الأحد، يوليو 4

ثقوب سوداء



قصة قصيرة
ثـقـوب ســـوداء


إياد نصار

منذ الصباح وأنا أتخيل شكل لقائي بها الليلة في رأس السنة. أفكر ماذا سنقول من أمنيات وأشعار. شعرت قلَقاً يدب في أعماقي. كيف سنودع العام ونستقبل آخر كعاشقين يبحثان عن دفء في حروف باردة؟ مرّ اليوم طويلاً والمطر ينهمر خفيفاً بين حين وآخر. غيوم سوداء تتلبد في الجو وبرودة تتسرب من النافذة. في خضمّ لحظة شرود تأملية أصابتني أول المساء ، كما يحدث عادة عندما أخلع عني التعب في الأريكة الوثيرة. رنّ الهاتف. قالت ، والحزن بادْ في نبراتها: "قرأتك على الطائرة ، ونظرت من النافذة ، فلم أر سوى كثبان الرمال الجرداء" ، ثم صمتتْ. تخيّلتُ في تلك اللحظة أنها أشاحت بوجهها وقد علته ملامحُ عتابْ ممزوجة بالغضب. أعرف "لبنى" عندما تكون غاضبة من شيء ما. أدركت سبب حزنها من غير أن تبوح به. صرت خبيراً في فهم فلسفتها. حاولت أن أوضح لها الأمر ، ولكن النغمة المتقطعة دوّت فجأة ، وغاب صوتها في الفراغ ، فتلعثم صوتي ومات على شفتي.


أمس ، حينما التقيت بالشلة ، ردّد جمال وجهاد وهدى وفاتن الأمر ذاته بعتب واضح يفيض من الكلمات. ولكن غضب لبنى فاجأني: فلم أكن أتوقعه. جلست أنتظرها في الليل ساعاتْ طويلةً ، علّها تعود. بادرني النعاس بالهجوم على حين غفلة. أصابتني هزة ، وشعرت كأنني أسقط عن الكرسي. نظرت إلى شاشتي ، فأحسست أنّ النوم قد سرقني للحظاتْ ، قبل أن يعيدني إليها. وأخيراً لمع اسمها في زاوية الشاشة ، والساعة تشارف الثانية عشرة والنصف بعيد منتصف الليل. فتحت عيني وفركتهما كمريض يصحو من إغماءة. يبدو أنني استيقظت من الوسن على صوت إطلاق الألعاب النارية ، التي كانت ما تزال تبدد سكون الليل ، ورأيت قطراتً المطر تسحّ على زجاج النافذة. اقتحمتُ خصوصيتها:
ـ عمتً صباحاً يا سيدتي.
ـ "صباحُك فاكهة للأغاني" الحزينة. ماذا تفعل؟
ـ أجملُ أغانينا دوماً حزينة. أتجول في حقول ألغام الكلمات.
ـ ستنفجر الكلمات عيوناً مالحةً في واحاتي اليابسة.
ـ أما زلتً غاضبةً؟
ـ بل مقهورة. تخامرني شكوك أكبر من شك ديكارت.
ـ لنتفائل فليس سواه من دواء للقلوب المتعبة.


لم تردْ. بقيتُ أنتظر ملولاً. لكنها توقفت عن الكتابة. طال انتظاري. تشاغلت أسمع أغنيتها التي تحبها.. "بيقولوا الوقت بيقتل الحب..".. بقيت أسمع وأنتظر. وفجأة ، عاد المطر ينهمر على زجاج النافذة. لمعت حروفها مرة أخرى:
ـ لقد راح زمن المعجزات.. ولم يبق فارس لهذا الزمان،
ـ شككتُ في اعتقادي قدومَكً. انتظرتًك ورصدتُ احتمالاتْ بائسة،
قالت: أحاول ألا أخذلك وأنت تنعم في تجاهلي. فماذا عساي أقول؟
ـ ......هل ينفع صمتي رداً؟
ـ ليلى محظوظة.. تذكرها وتنساني. أنسيتَ كل أحاديثنا ولقاءاتنا؟ ألم أستحق منك اشارة في مقالك؟ وسعد ، هل صار أقرب إليك مني؟
ـ لم تكن ليلى سوى مثال فقط.
ـ ولماذا لم أكن أنا ذلك المثال؟ هاشم ، هل هناك أحد أقرب مني اليك؟
ـ أنت قريبة وهم بعيدون. لم يكونوا سوى أمثلة من زوايا العالم المختلفة لأقول كم غيرت الإنترنت من حياتنا وأعادت صياغتها.
ـ لا يزول الحزن ، بسهولة ، مثلما يأتي.

صمت كلانا فترة وأنا أفكر في حزنها الغامض حين بادرتني فجأة: ما جديدُكَ؟
ـ كلماتّ كالسراب لا تتقن سوى التلميح وتفجير النهايات.
ـ سلاحك الذري الذي تشهره في وجهي فأرحل إلى عالم الغياب والنسيان.
ـ تؤلمني كلماتُكً ، ولكن تنتظرك حروفي كل مساء. لم أسمع أحداً يحلل شخصياتي مثلك. لربما تنتظرك هي الأخرى بشغف لترى نفسها في مرآتك.
ـ هل رصدتَ فرحاً في ليلة وداع العام؟
ـ ليس سوى ثقوب سوداء على أعتاب عارْ جديد،
ـ واحزناه.. كل عارْ ونحن بخير.


ساد صمت.. فعدت إلى الانتظار الملول ، وفيروز تغني: "بديت القصة تحت الشتي بأول شتي..." لم يطل انتظاري. عادت إلى فلسفة الحياة من جديد. أعطتها الحياة كل قواميس الدنيا لتصنع من أفكارها لوحاتْ وتماثيلَ غامضةً حزينة كأنها خارجة من تحت ركام الحرب. كتبتْ:
ـ المجهول أكبر من أن ندركه. شعور يتربص خلف اليقين الزائف والإيمان الخائف.
ـ لبنى ، أحس كأني بقايا إنسان. آن لي أن أحطم جدار العزلة ولكني أضعت مفتاح بابي،
ـ إلى متى سأنتظرَكَ خارج سجن كلماتك لنحتفل ، وأنت لا تفكر سوى في ليلى.
ـ لا بد من الاحتفال معاً وشرب الأنخاب.
ـ أنخابي توقظ عقلي فأشقى بقدومًكَ أكثر وأنثاي عاقر،
ـ بل فاتنة في براري الليل،
ـ هل ضللتُ طريقي أمام وحي كلماتكَ؟
ـ لبنى ، الكلمة زورق لعبور درب الحياة. وكيف تضل طريقها من كانت مثلكً تعشق الوطن؟
ـ ضاع مني الوطن فصرت مثل بحارْ تائه بلا قرار.
ـ وطنكً هو إبداعُكً.. هو الوطن الذي تعيشين به ، أما الذي تعيشين فيه فهو منفى.
ـ وإن كان بعيداً عنا هاشم؟ أيكون شقاءً مزمنا؟
ـ تذكرت أبي الذي مات وعينه على الوطن. بكيت حزناً كما بكيت عندما كنت طفلاً في ليل حكاية أمي عن الغول.


أحسست أنها كانت شاردة الذهن ، لكنها قطعت أفكاري بملاحظتها: ذكرتَ الأنثى غير مرة الليلة. كان واضحاً أن الغيرة والشكوك تمور بداخلها. احترت ماذا أكتب لها ، وأخيراً تجاسرت:
ـ لا بد للشاعر أو الرسام أو الصعلوك من إمرأة في حياته.. الابداع دون أنثى لا يكتمل.
ـ لي من العشق آياتّ ، ولكن فارسي لا يأتي. آياتي صارت أكثر مرارة من شيطان مجروح،


أحببت أن أبعد الحوار عن جو الملام ، فقلت مستدركاً:
ـ لم تخبريني عن رحلتكً. كيف كانت؟
فقالت: الآن تذكرت لتسألني؟ لا بأس. رأيت اسمكَ ، فجأة ، فوق السطور في الجريدة ، وأنا أخفي خوفي وتوتري وراء صفحاتها فوق الغيم. تهللت أساريري وسال الفرح في واحات روحي. شعرت أنكَ ظهرتَ لتنقذني من خوفي كلما اهتزت الطائرة. سكنت نفسي قليلاً من توترها ، وأنا كريشةْ في مهب الريح في أعالي السماء. لم أكن ساعتها وحيدة. عشت مع حروفكَ.. كنت سعيدة حتى وقعت عيني على اسمها. لما رأيته مات الإحساس فجأة في صدري. سقطتُ من علْ في الهاوية. وصار قلبي كجذع شجرة يابسة. رأيت الدنيا من حولي جرداء.


ساد صمت بيننا.. لم أعرف ماذا أكتب لها.. وهي بقيت ساكتة. انتبهت إلى الصوت الذي كان يتردد في بهاء.. "وخلصت القصة بتاني شتي.." شعرت أن لقاءنا في ليلة رأس السنة قد مات قبل أوانه. انطفأ وهج شاشتها وانقطع الاتصال. أحسست بغصة مريرة. نظرت إلى زجاج النافذة ، كان المطر قد توقف. مر عام الآن ولم أرها منذ تلك الليلة. يبدو أنها رحلت مع السنة ذاتها.

* اللوحة أعلاه بعنوان ثقب اسود للفنانة الامريكية سيسيل هيرنغ
** نشرت القصة في جريدة الدستور الملحق الثقافي ليوم الجمعة 2/7/2010

رابط القصة بموقع الصحيفة

رابط الصفحة الكاملة pdf



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق