الجمعة، أبريل 11

أحــلام

قصة قصيرة
بقلم ايـاد نصار

لو تعرفين وهل إلاَّك عارفةٌ همومَ قلبي؟ ردّدت الكلمات مراراً وأنا أحس كأنما هي كلماتي آتية من الاعماق يغلفها الحزن ويجللها إحساس بإنكسار في داخلي. كادت أن تهمي دمعة من عيني. ترقرقت ولكنها تحجرت في الجفن. تذكرت أمس حزني المكبوت وقهري الصامت وبكائي في سواد الظلام كي لا تحس بي أمي فيصيبها الحزن وتشرع في البكاء والنشيج.

كانت فيروز تغني بصوتها الملائكي والدنيا تألقت بإشراقةٍ نورانيةٍ. كان الفضاء صحواً والهواء بارداً عليلاً في صباح من صباحات نيسان. لكن الامر لم يخل من إحساسي الدائم بالحزن يسري في أعماق القلب وفي شراييني فأحسّ بإضطرابٍ داخلي . بدت الدنيا كلوحةٍ انطباعيةٍ بألوانها اللازوردية الزاهية من ريشة فنان كرذاذٍ أثيري رائع. لكن إحساسي بالحزن صار غريزياً. لقد تغير شيء ما في داخلي. لم أعد أنا ذاتي. أفكر بالالم قبل اللذة، وأستشعر الحزن قبل الفرح. نيسان يثير فينا ذكريات. يوقظ الشجن وينكأ الجراح. نيسان وما أدراك ما نيسان. تذكرت إليوت حين قال انه أقسى الشهور ينبت الزنابق في الارض اليباب. أحس نفسي مثل صحراء جرداء لم يعد ينبت فيها نخيل وجفت واحاتها. صار البيت عالمي الوحيد وأرضي اليباب. كنت أشعر بالضيق والاختناق أول الامر، لكنني تعودت عليه وطوعت إرادتي وآمالي وأحلامي لتعيش فيه بغير شكوى أو حزن. لم تعد الوحدة ترعبني كما كانت أول الامر. لم يعد سجنى الصغير هذا يسبب لي إنتكاسة نفسية كما كان في السابق. فلم أعد أشعر برغبة للخروج أو الالتقاء بالناس. فكما قال أحدهم الاخرون شر! أنني محتجزة في هذا البيت بإرادتي. ولكن الرغبة تلحّ علي بين حينٍ وآخر. إحساسٌ قاسٍ يثور بداخلي. أحاول أن أقمعه ولكنني بشر يؤرقني حب الحياة واطفاء الضرام حين يشتعل بالقلب. تثور ثائرتي وأنا أرى أحلامي قد قتلت وما تزال تقتل في كل يوم وأشواقي تختنق وتموت في مهدها.

تجلس أمي في مقعدها المتحرك أمامي تتمتم ببضع كلمات. تنظر الي بين فينة وأخرى. كنت اقرأ في الكتاب أمامي وأختلس النظر اليها. أرى في وجهها كل وقائع سنوات الشقاء والعذاب. تتلاقى أعيننا . ندعي الصدفة. ثم أعود للكتاب مرة أخرى. لا أعرف لماذا قررت دراسة اللغة الايطالية. هل هو الفراغ أم الاحساس بعقدة النقص حين أرى الاخرين يتكلمون بلغات أخرى فلا أفهم ماذا يقولون؟ لست أدري. كان خالد يحاول ان يعلمني الفرنسية. كان ذلك منذ سنوات طويلة ونحن في بداية المشوار، ولكني لم أعر الامر إهتماماً. التقطت بعض الكلمات والعبارات التي بالكاد تنفع في أي حديث قصير. كان يتقن الفرنسية الى حد كبير وأراه في كثير من الاحيان وقد أمسك كتاباً ما واستغرق في القراءة . كان يجد مشكلة في العثور على الكتب التي تثير إهتمامه. كانت عندي رغبة كبيرة أن أتعلمها وقد لاحظ علي ذلك فصار يساعدني على التعلم ويشرح لي بعض الكلمات والجمل.

نظرت الى أمي. بدأ رأسها يميل الى الامام. يبدو أن النعاس بدأ يغالبها في هذا الصباح وهي تجلس في الضوء الذي يملأ أرجاء الغرفة. أمي رفيق وحدتي وأنيس حياتي بعد الذي جرى. تقسو علي كثيراً في بعض الاحيان فأحترق من داخلي قهراً وغيظاً، ولكني تعودت أن أسمع وأسكت. لم أكن استطيع أن أغضبها أو أرد عليها بما يعكر صفوها، فقد صارت ضعيفة حساسة يتعبها أي شيء. وبرغم ذلك فهي سندي في هذه الحياة. أشعر بالضعف أمامها، وأنا ضعفها . قبل أن يصيبها المرض كانت قوية عنيدة المراس. كانت تدير شؤون البيت كما لو أنه مملكتها . كان أبي لا يحب مجادلتها أو مقاومة عنادها. وكانت هي تدرك ذلك. فنشأت أنا وإخوتي نخشاها ونخشى سطوتها المهيبة. حنونة الى أبعد حد. ولكن لا تبدي ضعفاً أو خضوعاً أنثوياً كما تفعل النساء.

عندما أراها بهذا الضعف الان أحس بالحزن في قلبي. أخشى عليها من أي شيء. لا أتصور حياتي الآن بدونها. لو صار لها شيء سأموت حزناً وربما يقع لي شيء ولا أحد من إخوتي سيعرف ذلك. وربما نموت ونشبع موتاً قبل أن يعلموا! وجودها يجمعنا حولها. ورغم أن كل واحد منهم قد أخذته الحياة فلم تعد الروابط بعمق الماضي ولا حرارته، إلاّ أن وجودهم حولها في البيت يعطيني نوعاً من الثقة والأمان.

أرى في عيون أمي حزناً دائماً وأحس في كلماتها رقة كأنما تريد أن تمسح جراحي بلمسة حانية محاولة لارضائي. توقفت عن التيه في أفكاري. لملمت خيالاتي واستجمعت نفسي مرة أخرى من بين يدي الحزن والبؤس. عدت اقرأ في الكتاب مرة أخرى. آه من أحلامي التي عذبتني. كل أحلامي تتوقف في منتصف الطريق. أريد أن أتكلم الايطالية بطلاقة فأنا أشعر أنها لغة جميلة وهذا ما يشجعني على الاستمرار. يجب أن أستعد اليوم فاليوم ستأتي سناء وستسألني عن الواجب الذي أعطتني إياه المرة الماضية. صرت أكره موعد درس سناء. تأتي بعد العصر ثلاثة أيام في الاسبوع. تدرسني الايطالية لمدة ساعتين في كل مرة. صرت أشعر أنني صرت أعرف القراءة ولكني ما زلت لا أثق أن أنطق جملة واحدة من دون أخطاء رغم مضي شهر على دروسي. فما الفائدة اذن؟!

عدت الى الكتب والاوراق أمامي. قررت أن أركّز بها. أخذت أدرب نفسي على لفظ الكلمات الجديدة. وانا أقلب الصفحات والاوراق وقعت الرسومات من بينها . أمسكت بها. أخذت أتأملها. رسومات طفولية أحتفظ بها منذ زمن طويل. وقد غلفتها بالنايلون كي أحافظ عليها. أطلت النظر وانا أتامل بها. لم أتمالك نفسي. دمعت عيوني ولم أستطع منع نفسي من البكاء. تحسست بأناملي على الخطوط والالوان. رسومات بريئة وألوان طفولية. خطوط تمثل وجه أم تقف هناك أمام بيت صغير له نوافذ وباب وبجانبه شجرة ذات أوراق خضراء. وفي السماء ألوان زرقاء وعصافير صغيرة تفرد أجنحتها. وفي أقصى الرسم جبال رمادية بعيدة يتخللها نهر بلون أزرق سماوي يجري ماراً قرب البيت، والارض تم تلوينها بلون بني وعليها بعض الاعشاب الخضراء. وفي أعلى زاوية الرسم دائرة برتقالية تضيء وترسل أشعتها الذهبية.

إنتبهت الى أمي كانت تنظر اليّ وأنا أحدّق في الرسومات. سمعتها تقول الى متى ستبكين كلما نظرت الى هذه الرسومات؟ الله يعوض عليك ويحرق قلب من كان السبب مثلما حرقوا قلبك. زادتني كلماتها حرقة وألما فصرت أبكي بصوت أعلى. صارت أمي تحاول تهدئتي وأنا أمسح دموعي الغزيرة على خدي. صرت أصرخ زينة .. زينة .. ماما .. يزن ماما أين أنتما؟ بقيت أنظر فيها وأنا أحاول كتم بكائي فلم أستطع. مرّ أسبوعان منذ أتى عيد الام. ولم أسمع ماما مرة أخرى .. جاء عيد الام وراح ولم اسمعها. وكم عيد جاء وراح وقلبي يتحسر ويتمزق من الالم. قدمت لي زينة ويزن هذه الرسومات في عيد الام قبل سبع سنوات حينما كان عمرها ست سنوات ويزن خمس سنوات. وما زلت أحتفظ بها. أجمل وأغلى ذكرى بقيت لي منهما.

كان خالد يحب أن يصطحب الاطفال معه أينما ذهب. كان يحب أن يلاعبهما ويشاركهما ألعابهما الطفولية. كان يمثل الجانب المفقود في تكويني. كان النقيض لي في اللعب مع الاطفال. لم أكن أتحمل تدليل أو مداعبة الاطفال أو مشاركتهم ألعابهم. لم يكن عندي صبر عليهم. كان ينتقدني أحيانا كوني لا أخصص وقتا لهم، ولكنه كان يدرك كم أحب الاطفال وأحن عليهم. كانت طريقتي في التعامل معهم تختلف عنه .. ليّنة حينما لا ينفع الا اللين وحازمة حينما يتطلب الامر ذلك. بل كان أحياناً يثور من حزمي الشديد معهم ويعتبرها قسوة لا داعي لها. كانا دائماً يتعلقان به كلما أراد الخروج ويقفان له بالمرصاد عند الباب! كانا يحبان الخروج بالسيارة معه لتغييرالجو.

لا زلت أذكر تفاصيل ذلك المساء الخريفي من شهر تشرين الثاني قبل ثلاث سنوات. كان خالد مدعواً لحضور حفلة زفاف صديقه في العمل. سألني إذا كنت أحب الذهاب معه فالدعوة عائلية. إعتذرت عن الذهاب فأنا لا أعرف صديقه ولا أعرف أحداً من أهله أو عروسه. لم أشعر أنني سآخذ راحتي هناك. فلا أحد أعرفه كي أتكلم معه، واذا كانت الحفلة غير مختلطة، فسأشعر بالملل بين أناس لا أعرفهم. ما أصعب أن تجد نفسك وحيداً بين أناس لا تعرفهم، وخصوصا إذا لم يبادر أحدهم لكسر الجليد. تفهّم خالد ذلك. قال انه سيذهب لوحده. سمعت زينة ويزن كلامه فقالا إنهما يريدان الذهاب للحفلة وطلبا مني الذهاب مع أبيهما، وأخذا يلحّان عليّ الذهاب معه. نظر خالد في وجه زينة ويزن وقال إنه سيأخذهما معه. طلب مني أن أساعدهما في إختيار وإرتداء أجمل ما لديهما من ملابس. فرحا بذلك كثيراً. ودّعتهم عند الباب ورجوت خالد ان ينتبه لهما ولا يتركهما يغيبان عن عينه. كنت دائما اوصيه ان ينتبه لهما كلما كانوا يخرجون معا. فهما املي في هذه الحياة اللذين رعيتهما بماء عيني ودم قلبي.

بعد حوالي الساعة والنصف رنّ الهاتف. أسرعت أرد على المكالمة. كان صوت رجل يبدو عليه التأثر والاضطراب رغم أنه حاول أن يصطنع الهدوء. كان يسأل إذا كان هذا بيت خالد. أخبرته أنني زوجته. طلب مني الحضور فوراً للمستشفى. صعقت لم أتمالك نفسي. صرخت به أخبرني ماذا حدث؟ طلبت منه أن يخبرني ماذا حصل؟ صرت أصرخ وأصيح من الصدمة، ولكنه لم يجبني. بقي يكرر أنه من الضروري الحضور للمستشفى لأمر طاريء قد حصل. كنت على وشك الانهيار من الخوف؟ ماذا حصل لزوجي وأولادي؟ اضطربت من الذهول وأنا أبكي وأصيح. شعرت بجسمي يرتجف وقلبي يخفق باضطراب من الخوف. لم أتمالك نفسي .. وقعت على الارض .. أمسكت بالهاتف واتصلت بأخي الاكبر .. لم أستطع أن أحافظ على هدوئي. بقيت أبكي وأنا أخبره بما حصل بصوت متهدج وأنا أنشج من الالم والحزن.

جاء أخي سريعاً وكان يبدو عليه الخوف .. لم يستطع أن يسألني فقد كنت بحالة مزرية .. أسرع بنا الى المستشفى .. كانت أصوات سيارات الاسعاف تملأ الشوارع وهي تتحرك سريعاً، ورأيت رجال الشرطة ينتشرون بأعداد كبيرة .. كان الجو مكفهراً والحزن يخيم على النفوس والصدمة بادية في عيون من رأيتهم. في الطريق للمستشفى شاهدت عدة سيارات للاسعاف تسير مسرعة باتجاه الطواريء وصوت صافراتها يثير الخوف والترقب. شعرت أن في الامرشيئاً غيرعادي. ما أراه يدل على حدث جلل قد وقع .. بقيت أبكي بحرقة من الخوف والترقب وسمعت أخي يحاول تهدئتي. لكن احساسي بأن شيئا بالغ السوء قد وقع كان يؤرقني. صرت أتوقع الاسوأ ولم أعد أعرف كيف أفكر فكل لحظة تمر تزيد من هول الصدمة عليّ.

دخلنا من باب المستشفى بصعوبة فائقة رغم الاعداد المحتشدة عنده .. صرت اسمع الصراخ ونحيب النساء والرجال .. كان منظراً محزناً للغاية. شعرت أن الامر أصعب مما توقعت .. رأيت أنه ما تزال هناك حالات تصل الى المستشفى .. أخذ أخي يسأل عن مكان خالد وزينة ويزن .. عندما أخبروني بالامر صرت أصرخ كالمجنونة .. صرت أصيح لا.. لا.. أريد زينة .. أريد يزن .. أين خالد؟ أريد أن أراهم. لم أدر ما حصل لي بعدها .. فتحت عيوني وإذا بي على سرير في المستشفى .. لم أعرف ماذا حصل لي .. كانت أمي تجلس في كرسيها بجانب سريري وهي تبكي بحرقة بصوت عال لم أرها في حياتي تبكي هكذا من قبل. أحسست انني فقدت الوعي من الصدمة .. لم أستوعب الامر .. صرت أصرخ وأهذي وأنا أنتفض بالسرير أريد أن أقوم وهم يحاولون منعي والسيطرة علي .. شعرت بوخز إبرة في جسدي .. لم أدر بعدها ماذا حصل لي .. ولم أستوعب الامر .. أصبت بنوبات هستيرية .. كنت أرى الناس تهجم علي تحاول منعي من الحركة ثم أشعر بوخزة إبرة فأغيب بعدها عن الوعي. عندما صحوت قال لي أخي الاكبر بصوت حزين مخنوق والدموع تفر من عينيه وهو يعتصر شفتيه ألماً وحزناً أن مجموعة من الاشخاص قد فجروا قاعة الاحتفالات بالفندق الذي كانت تجري فيه حفلة الزفاف بالقنابل والمواد المتفجرة.

لقد إحترقت أحلامي ورحلت زهراتي .. ورغم مضي هذه السنوات .. ما زلت أصحو في الليل وأنا أبكي وأصرخ .. صارت تنتابني نوبات هستيرية .. لم أعد أرى من الدنيا سوى صور الالم والمرارة .. لقد تحطم قلبي واحترقت من الحزن .. إنتفضت كما لو كنت في كابوس مرير .. إنتبهت على صوت فيروز وهي ما تزال تغني لو تعرفين وهل إلاَّك عارفةٌ همومَ قلبي؟...

ايـــاد

هناك 4 تعليقات:

  1. اولاً اهدى سلامى إلى صديقة القلوب الوحيدة فيروز.
    بالله عليك دى مش احلام دى كوابيس
    لقد جعلتنى ابكى..شكراً لك على القصة الجميلة.
    ولكن اين انت؟؟!
    تحياتى لك..وفى انتظار الجديد.

    ردحذف
  2. شكرا لك آمال على توقفك الدائم تحت ظلال الاوراق الثقافية! يسرني قراءة تعليقاتك اللطيفة وتفاعلك الجميل دائماً. فأهلا بك وتحياتي لك.

    ردحذف
  3. farida5:47 ص

    سلا م عليكم

    اود فى البداية ان اشكر ك صد يقى ا يا د على هدا المو قع الر ا ئع الد ى يشبه صا حبه و الدى سمحت لنا من خلا له على الا طلا ع على مجمو عتك القصصية التى من خلا لها ينبطق ا حسا س و ابدا ع اد بى ر ا قى المستو ى و كد لك فكر ة الو حا ت الفنية التى ز ا دت القص جما لية فمز يدا من التالق و الا ستمر ا رية تحيا تى فنحن د ا ئما فى انتظا ر الجد يد

    ردحذف
  4. الصديقة والقارئة الرائعة فريدة
    تفيض الحروف بالثناء على شهادتك التي أعتز بها. أسعدني توقفك الراقي بين سطور الاحلام لتعبر عن تذوقك البهي لكل جماليات الابداع نثراً وشعراً وفناً وإحساسك بما تقدمه القصص من مواقف تنطوي على المفارقة والسخرية والدهشة والالم من كوميديا الحياة الانسانية. أتمنى مرورك الدائم وقراءتك الجميلة لأعمالي، وأرجو أن اكون عند حسن ظنك

    ردحذف