الجمعة، أغسطس 8

قليل من الحظ


قليل من الحظ

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

قطارٌ أسود قديم يتحركُ فوقَ سكّةٍ طويلة. إشاراتٌ ضوئية ذاتُ ألوانٍ مختلفة عند المحطة تضيء وتنطفيء. وعلى جانبي الطريق شجرٌ أخضر. صوتٌ عالٍ يدوي معلناً تحرك القطار. نَظَرَتْ اليه بعيونٍ تمتليءُ فرحاً. سيحبه مراد كثيراً. سيزعجها به طوال الليل حتى ينام على يديها. رحلتْ بفكرها بعيداً. لقد اشتاقت له كثيراً. صورته ترتسم على كل شيء أمامها منذ أن وطئت قدماها لندن. تنام كالقتيلة من التعب فلا تحس بشيء. لكنها تفيق صباحاً من عز النوم بعيون ناعسة على رنة هاتفه. يتصل بها عندما يصحو. يقطع عليها رحلتها في أرض الأحلام. يبكي أول الأمر من الإحساس بالفراق ثم لا يلبث أن يضحك وهو يسمع صوتها.

تنظر إلى القطار وهو يتحرك ويصدر صوته المعروف، وذهنها شارد. غداً ستعود إلى عمان في الليل. لقد انقضى الأسبوع طويلاً كأنه سنة. هذه أول مرة تترك مراد وحده مع عمته. قطعَ شرودَها فجأة صوتُ بائعةٍ شابةٍ تتحدثُ بلطف ولباقة. هل أعجبكِ القطار؟ هل ترغبين به؟ تردّدتْ قليلاً وهي تنظر في أركان المحل. هاجس داخلي يقول لها إن مراد سيحبه. يحب ألعاب السيارات والطائرات. ولكن هذه أول مرة ستشتري له قطاراً.

البهو خالٍ الا من بعض الزوار الجالسين في مقاعد وثيرة مخملية ذات لون بني غامق في زواياه المختلفة التي ازدانت باللوحات الزيتية والتحف. الطاولات بجانب الباب فارغة ٌوليس عليها سوى بعض النشرات المطبوعة. أيقنت أنها وصلت متأخرة. دخلت القاعة مسرعة. كانت ملأى بالحضور. تلفتت في أرجائها بنظرات سريعة. القاعة معتمة بعض الشيء. أشارت لها سيلينا من بعيد بيدها فأسرعت إلى طاولتها. تلمّست طريقها بين الطاولات على ضوء الشرائح المعروضة على الستارة. وضعت حقيبتها أمامها وجلست. نظرت إلى سيلينا وابتسمت وهي تقول بصوت خفيض: صباح الخير. فتحتْ دفترَ ملاحظاتِها. أخذت نَفَساً وارتاحت. ملأت كأساً موضوعةً أمامها بالماء وشربت قليلاً.

اليوم هو الأخير في البرنامج. استغلت فترة استراحة الغداء لتشتري بعض الهدايا من السوق الكبير بجانب الفندق. كانت تتجول محتارةً ماذا تشتري. أشياء كثيرة تخطف الابصار. ملابس .. تحف .. هدايا .. عطور .. مأكولات .. ألعاب .. بقيت تدور بين المعروضات. علبة القطار كبيرة ملونة. حملتها وهي سعيدة بها. أسرعت بالعودة للفندق. ذهبت لغرفتها وألقت بها هناك. ثم نزلت بالمصعد إلى القاعة. سرحت في الهدايا التي اشترتها. لم تكن تصغي إلى المحاضر. كانت تنظر اليه من غير أن تراه. ذهنها مع مراد. انتبهت إلى سيلينا تكتب في الاوراق التي أمامها فعادت من شرودها. أخذت تدوّن بعض الملاحظات.

لم ترغب في القدوم إلى لندن، ولكن شركتها أصرّت. مؤتمر سنوي في مجال تخصصها الوظيفي. لقد اعتذرت في العام الماضي ، ولكنها لم تستطع هذا العام. عدد كبير من الحاضرين جاءوا من دول عديدة. بعض زملائها جاءوا من مكاتب الشركة الأم في لندن. علاقتها بهم سطحية باستثناء سيلينا. تعرفها منذ خمس سنوات. تتصل بها دائماً عبر الهاتف والرسائل، ولكنها لم ترها من قبل. فتاة هندية الأصل ولدت في لندن لأب هندي وأم أسكتلندية. ساعدت سيلينا هدى كثيراً منذ أن وصلت إلى لندن يوم الأحد الفائت. شعرت كأنها تعرفها منذ زمن. روت سيلينا لهدى تفاصيل حياتها. شعرت بالثقة تجاهها، ففتحت لها هدى قلبها وأخبرتها بظروفها.

سافرت هدى من قبل في أثناء عملها إلى مدن عربية، ولكن هذه أول مرة تذهب وحدها إلى لندن. شعرت بالقلق عندما أبلغوها أن تستعد للسفر. كيف ستترك مراد وحده؟ مراد في الرابعة ومتعلقٌ بها كثيراً. ينام كل ليلة على سريرها وفي حضنها. حاولت أن تعلمه أن يبقى في سريره في غرفته وحده ولكنه يبكي طوال الليل. ينزل عن سريره ويتسلل في الظلام وهي نائمة لينام بجانبها. لم ترد أن تقسو عليه بعد الذي حصل. شعرت بورطة كبيرة. اذا إعتذرت هذه السنة فربما يؤثر ذلك على وظيفتها. الوظيفة مهمة كثيراً بالنسبة لها.

انتهى المحاضر من عرض كلمته. خرجوا في استراحة قصيرة. جلست مع سيلينا على طاولة وحدهما. كانت هدى تحكي عنه وعيونها تفيض فرحاً. أسمر الشعر ذو عينين عسليتين. كثير الحركة وعنيد. إذا غضب من أحد فإنه يقطب حاجبيه ويهرب ويكوم نفسه على سريره حتى يأتي من يراضيه! ذكي ولكنه لا يترك شيئاً من عبثه الطفولي!

- ألم تخبريه بعد بالحقيقة؟
- لا أستطيع الآن. ربما تخلق عند ردة فعل سلبية. دائما أقول له إنه مسافر.
- ولكن قد تحدث له صدمة إذا عرف بذلك وهو كبير.
- لهذا سأمهد له تدريجياً عندما يدخل المدرسة.
- ألا تخافين أن يعرف الحقيقة من غيرك؟
- هذا ما يقلقني. ولكن من حولي يدركون خطورة ذلك عليه. لا أظن أنهم سيخبرونه. سأخاف أكثر لما يكبر ويذهب إلى المدرسة ولكنه متعلق بي كثيراً وهذا ما يطمئنني.

انتهى وقت الاستراحة. لم يبق سوى هذا الجزء الأخير لمدة ساعة ونصف وينتهي البرنامج. اليوم الجمعة وغداً صباحاً ستكون على الطائرة عائدة إلى عمان. لقد كان أسبوعاً حافلاً. قال لها ماهر رئيسها في العمل إن هذه الدورة مهمة للغاية وإنه يريدها أن تسافر لحضورها. وافقت بصمت. لديها قدرة فائقة على الصبر والتحمل. قالت لها صديقة أرمنية في أحد سفراتها إلى دبي: أنت من برج العذراء، وبنات العذراء حظهن قليل!

تتأمل في الحاضرين وهم يمرون لاستلام شهاداتهم وهي تنتظر سماع اسمها بفارغ الصبر. متوترة .. ولكنها تراقب وتبتسم. اشتاقت لمراد كثيراً. عندما تذهب للعمل في الصباح تتركه لدى الخادمة حتى تعود. لكنها هذه المرة كانت خائفة. أعطت الخادمة إجازة وطلبت من أخت زوجها سعاد أن تقيم معه أثناء سفرها.

لم يكن لها حظ في بيت والدها منذ الصغر. عاشت أغلب حياتها تعتمد على نفسها. علاقتها بأهل زوجها أقوى. يحبونها كثيراً ويعتبرونها واحدةً منهم. متواضعة وبسيطة. جمعتها بسعاد علاقة قوية. صارتا كالأختين. تحب سعاد مراد كثيراً وتلاعبه. تعتمد هدى عليها في كثير من الأمور. سعاد أكبر منها بسنتين. لا تعمل ولم يحالفها حظ في الزواج.

سمعت اسمها فنهضت وهي تبتسم. استلمت شهادتها وهي تشعر بفخر. جلست في زاوية من بهو الفندق وسارعت بالاتصال لتطمئن عليه. رن الهاتف من غير جواب. استغربت أين ذهبت سعاد يا ترى. لماذا لا ترد. أعادت الاتصال. بدأ القلق يساورها. لقد تعبت كثيراً لأجل مراد. تزوجت من فريد قبل أكثر من عشر سنوات. لم تكترث أول الامر للحمل رغم الحاح أهلها وأهله عليهما. مرت أربع سنوات من غير أن يهتما للامر. كانت تعتبر أنها مسألة وقت. بقيت تلاحقهما كلمات الأهل والاقارب بالسؤال عن الأطفال حتى صارت تسبب لهما قلقاً وإحراجاً. ولكن المسألةَ لم تعد مسألةَ وقت كما كانت تظن. أخذت تراجع هي وفريد طبيباً. مرت فترةٌ دون نتيجة. ذهبا إلى طبيب آخر وآخر دون فائدة. ذهبا إلى مراكز متخصصة في العقم وأطفال الأنابيب. دفعا مبالغ باهظة دون أية بادرة أمل. تغيرت نفسية هدى وصارت تشعر بالقلق والإحباط. صارت أكثر توتراً وعصبية. مرت ست سنوات طويلة من غير أن يلوح أمل في الافق. حلم مفقود تتمناه. كثيراً ما أبكاها في سواد الليل.

أعادت الاتصال مرة أخرى. بقي الهاتف يرن من غير جواب. ربما خرجا يتمشيان معاً. زاد قلقها. قبل أن يولد أخبرتها صديقة لها عن حلٍّ عندما رأت شغفها بطفل يملأ حياتها. رفضت الفكرة تماماً. حاولت أن تقنعها ولكنها عنيدة. شعرت بخوف من مجرد التفكير بهذا الحل. كيف يمكن أن تحس تجاه طفلٍ غريبٍ عنها؟ هل يمكن أن ينسى أمَه ويعيش معها؟ ماذا سيحصل له ولها عندما يعرف الحقيقة؟ ماذا سيقول الناس؟ هل تستطيع أن تخبيء الامر عنهم؟ الشكوك والظنون تداهمها من كل جانب. مع مرور الوقت بدأ فريد يقلب الفكرة في رأسه.

بحث فريد بأساليبه الخاصة وإتصالاته حتى تمكن من معرفة جماعة واتصل بهم. كانا مترددين في البداية. سافرا ولم يخبرا أحداً عن مكانهما. جاءهما رجل إلى الفندق الذي كانا ينزلان فيه. قال لهما: "إن الامر بسيط لكن يحتاج للسرية. هناك عائلات فقيرة جداً ومستعدة لذلك. لديها عدد كبير من الأطفال الذين لا يستطيعون إعالتهم". وقال بنبرة لا تخلو من طمع: "سيكلفكما كثيراً". دفعا له المبلغ الذي اتفقوا عليه، ووقعوا على أوراق. وعدهما أن يحضر لهما الاوراق موقعة من أسرة الطفل، وأن يحضر لهما الطفل في اليوم التالي.

بقيا هناك مدة شهر بكامله وهما يبحثان عنه! كان مثل فص من الملح ذاب. خافا أن يخبرا الشرطة فيصبحا متهمين أو يتعرضا للانتقام. أصيبا بخيبة أمل كبيرة. كانت صدمة قاسية. تركت الحادثة فيهما أثراً عميقاً لا ينمحي. مرت أشهر عديدة قبل أن ينسيا تلك الحادثة. حاولت هدى أن تنسى الحلم المفقود وأن تركز على علاقتها بفريد لعلها تعوضها بعضاً من الحنين للامومة. توطدت علاقتها بفريد أكثر وصارت تبدي مزيداً من الاهتمام به. وفي صباح خريفي من تشرين شعرت بدوار وغثيان. لم تعرف السبب. شعرت بالقلق.. فأخذها فريد للطبيب. لم يصدقا الامر أولها.

ملأ مراد عليهما البيت. كان مثل الماء الذي سال في نهر بعد جفاف طويل. لقد تغيرت نفسيتها وصارت مثل شجرة يابسة أثمرت بعد جدب. لم يعد لهما حديث بعد اليوم الا مراد، ولا اهتمام الاّ هو. كان فريد كمن عاد للحياة من جديد. لم تعد الابتسامة تفارق وجهه. فريد طويل ووسيم وذو شعر كثيف ناعم يعمل في شركة مقاولات.

بالأمس أطفأ مراد شمعته الثانية. لكن فريد لم يكن مبتهجاً كعادته. لاحظت هدى تغيراً عليه، لكنها لا تعرف كيف تصفه. تحس به مرتسماً على ملامح وجهه.لم يعد فريد كما هو. فقد شهيته للاكل. صار أكثر قلقا وتوتراً. لم تُعِر الامر اهتماماً كثيراً. أخذ فريد يشكو من ألم بسيط. مرت أيام وأسابيع وهو يشعر بالالم. قرر أن يذهب لطبيب. طلب منه الطبيب إجراء فحوصات وتحاليل. قرأ الطبيب النتائج. طلب من فريد أن يذهب إلى الصيدلية كي يشتري الدواء ويعود. إحتار كيف يصارحها بالموضوع. بان على وجهه خطب ما. انتهز الطبيب الفرصة. أخذ يمهد للموضوع ويناور. رأت كلاماً في عينيه يود قوله. تردد قليلا. كلماتها وترقبها كانت كافية. نفذ شعاع ضئيل من بين السحب الداكنة الثقيلة. أحس أنها مهيئة للحظة. قال لها إنه مصاب باللوكيميا. أصيبت هدى بذهول من الخبر. وأطلقت نفسها للدموع والبكاء. تذكرت قول صديقتها الأرمنية.
في الصباح جاءت سيلينا للفندق تودع هدى قبل السفر. احتضنتها بحرارة. قالت لها انتبهي لنفسك. وقدّمتْ لها هديةً ملفوفةً بغلافٍ جميل عليه صور ورسومات طفولية. قالت هذه مني لمراد. قبل أن تستقل هدى السيارة نظرت في عيون سيلينا وعانقتها وهي تودعها. كانت حرارة الوداع تحكي كل شيء.
* اللوحة أعلاه بعنوان تذكار للفنان المغربي كمال بدري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق