الأربعاء، سبتمبر 17

عود على بدء

عود على بدء:
وقفة مع بدايات القصة القصيرة في الاردن وفلسطين

بقلم: اياد نصار

لقد خطرت لي هذه التداعيات وتمثلت في صورة حنين لبدايات القصة القصيرة في الاردن وفلسطين حيث لم يكن هذا الفن شعبياً مستقراً كم هو الحال اليوم. بل لم يكن شيئاً غريباً أن تجد في تلك الفترة من يشكك بقيمة هذا اللون الادبي مقارنة بالابحاث والدراسات الادبية! ولعل ذلك يعطي إحساساً بالمعاناة وربما التجاهل الذي لقيه الرواد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. عشت مع سيرة حياة ثلاثة من رواد القصة القصيرة في الاردن. ولا شك أن هناك آخرين ممن أسهموا في تطور فن القصة القصيرة عبر المراحل الماضية، ولكن اختياري كان بمحض الصدفة. وقد عادت بي الذاكرة عقوداً للوراء أحاول أن أتخيل طبيعة الحياة في المجتمع في فلسطين والاردن في بدايات القرن العشرين من واقع القصص ذاتها ومن واقع المواضيع التي تطرحها، ووصف الاماكن التي تدور فيها الاحداث، واهتمامات الشخصيات وسلوكها وأنماط تفكيرها والموروثات الشعبية الفلكلورية التي تلمحها في ثنايا النص. حاولت أن أقرأ ما بين السطور وأستشف صورة المجتمع وطبيعة الحياة وأسلوب العيش آنذاك. فتراءت لي صورة البساطة والرتابة ومكونات الفلكلور الشعبي تصبغ أغلب جوانب حياة الناس مع نزعة للتمدن والثراء وتسيطر عليها العناصر الشعبية المحلية التي تعكس احتياجات الناس برغم قلة الامكانيات. ووجدت فيها تلك الرغبة العارمة في الكتابة والابداع برغم قلة ذات اليد والاهتمام بتفاصيل جوانب حياة الناس المحلية من منظور كلاسيكي فلم يكن الناس قد عرفوا بعد وسائل الاتصال التي تأتيهم بأخبار الدنيا كل ساعة وهم جالسين في أماكنهم. كما تجد القيم والثيمات والصور الاخلاقية المحافظة بشكل بارز بأعمالهم بسبب طبيعة الجو التربوي الذي عملوا فيه سنوات طويلة.

كنت أقرأ عن حياة رائد القصة القصيرة في الاردن محمود سيف الدين الايراني وعن أمين فارس ملحس وأمين شنار، فلاحظت كم كانت سيرهم تعكس طبيعة حياة الناس في تلك الفترة المبكرة، ولمست ذلك الشبه الكبير في الادوار والوظائف التي قاموا بها والتي شكلت تاريخهم الادبي والوظيفي. ولد ثلاثتهم في فلسطين ما بين يافا والقدس والبيرة. وقد كان للنكبة تأثير كبير على حياتهم كحال كل أبناء الشعب الفلسطيني الذي تشرد في دول الشتات والاغتراب فحملوا معهم ذكريات الارض الطيبة وصور البيوت والشوارع ومفاتيح البيوت. وبقيت فلسطين حاضرة في أعمالهم بقوة.

وقد كان للتربية والتعليم مكانة بارزة في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة وبعدها. ويتجلى ذلك في اتجاه غالبية أدباء الرعيل الاول من شعراء وأدباء فلسطين الى العمل في المجالات التربوية ومن أشهر الامثلة على ذلك ابراهيم طوقان الذي مارس التعليم وإشتهرت قصيدته في معارضة أحمد شوقي، فقد عانى طوقان من متاعب التدريس فكتب تلك القصيدة الساخرة التي يسقط فيها المعلم بين المقاعد مقتولاً!

ويكـاد يقلقنـي الأّميـر بقولـه.......... كاد المعلـم أن يكـون رسـولا

لو جرّب التعليم شوقـي ساعـة....... لقضى الحياة شقـاوة وخمـولا

لا تعجبوا إن صحتُ يوماً صيحة.... ووقعت ما بيـن البنـوك* قتيـلا

يا من يريد الانتحـار وجدتـه.......... إنَّ المعلـم لا يعيـش طـويـلا

والبنوك في المحكي الفلسطيني هو المقاعد الخشبية التي يجلس عليها التلاميذ في قاعة الدرس. ورغم معاناة المدرس بسبب تدني مستوى الوعي ومحدودية الاطلاع والثقافة بين الطلبة بسبب ظروف اسرهم المعيشية وعدم انتشار واتباع الاساليب الحديثة في التربية، الاّ أن الاقبال على التعليم بين كافة أطياف المجتمع كان يعكس القيمة العالية للعلم والمعلم في المجتمع في تلك الفترة، كما كان يمثل الامل الذي يتعلق به الفلسطيني في الشتات بعد أن فقد أرضه وبيته ليصنع من ذاته شيئاً.

وقد أتيح لهولاء الرواد الثلاثة الدراسة ومن ثم التدريس في مدارس وكليات الضفة الغربية. وعندما انتقلوا الى عمان بعد النكبة فقد جمع العمل ثلاثتهم في سلك التربية والتعليم فترة طويلة. عمل محمود سيف الدين الايراني معلماً في عمان ثم أصبح مدير مدرسة قبل أن يُعين مديراً لدائرة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم، كما عمل أمين فارس ملحس مدرساً في بداية حياته العملية في الاربعينيات. وبعد نكبة فلسطين عام 1948 سافر إلى العراق وعمل في التدريس أربع سنوات، ثم عاد إلى القدس وعمل في معهد دار المعلّمين، ثم مفتّشاً في دائرة التعليم التابعة لوكالة الغوث. كما تقلّد عدة مناصب في وزارة التربية والتعليم في الاردن منها: رئيس قسم التوثيق التربوي. كما عمل لمدة ثلاث سنوات في بداية السبعينيات في المملكة العربية السعودية وشارك في إعداد المناهج التربوية هناك. أما أمين شنار فقد عمل أغلب سني حياته في سلك التربية والتعليم ، وحتى بعد أن تقاعد من العمل الحكومي فقد عاد للتدريس في مدارس الاقصى بعمان حتى التسعينيات الى أن إعتزل الناس وابتعد عن المشاركة في اللقاءات والنشاطات الادبية فترة طويلة في أواخر سنوات حياته.

كما انتقلوا من التربية والتعليم الى مجال الاعلام والثقافة فترة من حياتهم. فكان أمين شنار صحفياً في جريدة المنار في فلسطين ، ثم مديراً للتحرير في مجلة الافق، وظل يكتب زاويه يوميه ثابته في جريدة الدستور في عمان بعنوان لحظات يوقعها باسم "جهينه" لمدة تزيد عن 30 عام، وزاويه اسبوعيه تحت اسم مع الحياه و الناس. كما عمل مديراً لبرامج التلفزيون الاردني حتى عام 1971. وقدم عدداً من البرامج للاذاعة وللتلفزيون. أما أمين فارس ملحس فقد عمل مستشاراً ثقافياً في محطّة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في القدس وقدّم لها عدداً من البرامج والموادّ الإذاعية. أما الايراني فعمل ملحقاً ثقافياً ومستشاراً في وزارة الإعلام سنة في بداية السبعينيات، ورئيس تحرير مجلّة "رسالة الأردن" ثم مجلة "أفكار".

ولا بد من الاشادة الى أن الايراني يتعبر بحق رائد القصة القصيرة في فلسطين والاردن . فتجربته الادبية كانت ناضجة ومحترفة ذات أسلوب رفيع تدل على كاتب يتقن فنه ببراعة من ناحية الشكل والمضمون. كرس الايراني معظم كتاباته للقصة القصيرة حيث أصدر سبعة مجموعات بين عامي 1937 و1972 بدأها بمجموعته المسماة أول الشوط وآخرها غبار وأقنعة. أبدع الايراني في أسلوبه القصصي الذي كان يدل على احتراف في كتابة القصة باسلوب حديث من حيث جاذبيته في الوصف واختيار مواضيعه التي يلتقطها من واقع حياة الناس ومعاناتهم، وانتقاء المفردات والجمل القصصية البارعة التي تضع القاريء في جو النص مباشرة، واستخدام العبارات القصيرة المثقلة بالاشارات العميقة على لسان الراوي، وتجسيد الافكار التي تدور في ذهن الشخصيات، والسرد الذي يجذب الانتباه في متابعة الحبكة، والمزج بين الوصف والتداعيات.

ومن قصته الرصاصة الاخيرة أخترت هذه الفقرة "كان لا بد من هزّة كبيرة، بل هي الرجّة الشاملة من الرأس إلى القدم، لكي نصحو من نوم القرون".. هكذا كان يتحدّث ذلك الرجل. لا أدري أين رأيته. أتراني رأيته فعلاً؟ هؤلاء الناس يتشابهون. البدلة الثمينة الجديدة، ربطة العنق المحكمة، القميص الأبيض الناصع، الشعر المسرّح بعناية، المشية المتّزنة، والكلمات التي تقال باتّئاد.. تخرج بطيئة من دخان السيكارة في الهواء.. دائماً هذه الكلمات تقال للصحاب والجلساء في رحاب فندق كبير أو مقهى أنيق. والآخرون أيضاً ينفخون مع سكائرهم كلمات.. كلمات.. كان هذا متوقّعاً.. كل شيء ينذر بالنكسة.. الكارثة.. النكبة.. كلمات، كلمات.. ومعها أحياناً ابتسامات ما أغربها! لا أستطيع أن أفهم كلّ شيء، وهذه الكلمات تذهلني، وأكثر منها الابتسامات.. عاد الرجل يقول بوقار: "كان لا بدّ من هزّة.. بل رجّة لكي..." وكنت قد حملت صينيّة المشروب، والكؤوس الفارغة فوقها، وكان لا بدّ أن أدير ظهري وأمشي.. هم متشابهون في شرفات وأبهاء الفنادق، هنا في عمّان وهناك في القدس يوم كانت القدس لنا.. "يجب أن أكون سعيداً." هكذا قيل لي.. قالها رجل من أولئك، ربّما كان في الخمسين أو دونها أو فوقها. من الصعب أن يميز الإنسان أعمارهم وإنّما البدلة هي الجيّدة دائماً، وربطة العنق الثمينة، والشعر المسرّح وتلك الكلمات.. والابتسامات وهزّة الرأس أحياناً. يجب أن أكون سعيداً لماذا؟"


* اللوحة أعلاه من ريشة الفنان الفلسطيني المعاصر سليمان منصور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق