السبت، نوفمبر 14

مجمع رغدان.. حوارات المهمشين من قاع المدينة



مجمع رغدان..

حوارات المهمشين من قاع المدينة

بقلم اياد نصار

أصدر الصديق الكاتب والقاص نواف نصار مؤخرا مجموعته القصصية الاولى التي حملت عنوان "مجمع رغدان". واذكر أنه عندما انتسبت لرابطة الكتاب الاردنيين أنني سئلت أكثر من مرة من بعض الاصدقاء ومن بينهم الاستاذ محمد المشايخ إن كان نواف نصار شقيقي أو قريبا لي، فكنت اقول إنها قرابة القلم وليس الدم التي جمعت بيننا بعد أن جمع بيننا تشابه في الاسماء. تسيطر على المجموعة التي تعد باكورة أعمال الاستاذ نواف نصار في القصة القصيرة أجواء الحياة الشعبية في الاردن وفلسطين ويغلب على قصصها نمط البطولة المشتركة المتعددة الاقطاب أو البطولة الثنائية بدلا من شخصية البطل الفردية المألوفة، حيث أن الكثير من شخصياتها هي نماذج بشرية اعتيادية بل وهامشية لأناس تراهم في الواقع في كل مكان، أكثر من كونهم أبطالا فرادى، وما يترتب على ذلك من تحالف بريء أو عدواني بينها لمواجهة قسوة الواقع والتحايل عليه، وكذلك ما يترتب على البطولة المتعددة الاقطاب من صراعات الشخصيات وتجاذبها وتنافرها في أجواء من الندية والمنافسة التي ربما تتحول الى نوع من التعاطف أحياناً، أو من التشفي حينا آخر.


تطرح المجموعة بشكل أساس هموم ومشكلات الانسان في الواقع الاجتماعي للحياة الشعبية للطبقات الوسطى والفقيرة المهمشة، وقدرته على التكيف وابتكار الوسائل للخلاص بغض النظر عن نبل الوسائل من عدمها، وتقدم بلغة موجزة ورشيقة تخلو من الزوائد اللفظية والاغراق في التهويمات الفلسفية والاختلاجات النفسية الكابوسية التي تتسم بها القصة المعاصرة ألواناً من أنماط الثقافة الاجتماعية السائدة التي ترسم أطر العلاقات الانسانية بين أفرادها، كما تقدم نماذج نمطية لأبطال هم في واقع الامر ضحايا وأشقياء في الوقت ذاته، وتتناول بشكل خاص المشكلات اليومية على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تعتري العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل عام، وبين الرجل والمرأة في إطار الزواج والاسرة بشكل خاص، وبين الاباء والابناء، وبين الاخوة أنفسهم، وبين رفاق الصنعة وأولاد الشارع ورؤساء العمل ومرؤوسيه وبيئته وما ينشأ عن ذلك من العلاقات المتوترة المضطربة، وما تنطوي عليه من مشكلات وصدامات.


نجح الاستاذ نواف نصار في تقديم عالم متجانس يتسم بسمات مشتركة رغم اختلاف المكان والاحداث والشخصيات بما يؤكد في نهاية المطاف أن هموم ومعاناة المعذبين والفقراء والمهمشين واحدة وان اختلفت الصور، وبما يبرز أيضاً أن الالم لا يعرف سوى لغة انسانية واحدة يصرخ بها وان اختلف الاسماء والوجوه والكلمات. وهكذا يصبح مجمع رغدان رمزا لكل بقعة وشارع وحي ومخيم ينطوي على قصص المعاناة المتشابهة. ورغم أن المجموعة تقدم شخصيات عديدة في مواقف مختلفة من عالم الكبار من الرجال والنساء، إلا أن هناك خيط مشترك يكاد ينظم كل قصص المجموعة ألا وهو طرح هموم الطفولة البائسة الفقيرة التي تصبح ضحية المجتمع مع شيء من التركيز على مجتمع أولاد الشوارع بما يسمح للقاريء أن يتلمس الاسباب الحقيقية لانحراف الطفولة ومعاناتها. في كل قصص المجموعة هناك أبطال صغار من الفتية والاشقياء الذين يمثلون الادانة للواقع. ورغم أن المجموعة تندرج تحت أدب الواقعية السوسيولوجية بفضل ما تقدمه من مشاهد من عالم الالم والمعاناة وقسوة العيش والظلم الذي تقاسيه هذه الفئة من الناس، إلا أن شخصيات المجموعة جذابة متحركة متطورة تمر بتجربة اكتشاف الذات وكشف الوعي الذي ينقلها الى مستوى أعمق في فهم التجربة الانسانية بكل أبعادها وعلاقتها بظواهر المجتمع الاخرى كالاستغلال والفقر، وتضفي حواراتها الذكية المستفيضة أبعاداً أخرى من قدرة المؤلف على رسم لوحات عامرة تضج باللون والحركة والصوت مثل أمكنتها.


كما توحي أحداث قصص المجموعة وأمكنتها وشخصياتها بأنها مهتمة بتقديم نماذج واقعية من الحياة اليومية الاعتيادية المألوفة من طبقة المهمشين فاختار عالم قاع المدينة في سقف السيل ومجمع رغدان في الاردن، كما قدم نماذج من معاناة الفلسطيني في عدة أماكن كالمخيم مثل مخيم عقبة جبر وعين السلطان، والقرى والمدن الفلسطينية مثل أريحا وبيت حنينا وقرية المغار.


تفتتح القصة الاولى في المجموعة المسماة صفير الليل على ما يبدو أنه نوع من اللعب الطفولي الذي يريد تأكيد الذات المجهولة في الاحياء الشعبية، الذي يقوم على مهارة الصفير والصفير المقابل بين عدد من الصبية. ولكننا سرعان ما نكتشف أن الراوي في حالة استدعاء الذكريات لماضيه الطفولي بما يكتنفه من لعب ومباريات ومبارزات وتحدٍ تهدف الى اثبات الذات التي أخذ يتفتح وعيها حديثاً على العالم أمام الكبار وبين الاقران الذين يبرز من بينهم نضال. نضال ذلك البطل الغامض الذي يشكل حضوره نوعا من التحدي للاخرين، وكذلك محمد الصالحي الذي يفوق الاخرين سناً ومهارة فيعطيهم نوعاً من الامان. وتتحول المبارزة في اليوم الموعود الى مبارة كرة قدم حامية أشبه ما تكون بمعركة اثبات الوجود. ولكنها تطرح بشكل أعمق من ذلك، موضوع الصراعات الخفية بين الشخصيات وهي تبحث عن ذاتها وعن اثبات ثقتها في نفسها وقبول التحدي والنضوج المبكر. ولكن حديث الذكريات ليس منولوجاً بل يقوم على الحوار وايراد تفاصيل كثيرة تجسد صورة الحياة في المخيم الفلسطيني قبل النكسة مثل مخيم عقبة جبر، ليس بدءأ بالحديث عن جلوس الناس امام البيوت، وليس انتهاء بما تعانيه المرأة عندما تجد نفسها وحيدة في هذه الحياة من منة وسوء معاملة من قبل عائلة الزوج. تمتاز القصة الاولى كما هو الحال في كل قصص المجموعة بتوظيف الحوار بشكل أساسي ومطوّل بين شخصياتها المتعددة كمصدر يكاد يكون وحيدا وبديلا لتطوير الحبكة وطرح القضايا المختلفة والذي يأتي في الغالب على حساب الوصف الذي افتقدته أغلب القصص تماماً من جهة ، وعلى حساب السرد من جهة أخرى.


واذا كانت القصة توحي أنها ذكريات اللعب الطفولي الذي ينقل جانبا من أجواء المدرسة الشعبية بحكم خبرات المؤلف الطويلة في التدريس في الاردن وفلسطين، وتعكس جانباً من توثيق صور مختلفة للحياة الشعبية وتجسيد أسلوب عيش الناس في المخيم والقرية والمدينة، إلا أننا نكتشف أننا إزاء قصة أخرى داخل القصة أعمق من ذلك حيث تطرح معاناة الطفولة وعذاباتها كجزء من تفكك الاسرة وما ينطوي على ذلك من معاناة للمرأة مثل حكاية أم نضال ومعاناتها المريرة مع شقيقات زوجها بعد أن توفي زوجها صابر وما تعرضت له من سوء المعاملة من أهل زوجها دفعا لها كي تهجر البيت وبالذات إزاء محاولات شفيقة وهي أخت صابر التي كانت تريد أخذ نضال من أمه ليعيش في بيت أهله بينما ترغب في طرد أمه من البيت فتذهب الى بيت أخويها في عمان وهناك تجد نفورا وكرها لها من زوجتي أخويها مما يدفعها الى الالتجاء الى بيت خالتها في مخيم عين السطان وتتزوج. لا بل تشير القصة بشكل غير مباشر الى قصة أخرى تتشكل معالمها بهدوء وبطء وغموض لا تمنح نفسها بسهولة للقاريء وهي الانتقال من حالة التوجس والتوقع بين الراوي الذي يشارك الاولاد لعبهم بصفته واحدا منهم وبين البطل القادم نضال الى حالة من الاحساس بالتقارب الروحي بينهما.. فالراوي يصف صفير نضال في البداية انه قوي يسخر منهم، ثم يتحول الى نوع من الدهشة من ثقته بنفسه، ولكنه لا يلبث ان يتحول الى نوع من التعاطف معه عندما تمسك شفيقة بيده وتحاول أخذه معها فيمنعها الاولاد، ولكن الراوي يكتشف على نحو خفي ذاته في شخصية نضال ويرى فيه الجانب المفقود ويبادر بشكل فردي من غير معرفة الاخرين الى التعرف عليه وزيارته في حارته ويبدو سعيدا باللقاء. تضع القصة القاريء في خضم الحدث مباشرة بدون مقدمات في بداية مقطوعة توحي فنياً أن شيئاً قد بدأ قبل أن يسمع القاريء صوت الراوي. لاحظنا ذلك في صفير الليل التي تبدأ بالقول:".. وعاد الصفير مرة ثانية... ولاحظناها في درس خصوصي أيضاً حيث يشرع الراوي: ".. وانفجر العجل الخلفي الايسر".


لا يهتم الراوي كثيرا بتقديم وصف للمكان بما يجعل منه مكانا فريداً بذاته أو ما يدل على خصوصية للمكان في ذهن او وجدان الشخصيات، أو ما يجعل منه مكانا واقعيا بهوية معروفة لدى سكان المدينة، مما يجعل المكان تجريديا يؤدي وظيفة مكانية عامة يمكن أن يؤديها في أية جزء آخر من هذا العالم. ففي قصة درس خصوصي كل ما نعرفه أن الاحداث تجري في الحي الشرقي من المدينة، وحتى عندما يغادر الاستاذ وسام بيت أبي لطفي بعد انتهاء الدرس الخصوصي فإن الراوي يقول أنه ركب سيارته وأخذ الشارع الهابط الى وسط البلد.


تدور قصة "درس خصوصي" حول موضوع الخيانة الزوجية التي لا تتكشف خيوطها للقاريء الا في أواخر القصة بأسلوب يقوم على التشويق وتأزيم الامور تدريجيا وكشف معالم الصورة للقاريء تدريجيا حتى يدرك أن القصة التي يرويها أبو لطفي للراوي هي أعمق مما كان يظن من أنه مجرد خلاف عائلي يدور أساساً حول رغبة الرجل في السيطرة على مقاليد الامور في البيت وحساسيته من تصرفات زوجته الراغبة في توفير معلم يعطي درسا خصوصيا لابنها في الرياضيات وما يتبعها من خلافات اجتماعية وخاصة أن القصة تطرح موضوع التفاوت في المستوى التعليمي بين الرجل وزوجته الذي يميل لصالح المرأة، مما يمهد البذرة لشعور الرجل بالغيرة وانزعاجه من اسنقلالية زوجته التي تدعو المعلم لمباشرة الدروس بل وتدعوه للعشاءايضا دون معرفة مسبقة من زوجها، مما يجعله متوترا طوال الوقت.


تقدم القصة نموذجا حيا من واقع حياة الطبقة الشعبية في المجتمع حيث تسود مفاهيم الثقافة الذكورية التي لا تسمح بهامش للمرأة وتربط حريتها بمشكلات أخلاقية واجتماعية فجاءت القصة لتعزز هذا المفهوم حيث جسدت القصة حرية المرأة في اتخاذ القرار بصورة استغلال الحرية لقضاء مآربها حيث تستغل أم لطفي الظروف العائلية لتحقيق رغباتها من خلال افتعال حاجة ابنها للدرس الخصوصي وكل ما تلا ذلك من وجود علاقة سرية مع المدرس. لا يتعاطف الراوي مع المرأة التي لم تعد مجرد امرأة مطلقة بل ومنبوذة، حيث أهملها من أحبته وتركت زوجها لاجله فتخلى عنها، ولكن زوجها رفض بالطبع اعادتها رغم توسلات أهلها.


تنتقد القصة برود العلاقات الاجتماعية وسطحيتها وزيفها من خلال البداية الثلجية ، حيث تبدأ القصة بموقف طاريء عند هطول الثلج وتعطل سيارة الراوي وصفي في الطريق عند عودته من تغطية مهمة صحفية متعبة ومملة بناء على طلب رئيس التحرير، فيضطره الطقس الى ترك سيارته والالتجاء الى بيت متعهد توزيع الصحيفة أبي لطفي. ويلاحظ هنا أن الراوي لم يكن ليهتم بما جرى لمضيفه أو لمشكلاته الاجتماعية لولا الثلج الذي أرغمه على زيارته في وقت غير متوقع. بل ان اهتمامه بمضيفه ليس أكثر من باب الفضول حين رآه يقدم له الضيافة المرة بعد الاخرى بنفسه من غير زوجته. تقوم القصة على توظيف الحوار بشكل رئيسي ومطوّل وعلى حساب الوصف في تناول قضايا الخيانة الزوجية والخلافات والطلاق مما يعد درساً خصوصيا أكثر ايلاماً من درس الاستاذ وسام حيث يسعى كل طرف الى توجيه درس قاس لا يُنسى للطرف الاخر، كما فعل ابو لطفي مع زوجته.


أما القصة التي أعطت المجموعة اسمها فهي "مجمع رغدان" التي تطرح مجتمع قاع المدينة من المهمشين والمنبوذين والفقراء، ولعل اختيار مجمع رغدان لم يكن عبثاً، فهو أكثر من مجرد مكان كوعاءٍ تجري فيه الاحداث، بل هو صورة رمزية لمجتمع يمور بالمشكلات الاجتماعية والاخلاقية والاستغلال وطرق العمل غير الشريف أحياناً والصراعات العديدة التي تفرض نفسها على المكان. ويذكر الراوي في أكثر من مرة صورا مختلفة عن المعاناة والمشكلات التي تجعل منه بيئة فاسدة حتى بات يرتبط في الذاكرة الشعبية ويتردد في الخطاب العام بأن المكان يرمز الى المشكلات العديدة التي تتسم بها حياة العاملين في وسائل المواصلات وعلاقاتهم ببعضها، وبما يعكس الصورة النمطية للمهمشين الذين يحترفون كل صور الفساد والانحراف والاستغلال المالي وغياب قيم الوفاء والالتزام الاخلاقي تجاه الاخرين. يقول السائق برهم بطل القصة، رغم أن القصة ليس بها ابطالا بالمعنى الحرفي بقدر ما فيها من ضحايا مهمشين معذبين يتبادلون فيما بينهم أدوار البطولة الوضيعة: كل المجمع .. مجمع الاوغاد والمطلوبين للعدالة. ويقول مناجيا مساعده شنوان: " لا أظن أن أحدا من اصحاب مهنتنا يحبها يا شنوان، أنا أكرهها، .. كل يوم شجار.. كل يوم نسمع عن عراك". بل لا يتورع عن وصفه بأنه مجتمع مقرف. ولهذا نجحت القصة في ايراد العدد الاكبر من الشخصيات في حوارات متعددة طرحت قضايا مختلفة متشابكة ترسم لوحات من اشكالية العلاقة بين الفرد في مجتمع قاع المدينة وبين الاخرين، ولكنها لم تدع خيط القصة الاساس يفلت من الزمام.


توظف القصة أسلوب المفارقات والنماذج المتضادة لتأكيد الاحساس بالظلم والتهميش، حيث قدمت القصة نماذج مختلفة من الشخصيات المتناقضة في ثنائيات عديدة فهناك الشخصيات التابعة وهناك القيادية ، وهناك السائق وهناك المحصل الكونترول، وهناك صاحب العمل والعامل، وهناك الاخ المتعلم الغني الذي يحل مشكلات الاخرين بالمال ويحظى باحترام الاخرين بسبب مظهره وعمله الذي لا يلقى فيه جزءا بسيطا مما يلقونه هم من كد وشقاء في وظائفهم، وهناك الاخ الفقير الذي فشل في الدراسة فوضعه المجتمع في أتون نمطية ترسم معالم الشخصية وتؤطرها باخلاقيات رغما عن ارادتها فتصبح متهمة قبل أن تفعل شيئاً، وغيرها. يقول برهم في موضع آخر: "لم أدخل السجن في حياتي الا عندما عملت في هذه المهنة.. وكثيرون من العاملين معنا تعرضوا للتجربة نفسها".


تنجح القصة في اثارة اهتمام القاريء بتوظيف اسلوب التشويق والكشف التدريجي البطيء لملامح الصورة الكلية بما يسمح ببناء الحدث تصاعديا نحو الازمة، كما توظف القصة أسلوب البدء من نقطة متأزمة في السياق أو بداية تنطوي على الغموض والفضول مما يكسبها درجة من الامساك بتلابيب القاريء لكي يعرف خفايا المقدمات الذكية التي تمتاز بها هذه المجموعة، وتعود القصة كما في قصص المجموعة الاخرى بالقاريء من خلال تنقل متكرر بين صيغ الزمان المختلفة ما بين الماضي والحاضر واحيانا المستقبل لرسم معالم بيئة مجتمع قاع المدينة بشروره وآثامه وصراعاته. هناك كثرة واضحة في الشخصيات في القصة ولكن ذلك لم يضعف القصة بل منحها قوة التمثيل حين لم تعد الشخصيات نماذج فردية تعبر عن قضايا مشكلات فردية، فأغلبها شخصيات هامشية مهمشة ليس لها من قضايا ذاتية خاصة بها سوى القضايا التي تتشارك بها مع الاخرين من الفقر والمعاناة والاستغلال والبيئة الفاسدة وتحكم أصحاب العمل بهم واستغلال مستواهم التعليمي.


ينطوي كلام برهم على كثير من تفاصيل الحياة اليومية من مجتمع مجمع رغدان، مثل الخوف من فقدان العمل، والنزاعات مع العاملين الاخرين، والاحساس بفقدان الهوية وقيمة الذات، وهناك الكثير من الاحداث والمقارنات والمفارقات بينه وبين أخيه سعيد، وهناك المشكلة الرئيسة الاخرى المتمثلة في النزاع العنيف بين برهم وابي السيخ حول الشريط الغامض الذي يخشى منه برهم ويؤدي بهما الى الشرطة.. كل هذه التفاصيل ليست مهمة كثيرا بحد ذاتها بل هي مجرد صور رمزية مصغرة ومعبرة عن قضايا أخرى عديدة مكرورة للحياة في هذا المجتمع. برغم أهمية الجانب النفسي للصراعات الداخلية واشتباكها مع الذات، وبرغم الاحساس بالظلم والقهر والرغبة في البوح للاخرين، وبرغم معاناة الشخصيات في المكان، الا أننا لا نلمس كثيرا من الرتوش التي تحاول أن تجسد للقاريء عالم الشخصيات الجواني بما يكتنفه من احساس بالتهميش. لقد ساعدت طبيعة المشكلات والصراعات الصغيرة اليومية المتكررة والحوارات بين شخصيات القصة في التغطية على غياب الجانب النفسي.


أما في قصة أبناء الشوارع، فنعيش عالم المشردين والمعذبين واليتامى ومحترفي السرقة والابتزاز الذين حولهم المجتمع من ضحايا الى مشروع لصوصٍ صغار بين الازقة وواجهات المحلات والسجون والمخافر وعالم سقف السيل السفلي. في أبناء الشوارع نلتقي بثلاثة أبطال فقراء معذبين ما بين التشرد واليتم: سعدو وحريز وحمودة. تطرح القصة معاناة الطفولة البائسة نتيجة الفقر وغياب الاب واستغلال المجتمع، مما يضطر هولاء الثلاثة الى مواجهة عالم قاس لا يرحم. يختار حمودة الجانب السلمي فيمارس البيع على عربة لساعات طوال في الشارع، ويحظى برعاية اصحاب المحلات والشرطة لسلوكه وأمانته، في حين يلجأ سعدو وحريز الى الجانب الانحرافي في السرقة من المحلات كوسيلة للعيش. يتعرض سعدو وحريز الى عدة تجارب قاسية تتمثل في ملاحقتهم واستغلالهم من أبي سليم وأبي سريع، ويعيشان رعب القاء القبض عليهم بعد أن القت الشرطة القبض على صديقهما رشوان. يضرب حمودة مثلاً رائعا في مد يد المساعدة لهما حين يعرض عليهما مشاركته العمل بالبيع على العربة، وهكذا تنتهي القصة نهاية سعيدة في اجتماع الاصدقاء وترك السرقة. التحول في نهاية القصة سريع، وربما اراد الكاتب التركيز على الجانب الخيّر في الانسان لينتصر للطفولة المشردة كأحد الحلول المطروحة أو توجيه رسالة بأن الشر لا يولد في الانسان بل يُصنع من البيئة.


توظف القصة الحوار بشكل رئيس كما اسلفنا، ولكننا هنا أمام عين تهتم بتفاصيل الحياة لهذه الفئة من المهمشين والمعذبين، فالراوي يأخذ القاريء الى التفاصيل الدقيقة لخفايا وألاعيب هذا العالم بشكل واقعي، كما تنجح القصة في اثارة تعاطف القاريء مع شخصياتها برغم سلوكياتها لأنها تجابه العالم وحيدة. أبناء الشوارع قصة واقعية ممتعة بامتياز في لغتها وحواراتها والخفايا التي تقدمها.


أما قصة "شبح في المخيم" المتميزة موضوعاً واسلوباً واستهلالا مشوّقاً، فهي تعود لتطرح معاناة الفلسطيني في المخيم الذي سبق أن طرحته المجموعة بشكل غير مباشر في قصة صفير الليل.


- يبدو أن هذه الرسالة لن تصل أبداً


قالتها أمي بيأس وتبرم، فرد والدي وهو ينظر الى ساعته ليقرأ التاريخ:


- الوقت ما زال أمامنا، وعادل ما زال في مطلع سنته الاولى.


ومرة أخرى يسند الكاتب صوت الراوي الى واصف، شاب ما يزال في سنته الثانوية الاخيرة وهو يرى معاناة أسرته في المخيم بانتظار تدبير تكاليف تعليم أخيه الاكبر. ويبدو الصراع بين أفراد الاسرة ما بين التمسك بالمخيم الذي صار يرتبط بالذكريات والماضي وحب المكان، وبين الرحيل عنه كما في موقف الاخ الاكبر محمود. لقد ركز نواف نصار في هذه المجموعة على جانب مهم يتمثل في تقديم هموم الجيل الناشيء بأصواتهم، بل ودخل الى تفاصيل مغامراتهم وحياتهم كما رأينا سابقاً في قصة أبناء الشوارع. وكما لاحظنا في هذه المجموعة، فإن نواف نصار يبدو منشغلا في تقديم صور معبرة عن الحياة اليومية المثقلة بهموم الواقع الاجتماعي في الاردن وفلسطين، ونقد المفاهيم الشعبية بشكل غير مباشر من خلال ابراز وطأتها على مصير الشخصية. يلاحظ القاريء فكرة الانتظار الذي لا ينتهي الذي اتسمت به كل نواحي حياة الفلسطيني في الداخل وفي مخيمات الشتات، وفكرة الامل الضائع الذي لا يأتي. وبرغم الفقر والحاجة يتمسك أبطال القصة بتعليم عادل في الجامعة لأنه الامل الوحيد الباقي للخروج من محنة الفقر والمخيم وضياع الوطن. كما تقدم القصة من خلال الحوار نموذجاً من الاساطير الشعبية والحكايات الفلكلورية التي تبحث في موضوع الاشباح وأرواح القتلى التي تسكن البيوت وتظهر بين حين وآخر وتصبح حديث الجميع في القرية، لنكتشف أن الشبح لم يكن سوى محمود الشاب الشقي الذي يريد أن يرغم أهله على الرحيل عن المخيم الى أريحا.


ويعود القاص نواف نصار مرة أخرى الى فضاء مجمع رغدان في قصة "الصباح الاسود". واذا كان السائق برهم والكونترول شنوان هما ثنائيا قصة مجمع رغدان، فإنهما في الصباح الاسود يصبحان عدلي وخالد. ولكن هذه المرة يبتعد عن طرح حكايات الشكوى والعذاب التي تصبح القاسم المشترك الاعظم بين شخصياته، بل يعود لطرح معاناة الطفولة التي سبق أن قدمها في صفير الليل، وفي أبناء الشوارع وفي شبح في المخيم. سعيد يجد نفسه متسرباً من المدرسة ليعمل في كراج بعد أن دخل والده السجن نتيجة خديعة من فريد الذي وضع ثقته فيه فصار في نظر الشركة لصاً بعد أن كان حارسا نهارياً. ولكن سعيد يصبح ضحية سوء المعاملة من صاحب الكراج فيتحول الى نشال يسرق محافظ السواقين من سياراتهم. في هذه القصة المؤثرة يؤكد نواف نصار أن الخير سيبقى في الانسان مهما تعرض للالم والفقر. بل إن عدلي الذي تعرض للسرقة من الصبي سعيد، اصبح يمثل اليد البيضاء التي تنتشل والد سعيد من محنته وتعيد البسمة لأسرته. تمثل التجربة التي يمر بها عدلي حمدان في القصة مفهوما متقدما في النضوج الذي يمكن أن يمر به الانسان حينما يتحول وعيه من شعور الضحية بالخديعة والالم الى شعور الضحية بالتعاطف مع جانيها ادراكاً أنه هو الاخر ضحية المجتمع والبيئة. وفي الختام اقول شكرا للاستاذ والقاص نواف نصار الذي آثر ألا يصمت فحمل قلمه وجعل أدبه نابعاً من نبض الشارع.


* اللوحة أعلاه بعنوان الموسيقي العجوز للفنان الاسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973)
* نلقت جريدة الدستور الاردنية في عددها ليوم السبت 13/11/2009 خبر المشاركة في حفل توقيع مجموعة رغدان مع مقتطفات من المقالة أعلاه
يرجى الضغط على الرابط أدناه لتحميل صفحة الجريدة وقراءتها

مجمع رغدان - جريدة الدستور


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق