السبت، يونيو 28

زيارة الى بيت جدي


زيارة الى بيت جدي

قصة: ديلان توماس
ترجمة وتقديم: اياد نصار

ولد كاتب القصة والشاعر البريطاني ديلان توماس في عام 1914 في بلدة بحيرة البجع في اقليم ويلز . وقد نشر أول قصيدة وعمره اثنا عشر عاماً، كما ترك مقاعد الدراسة ليعمل مراسلا لصحيفة محلية آنذاك . ثم ترك الصحيفة وعمره ثمانية عشر عاما ليلتحق بالعمل في فرقة مسرحية . وفي تلك السنة بدأ بنشر قصائده وتقديم نفسه لمحرري الصحف الادبية في لندن . وقد بدأ اثناء تلك الفترة يقدم برامج أدبية اذاعية عبر أثير هيئة الاذاعة البريطانية حول الشعر الحديث ، وكذلك كتابة السيناريو لافلام سينمائية واذاعية . كما تنقل بعدها في عدة دول لالقاء المحاضرات بين الولايات المتحدة والتشيك وايران وايطاليا والتي أدت الى ذيوع شهرته، كمأ اصدر عددا من الدواوين والمجموعات القصصية خلال تلك الفترة . توفي في عام 1953 في نيويورك .

القصة :

إستيقظت في منتصف الليل من حلم مليء بأسواط وأنشوطات طويلة كالأفاعي ، وعربات تجرها الاحصنة وممرات جبلية وخيول تعدو كالريح فوق حقول الصبّار . وسمعت الرجل العجوز في الغرفة المجاورة يصيح : " هيّا أسرعي" .. و" وووه" ولسانه يضرب في سقف حلقه .

لقد كانت هذه المرة الأولى التي أمكث فيها في بيت جدي . كانت ألواح الارض الخشبية تصر صريراً مثل الفئران كلما إعتليت السرير لأنام . والفئران بين الجدران تصدر صفيرا كصوت خشب يسير عليه زائر آخر . كانت ليلة صيف لطيفة ، لكن الستائر كانت تخفق متلاطمة قليلاً ، والاغصان تضرب زجاج النافذة . سحبت الاغطية فوق راسي وغرقت في قراءة كتاب .

صاح جدي: " وووه .. قفي هناك يا جميلاتي" سمعت صوته عالياً كأنما هو صوت شاب. كان لسانه يصدر أصواتاً كحوافر قوية. وقد حوّل غرفة نومه كأنها مرج أخضر . فكرت أن انهض وأرى ان كان مريضاً ن أو أضرم النار في ملابس نومه ، فقد قالت لي أمي ذات مرة أنه أشعل غليونه تحت البطانيات . ونبهتني أن اسرع اليه لمساعدته اذا شممت رائحة دخان في الليل. قمت أسير على رؤوس أصابعي ، أعبر الظلام الى باب غرفته ، أتحسس الاثاث برفق .. وأزعجت ضوء الشمعة باصبعي ، وشعرت بالخوف عندما شاهدت ضوءاً في الغرفة . وبينما كنت افتح الباب سمعت جدي يصرخ بقوة مثل ثور ضخم ينفخ في بوق : " هيا أيتها الخيل ... أسرعي ".

كان يجلس مستقيما في فراشه ، ويتأرجح من جهة لأخرى كما لو أن سريره يتحرك على طريق وعرة .. وقد جعل من أطراف اللحاف التي يمسك بها لجاماً يقبض عليه بيديه . كانت خيوله اللامرئية تقف في ظل خلف الشمعة التي بجانب السرير .. كان يلبس صدرية حمراء ذات أزرار نحاسية بحجم حبة الجوز فوق فانيلته التي يلبسها للنوم . كان تجويف غليونه المحشو كثيراً يصدر دخانا كثيفاً من بين شاربيه مثل كومة صغيرة من التبن تحترق. وعندما رآني فقد سقط اللجام من بين يديه التي تمددت بجانبيه هامدتين زرقاوين ، والسرير توقف كأنه على أرض مستوية ، وقد كتم صوته ولاذ بالصمت ، والخيول توقفت ببطء .

- أثمة أمر ما يا جدي؟ سألته على الرغم من ملابسه التي لم تكن تحترق .

بدا وجهه في ضوء الشمعة مثل لحاف رث ،معلق عالياً في الهواء القاتم الاسود ، ومرقع في كل مكان منه بجلد عنزة .

حملق فيّ بلطف .. ثم نفخ في غليونه ، فبعثر الجمرات التي فيه ونثرها ، وأصدر صفيراً عالياً عبر ساق الغليون كصفير كلب مبلل ، وصرخ: لاتسألني أي سؤال . وبعد برهة قصيرة قال بخبث : هل ترى كوابيس مزعجة في منامك دائما يا ولد؟

قلت : لا

- أووه .. بلى .. أنت تحلم ..

