الجمعة، أغسطس 15

جميلة


جميلة

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أفاقت المدينة على صباح ٍ خريفي بارد بعد ليلةٍ صاخبة. تتحرك أوراق الشجر الصفراء وأغصانها بهدوء. يسمعُ صوتها بين الحين والآخر. لا يبدّدُ موسيقى الطبيعة الاّ أصواتُ سياراتٍ مارةٍ وزعيقُ أبواقها النشاز تبحث عن ركاب. تتراكض وريقاتٌ ذابلة هزيلة بنية اللون بعد أن اكتوت طويلاً بحرِّ الصيف في الشوارع. ما تزال أغلب نوافذ بيوت المدينة وأبوابها مغلقة. الشوارع شبهُ فارغةٍ الا من بعض القطط التي تذرع الارصفة أو تقف فوق أكوام القمامة في الحاويات. حمل عاملٌ شابٌ وافد سطلاً للمياه وفي يده بعض شرائط القماش المبللة. رفع ماسحات الزجاج الأمامي وأخذ يسكب الماء المليء برغوة الصابون فوق السيارة. ينظف كل صباح سيارات الشارع من بدايته إلى نهايته. وفي اليوم التالي ينتقل للشارع الآخر. هناك شاب آخر في الشارع الخلفي للحي. في كل شارع ٍ تقريباً ترى واحداً منهم. لقد تم تقسيم الشوارع بينهم إلى مناطق نفوذ! رجل عجوز محدودب الظهر يلبس ملابس بالية متسخة ، وشعره كثٌّ أشيبٌ. يحمل كيساً على ظهره كالحمّالين. يقف عند حاوية القمامة ينقب بين أكوامها عن العلب الفارغة. هذه طريقة مبتكرة في تدوير النفايات. تكلّف بعض الشركات الشحادين في المدينة بجمعها مقابل قروش قليلة!!

ما تزال مصابيح الشارع مضاءة. يبدو أنهم نسوها احتفاءً بالمناسبة. شوارع الاحياء الفرعية شبه معتمة في الليل بالكاد تنيرُ مصابيحُ أعمدتها الخافتة ما تحتها. هناك مصباح أو اثنان على طول الشارع كله. يمر الناس من أمام السيارات مثل ظلال سوداء كالأشباح من العتمة. لقد احتار الناس في أمرها. هل هو توفيرٌ للنفقات أم عقابٌ للقاطنين لأن أولاد الحي الأشقياء كسروا بعض المصابيح؟! لم يكن من مظاهر احتفال بالمناسبة ليلة أمس سوى طلقاتِ ألعابٍ ناريةٍ وبعضِ يافطاتٍ من قماش موشّحةٍ بعبارات مكرورة تعود الناس عليها وبرنامج قصير على التلفاز!

بدأت الحركة تدبّ في الشوارع. هناك أناس لا تعنيهم المناسبات كثيراً. كل يوم مثل الآخر بالنسبة لهم. يستيقظون مع عصافير الفجر، وينامون معها في المساء! لقمة العيش ليس لديها عندهم وقت للاحتفال. في نهاية الشارع المنحدر يوجد منعطف شبه دائري وسور قصير يجلس عليه عمال. تتوقف سيارة .. يهجمون عليها .. تدور مفاوضات قصيرة.. بعضهم يفتح الباب ويصعد حتى قبل الاتفاق! إذا إنقضى الصباح ولم يجد من يقلّه سيمضي يومه بلا نقود.

بعد برهة توقفت سيارة نقل صغيرة قديمة حمراء اللون ، يغطيها الغبار والتراب والاسمنت الجاف من جوانبها وحول إطاراتها. يهجم العمال مرة أخرى. وتنطلق أصوت الرجاء من كل حدب وصوب. بعضهم يتعلق بالسيارة من الخلف ويصعد بداخلها. يرفع السائق صوته بنبرة عصبية: إنزلوا.. قلت لكم أريد اثنين فقط.

بقى يصرخ على الاخرين حتى نزلوا ومضى! ما يزال عدد كبير منهم ينتظر الفرج. لا يبدو أن الفرج سيأتي هذا اليوم. مشى بعضهم إلى شارع آخر يجرب حظه فيه.
في الجانب الاخر من المدينة تقف نادين أمام المرآة وتتأمل تسريحة شعرها. فتحت الخزانة وصارت تقلّب الملابس فيها. مرت أمها من باب الغرفة. صاحت: ليس عندي ملابس للحفلة اليوم
- خزانتك مليئة بالملابس اختاري منها
- لقد رأتها عليّ صديقاتي. أريد أن أشتري شيئاً جديداً
- هناك الطقم الزهري والابيض. جميل عليك
- لقد رأينه عليّ. لا أستطيع! أريد واحداً جديداً
- إختاري شيئاً غيره. أو إلبسي قميصاً وبنطالاً
- لقد أصبحت موضتها قديمة.
- قديمة؟! من قال إنها قديمة؟! اشتريناها هذه السنة.
- لقد شاهدنها عليّ. أريد شيئاً جديداً
نادين وحيدة ومدللة. تحظى بما تريده بإلحاحها وعنادها! في الصف التاسع وتسكن في منزل من طابقين من الحجر الابيض في حي مليء بالفلل والقصور التي إكتست أسقفها بالقرميد. يبدو الحي مثل مدينة إيطالية من كثرة قرميدها وسطوحها المائلة! حديقة مزروعة بالورود وأشجار الزينة حوالي البيت، وفي الخلف يوجد ساحة كبيرة في وسطها بركة للسباحة وحولها توزعت المقاعد وأسرّة الاسترخاء تحت الشمس. مدخله ضخم من الحجر والرخام الوردي. وضع فيه والدها كل فنه. واجهة من الاعمدة العالية ذات التاجيات المزخرفة وفوقها مثلث حجري له إطار بارز منقوش بداخله أشكال مختلفة.

والدتها طبيبة نسائية. مرت كثير من نساء المدينة ومواليدهن من تحت يديها! عيادتها مكتظة بالحوامل دائماً. بها خزائن حديدية كثيرة محشوة بالملفات التي بدا عليها الاهتراء والتمزق من حوافها من كثرة الإخراج والإدخال.
بنى والدها علاقات كثيرة قبل أن يفتتح مكتباً خاصاً به. منذ أن افتتح المكتب والعمل يهلّ عليه بلا توقف. لقد صمّم ونفّذ مشاريعَ عديدةً في كل أنحاء المدينة. سامي لديه أساليبه الخاصة للفوز بعطاءات المشاريع التي يعلن عنها! ذكي ذو عقلية تجارية وخبير بممارسات السوق وتكتيكاته. عندما شهدت المدينة طفرة عقارية على إثر الهجرات التي تتابعت على المدينة بفعل الحروب، فقد اشترى أراضيَ وبنى عمارات سكنية ومجمعات فاخرة وقام بتأجيرها!

اتصل سامي بسكرتيرته وقال إن زجاج المجمع متسخ منذ فترة وبحاجة للتنظيف. اتصلت هاله بأبي محمود. رجل في بداية الخمسينات يتولى تنظيف البنايات العالية والمجمعات. لقد عرفه من خلال أحد المشاريع التي قام بتنفيذها. عنده خمسة أولاد وبنت واحدة. جميلة في الثامنة عشر. أحست دائماً أنها تعسة الحظ. بنت وحيدة في أسرة كلها أولاد! أخرجها أبوها وهي في الصف التاسع لتساعده وتساعد زوجته في أعمال البيت. يأخذ ابنته وزوجته أحياناً للعمل معه في تنظيف زجاج النوافذ من الداخل، ويتولى هو وأولاده التنظيف من الخارج. في أيام العطل يأخذ أولاده الصغار معه ليتعلموا المهنة منه. يحملون عدتهم ويبدأ العمل من الصباح حتى المساء.
قبل أن تخرج الدكتورة نجوى للعمل، اتصلت نادين بإحدى صديقاتها واتفقت معها على الذهاب للسوق لشراء ملابس جديدة. تفرجت نادين على الملابس المعروضة في المحلات. دخلت وجربتها لعلها تثير إعجاب صديقاتها، ولكنه لم يعجبها شيء. أخذت تتذمر وتتشكّى. حاولت أمها أن تقنعها ببعض الملابس ولكنها لم تفلح. أخذتها إلى محلات أخرى. أكثر ما تكرهه والدتها هو هذه المهمة! تفكر أحياناً أن ترسلها مع الخادمة لتختار ما تريد بنفسها وتريح رأسها من الصداع. ولكنها تخشى من اختيارات ابنتها. صارخة عجيبة! فلا تغامر بذلك. قالت لنادين إنها قد تأخرت على العيادة والمريضات ينتظرنها. قالت نادين: الحفلة أهم من التأخير!

وصل أبو محمود للمجمع بسيارته المتهالكة القديمة ومعه ابنته وأولاده ومعهم عدة التنظيف. يتألف المجمع من أربع طبقات فوق مستوى الشارع وثلاث طبقات تحته. الطوابق السفلية سوق فيها محلات تجارية مختلفة، أما الطوابق العليا فمكاتب تشغلها شركات وأطباء ومحامون ومهندسون. بُني المجمع على الطراز الحديث وجميع واجهاته من الزجاج السميك العاكس بلونه الأخضر القاتم المائل للاسود.

دخلت نادين محلاً خاصة بملابس الفتيات. أعجبها ما لديه من الملابس. أحست أن بها روح الشباب وألوان الموضة الدارجة وتفصيلاتها المتقلبة! الملابس رديئة القماش وأسعارها مرتفعة بشكل غير معقول! ولكن لا يهم بالنسبة لنادين لان الملابس لا تمكث لديها فترة طويلة! تنفست الدكتورة نجوى الصعداء.

علق أبو محمود الحبال على سطح المبنى وشدها. صندوق خشبي مشبك ذو إطار معدني يتدلى على واجهة المبنى. كان به اثنان من أولاده ينظفان الزجاج من الخارج. يتحكم به من الأعلى ويقوم بإنزاله شيئا فشيئاً حتى يتسنى لهم تنظيف واجهة المبنى الزجاجية. تتولى جميلة تنظيف الشبابيك من الداخل. بناية كبيرة وتنظيفها شاق. تيبست أيديهم وهي تفرك وتمسح. شعروا بتشنج عضلاتهم من الإرهاق.

عاد سامي بعد الظهر إلى بيته للغداء. بعد قليل وصلت الدكتورة نجوى من العيادة. كانت في غاية الارهاق خاصة بعد جولة التسوق الطويلة. أعدت الخادمة طعام الغداء وجهزت طاولة الاكل. سفرة شهية تثير في النفس الاحساس بالجوع! جلست نادين تتناول معهما طعام الغداء.

ما يزال أبو محمود يعمل هو وابنته وأولاده في تلميع واجهات المجمع. نال منهم التعب والجوع. ولكنهم بقوا صامدين يعملون. قرر أبو محمود أن يستريحوا لتناول غداء خفيف قبل أن يكملوا باقي العمل. أحضروا معهم بعض الارغفة وحبات الطماطم والخيار والزيتون، وأخذت جميلة تقطعها بسكين وتفردها أمامهم فوق أوراق الصحف!

جلس سامي وزوجته بعد الغداء يشاهدان التلفاز. أحضرت لهما الخادمة الشاي. بعد قليل رن جهاز الهاتف. رفع سامي السماعة. وقبل أن يتفوه بكلمة سمع السكرتيرة تصيح وتبكي. صُدم سامي. أحس برعب يسري في جسده. أحس بمصيبة قد وقعت فهذه اول مرة تتصل به وهي تبكي هكذا. طلب منها أن تهدأ ولكن صوت صراخها ظل يعلو وهي تتفجع مضطربة. كانت تبكي والكلمات تخرج من بين الدموع والصرخات. صعق سامي وبان على وجهه هول كارثة قد وقعت. لم يصدق الخبر. صرخ بصوت عال ماذا تقولين؟ كيف حصل هذا؟ أنا قادم الآن ورمى السماعة من يده. نظرت اليه نجوى وهي خائفة. شعرت أن شيئاً عظيماً قد حدث. سألته وهو يجري نحو الباب. كان مضطرباً. لم يسمع سؤالها. فتح الباب وخرج بسرعة كالبرق وصفق الباب خلفه.

قاد سيارته مسرعاً وتفكيره شارد في المصيبة التي وقعت. جاءته أفكار سوداء من كل صوب. خاف من مواجهة الموقف. ولكن لا مهرب أمامه. خاف من العواقب وارتعد من لحظة المواجهة. لا بد أنهم فائرون الآن والدم يغلي في عروقهم. عندما اقترب من المجمع، سمع صوت صافرة سيارة الاسعاف وهي تبتعد مسرعة. تحيط سيارات الشرطة بالمكان. سمع صيحات البكاء ورأى الدموع تنهمر وأولاد أبي محمود يندبون كالمجانين. بقعة دماء تملأ مدخل المبنى. انهار أبو محمود وهو يبكي من اللوعة. أمسك رجال الشرطة بسامي ووضعوه في السيارة وانطلقوا به. كان الكل مصدوماً وحزيناً لما حصل. كيف فتحت الشباك؟ لماذا أخرجت جسمها وجلست على الحافة ؟ شعر سامي أن كارثة قد وقعت ولم يكن مستعداً لها.

* اللوحة أعلاه بعنوان يتيمة في المقابر للفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا

هناك 6 تعليقات:

  1. غير معرف10:27 م

    استاذ اياد اعجبتنى كثيراً المقارنة الموجودة فى هذه القصة بين اسرة نادين الميسورة.. واسرة جميلة(المعدومة).
    رحم الله شهيدة الفقر جميلة!
    (كثيراًما اشعر ان فى كتاباتك بالنسبة لمضمون القضايا ملامح مصرية وكأنك تعيش معنا فى مصر...ام هو حال مصر كحال غيرها؟)
    عموماًلك منى جزيل لشكر والتقدير.
    (امال)

    ردحذف
  2. شكرا لك آمال على قراءتك الواعية وعلى كلماتك التي تحمل الكثير من المعاني. لا شك أن الشخوص تتحرك في فضاء مكاني وزماني محددين مما يجعلها ترتبط بخصوصية تاريخية ما ذات أبعاد اجتماعية أو فكرية أو لغوية أو ثقافية معينة. ولكن هذا يعبر عن طبيعة القصة التي تجري أحداثها في عالم محصور محدد مهما إتسع. ولكن قضايا القصة هي قضايا الانسان أينما كان. تعبر عن همومه وتطلعاته ومعاناته وصراعاته. بلا شك أن قضايا المجتمع العربي سواء في مصر أو الاردن أو في أية بقعة هي بالاساس واحدة تحمل تقريبا ذات وجوهر التحديات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. أنا سعيد ان تعبر القصة بهذه الدرجة من الصدق عن قضايا المواطن المصري وكأنها آتية من عمق المجتمع المصري. تحياتي الكثيرة لك ولمصر العزيزة

    ردحذف
  3. غير معرف10:24 ص

    مرحبا استاذ اياد ان قصتك جميلة جدا ولا استغرب بأن هذه الكتابات تخرج من انام احيت الواقع من خلال اخراجها مسلسلات عدة وقامت بأدوارا جميلة جدا

    حنين

    ردحذف
  4. تحياتي لك حنين. سعيد أن القصة أعجبتك كثيراً. ولكن يبدو أن الامر إختلط عليك. هذه المدونة لا تمت للممثل اياد نصار بصلة. الامر ليس أكثر من مجرد تشابه أسماء. وأهلا بك دائماً

    ردحذف
  5. غير معرف11:04 م

    on a vraiment besoin de sites comme celui la merci beaucoup iyad

    ردحذف
  6. لك موصول الشكر على كلماتك اللطيفة، وأنا فعلا أضم صوتي الى صوتك أننا نريد المزيد من مثل هذه المواقع. لا بد من المزيد من الاهتمام بالثقافة. ليس بالخبز وحده يحيا الانسان. الابداع متنفس الروح وغذاؤها وخبزها!

    ردحذف