الجمعة، نوفمبر 5

مبادرات مفقودة


مبادرات مفقودة
إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم 5/11/2010

تتولى جهات عدة في الغرب، من مثل: كبريات دور النشر، والجامعات، ومراكز الدراسات، نشر مجلدات توثيقية بصفة منتظمة، سنوياً، تشتمل على مختارات من أفضل القصص القصيرة، والقصائد الشعرية، والمسرحيات، بحسب اختيار النقاد القائمين على جمع تلك المختارات، ونشرها، في كتب متسلسلة، بحيث تصبح مرجعاً في قراءة الاصوات الابداعية، في تلك السنة، ودراستها، من خلال ما تضمه من نماذج أعمالها، وملاحظة الاساليب السردية، والقضايا المطروقة ـ في كتاباتها ـ في إطارها الادبي التاريخي. ومن أشهر تلك المختارات، على سبيل المثال، سلسلة "أفضل مجموعات القصص القصيرة الامريكية"، التي تتولاها دار هيوتون ميفلن، في بوسطن، وتنشرها، سنوياً، وبشكل منتظم، منذ عام 1915، أو مختارات نورتون في الادب الانجليزي، سواء من القصة الانجليزية القصيرة، أو الشعر، أو المسرحيات، التي تنشرها دار نورتون للنشر، منذ عام 1962، أو قائمة أفضل مئة رواية باللغة الانجليزية، في القرن العشرين، التي أصدرتها دار النشر المعروفة باسم المكتبة الحديثة، وغيرها كثير من مثل هذه المختارات، والقوائم الانتقائية.


كما تتولى الجمعيات الادبية والهيئات، التي ترعى الجوائز الادبية، في كثير من الدول الاوروبية، والولايات المتحدة، وأستراليا، وكندا، واليابان، وبعض دول شرق آسيا نشر مجلدات، سنوياً، أو كل عقد، تضم أشهر الأعمال التي صدرت خلال تلك الفترة، كالقصص، أو المختارات الشعرية. وهناك قوائم دورية تصدرها كبريات الصحف، من مثل: اللوموند الفرنسية، أو نيويورك تايمز، بالتعاون مع دور النشر، تتضمن عناوين أهم الكتب التي صدرت خلال العام، أو العقد، أو القرن، ومنها ـ على سبيل المثال ـ قائمة اللوموند، التي اشتملت على أهم مئة كتاب صدر في القرن العشرين. وهناك مبادرات وسائل الاعلام الجماهيرية، كالتي نظمتها هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي، عندما أجرت دراسة مسحية شارك فيها زهاء ثلاثة أرباع مليون شخص لاختيار أكثر الكتب المقروءة، ومن كل العصور، من قبل الشعب الانجليزي.


وبالطبع، واجهت هذه المبادرات سيلاً من النقد، في بادىء الامر، من القراء والنقاد والمؤلفين، ولكن ذلك لم يوقفها، رغم بعض الاخطاء التي انطوت عليها، من مثل: عدم وضوح معيار التراتبية، أو غموض منهجية التصويت والاختيار، أو غياب معايير محددة لدى النقاد، أو القراء، للاختيار بناء عليها، أو قلة بروز الاصوات النسوية، أو غياب أعمال مشهورة من القائمة، أو وقوع هذه الأعمال في مراكز متأخرة. رغم كل هذه الانتقادات، إلا أن هذه المبادرات لم تتوقف، بل طوّرت أساليبها ومنهجيتها حتى استقرت في الثقافة الغربية. وما يلفت الانتباه، في جلّ هذه المبادرات، التي أعلنت نتائجها على الملأ، أنها اتسمت بالجرأة، في اختياراتها، وفي البعد عن الاسترضاء، أو مراعاة العوامل الجغرافية، أو المكانة المكرّسة لبعض المؤلفين.


أما على صعيد الساحة الثقافية العربية، فهناك غياب شبه كامل لهذه المبادرات. أقول: "شبه"، لأننا لم نر من هذا النوع سوى مبادرات قليلة، تكاد لا تذكر، حتى إن تلك التي ظهرت منها، ثم اختفت، كانت تتسم بالفجائية، والانقطاع، وقلة التوثيق، وارتجالية المنهج، وغياب التراكم التاريخي. أذكر أن اتحاد الكتاب العرب، في دمشق، قام بمبادرة يتيمة، في عام 2001 ، حين أصدر قائمة بأفضل 105 روايات عربية. وأنا أعرف أن كلمة "أفضل"، وسواها، هي موضوع خلاف نقدي، لكن لا بد ـ في النهاية ـ من وجود معايير للاختيار، مثلما يحدث في العالم أجمع، ثم أنني أشير الى المعايير نفسها، التي وضعها الاتحاد؛ كان واضحاً في ديباجة الاعلان أن الاتحاد راعى مجموعة من العوامل، من بينها التوزيع الجغرافي، فكانت هناك روايات من كل دول الوطن العربي: من الامارات الى موريتانيا. وربما يفسر ذلك ما تم إعلانه وهو 105 من الروايات، وليس مئة، حيث فرضت هذه العوامل نفسها. كما لا أفهم أن يكون من بين العوامل "مراعاة تمثيل التيارات والاجيال كافة"، كما جاء في نص الاعلان، كما لو أن الهدف عدم استثناء أحد.


كانت هناك، أيضاً، مبادرة يتيمة أخرى، قبل سنوات عدة، نظمتها جريدة الحياة اللندنية في استطلاع آراء 22 كاتباً، وناقداً عربياً، لاختيار خمسة من الكتب، التي يرشحها كل واحد منهم، بوصفها أحسن ما صدر من نتاج عربي في الابداع والتأليف، في السنوات العشر الاخيرة (عشر سنوات قبل تلك السنة)، ومرة أخرى، سيطرت الرواية على الاختيارات.


أعتقد أن المسألة ليست مجرد طباعة مجلد دوري، بالمختارات، ونشره، رغم أنه غير موجود، وليس قائمة بالعناوين لمجرد التنافس والتباهي، وإنما هي مؤشر على حيوية مؤسساتنا الثقافية العربية، ومن ضمنها اتحاد الكتاب العرب، في متابعة الاصدارات، ومعرفة مدى تأثيرها في ثقافة القارىء العادي، ومدى تلقيه لها وتعلقه بها، واستعداد هذه الجهات لتحمل نتيجة مبادراتها والدفاع عنها، حتى تتكرس ثقافة المتابعة والنشر والتوثيق، وكذلك منهجية التصنيف والاختيار، وتنال هذه الاعمال المنتقاة شعبيةً لدى القارىء العادي، واهتماماً من الدارسين.


ونحن نقترب من نهاية العشرية الاولى في القرن الحادي والعشرين، أرجو أن تكون هناك مبادرات عربية تتبع وتتلمس، بأسلوب جماهيري واسع، بعيداً عن الابحاث المحصورة في لقاءات لا يحضرها سوى نقاد وكتّاب، مدى تأثير الكتب العربية التي صدرت خلال هذه الفترة في فكر المواطن العربي، وثقافته، وتوجهاته، ومواقفه، وقناعاته، وربما نمط حياته، ومدى تأثير الاعمال الابداعية العربية، خاصة في الشعر والقصة والرواية، التي صدرت خلال هذا العقد، في تغيير نظرة الانسان العربي الى واقعه. لا أريد أن يظل القارىء العادي، ونحن في نهاية هذه العشرية، يقول نجيب محفوظ، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، في عصر تغير كثيراً. أعتقد أنه من الضروري رصد ما يصبغ كل مرحلة، من تطورات، حيث تتسم كل فترة، وإن يكن التقسيم الزمني اعتباطياً، تقريباً، بمزايا معينة، وتسيطر عليها ظواهر مهمة وحاسمة، لا بد أن يعكسها الادب، وفي المقابل، لا بد من معرفة كيف تؤثر الاصدارات، خلال الفترة نفسها، في تفكير الانسان العربي العادي، ونظرته الى الحياة.

رابط المقال في جريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق