض الذي يعيشه الفنان بين مثاليات سامية مفرطة وبين تصرفاته الحقيقية على أرض الواقع!

السبت، أبريل 26

سراب


سَــراب


يا أفقَنا البعيدَ الدامي في ليلِ تيهِنا الطويلْ

يا حُلمَنا الازليَّ خلفَ سرابِ الوهمِ الجميلْ

نصنعُ للريحِ من جراحِنا أغنياتٍ ومواويلْ

ونقيمُ للموتِ كلَّ عامٍ مواسمَ الحنينِ والعويلْ


لم تنهضِ العنقاءُ ولم تَحْيَ من رمادِ أحزانِنا

ولم يَعُدْ فارسنُا الحجريُ يرى دموعَ مدينتِنا

أحرقْنا في متلاطمِ موجِك يا بحرُ كلَّ مراكبِنا

لم يبقَ لنا في ليلِنا الدامسِ الحزينِ سوى أغنياتِنا


يا قَمرَنا العالي قدَّمنا لكَ القرابينَ والمواكبْ

فلتطلَّ علينا بعدَ الغيابِ في ليلِ النوائبْ!

يا جُرحَنا الابديَّ توَّهتْنا السيوفُ والغرائبْ

تاهتْ بنا الدروبُ حينَ غرقْنا في حديثِ العواقبْ


يا تاريخاً صنعناهُ لذيذاً حين تتجسَّدُ الاوهامُ

كم ينبغي أن تموتَ الروحُ لتستيقظَ الايامُ

لا الماضي عادَ ولانفعَ البكاءُ ولا الكلامُ

هل مِنْ أَملٍ يا قلبُ حين يصرخُ بنا الحطامُ


متى يرحلُ الحزنُ والظلامُ عن هذي البلادْ

متى تنبتُ الاحلامُ والحريةُ من بقايا الرمادْ

كم ضاعتْ منِّا الرؤيةُ من شدَّةِ حالكِ السوادْ

آه يا حزني المقيمَ يملأُ بالحسرةِ أعماقَ الفؤادْ


ايــاد

الجمعة، أبريل 18

طيـــف


طيـــف


يا فتنة َ القلبِ حينَ يُطِلُّ على الدنيا القمرْ

مَنْ قالَ إنَّ حرَّ الشوقِ فينا يَذبُلُ كالزَّهرْ

مَنْ قالَ يموتُ الحبُّ اذا ضاعَ لحنُ السَّهَرْ


طَيفُكِ ينيرُ عَتْمة َ الدَّربِ حين يغشانا التعبْ

وعيونُكِ تُشْعِلُ في حنايا الصَّدرِ اللَّهبْ


حُبُّكِ نقشٌ سومريٌّ على بابِ هيكلي

وعلى الجدارِ مَحْفورٌ كَلَوْحِ إلهٍ بابلي

صارتِ الذكرى قَدَري..فأناديكِ يا أَملي


سَأكتبُ الهوى على عَرْشِ القلبِ بالذَّهبْ

وأُشْعِلُ في الليلِ نارَ الحبِّ لتعرفي السببْ


يا مُنى اللقاءِ حينَ يستبدُّ بيَ الشوقُ والهوى

كمْ أراكِ في خيالي فَتُضيءُ حُروفُكِ بالرؤى

ويثيرُ جَمالُ الروحِ في قلبي حرَّ اللظى


كمْ تاقتْ لرؤياكِ الدروبُ وكمْ إستبدَّ العَتَبْ

هذه أغنياتي تناديكِ فعودي يا مَلِكَةَ الادبْ


تحملُ الريحُ لأشجارِكِ العصافيرَ والأغاني

فَيُدَوّي الصمْتُ في سمائي بِحُرْقةِ الاماني

آهِ من تباريحِ الشَّكوى فاضتْ بها أَلحاني


يا صهيلَ الألمِ يَنْزِفُ من جُرحي الغَضَبْ

يا عذابَ الليلِ حينَ تَزورني أشباحُ العَجَبْ


ايـاد نصـار

الجمعة، أبريل 11

أحــلام

قصة قصيرة
بقلم ايـاد نصار

لو تعرفين وهل إلاَّك عارفةٌ همومَ قلبي؟ ردّدت الكلمات مراراً وأنا أحس كأنما هي كلماتي آتية من الاعماق يغلفها الحزن ويجللها إحساس بإنكسار في داخلي. كادت أن تهمي دمعة من عيني. ترقرقت ولكنها تحجرت في الجفن. تذكرت أمس حزني المكبوت وقهري الصامت وبكائي في سواد الظلام كي لا تحس بي أمي فيصيبها الحزن وتشرع في البكاء والنشيج.

كانت فيروز تغني بصوتها الملائكي والدنيا تألقت بإشراقةٍ نورانيةٍ. كان الفضاء صحواً والهواء بارداً عليلاً في صباح من صباحات نيسان. لكن الامر لم يخل من إحساسي الدائم بالحزن يسري في أعماق القلب وفي شراييني فأحسّ بإضطرابٍ داخلي . بدت الدنيا كلوحةٍ انطباعيةٍ بألوانها اللازوردية الزاهية من ريشة فنان كرذاذٍ أثيري رائع. لكن إحساسي بالحزن صار غريزياً. لقد تغير شيء ما في داخلي. لم أعد أنا ذاتي. أفكر بالالم قبل اللذة، وأستشعر الحزن قبل الفرح. نيسان يثير فينا ذكريات. يوقظ الشجن وينكأ الجراح. نيسان وما أدراك ما نيسان. تذكرت إليوت حين قال انه أقسى الشهور ينبت الزنابق في الارض اليباب. أحس نفسي مثل صحراء جرداء لم يعد ينبت فيها نخيل وجفت واحاتها. صار البيت عالمي الوحيد وأرضي اليباب. كنت أشعر بالضيق والاختناق أول الامر، لكنني تعودت عليه وطوعت إرادتي وآمالي وأحلامي لتعيش فيه بغير شكوى أو حزن. لم تعد الوحدة ترعبني كما كانت أول الامر. لم يعد سجنى الصغير هذا يسبب لي إنتكاسة نفسية كما كان في السابق. فلم أعد أشعر برغبة للخروج أو الالتقاء بالناس. فكما قال أحدهم الاخرون شر! أنني محتجزة في هذا البيت بإرادتي. ولكن الرغبة تلحّ علي بين حينٍ وآخر. إحساسٌ قاسٍ يثور بداخلي. أحاول أن أقمعه ولكنني بشر يؤرقني حب الحياة واطفاء الضرام حين يشتعل بالقلب. تثور ثائرتي وأنا أرى أحلامي قد قتلت وما تزال تقتل في كل يوم وأشواقي تختنق وتموت في مهدها.

تجلس أمي في مقعدها المتحرك أمامي تتمتم ببضع كلمات. تنظر الي بين فينة وأخرى. كنت اقرأ في الكتاب أمامي وأختلس النظر اليها. أرى في وجهها كل وقائع سنوات الشقاء والعذاب. تتلاقى أعيننا . ندعي الصدفة. ثم أعود للكتاب مرة أخرى. لا أعرف لماذا قررت دراسة اللغة الايطالية. هل هو الفراغ أم الاحساس بعقدة النقص حين أرى الاخرين يتكلمون بلغات أخرى فلا أفهم ماذا يقولون؟ لست أدري. كان خالد يحاول ان يعلمني الفرنسية. كان ذلك منذ سنوات طويلة ونحن في بداية المشوار، ولكني لم أعر الامر إهتماماً. التقطت بعض الكلمات والعبارات التي بالكاد تنفع في أي حديث قصير. كان يتقن الفرنسية الى حد كبير وأراه في كثير من الاحيان وقد أمسك كتاباً ما واستغرق في القراءة . كان يجد مشكلة في العثور على الكتب التي تثير إهتمامه. كانت عندي رغبة كبيرة أن أتعلمها وقد لاحظ علي ذلك فصار يساعدني على التعلم ويشرح لي بعض الكلمات والجمل.

نظرت الى أمي. بدأ رأسها يميل الى الامام. يبدو أن النعاس بدأ يغالبها في هذا الصباح وهي تجلس في الضوء الذي يملأ أرجاء الغرفة. أمي رفيق وحدتي وأنيس حياتي بعد الذي جرى. تقسو علي كثيراً في بعض الاحيان فأحترق من داخلي قهراً وغيظاً، ولكني تعودت أن أسمع وأسكت. لم أكن استطيع أن أغضبها أو أرد عليها بما يعكر صفوها، فقد صارت ضعيفة حساسة يتعبها أي شيء. وبرغم ذلك فهي سندي في هذه الحياة. أشعر بالضعف أمامها، وأنا ضعفها . قبل أن يصيبها المرض كانت قوية عنيدة المراس. كانت تدير شؤون البيت كما لو أنه مملكتها . كان أبي لا يحب مجادلتها أو مقاومة عنادها. وكانت هي تدرك ذلك. فنشأت أنا وإخوتي نخشاها ونخشى سطوتها المهيبة. حنونة الى أبعد حد. ولكن لا تبدي ضعفاً أو خضوعاً أنثوياً كما تفعل النساء.

عندما أراها بهذا الضعف الان أحس بالحزن في قلبي. أخشى عليها من أي شيء. لا أتصور حياتي الآن بدونها. لو صار لها شيء سأموت حزناً وربما يقع لي شيء ولا أحد من إخوتي سيعرف ذلك. وربما نموت ونشبع موتاً قبل أن يعلموا! وجودها يجمعنا حولها. ورغم أن كل واحد منهم قد أخذته الحياة فلم تعد الروابط بعمق الماضي ولا حرارته، إلاّ أن وجودهم حولها في البيت يعطيني نوعاً من الثقة والأمان.

أرى في عيون أمي حزناً دائماً وأحس في كلماتها رقة كأنما تريد أن تمسح جراحي بلمسة حانية محاولة لارضائي. توقفت عن التيه في أفكاري. لملمت خيالاتي واستجمعت نفسي مرة أخرى من بين يدي الحزن والبؤس. عدت اقرأ في الكتاب مرة أخرى. آه من أحلامي التي عذبتني. كل أحلامي تتوقف في منتصف الطريق. أريد أن أتكلم الايطالية بطلاقة فأنا أشعر أنها لغة جميلة وهذا ما يشجعني على الاستمرار. يجب أن أستعد اليوم فاليوم ستأتي سناء وستسألني عن الواجب الذي أعطتني إياه المرة الماضية. صرت أكره موعد درس سناء. تأتي بعد العصر ثلاثة أيام في الاسبوع. تدرسني الايطالية لمدة ساعتين في كل مرة. صرت أشعر أنني صرت أعرف القراءة ولكني ما زلت لا أثق أن أنطق جملة واحدة من دون أخطاء رغم مضي شهر على دروسي. فما الفائدة اذن؟!

عدت الى الكتب والاوراق أمامي. قررت أن أركّز بها. أخذت أدرب نفسي على لفظ الكلمات الجديدة. وانا أقلب الصفحات والاوراق وقعت الرسومات من بينها . أمسكت بها. أخذت أتأملها. رسومات طفولية أحتفظ بها منذ زمن طويل. وقد غلفتها بالنايلون كي أحافظ عليها. أطلت النظر وانا أتامل بها. لم أتمالك نفسي. دمعت عيوني ولم أستطع منع نفسي من البكاء. تحسست بأناملي على الخطوط والالوان. رسومات بريئة وألوان طفولية. خطوط تمثل وجه أم تقف هناك أمام بيت صغير له نوافذ وباب وبجانبه شجرة ذات أوراق خضراء. وفي السماء ألوان زرقاء وعصافير صغيرة تفرد أجنحتها. وفي أقصى الرسم جبال رمادية بعيدة يتخللها نهر بلون أزرق سماوي يجري ماراً قرب البيت، والارض تم تلوينها بلون بني وعليها بعض الاعشاب الخضراء. وفي أعلى زاوية الرسم دائرة برتقالية تضيء وترسل أشعتها الذهبية.

إنتبهت الى أمي كانت تنظر اليّ وأنا أحدّق في الرسومات. سمعتها تقول الى متى ستبكين كلما نظرت الى هذه الرسومات؟ الله يعوض عليك ويحرق قلب من كان السبب مثلما حرقوا قلبك. زادتني كلماتها حرقة وألما فصرت أبكي بصوت أعلى. صارت أمي تحاول تهدئتي وأنا أمسح دموعي الغزيرة على خدي. صرت أصرخ زينة .. زينة .. ماما .. يزن ماما أين أنتما؟ بقيت أنظر فيها وأنا أحاول كتم بكائي فلم أستطع. مرّ أسبوعان منذ أتى عيد الام. ولم أسمع ماما مرة أخرى .. جاء عيد الام وراح ولم اسمعها. وكم عيد جاء وراح وقلبي يتحسر ويتمزق من الالم. قدمت لي زينة ويزن هذه الرسومات في عيد الام قبل سبع سنوات حينما كان عمرها ست سنوات ويزن خمس سنوات. وما زلت أحتفظ بها. أجمل وأغلى ذكرى بقيت لي منهما.

كان خالد يحب أن يصطحب الاطفال معه أينما ذهب. كان يحب أن يلاعبهما ويشاركهما ألعابهما الطفولية. كان يمثل الجانب المفقود في تكويني. كان النقيض لي في اللعب مع الاطفال. لم أكن أتحمل تدليل أو مداعبة الاطفال أو مشاركتهم ألعابهم. لم يكن عندي صبر عليهم. كان ينتقدني أحيانا كوني لا أخصص وقتا لهم، ولكنه كان يدرك كم أحب الاطفال وأحن عليهم. كانت طريقتي في التعامل معهم تختلف عنه .. ليّنة حينما لا ينفع الا اللين وحازمة حينما يتطلب الامر ذلك. بل كان أحياناً يثور من حزمي الشديد معهم ويعتبرها قسوة لا داعي لها. كانا دائماً يتعلقان به كلما أراد الخروج ويقفان له بالمرصاد عند الباب! كانا يحبان الخروج بالسيارة معه لتغييرالجو.

لا زلت أذكر تفاصيل ذلك المساء الخريفي من شهر تشرين الثاني قبل ثلاث سنوات. كان خالد مدعواً لحضور حفلة زفاف صديقه في العمل. سألني إذا كنت أحب الذهاب معه فالدعوة عائلية. إعتذرت عن الذهاب فأنا لا أعرف صديقه ولا أعرف أحداً من أهله أو عروسه. لم أشعر أنني سآخذ راحتي هناك. فلا أحد أعرفه كي أتكلم معه، واذا كانت الحفلة غير مختلطة، فسأشعر بالملل بين أناس لا أعرفهم. ما أصعب أن تجد نفسك وحيداً بين أناس لا تعرفهم، وخصوصا إذا لم يبادر أحدهم لكسر الجليد. تفهّم خالد ذلك. قال انه سيذهب لوحده. سمعت زينة ويزن كلامه فقالا إنهما يريدان الذهاب للحفلة وطلبا مني الذهاب مع أبيهما، وأخذا يلحّان عليّ الذهاب معه. نظر خالد في وجه زينة ويزن وقال إنه سيأخذهما معه. طلب مني أن أساعدهما في إختيار وإرتداء أجمل ما لديهما من ملابس. فرحا بذلك كثيراً. ودّعتهم عند الباب ورجوت خالد ان ينتبه لهما ولا يتركهما يغيبان عن عينه. كنت دائما اوصيه ان ينتبه لهما كلما كانوا يخرجون معا. فهما املي في هذه الحياة اللذين رعيتهما بماء عيني ودم قلبي.

بعد حوالي الساعة والنصف رنّ الهاتف. أسرعت أرد على المكالمة. كان صوت رجل يبدو عليه التأثر والاضطراب رغم أنه حاول أن يصطنع الهدوء. كان يسأل إذا كان هذا بيت خالد. أخبرته أنني زوجته. طلب مني الحضور فوراً للمستشفى. صعقت لم أتمالك نفسي. صرخت به أخبرني ماذا حدث؟ طلبت منه أن يخبرني ماذا حصل؟ صرت أصرخ وأصيح من الصدمة، ولكنه لم يجبني. بقي يكرر أنه من الضروري الحضور للمستشفى لأمر طاريء قد حصل. كنت على وشك الانهيار من الخوف؟ ماذا حصل لزوجي وأولادي؟ اضطربت من الذهول وأنا أبكي وأصيح. شعرت بجسمي يرتجف وقلبي يخفق باضطراب من الخوف. لم أتمالك نفسي .. وقعت على الارض .. أمسكت بالهاتف واتصلت بأخي الاكبر .. لم أستطع أن أحافظ على هدوئي. بقيت أبكي وأنا أخبره بما حصل بصوت متهدج وأنا أنشج من الالم والحزن.

جاء أخي سريعاً وكان يبدو عليه الخوف .. لم يستطع أن يسألني فقد كنت بحالة مزرية .. أسرع بنا الى المستشفى .. كانت أصوات سيارات الاسعاف تملأ الشوارع وهي تتحرك سريعاً، ورأيت رجال الشرطة ينتشرون بأعداد كبيرة .. كان الجو مكفهراً والحزن يخيم على النفوس والصدمة بادية في عيون من رأيتهم. في الطريق للمستشفى شاهدت عدة سيارات للاسعاف تسير مسرعة باتجاه الطواريء وصوت صافراتها يثير الخوف والترقب. شعرت أن في الامرشيئاً غيرعادي. ما أراه يدل على حدث جلل قد وقع .. بقيت أبكي بحرقة من الخوف والترقب وسمعت أخي يحاول تهدئتي. لكن احساسي بأن شيئا بالغ السوء قد وقع كان يؤرقني. صرت أتوقع الاسوأ ولم أعد أعرف كيف أفكر فكل لحظة تمر تزيد من هول الصدمة عليّ.

دخلنا من باب المستشفى بصعوبة فائقة رغم الاعداد المحتشدة عنده .. صرت اسمع الصراخ ونحيب النساء والرجال .. كان منظراً محزناً للغاية. شعرت أن الامر أصعب مما توقعت .. رأيت أنه ما تزال هناك حالات تصل الى المستشفى .. أخذ أخي يسأل عن مكان خالد وزينة ويزن .. عندما أخبروني بالامر صرت أصرخ كالمجنونة .. صرت أصيح لا.. لا.. أريد زينة .. أريد يزن .. أين خالد؟ أريد أن أراهم. لم أدر ما حصل لي بعدها .. فتحت عيوني وإذا بي على سرير في المستشفى .. لم أعرف ماذا حصل لي .. كانت أمي تجلس في كرسيها بجانب سريري وهي تبكي بحرقة بصوت عال لم أرها في حياتي تبكي هكذا من قبل. أحسست انني فقدت الوعي من الصدمة .. لم أستوعب الامر .. صرت أصرخ وأهذي وأنا أنتفض بالسرير أريد أن أقوم وهم يحاولون منعي والسيطرة علي .. شعرت بوخز إبرة في جسدي .. لم أدر بعدها ماذا حصل لي .. ولم أستوعب الامر .. أصبت بنوبات هستيرية .. كنت أرى الناس تهجم علي تحاول منعي من الحركة ثم أشعر بوخزة إبرة فأغيب بعدها عن الوعي. عندما صحوت قال لي أخي الاكبر بصوت حزين مخنوق والدموع تفر من عينيه وهو يعتصر شفتيه ألماً وحزناً أن مجموعة من الاشخاص قد فجروا قاعة الاحتفالات بالفندق الذي كانت تجري فيه حفلة الزفاف بالقنابل والمواد المتفجرة.

لقد إحترقت أحلامي ورحلت زهراتي .. ورغم مضي هذه السنوات .. ما زلت أصحو في الليل وأنا أبكي وأصرخ .. صارت تنتابني نوبات هستيرية .. لم أعد أرى من الدنيا سوى صور الالم والمرارة .. لقد تحطم قلبي واحترقت من الحزن .. إنتفضت كما لو كنت في كابوس مرير .. إنتبهت على صوت فيروز وهي ما تزال تغني لو تعرفين وهل إلاَّك عارفةٌ همومَ قلبي؟...

ايـــاد

الاثنين، أبريل 7

دموع لكل الأحزان


دموع لكل الاحزان

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

يعاودني الحنينُ إلى الماضي. يستبدُّ بي بوجعه ولذِّته المؤلمة. يسيطرُ على تفكيري. أشلاءُ صورٍ باهتةٍ غامضةٍ تندفع إلى ذاكرتي. كنتُ أظن أنها انتهت إلى الابد، لكنَّ الماضي لا يموت. لماذا يأسرُنا بحنينه المزمن؟ المكان من حولي مزدحم. يمرُّ أناسٌ كثيرون يجرون عرباتِهم. أرجلٌ تتلاحقُ مارةً بسرعةٍ من أمامي. تتباعدُ الأرجلُ فيظهرُ لونُ جاكيتها الاحمر. تعود الارجلُ والعرباتُ تمرُّ بازدحامٍ أمامي. لا يبين من ملامحها سوى شعرها الاشقر الطويل وجاكيتِها الاحمر وربطةٍ صفراءَ وزرقاء اللون معقودةٍ بأناقة حول عنقها. روائحُ العطر تعبق بالمكان.. قويةً ناعمةً ساحرة.. تحسُّ بها تتسلل بين مساماتِ الجسد وتلافيفِ الدماغ. ذكريات الماضي تتماثل غامضةً متداخلةً رماديةً تهب كالريح الباردة فيرتعش لها الجلد وتبرز حبيباته من الرعشة. أنسى الإحساس بالمارة من حولي. لم تعد سوى مجرد خيالات تمشي. أغمض عيني وأرجع إلى الخلف قليلاً أعتصر مخيلتي. بعضهم ينظر إليّ. يعتقدون أنني نائمةٌ من الانتظار والملل. أنسى نفسي تنبش كهوف الذاكرة! إغرورقتْ عيني فتناولتُ محرمة ومسحتها خشيةَ أن تفضحني. أتظاهر أني طبيعية وأنظر حولي لأتأكد أنه لم يرني أحد. أتحسس الكيس بجانبي. ما يزال بجانبي بورقه الملون الجميل.

بعد ساعةٍ سأترُكُ مدينتي وأرحل. لا أريد أن أجدد الألم. يكفيني ألمُ الغربة ورؤية العمر الضائع في بلاد البرد بعيداً عن ليمونة أبي وياسمينة أمي وشارعنا الموحل في الشتاء. لقد صار تاريخاً وبقايا ذكرياتٍ لأجلِ أن تسقطَ الدموع. أحسب أن عندي دموعاً أكثر من غيري! دموعٌ لكل المرارات والأحزان التي مررنا بها تروي عوسجاً ينبت في القلب. الوقت يمر بطيئاً وصور الماضي البعيد لم تُمْحَ من رأسي.

هل كانت تكفي ساعتان لأطردَ تاريخَ ستةٍ وعشرين عاماً؟ هل كانت جولةٌ عابرة في شوارع المدينة وأحيائها وحاراتها تكفي كي أرى وجهَ المدينة الجديد وأنسى تاريخَها المحفورَ في ذاكرتي بالدم والرصاص والدخان؟ هل يمكن أن تنطبعَ صورُ المدينة الجديدة وتنمحي تلك الصور التي أحملها منذ أن تفتحت عيناي على شوارع شاتيلا؟

بعد ساعة سأرحل عنها وربما لن ألقاها مرة أخرى في زحمة الايام وفي خاطري صورةُ علي الجنوبي بوجهه الاسمر وبوادرِ لحيته الشقراء كالزغب في وجههِ المتسامحِ عند أبواب مطعم خليفة في حارة حريك. سأرحل وفي خاطري ابتسامةُ مصطفى وهو يفتح لي الباب ويرحب بي في الشيّاح. سأرحل وفي خاطري صورة جوني يقدم لي كأساً باردة في سن الفيل بعد تعب المشوار. استحضرت سنوات عمري الضائع بين الرصاص والمتاريس وصالات المطارات وردهات الفنادق وأرصفة الغربة. هل هذا التراب هو ذات التراب المندّى بدموع أمي ودماء أخي؟ بعد ساعةٍ سأنظرُ اليها من الجو وأنا أعود لثلوج الألب وفي عيني دمعةٌ باقيةٌ قبل الغياب.

تجلس بجاكيتها الاحمر وربطة عنقها الانيقة على كرسيٍّ أمامَ واجهات العطور. يتوقفُ رجالٌ ونساء بين عارضاتِ العطور وخزائنِها ينظرون إلى العلب الفاخرة ويشمّون رشاتٍ منها على أيديهم. يمر كثيرون يحملون أكياس الهدايا. هل يا تُرى بقيت شجرةُ الليمون التي زرعها أبي؟ وهل ما زالت ياسمينة أمي تكبر وتمتد بأزهارها الثلجية البيضاء على الاسوار فتملأ شوارعَ المخيم برائحتها الزكية؟ لقد تغيرت معالم الشوارع والأزقة والساحات. رأيت وجه المدينة مثقلاً بمكياجٍ متداخل بالالوان.

أخذت أتامَّلُ والطائرةُ تحوم في سماء بيروت إستعداداً للهبوط ملامحَ المدينة والبحر والجبال. هل تغيرت المعالم التي عرفتها؟ كنت في عمان لمدة أربعة أيام في زيارة عمل قصيرة. منذ أكثر من ستة أشهر ونحن نحضر لها. أحسست بالرهبة عندما وقع اختيارهم علي. لم يعرفوا كم ستثير في نفسي الحزن ومرارة الذكريات. هل سأقدم شيئاً لاولئك الذين لم يخرجوا أو يسمعَ صوتَهم أحد؟ الغريق قد لا تنقذه قشة، ولكن ربما تخفف عنه ألم النهاية!