أخبرته أنني استيقظت على صوت كان يصرخ على خيل.

ماذا قلت لك؟ وأضاف : أنت تأكل كثيرا .. من في حياته سمع عن خيول في غرفة نوم؟

تحسس تحت وسادته ، وأخرج محفظة صغيرة لها رنين ، فك خيوطها بحذر ، ثم تناول جنيها استرلينيا ووضعه في راحة يدي وقال: إشتر لك كعكة . شكرته وتمنيت له ليلة سعيدة .. وبينما كنت أغلق باب غرفتي سمعت صوته يصيح عالياً بابتهاج: هيا أسرعي .. هيا .. كما سمعت صوت سريره يهتز متأرجحاً .

في الصباح استيقظت من حلم رأيت فيه خيلاً محمومة على أرض منبسطة وقد تناثر فوقها قطع من الاثاث ، ورجال ضخام مكفهري الملامح كانوا يركبون ستة خيول في وقت واحد ، وقد كانوا يضربونها بملابس نوم محترقة. كان جدي موجوداً على مائدة الافطار وقد لبس ملابس سوداء غامقة . قال لي بعد الافطار :" لقد كانت هناك ريح عاتية الليلة الماضية". وجلس في كنبته بجانب الموقد ليصنع كرات من الصلصال من أجل النار . في ذلك الصباح أخذني جدي للتمشي عبر قرية جونستاون .. وفي الحقول على طريق ليانستيفان .

قال رجل معه كلب صغير نحيل :" هناك صباح لطيف يا سيد توماس". وعندما مشى مبتعداً منحني الظهر مثل كلبه ، وغاب عن الانظار في غابة خضراء قصيرة الاشجار رغم أنه كان من المفروض الا يدخلها كما كانت تشير لافتات بذلك. قال جدي : هناك .. هل سمعت؟ بماذا ناداك ذلك الرجل؟ يا سيد!

مررنا أثناء تجوالنا بأكواخ صغيرة .. وكل الرجال الذين وقفوا متكئين على البوابات هنّأوا جدي على الصباح الجميل .. ومررنا عبر الغابة التي تمتليء بالحمام الذي كسر الاغصان بأجنحته وهو يطير مندفعاً الى أعالي الاشجار. ومن بين الاصوات الناعمة ، والطيران العالي الخائف . قال جدي كرجل ينادي عبر حقل :" لو سمعت هذه الطيور الكبيرة في الليل، فلسوف تستيقظ وتوقظني معك وتقول أن هناك خيولاً فوق الاشجار!

عدنا نمشي ببطء لأن جدي كان متعبا .. ورأينا الرجل محدودب الظهر يتسلل خارجاً من الغابة الممنوعة يحمل أرنباً بكل رفق فوق ذراعه كذراع فتاة في كم دافيء ..

في اليوم الاخير لزيارتي أخذوني الى ليانستيفان في عربة يجرها مهر قصير ضعيف .. ربما كان جدي يقود ثوراً . شد اللجام بقوة ، وراح يضرب المهر بالسوط بعنف بالغ ، وأخذ يصرخ ويلعن ويشتم الاطفال الذين كانوا يلعبون في الطريق . ومن ثم وجد نفسه مجبرا على الوقوف فوق ظهر المهر ، وهو يجذب اللجام بشدة .. وراح يلعن قوة هذا المهر الشيطانية.

- " انتبه يا ولد" . كان يصرخ بهذه الكلمات كلما وصلنا الى منعطف ويسحب اللجام بقوة ، ويلوح بالسوط ويضرب به مثل سيف من المطاط .. والعرق يتصبب منه . وكلما اجتاز المهر المنعطف بصعوبة قاسية ، كان يلتفت جدي اليّ ويتنهد مبتسما ويقول : " نجونا هذه المرة يا ولد" .

عندما وصلنا الى قرية ليانستيفان على قمة التلة ، ترك العربة بجانب حانة " إدوينسفورد آرمز". وفك الزرد عن فم المهر وأعطاه قطعة من السكر قائلاً :" أنت مهر صغير ضعيف يا جيم حتى تجر رجالاً ثقيلين مثلنا". طلب جدي بيرة وطلبت أنا عصير ليمون ، ثم دفع للسيدة إدوينسفورد جنيها من محفظته الرنانة. سألته إدينسفورد عن صحته هذه الايام ، فأجاب بأن قرية "ليانجادوك" أفضل بكثرة قنواتها. ثم ذهبنا لنلقي نظرة على فناء الكنيسة ومدفنها ، وكذلك البحر ، وجلسنا في غابة تدعى " العصى" ، ثم صعدنا ووقفنا على منصة فرقة الجوقة في وسط الغابة ، حيث يغني الزوار في ليالي الصيف. صار شريف هذه القرية رئيس بلدية منتخب لسنوات. وقف جدي في فناء الكنيسة واشار الى البوابة الحديدية حيث توجد شواهد الاضرحة والصلبان الخشبية . وقال: " لا معنى من الاضطجاع هناك" .

ثم قفلنا عائدين غاضبين هائجين ، فجيم أصبح ثورا مرة أخرى .

استيقظت متأخرا في ذلك الصباح الاخير بالنسبة لي هنا من خضم الاحلام حيث رأيت فيها أن بحر ليانستيفان كان يحمل قوارب شراعية طويلة كالبواخر . وصوت الجوقة الموسيقية الصاخب يصل من الغابة ، وقد ارتدى أفرادها صدريات تلفها خيطان وحبال شتى ، نحاسية الازرار ، انهم يغنون بلهجة ويلزية غريبة للبحارة المسافرين . عند الافطار لم أجد جدي على المائدة، ويبدو أنه نهض مبكراً. تمشيت في الحقول ، وأنا أحمل معي مقلاعاً للصيد ، وقضيت سحابة ذلك الصباح أحاول اصطياد طيور النورس والغربان التي انتشرت فوق الاشجار في مزرعة القسيس . هبت ريح خفيفة حارة ، وزحف الضباب من على سطح الارض ، وتسلل بين الاشجار فغطى الطيور المزعجة ، وتناثر الحصى الذي قذفه المقلاع من خلال الريح والضباب كحبات البرد . وانقضى الصباح دون أن يسقط طائر!

انتصف النهار فكسرت مقلاعي ، وعدت الى بيت جدي لتناول الغداء من خلال حديقة القسيس . لقد أخبرني جدي ذات مرة أن القسيس كان قد اشترى ثلاث بطات من "كارمارثن" وعمل لهن بحيرة صغيرة في وسط الحديقة ، لكنهن تركن البحيرة وخرجن يتهادين في مشيتهين الى قناة المزراب تحت عتبات باب المنزل المكسورة وهناك أخذن بالصياح والسباحة . عندما وصلت آخر الممر المشجر نظرت عبر فتحة في السياج ، فرأيت أن القسيس قد حفر نفقاً صغيراً عبر الارض بين المزراب والبحيرة ، ووضع لافتة مكتوب عليها بخط واضح : " هذه الطريق الى البحيرة" والبطات كانت لا تزال تسبح تحت العتبات .

لم يكن جدي في الكوخ . ذهبت الى الحديقة لكنه لم يكن هناك أيضا كعادته يحملق في أشجار الفاكهة. ناديت عبر الحديقة على رجل كان يقف متكئا على رفش في حقل خلف سياج الحديقة:

- هل رأيت جدي هذا الصباح ؟

لم يتوقف الرجل عن الحفر ، وأجاب بغير اكتراث كأنما يتحدث من أنفه :" رايته يلبس صدريته الغريبة" .

كان يعيش جريف ، الحلاق ، في الكوخ المجاور. صرخت عليه من خلال الباب المفتوح : سيد جريف ، هل رأيت جدي؟ خرج الحلاق وهو يلبس قميصه ذا الاكمام الطويلة وقال: " كان يلبس صدريته المفضلة" . لم أكن أعلم أنها كانت مهمة ، لكن جدي كان يلبسها فقط في الليل .

- هل ذهب جدك الى ليانستيفان ؟ سأل السيد جريف بقلق .

- ذهبنا الى هناك بالأمس في عربة صغيرة .

أسرع الى الداخل وسمعته يتكلم لهجة ويلز. ثم خرج يلبس معطفه الابيض ، وقد حمل عصاه المخططة الملونة التي يتوكأ عليها . مشى خطوات سريعة عبر شارع القرية ، وركضت أنا بجانبه ووقفنا عند مشغل الخياط . صرخ جريف عالياً : دان ، وأطل دان الخياط براسه من النافذة حيث جلس مثل كاهن هندي ، لكنه يلبس قبعة خيّال في سباق للجياد .

- " داي توماس ارتدى صدريته" قال الحلاق جريف وأضاف :" وذهب الى ليانستيفان" وبينما قام الخياط دان يبحث عن معطفه ، كان السيد جريف قد أخذ يهرول ثانيةً.

- ويل ايفانز ، ويل ايفانز . صاح جريف امام مشغل النجار . وقال: داي توماس إرتدى صدريته وذهب الى ليانستيفان .

قالت زوجة النجار التي خرجت من ظلام المشغل الدامس المليء بالمناشر والمطارق : سأخبر مورجان حالاً .

نادينا على القصاب ، والسيد برايس ، وكان السيد جريف يعيد بلاغه في كل مرة كمنادٍ يطوف في شوارع بلدة يذيع البيانات .

تجمعنا كلنا في ساحة جونستاون . كان الخياط على دراجته ، والسيد برايس فوق عربته الصغيرة التي يجرها مهر ، بينما صعدت أنا والسيد جريف ومورجان النجار والقصاب الى عربة أخرى تتمايل يمنة ويسرة ، وتوجهنا نحو بلدة "كارمارثن" . كان الخياط في المقدمة يطلق جرس دراجته كما لو كان هناك حريق او سرقة . فدخلت امرأة عجوز كانت أمام بوابة كوخها في نهاية الشارع الى داخل بيتها ، تركض كدجاجة منتوفة الريش . لوحت لنا امرأة أخرى بمنديلها اللامع .

سألت : أين أنتم ذاهبون؟

كان جيران جدي أناساً مهيبين بالفعل ، كرجال كبار السن يرتدون قبعات سوداء وجاكيتات ويمشون على أطراف معرض . هز السيد جريف رأسه وقال متفجعاً : لم أتوقع هذا ثانية من داي توماس .

- " ليس بعد المرة الماضية " . قال السيد برايس بأسى .

تابعنا مسيرتنا المسرعة . تسلقنا تلة " كونستيتيوشن" ، ثم انحدرنا نثير الجلبة الى شارع " لاماس" والخياط ما زال يقرع الجرس ، وكلب كان يعدو وينبح بشدة أمام العجلات . عندما قطعنا مسرعين الشارع المرصوف بالحصى الذي يقود الى جسر " تاوي" ، تذكرت رحلات جدي الليلية المزعجة التي جعلت الفراش يتأرجح ، والجدران تهتز . ورأيت في خيالي طيف صدريته الزاهية الالوان تلف خصره ، وغطاء الوسادة المرقع يطوق راسه ، بينما بدا وهو يبتسم في ضوء الشمعة . قفز الخياط عن السرج ، واستدار قبلنا وقد ترنحت دراجته على اليمين والشمال قبل أن تقع الارض وراح يصرخ ، انني أرى داي توماس .

تحركت عربتنا وهي تثير الجلبة فوق الجسر ، ورأيت جدي هناك. كانت أزرار صدريته تلمع في ضوء الشمس ، وقد لبس بنطاله ، بنطال الأحد الاسود الضيق ، وقبعة طويلة مغبرة كنت رايتها في الخزانة التي في العلية . وحمل معه حقيبة صغيرة تاريخية . عندما رآنا انحنى محيياً : " صباح الخير يا سيد برايس ، سيد جريف ، سيد مورجان ، وسيد ايفانز" ، أما أنا فقد قال لي : " صباح الخير يا ولد " .

قال السيد جريف بصرامة : وماذا تظن أنك تفعل على جسر " كارمارثن" في رابعة النهار؟ وأضاف وهو يشير بعصاه الملونة الى جدي : بصدريتك المفضلة وقبعتك القديمة؟

لم يجب جدي ، لكنه مال بوجهه الى مجرى النهر ، وقد أخذت لحيته تتمايل وتتحرك كلما تكلم ، وراح يراقب رجال القارب الصغير البعيد ، وهم يتحركون على الشاطيء كالسلاحف .

- وأين تظن أنك ذاهب بحقيبتك السوداء القديمة ؟ قال السيد جريف وهو يرفع عكازته .

أجاب جدي : " إنني ذاهب الى "ليانجادوك" لأُدفن هناك" ، وكان ما يزال يراقب مجاديف القارب تغوص في الماء برفق ، وطيور النورس تحلق فوق الماء المثقل بالأسماك . شكا السيد برايس بمرارة قائلاً: لكنك لم تمت بعد يا داي توماس!

وأطرق جدي يفكر ملياً لعدة لحظات ، ثم قال : " لا معنى للموت في ليانستيفان ، الارض مريحة أكثر في ليانجادوك ، تستطيع أن تحرك ساقيك بدون أن تضعها فوق البحر" . اقترب جيران جدي منه وقالوا: أنت لم تمت يا سيد توماس!

فكيف سيتم دفنك؟

- لا أحد سيدفنك في ليانستيفان ، لا تخف .

- إرجع الى بيتك يا سيد توماس .

- هناك بيرة مثلجة مع الشاي

- وكعك

لكن جدي وقف بثبات على الجسر ، ووضع حقيبته على جنبه ، وأخذ يحملق في النهر الجاري تارة ، والسماء تارة أخرى ، مثل نبي ليس لديه أدنى شك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق