الجمعة، مايو 7

بين ادوارد سعيد وفخري صالح.. دفاع عن الأب الروحي!


بين ادوارد سعيد وفخري صالح: دفاع عن الاب الروحي!

بقلم: اياد ع. نصار

الجزء الاول:
في حفل توقيع كتابه المهم والقيّم "ادوارد سعيد: دراسة وترجمات" الذي جرى في مركز الحسين الثقافي التابع لأمانة عمان الكبرى في أواخر شهر كانون الثاني الفائت، والذي قدّمه فيه الروائي جمال ناجي، وشارك فيه الناقد زياد ابو لبن الذي ألقى ورقة حول كتابه الاخر الذي صدر في الوقت نفسه "في الرواية العربية الجديدة"، والناقد الدكتور غسان عبد الخالق الذي ألقى ورقة حول كتابه قيد الدراسة ، قال الناقد فخري صالح إن "كتابات ادوارد سعيد صارت قوتاً يومياً له منذ أكثر من عشرين عاما". بل إنه استهل حديثه عنه ،يومها، بالقول إن ادوارد سعيد صار مثل واحد من افراد العائلة الذي يعيش معهم، وصار الاب الروحي له، وهو ما يرد ذكره حرفياً أيضا في الكتاب. وجدير أن يشاد بالجهود الكبيرة التي بذلها الناقد فخري صالح في اعداد هذا الكتاب بين البحث والدراسة والترجمة والمقارنة بلغة نقدية ممتعة تشد انتباه القاريء للمتابعة حتى النهاية.


ذكّرني ما كتبه فخري صالح، في كتابه عن لقاء ادوارد سعيد، بتلك الرسالة، التي وصلتني ذات يوم - وأنا ما زلت طالبا أدرس الادب الانجليزي في جامعة اليرموك- من ادوارد سعيد. كنت على مشارف التخرج في العام 1989 حينما أخذت أراسل بعض الجامعات الغربية لاكمال الدراسة العليا فيها. وأول ما خطر لي هو جامعة كولومبيا التي كان يعمل فيها إدوارد أستاذا للادب المقارن. كتبت له رسالة اشرح فيها رغبتي في الدراسة في الجامعة العريقة، ولكن قلة ذات اليد منعتني من تحقيق الحلم في اكمال الدراسة في بريطانيا أو الولايات المتحدة، وبين سطورها ضمّنت رغبتي الخفية في الحصول على بعثة جامعية، طامعاً في استثمار الصلة الفلسطينية بيننا. وجاءتني رسالة قصيرة منه يشكرني على رسالتي، ويدعوني لمراسلة مكتب القبول في الجامعة. وبالطبع، لم يفاجئني الرد، بل سعدت به كثيراً واحتفظت به بين أوراقي، فمكانة ادوارد سعيد معروفة، وأنا لم أكن سوى طالب متحمس كي يسعى لمساعدتي، وأظنه كان يتلقى مثل رسالتي الكثير.


ذكّرني بهذه الحادثة ما ذكره الاستاذ فخري في الكتاب من أنه التقى ادوارد سعيد مرتين: واحدة في العام 1984، وواحدة في العام 1991. في المرة الاولى لم يتحدث معه، فقد بقي ينظر اليه واقفاً من بعيد، هياباً من الاقتراب منه، وفي الثانية لم يكن سوى لقاء عابر في ردهة فندق الاردن حيث عرف صدفة أنه ينزل فيه من النحاتة منى السعودي حينما كان يجري حواراً مع الروائي المغربي الطاهر بن جلون. فذهب للسلام عليه، وعرّفه ادوارد في هذا اللقاء على عائلته: زوجته مريم، وابنه وديع، وإبنته نجلا. وما أستشفه بشكل واضح أنه، عملياً، لم يكن هناك اتصال أو حوار أو مكاتبات بينهما، وأنا أستغرب أن شغف فخري صالح بسيرة ادوارد سعيد شخصياً، وبفكره المتقد وسعة رؤيته منذ العام 1991 مروراً بالعام 2000 حينما كتب كتابه "دفاعا عن ادوارد سعيد" وحتى العام 2003 الذي توفي فيه، لم يحدث أي نوع من التواصل الفكري المباشر بينهما، وإنما بقي الناقد فخري صالح في عزلته منكباً على قراءة كتب ادوارد وأبحاثه، وما كان يُكتب عنه بين تأليب أو تأييد. وساعده في ذلك قيام محمود درويش بنشر ترجماته وأبحاثه عنه في مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها.


لعب محمود درويش دوراً في تأثر فخري بادوارد سعيد مثلما كان لترجمات وقراءات فخري في اعمال إدوارد تأثير في شعر درويش. فعلى سبيل المثال، يبدو لي أن درويش اطلع على كتاب "بعد السماء الاخيرة: حيوات فلسطينية" الذي اصدره إدوارد في العام 1986. فنراه في ديوانه "ورد أقل" الذي أصدره درويش في العام نفسه يذكر عبارة (السماء الاخيرة) في قصيدة "تضيق بنا الارض": إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟‏ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟‏ وكان هذا الجزء من القصيدة هو مفتتح الفصل الذي كتبه فخري بعنوان "ادوارد سعيد وصورة الفلسطينيين" وهو من الفصول الممتعة الشيقة التي تتحدث عن أسلوب فريد لدى ادوارد في تعريف العالم بعذابات الفلسطينيين.


يبدي فخري صالح إعجابه الشديد بفكر ادوارد سعيد بل تماهيه معه، الى حد أنه صار مصدرا معرفيا واطارا فكريا نقديا يستند اليه في نظرته وتحليله للنصوص، وفي صوغ مواقفه من مختلف مسائل الحياة. ويؤكد أن كتابات ادوارد أصبحت رفيقا دائما له، ودفعته الى أن يتتبع معظم ما ألّف من كتب وما نشر من دراسات ومقالات، ومعظم ما كتب عنه. ولكن يدهشنا موقف فخري صالح الذي، برغم حضوره النقدي العربي البارز، وبرغم امتلاكه رصيداً نقدياً يتمثل في ما يزيد عن خمسة عشر كتاباً بين تأليف وترجمة وتحرير، والمئات من المقالات والابحاث والمشاركات في المؤتمرات والندوات، يذكر أنه لا جديد لديه يضيفه أمام فكر ادوارد سعيد، حيث يقول إن ادوارد سعيد "يجعل المرء يشعر بالعجز وعدم القدرة على الاضافة الى ما كتب..". يبدو فخري صالح لي، هنا، بموقف المعجب باستاذه وأبيه الروحي الذي لا يسعى الى نقد أفكاره أو مناقشتها او الاضافة اليها، بل يبقى يكتب دفاعاً عنها، لا من حيث انتهت، بل من حيث بدأت. وربما يشذ عن هذه القاعدة موقف وحيد لفخري صالح لا يتفق فيه مع موقف ادوارد السياسي الذي جاء في اطار عرضه لكتابه "غزة - أريحا: سلام أمريكي". فمعروف أن ادوارد سعيد لم يكن مؤيدا لاتفاق السلام الفلسطيني الاسرائيلي، وعدّ النظرة العربية والفلسطينية الى الموقف الامريكي محايداً وراعياً نزيهاً للوصول الى السلام "خرافة ايديولوجية". وهنا يبدي فخري نقده لموقف ادوارد حيث يفيد أنه، أي ادوارد، لم يكن قادرا على بلورة استراتيجية سياسية عملية بديلة مقنعة، وإن تشخيصه للواقع يبدو أكثر واقعية من الحلول التي يطرحها.


وعلى خلاف الكثيرين الذين يرون إدوارد ناقدا أدبياً مرموقاً، أو استاذاً للادب المقارن، أو متخصصا في الانثروبولوجيا، أو يرونه ذاك الاستاذ الفلسطيني الاكاديمي الذي أزعج بعض الدوائر اليهودية في الولايات المتحدة ، فإن نظرة فخري صالح فيها شيء من التقدم والاحاطة والنضوج. فهو يرى أن إدوارد ليس باحثا أكاديميا فلسطينيا يستغل وجوده في إحدى أعرق الجامعات لنشر مشروعه في الدفاع عن الحق الفلسطيني ببساطة، ولا يتلخص مشروعه في الدفاع عن ثقافة العرب وحضارتهم، بل يسعى الى تفكيك الفكر الغربي ونقد الخطاب الذي اخترع الاخر المتمثل في الشرقي والعربي والمسلم، ليميز نفسه، ولهذا فادوارد سعيد يرفض سياسات الهوية وصراعات الجغرافية او الارتباط بثقافة معينة، بل إنه مقيم بين الثقافات. يرى إدوارد أن دور المثقف يحتم عليه أن يرفض حروب الهويات أو التمترس وراء علاقات أو أفكار لم يخترها بحريته بل فرضت نفسها عليه، وأن يسعى من أجل نشر ثقافة انسانية ذات طابع ديمقراطي. والمثقف بحد ذاته، في نظر ادوارد، هو ذلك اللامنتمي او المنفي او المرتحل الذي يرى الواقع امرأ طارئا عارضا وليس طبيعيا حتميا، ولكن في اطار ايجابي يقول الحقيقة للسلطة بغض النظر عن موقفها.


وينقسم الكتاب الذي وضعه الناقد فخري صالح في 244 صفحة، وصدر عن الدار العربية للعلوم في بيروت الى جزئين أساسيين: الجزء الاول له ، والثاني لادوارد سعيد! فالصفحات المائة والعشر الاولى هي قراءات تعريفية تحليلية موجزة لكتب ادوارد سعيد أو للكتب التي كتبت عنه، حيث خصّ كل فصل فيه للحديث عن كتاب ليشرح من خلاله فكره وآراءه وسيرته الذاتية ومواقفه التي عبر عنها تجاه مختلف القضايا. وتقدم هذه الفصول ملامح المشروع الفكري لادوارد سعيد ، بالاضافة الى تأثيره ومكانته في الفكر الغربي كما عكس ذلك قيام عدد من النقاد والاكاديميين أمثال شيلي واليا، وفاليري كنيدي، وبيل آشكروفت وبال أهلوواليا بكتابة كتب عنه. وأما الجزء الثاني فاختار أن يقدم فيه ترجماته لمقالات مهمة مختارة يشير اليها كثيرا في الجزء الاول مثل "تمثيلات المثقف" و"أفكار حول الاسلوب الاخير" بالاضافة الى حوارين مستفيضين مع ادوارد.


خصص الكاتب فصلاً قصيراً في بداية الكتاب للتعريف بملامح المشروع الفكري لادوارد سعيد. ويُلاحظ مدى الثناء الذي يسبغه عليه حيث رأى فيه انعطافة فكرية عربية وغربية حاسمة على السواء، ورأى أنه لو قدر لهذه الموهبة الفذة أن تطول سيرتها لصنعت شيئا متميزا مختلفاً. ويبدو واضحاً، من خلال الثناء والاطراء الذي يبقى يتكرر بين دفتي الكتاب مدى اعجاب فخري بإدوارد سعيد مفكراً وناقداً.


ثم ينتقل للحديث، في الفصل التالي، عن ثلاثة من أهم كتبه التي لها علاقة عضوية ببعضها ألا وهي "الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية" و"العالم والنص والناقد". كان الاستشراق Orientalism موضوعاً مهماً ومفصلياً وسبب شهرته في الشرق والغرب لما قام به من تفكيك الخطاب الاستشراقي الغربي الذي كان يهدف رغم علميته ورغمه اعجابه بسحر الشرق وغموضه وفطريته في نهاية المطاف الى السيطرة على الشرق. ويرى أن استشراق ادوارد سعيد مهد لظهور مناهج جديدة للنظر الى الثقافات الوطنية بعيدا عن مسلمات الفكر الغربي. ويرى أن إدوارد لم يهدف من كتابه المشهور أن يصحح الخطاب الاستشراقي، ولكن أن يفكك الانظمة الفكرية الداخلية لذلك الخطاب، حيث وسّع ادوارد نظرته لمفهوم الاستشراق بتأليفه كتاب "الثقافة والامبريالية" الذي يدعو فيه الى قراءة الارشيف الثقافي للمستعمِر والمستعمَر معاً في قراءة طباقية (متضادة) Contrapuntal Reading للتعرف على الثقافة الامبريالية خلال فترة الاستعمار والقوة المقاومة التي تصدت له في حينه.


كان ادوارد نفسه، وكما يرى الناقد فخري صالح، مثالا رائعا للمثقف حسب تعريفه، فهو برغم تخصصه الاكاديمي، لم يتوان عن زيادة وعي العالم بالقضية الفلسطينية. وهذا ما عاد وأكد عليه في كتابه التالي "تمثيلات المثقف" حيث طرح معنى المثقف ووظائفه بالاستناد الى تجربته الذاتية والرسالة التي يؤديها نحو المجتمع وهو قول الحقيقة للسلطة بغض النظر عن موقفها. وبهذا يتحول المثقف من مجرد باحث متخصص يسجن نفسه داخل تخصصه الى مفهوم سارتر لدور المثقف الملتزم الذي يؤمن بأنه يدافع عن رسالة فئة صامتة أو منسية، ولكنه المثقف اللامنتمي لهوية او حضارة ما، والمستقل عن السلطة وربما المنفي عنها. لقد تحرر ادوارد من اسار التخصص ومن النظر الى الامور نظرة الناقد التقني الذي لا يرى عموم الصورة. بل انتقد إدوارد هذا النوع من المثقف التقني الذي يبتلعه وحش التخصص والاحتراف والتكسب من المهنة في العالم المعاصر. أما النوع الاخر والذي يرى فخري صالح أن ادوارد سعيد يمثله فهو المثقف العام الذي يتابع ويؤيد قضية عامة ويتعاطف مع المثقفين المنفيين.


يؤكد فخري صالح أن إدوارد وجد في الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي النموذج الذي يمثل النوع الثاني من المثقف والذي سمّاه غرامشي بالعضوي. ويؤكد أن إدوارد أقرب في فلسفته الى آراء غرامشي في المقاومة وتحليل مبدأ هيمنة القوة منه الى ميشيل فوكو التي تتسم كتاباته بقدرية سوداوية لا تثق بقدرات البشر على تغيير واقعهم غير المرغوب فيه.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الفلسطيني فوزي العمراني.
** نشرت المقالة أعلاه في الملحق الثقافي بجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 30/4/2010. يرجى الضغط على الرابطين أدناه للاطلاع على المقالة في موقع الصحيفة.

رابط المقالة في صحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة في صحيفة الدستور