كانت لقاءاتٌ مرهقةً ومتواصلةً طوال أيام المؤتمر. كنتُ سعيدةً ومترددةً أول الامر، فهذه أول مرة أشارك بحدث بهذا الحجم. كان مؤتمراً إقليمياً عن اللاجئين والمشردين. قد لا يعني لكثيرٍ من الناس هنا شيئاً، وربما تختزن ذاكرتُهم عشراتِ اللقاءات التي أقيمت ولم يرجعْ واحدٌ إلى أرضه! لكنني كنت موزعةَ الاحاسيس والانتماء. جئت مندوبةً عن منظمة تطوعية سويسرية. ولكن هل أستطيع أن أتخلى عن جلدي؟

شعرتُ بحنينٍ وأنا في سماء بيروت إلى تلك السنوات. لقد رحل أبي وأنا صغيرة لم أتجاوز الستَّ سنوات. رأيت يومها في بيتنا رجالاً ونساء كثيرين يبكون. لم أستوعب معنى الموت حينها. ولكنني كنت خائفة من جو الحزن والدموع فأبكي مع الباكيات. بعدها بأشهر اختفى خالي. قيل إنه تسلل إلى الكويت ليعمل فيها ولم نره بعد ذلك. عندما وقعت المأساة كان عمري ثمانية عشر عاماً. لم أكن أعرف كثيراً عن تاريخنا. ولكن أزقة المخيم والطين والوحل في كل مكان كانت كفيلةً بأن أعرفَ كل شيء. علمتني رؤيةُ أخي غارقاً في بركة دمائه وسماعُ نحيبِ أمي وهي تدور بأزقة المخيم كالمجنونة معنى الخوف والضياع.

قررت عندما حجزت للسفر عائدة إلى جنيف أن أتوقف في بيروت. لا بأس من جولة سريعة. ساعتان قبل الاقلاع من جديد. لقد اشتقت لها. استبدت بي فكرةٌ غريبة واشتعل بأعماقي حنينٌ لرؤية بيتنا والمخيم. أردت أن أتخلص من تاريخ طويل من الالم وحرقة الذكريات. إن أفضل وسيلة لنسيان الماضي هو أن تواجهَه لا أن تهربَ منه. لا بد من المواجهة لأدفن جراحي القديمة للابد. صورة أخي صريعاً على باب حوش الدار. رائحةُ الضحايا متكومين فوق بعضهم البعض. ابنه الذي لم يبلغ عامه الثالث بعد يسأل عن أبيه فتقول له أمه سافر. إبيضّت عينا أمي عليه من الحزن وماتت بعده بسنة. وهاجرت آمنه وإبنها إلى البرازيل. تخرّجت قبل المأساة وبقيت في البيت أنتظر من ينقذني من هذا البؤس. لم يكن أمامي غير العمل لأنفق على نفسي فقد مللتُ إحسانَ الآخرين وشفقتهم. عملت في أشياء مختلفة ولكنها لم تكن مستمرة. إلى أن زاروني ذات يوم في بيتنا، وعرفوا قصتي. بقوا في بيروت لمدة سنتين. لم يكونوا يتحدثون العربية إلا بضعَ كلماتٍ للتحية، ولكن إحساسَهم بمأساتنا كان بادياً في عيونهم، فساعدوني على الهجرة.

ما تزال بائعةُ العطر ذات الجاكيت الاحمر وربطة العنق الصفراء والزرقاء منشغلةً مع المسافرين الذين يتوقفون قليلاً لشراء بعض الهدايا والسجائر ثم يتوجهون إلى بواباتهم المخصصة للاقلاع. أطلتُ النظر اليها وهي تتحركُ برشاقةٍ بلباسها الانيق وتبتسم ابتسامتها التي لا تفارقُ وجهَها. نهضتُ عن مقعدي وحملت الكيس الملون في يدي. سرت نحوها. اقتربت منها. ابتسمتْ عندما رأتني. بادرتني بالتحية. بادلتُها الابتسامة. سألتها عن رأيها في اختيار شيء للذكرى. قالت: ما رأيكِ بعطرٍ نسائي جميل قد وصل حديثاً؟ قلت لها: لست مغرمةً كثيراً بالعطور. أريد شيئاً آخر.. أريد شيئاً حزيناً! نظرت إليّ باستغرابٍ وقالت: حزيناً؟! فقلت: لأن عندي دموعٌ لكل الأحزان. نظرتْ اليّ مستغربةً. ولكني قطعت عليها تساؤلاتِها وقلت: نعم ، أنا كذلك. أخذتْ تتطلع هنا وهناك. مشت خطواتٍ وقالت تفضلي معي. مشينا معاً إلى ركن آخر مقابل. تناولتْ قرصاً مضغوطاً وقالت: "ليس هناك أجمل من هذه لتذكرك ببيروت" وأشارت إلى صورتها. وتناولت صندوق سجائر وقالت: "وأنت تستمعين لها ليس هناك ألذُ من دخان سيجارة يتصاعد حولك. تخيلي نفسك وأنت تحتسين فنجاناً من القهوة وتسمعين صوتها الرائع: "بيروت هل ذرفت عيونك دمعة؟". اشتريت الهدايا ومشيت خطوات. التفتُّ إلى الوراء فوجدتها تنظرُ اليَّ وتبتسم وتهزُّ يدها مودّعةً. رفعتُ يدي ولوّحتُ لها ثم ابتعدتُ.
* اللوحة أعلاه للفنان الفلسطيني كامل المغني (1943-2008) بعنوان استمرار اللحن.

الأحد، أبريل 6

الأرق

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أصابني أرق شديد في تلك الليلة وتمنيت لو طلعَ عليّ الصباح! حاولت النوم بكل جهد ومرارة فلم استطع. بقيت أتقلب في فراشي، وصرت من شدة الأرق أنهض حيناً، فأشغل نفسي بأي شيء من غير رغبة او داع ، وحيناً أعود للنوم من غير طائل. فقد كان الذهن متوترا لا يهدأ والعيون قد جافاها النعاس .. أخذت أتحايل على الأرق لعله ينساني لحظة فأغرق في نوم لن يكون مريحاً .. فقد إقترب الليل من آخره، وإذا بدت تباشير الفجر فأنني سأعاني من الارهاق وإحمرار العيون والدوار طوال اليوم .. كان يخيل الي أن كل الافكار البعيدة والقريبة جاءتني في تلك الليلة وازدحمت في رأسي.

كانت الدنيا ربيعاً بحسب ما وقعت عليه عيني على التقويم! ولكن النفس أخذت تضطرب من هذه الحرارة واغبرار الجو الكالح كأنما الدنيا صارت صيفاً حاراً قائظاً .. والنوم لا يطاق .. كنت أحس نفسي أغرق في بركة من العرق من شدة الحر والرطوبة. لم تكن هناك نسمة هواء تلطف الشعور بقسوة الحر. كان الجو ساكناً ومثقلاً بالرطوبة. كانت أصوات سمّار الليل وسهارى الفجر تنبعث من الاسفل .. ومعها تخرج رائحة القهوة المحروقة الزكية ورائحة الشاي والنعناع تملأ أنفي . كانت الاحاديث عالية متداخلة في بعضها يتخللها أصوات ضحكات وقهقهات عالية تنطلق بين الحين والاخر ولكن لم أكن اتبين منها شيئاً رغم إرتفاعها. تعودت على هذه الروائح والاحاديث التي لم تكن سوى لوحة فسيفساء من الاصوات تتحول الى ضجة تقلق راحتي. كانت أم كلثوم بكل مصادفة تغني حرمت عيني الليل من النوم لاجل النهار ما يطمني. لا تتوقف الحياة في هذا المقهى. فالطاولات تبقى عامرة بالرواد يحتسون القهوة أو يلعبون الزهر أو الطاولة. وتستمر نداءات العاملين لبعضهم لخدمة الزبائن، ويستمر كلام السمّار في إرتفاع مستمر.

يبدو أن الحظ قد واتى صاحبه أخيراً! فكم شهد هذا المكان طموحات تعثرت وكلفت أصحابها مبالغ باهظة. كنت أشعر أن المكان نحس أو مسكون بأرواح شريرة. فكم من المشاريع التي فشلت في ذات المكان. صرت في كل مرة أشاهد مستأجراً جديداً يغير من معالمه ويجدد الديكور ويضع لوحة كبيرة مكتوباً عليها بكل أناقة إسم المحل الجديد، أشعر بالأسى له. كنت أقول كم سيمضي من الوقت حتى يرحل ويأتي غيره؟! كنت أحس بالحزن وأنا أرى مشاريع كبيرة يحدو أصحابها الامل والتفاؤل ولا يدرون ما ينتظرهم! حدثتني نفسي أن أتكلم معهم لأخبرهم عن لعنة المكان! ولكني كنت أتراجع .. أوفر على نفسي مشقة الفكرة لانها لن تلقى آذاناً صاغية! وفكرت ماذا سيقول أصحاب المحل عن جارهم؟ سيعتبرون ذلك تدخلاً في مصلحتهم وتطفيشاً للمستأجرين الحالمين! وربما تتوتر الامور بيني وبينهم بسبب ذلك ويعتبرونه تطفلاً أو حسداً أو تدخلاً بأعمالهم. وربما تصل حد الشكوى رسمياً! فكنت أشعر بمزيد من الحزن والاسى لانني لا أجد غير الصمت سلواناً، وانا أرى المشاريع تتحطم الواحد تلو الاخر على أرض هذه البقعة الشريرة!

أخذت أتقلب على سريري من شدة الارق والحر الذي داهمنا خلال اليومين الماضيين على حين غرّة. فلم نكد نودع الشتاء ببرده القارس وأمطاره وثلوجه التي تساقطت بغزارة هذه السنة وحيّرت معها التوقعات الرصدية الجوية حتى داهمنا الحر! شعرنا أن الربيع خُطف من بين أيدينا. فلم نكد نحس بقليل من الدفء ونشعر بالانطلاق لرؤية الزهر يملأ الحقول والحدائق والمساحات الخضراء على جانبي الطرق، حتى داهمنا الحر كأنما الدنيا صيف قائظ.

لا أنسى ذلك الرجل الذي عاد بعد سنوات من الغربة والهجرة وهو يحمل تفاؤلاً ببدء المشروع الذي يحلم به. كان حوله صبية صغار يبدو أنهم أولاده يساعدونه في ترتيب المكان وتغيير الديكور. لقد مكثوا فترة طويلة في اجراء التغييرات واضافة لمسات فنية جمالية هنا وهناك. وأنفق مبالغ طائلة في تغيير معالم المكان. شعرت ان الرجل عاد من كندا فقد كان الاسم الذي إختاره يدل على ذلك بشكل واضح. يبدو أنه إختار أن يفتح مطعماً يقدم الطعام على الطريقة الكندية كما يوحي الاسم! كنت أشعر بخيبة الامل كلما رأيت مدى إنفاقه على تحويل المكان الى شيء رائع وجذاب. كانت تخامرني الفكرة أن أروي له ما حدث مع سابقيه الذين ماتت أحلامهم خلال فترة وجيزة! ولكنني خفت من ردة فعله! فقد فات الأوان الآن . فبعد أن دفع كل هذه المبالغ الطائلة في إستئجار المكان وتحويله الى مطعم كندي فاخر، هل أفسد عليه أمله وبهجته بما ينوي فعله؟! لا ، فمن غير المعقول أن أفعل ذلك. سيحزنه ذلك ويزرع في نفسه خوفاً وإحباطاً خفياً، وربما إعتبر المحاولة حسداً أو عدم رغبة في رؤيته بالجوار. ولهذا عدلت عن الفكرة.

كنت أفكر كم سيجذب المطعم زبائناً ؟ ربما أنني أرى العالم بعيوني. قلت في داخلي لعلّ الرجل يعرف أكثر، وربما عنده برنامج للعمل يقدر أن يستطيع جعل الناس تترك مطاعمها الشرقية وتأتي اليه. فكما نجحت المطاعم الفرنسية والايطالية والصينية، لماذا لا ينجح هو؟! غير أنني تذكرت المكان. كم هو خادع للعين من بعيد. بالنسبة لمن لا يعرف المكان جيداً، يظن أن موقعه استراتيجي على مفترق طرق رئيسية وهناك بشر رائحون قادمون! مثل هذه الامور يجب أن تؤخذ بعمق. وجدت نفسي أحلل الامر وأطلق لنفسي العنان في البحث عن السبب كما لو كنت محللاً إقتصادياً أو مفكراً معروفاً! ربما كانت الفكرة جيدة والهدف كبير ولكن خصوصية المكان تحتاج الى دراسة كي لا تفشل مشاريعنا!! ندت عني إبتسامة تنم عن الشعور بالرضى وأنا أصل الى هذه النتيجة. بقيت أفكر بالامر. هل يعقل أن الناس الذين يقطنون في هذا الحي صاروا يعرفون أن ليس كل ما هو جديد وغريب وجذاب سينجح لمجرد كونه مختلفاً؟! شعرت بالتردد عند هذه النتيجة. لم أحس أنهم وصلوا الى هذا الحد! بل إن فشل الافكار السابقة قد ولدت عندهم قناعات زائفة بأن هذا المكان لن ينجح فيه مشروع أو عمل تجاري! وخاصة إذا كان له إمتداد أو إرتباط بأسماء أو مناطق أجنبية!

بقيت أشعر بالأرق والارهاق النفسي وأنا معلق أندب حظي بين الليل والنهار. لا الليل يوفر لي مناماً أنسى به التفكير من الهموم ومتطلبات الحياة، ولا النهار سيرفق بي ويقدر معاناتي في الليلة السابقة. وسأعاني التعب والدوار وربما أقع من شدة الاضطراب أو أسقط في سبات عميق! كنت أسمع الاصوات العالية القادمة من المقهى ممزوجة برائحة القهوة اللذيذة وأصوات طاولات الزهر ولعب الورق وفقاعات الماء في الاراجيل والدخان يخرج منها كالضباب يملأ المكان فينتشي الجالسون كأنما تخدرت اجسامهم وغابت أذهانهم عن الواقع، وصاروا يعيشون في عالم آخر من الاحلام وغياب الحس والوعي بما يجري والعيش في الخيال الذي تعبر عنه ابتساماتهم الخاملة وهم يستنشقون الدخان ويرمون بحجر النرد بكل إنبساط!

على غير عادة كنت مبتهجاً أول الامر بقدوم هذا الوليد الجديد وأنا أرى التغيير يجري على قدم وساق لدفن الحلم السابق وتطهير المنطقة من آثاره وإحلال شيء آخر محله! شبهت الامر بالعروس التي يأتيها خطّاب كثيرون. وهي تحتار بأي مظهر تقدم نفسها لهم كي ترضي غرورهم أو قناعاتهم التي تعبد الشكل الخارجي وتقدس مظاهره. وقد تلبس الشيء وضده في سبيل ذلك! فلعل المشروع هذه المرة ينجح في إستقطاب الزبائن ويعطي الشارع إحساساً جميلاً أخيراً عبر تحويل هذه البقعة الى مصدر حياة. كنت كلما مررت من أمامه أشعر بالرضا والسعادة وأنا أرى أن التجهيزات قد اكتملت والتي ستضفي على المكان لمسة فنية حديثة. كان عدد الذين أراهم في المطعم الجديد يومياً قليلاً، وقلت لا بد أن هذا شيء طبيعي في باديء الامر، فكل البدايات صعبة ومضنية. مرت أيام وأيام وأسابيع وأشهر طويلة وأنا أرى عزوف الناس عنه. بدأت أشعر بالحزن والاسى وأنا أرى التعب المضني قد ضاع هباءاً. وبدأت أرى الانسحاب التدريجي حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه أطلالاً ينتظر مغامراً آخر!

تناولت كتاباص أقرأ فيه كي أنسى أرقي. لم أستطع أن أتحرر من التفكير به أو من الاحساس بالالم. كنت أفكر كيف نجح المشروع الاخير؟ المقهى لا يخلو من الرواد ليلاً نهاراً والاصوات والروائح والدخان تملأ المكان. تغني أم كلثوم للسهارى من مذياع كبير ضخم من النوع الذي كنت أراه في بيت جدي وأنا صغير وصوتها يغطي على كل الاصوات. لم أفهم كيف يستطيع هولاء أن يتحدثوا في موضوع بوجود صوتها العالي. الاراجيل تملأ المكان برائحة المعسل والتنباك وصوت فقاعات الماء تعلو كلما سحب أحدهم نفساً للداخل. ثم لا يلبث أن ينفث ضباباً كثيفاً من السحب البيضاء. عندما تمر من المكان مساء يكون عامراً عن بكرة أبيه. وأغلب السامرين يلعبون الورق او النرد ويضحكون ويتمازحون كأنهم في عالم اخر من الخدر والانبساط! كنت افكر لماذا فشلت كل الافكار السابقة ونجح المقهى؟

بدأت خيوط الصباح تتسلل من نافذتي الى السرير، فشعرت بحنق كبير وإحباط شديد، فقد ضاعت آمالي بالعودة للنوم، ونجح الارق في تحويل ليلتي الى معاناة لا تنتهي. طلع الصباح وأنا أفرك عيوني من الاحمرار والارهاق وأحس بصداع شديد في رأسي كانه سينفجر من التوتر. فاجأتني أشعة الشمس فلم أكن مستعداً لرؤيتها! نظرت من خارج النافذة كان السهارى ما يزال عدد منهم يجلس الى الطاولات يرتشف الشاي والقهوة ويلعب الورق. أحسست بشيء مبهم يمر في خاطري. بقيت أفكار التغيير الفاشلة وأحلام النجاح التي تحطمت على صخرة الواقع المرير تلح على رأسي حتى تهيأ لي أنني أدركت سبب نجاح المقهى!

جهزت نفسي للذهاب للعمل بتثاقل، كنت أشعر بألم وصداع شديد وانا أحلق ذقني وأنظر في المرآة والضوء يبعث الحرارة في وجهي. تمنيت لو كان هذا اليوم إجازة. لبست ملابسي وحاولت أن أنعش نفسي بالعطر الذي أفرطت منه على وجهي ويدي وحول رقبتي! نزلت من البيت الى الشارع. التفت الى المقهى وانا أشم رائحة القهوة الزكية. زاد شعوري بالتعب ، فقررت ألاّ أذهب للعمل. سيجنّ خالد كثيرا فقد أوصاني بكتابة التقرير وإعداده ليكون جاهزاً اليوم. ولكني لم أفكر به كثيراً. تناولت كرسياً ووجدت نفسي أجلس في ركن معزول وأريح نفسي من عناء ليلة مريرة. شعرت بارتخاء جسمي وفكري مع إرتشاف القهوة الساخنة. عندما أردت دفع الحساب أخبرني النادل أنني قد نمت على الطاولة فترة طويلة ولم يرغب بإزعاجي فقد غادر قسم من السهارى مع بدايات الصباح ولم يكن هناك حاجة لايقاظي!

إميلي برونتي (1818 - 1848)


عالم فريد من الحب والحزن!


اياد نصار

ايميلي برونتي . مرتفعات وَذَرِنغ . هل تعني لكم هذه الاسماء شيئا؟ ربما لا، أما أنا فانها كانت وما تزال جزءا من ذاكرتي ومن حياتي التي عشت تفاصيلها وشاهدتها بكل مشاعرها الجياشة. كانت رفيقتي في أيام طويلة. تمثَّلت جو الحزن والعزلة والكآبة معها. عرفت معنى ان تصبح الطبيعة القاسية رفيقا للانسان حين يعيش وحيدا. اسمع صوت الريح العاصفة بالخارج، وأرى ستائرالبيت تتحرك بعنف، وأرى الاشجار تهتز أغصانها وهي عارية ومن فوقها اشباح الغيوم الرمادية تمر سريعا. كم أثرت فيَّ حياتها في اجواء البرد والشتاء القارص والسهوب اللامتناهية في يوركشاير بانجلترا. وأحسست بها وهي تتذوق معنى الحرمان والعزلة، ومعنى ان يفقد الانسان حنان الام وهو صغير، ويعيش تحت رحمة أخ متسلط وأب متزمت. أحببت اسمها الذي يوحي بالامل، وعرفت كيف يولد الفنان المبدع من رحم المعاناة فيصنع نفسه. عشت مع ابياتها في ليالي الشتاء والمطر اردد كلماتها واحس بأحاسيسها واشعر بالآمها. كانت ترى الاشياء بعين نافذة ومشاعر مرهفة وتدرك أسرار النفس الانسانية في تقلباتها. لا أريد هنا أن اسرد قصة حياتها ولكن أحب يا قارئي أن اضعك في ذات الجو الذي عشته مع أعمالها وتاريخ حياتها القصيرة، كي تعرف معنى ان تعيش مع الاديب بكل احاسيسك وجوانحك وتأسرك كلماته وأبياته. وإيميلي كانت ذات نفس رقيقة وروح شاعرية وخيال روائي وصاحبة قلم جميل يبدع في عالم من الوحدة والحزن.

أيها النجوم والاحلام والليل الرقيق

أيها الليل والنجوم عودوا

وخبئوني من الضوء العدواني

الذي يحرق ولا يدفيء

كانت روايتها الوحيدة التي تجسد الحب الرومانتيكي ورغبة الانتقام تحمل تفاصيل حياة شخصيات عظيمة معذبة يعاندها القدر فيحطم احلامها ولكنها لا تفقد روح العطف الانساني ولا روعة الحب الذي يصبح الامل الوحيد الذي يبرر معنى وجودها. وليس القدر وحده الذي يثير الحزن في نفوس ابطالها، ولكنها القيم الاجتماعية والممارسات الطبقية التي تجعل الانسان اسيرا لها وتسلبه احلامه.

في الفصل التاسع يوجد مقطع روائي درامي مثقل بالعواطف والافكار يجسد طبيعة وتفكير واحلام كاثرين ايرنشو التي كانت تدعى كاثي تتحدث فيه بما يشبه المناجاة لخادمتها نيللي عن حبها اللامتناهي للبطل هيثكليف الذي كان صبيا يتيما فقيرا لقيطا وَجَدَه والد كاثي وربّاه مع ابنيه. ولكنه نشأ ذا شخصية قوية معتدة بذاتها احبته كاثي حباً جماً الى درجة العشق المجنون، ولكن أهلها رفضوا هذا الحب بدعوى الفارق في المكانة والثراء والمستوى الاجتماعي وكانوا يريدونها ان تتزوج من إدجار لينتون احد كبار الاعيان في المنطقة ووريث ضيعة الجرانج قرب مرتفعات وذرنغ. وقد شهد هذا الحب قمة العاطفة والحب وحتى الغضب بينهما ، لكنه حول حياتهما الى جحيم وشقاء من الاخرين ومن الظروف التي فرضت نفسها عليهم. كان حبا عنيفا قويا عاصفا غاضبا وفي ذات الوقت كان ضحية تثير العطف خصوصا في ظل الفوارق بينهما والمعاناة التي لقيها هيثكليف منذ كان طفلا، والتي لقيتها كاثي في سبيل حبها.

" لا استطيع التعبير عنه، ولكن من المؤكد أن كل واحد لديه فكرة ان هناك او انه ينبغي ان يكون هناك وجود متعلق بك ولكن خارج جسدك. ما الهدف من كياني لو بقيت محتجزا هنا بكل ما في؟ان شقائي الاكبر في هذه الحياة شو شقاء هيثكليف، وقد رأيت وأحسست به منذ البداية. ان أفكاري الكبيرة في معنى حياتي هي هو. فلو اندثر وانسحق كل شيء سواه، وبقي هو، فانني سأستمر في الوجود. ولو بقي كل شيء، وزال هو، فان الكون كله ساعتها سيصبح شيئا غريبا عني، ولا انا منه. ان حبي الى لينتون مثل ورق الشجر في الغابات، سيغيره الزمن، وأنا ادرك ذلك تماما كما يغير الشتاء الاشجار. ولكن حبي لهيثكليف يشبه الصخور الابدية تحتها. فهي مصدر ضئيل للبهجة التي بالكاد نتبينها، ولكن وجودها ضروري. يا نيللي انا هيثكليف. انه دائما، دائما في خاطري".

وفي مقطع آخر في مكان اخر بالرواية نقرأ هذا الحوار المشحون الصاخب بالدموع والغضب:

" انحنى هيثكليف على ركبة واحدة كي يعانقها، حاولت النهوض، ولكنها امسكت بشعره وأبقته للاسفل. أتمنى لو أنني استطيع معانقتك. وتابعت بمرارة: حتى نموت كلانا. ينبغي ألا أهتم بما عانيته أنت. أنا لا أهتم بما عانيته. لماذا لا تعاني؟ انا أعاني، هل سوف تنساني؟ هل ستكون سعيدا عندما اكون في جوف الارض؟ هل ستقول بعد عشرين سنة من الان: هذا قبر كاثرين ايرنشو؟ لقد أحببتها منذ زمن بعيد وكنت شقيا بخسرانها، لكن الحب الان اصبح من الماضي. لقد أحببت كثيرات منذ ذلك الوقت. ان طفولتي اعز علي مما كانت هي بالنسبة لي، وفي موتها فانني غير مسرور أنني سأذهب الى قبرها. هل ستقول ذلك يا هيثكليف؟"

كما ذكرت ليس هدفي ان اسرد سيرة حياة إيميلي برونتي، ولا أن اسرد وقائع روايتها او تقديم موضوع عن ادبها بكل تفاصيله، لكني أؤمن بالتأثير الروحي الذي يلامس النفس الشفافة من اول نظرة، فتحس بالروعة والاتحاد معه. وهذا هو التأثير الذي ارجو ان تكون قد حملته الكلمات هنا، فلعل هناك من تلامس هذه المشاعر قلبه واحاسيسه وتدفعه لقراءتها والعيش معها في عالمها ، عالم ايميلي برونتي الفريد الحزين.

الخميس، أبريل 3

غياب

غيـــــاب

منذ غابت صورتها صار الغياب رفيقي

وناء القلب بحنين الذكريات يا صديقي

أتدري عن وجع القلب حين يذبل بريقي

عن أحزاني في عتمة الليل قد ملأت طريقي


أناديك يا قمري في ليالي الشوق الوحيدة

تطل الملامح باهتة كالمطر على نافذتي العتيدة

كم تبادلنا الحب والعتاب في الدروب البعيدة

وبقي القلب على غفرانه يعزف لحن القصيدة


كانت الريح تحمل الاغاني الى عند بابها

وتحمل المرايا فتنة غجرية من سحر عيونها

خدك كاللوز وجبينك مثل خبز امي في تنورها

يا سيدة القلب هذا عرشك كبلقيس في قصرها


يا حزن اوفيليا تضيع مني في براءة الجنون

يا عذاب العاشقة في مرتفعات العزلة والسكون

الحب يعلمنا كيف نصمد ونحترق كي نكون

فازرعيني ناياً على الشفتين وأهداباً للجفون


ايـاد