الأحد، أبريل 11

الحب يبدأ في الشتاء


"الحب يبدأ في الشتاء" لسايمون فان بوي
حياة الناس العاديين



بقلم اياد نصار

فاز الكاتب البريطاني الشاب سايمون فان بوي Simon Van Booy بجائزة فرانك أوكونر التي تعد أغلى جائزة للقصة القصيرة في العالم من حيث قيمتها المادية في دورتها الخامسة للعام 2009 ومقدارها خمسة وثلاثون الف جنيه استرليني عن مجموعته القصصية المعنونة "الحب يبدأ في الشتاء" Love Begins in Winter الصادرة عن دار هاربر كولينز والتي تضم بين دفتيها خمس قصص طويلة نوعاً ما وتركز على الوجوه المختلفة للحب الانساني. وقد تقدمت المجموعة الى المركز الاول متخطية بذلك عدة مجموعات قصصية لكتّاب معروفين مثل "ليليات: خمس قصص للموسيقى والليل" للبريطاني الياباني الاصل كازو ايشيغورو، و"الشيء حول عنقك" للنيجيرية شيماماندا نجوزي أديشي، و"الاجوف" للكاتب الانجليزي جيمس لاسدن، وهذه المجموعات لم تصل حتى الى القائمة القصيرة للترشيحات. كما تقدمت على أعمال أخرى مثل "كل شيء محطم، كل شيء محترق" للامريكي ويلز تور، و"مرثاة للريح الشرقية" للكاتبة بيتينا غابا من زيمبابوي، و"الشخص الاول وقصص أخرى" للكاتبة الاسكتلندية علي سميث، و"تموجات وقصص أخرى" للماليزية شيه- لي كاو. ومن الجدير بالذكر أن جائزة أوكونر منحت في العام الماضي للكاتبة البنغلاديشية الشابة جومبا لاهيري عن مجموعتها "أرض غير معتادة".


يعيش المؤلف حالياً في نيويورك حيث يعمل بالتدريس في كلية الفنون البصرية في جامعة لونغ آيلند. ولد في احدى ضواحي لندن في العام 1975، وعاش في المناطق الريفية من ويلز واكسفورد. لعب في بداية حياته لمدة سنتين في نادٍ لكرة القدم في بريطانيا ثم انتقل للعيش في باريس وأثينا. فاز في العام 2002 بجائزة هيز للشعر. ينشر مقالاته في عدد من الصحف مثل نيويورك تايمز ونيويورك بوست. أصدر في العام الماضي مجموعة قصصية بعنوان "الحياة السرية لأناس عاشقين" وضمت ثماني عشرة قصة قصيرة، وقد تمت ترجمتها الى عدة لغات.


تمتاز المجموعة الفائزة بلغتها السردية ذات الشاعرية العالية التي تجعل من كل قصة أقرب الى قصيدة نثرية طويلة. وبالاضافة الى اسلوبها الرشيق ولغتها التأملية التي تبحث في ماضي الانسان وجوهر التجربة الانسانية، تنقل القصص أجواء الوحدة والحزن الرومانسي بامتياز، ولكن في شوارع مدن العالم المختلفة وليس بعيداً عنها مثلما كان يهرب منها كيتس وشيلي وبايرون ووردزويرث. تجري أحداث القصص في مدن شتى مثل مونتريال في كيوبيك بكندا التي تجري فيها أحداث قصة "الحب يبدأ في الشتاء"، ومنحدرات وسهول ايرلندا، وساحة القديس بطرس في روما، واستكهولم بالسويد، ولكن جميع القصص تعكس محاولة فان بوي استكشاف الطبيعة الحساسة والخطرة للقلب الانساني باسلوب غنائي رقيق. قال المؤلف ذات لقاء بأن الحياة بعد موت الحب هي موضوع أساسي في أعماله، التي تهتم بالتعبير عن حالة الحزن اليائس عندما تنطفيء شعلة الحب، وعن حالة الشعور الواهم ببدء حب جديد.


يمتاز نثر فان بوي بأناقة متقشفة، وقد أشاد باتريك كوتر، المدير الفني للمركز الادبي الذي يشرف على جائزة أوكونر بالطبيعة النادرة المفعمة بالامل لكتابه. وقال: "على غير المألوف في الادب الجاد، فاز هذا الكتاب بمنحاه الايجابي المتسق في اختبار التجربة الانسانية". واضاف بأن قصص فان بوي "مليئة بالنظرة العميقة الفريدة والأقوال البليغة بدون أن تبدو مجرد وسائط نقل للافكار".


"الحب يبدأ في الشتاء" مجموعة من خمس قصص تدور بشكل رئيس حول شخصيات على حافة اليأس ولكنها متعلقة بأحلام لا تتحقق وبأناس رحلوا منذ زمن. وتسير شخصيات فان بوي عبر أحداث القصص وحيدة الى أن تجمعها الصدفة بالغرباء الذين يجبرونها على مواجهة مسؤولية حياتها التي اعتقدت أنها مضت بدونها. تدور القصة الاولى التي أعطت المجموعة اسمها حول عازف تشيلو شهير اسمه برونو بينيت الذي انسحب من المجتمع ويعيش في حزن على فقدان صديقة عزيزة من أيام الطفولة تدعى (آنا)، ويحمل دائما قفازاتها في جيبه في كل عرض موسيقي يقوم به، ولكنه يلتقي صدفة بصاحبة متجر متعلقة بالطيور ومغرمة بالبلوط تدعى حنه ويقع في حبها. يروي المؤلف أنه اختار في البداية اسم هيزل (كستناء) ولكن الناشر اعترض على ذلك وأخبره إنه اسم قديم، واقترح عليه اسم (حنه) فأعجبه. قال الناشر في تقديمه للكتاب: "الحب أحد مواضيعه- قوة الحب التي تتغلب على المأساة، والحنين للحب، ومعناه، وكيف يمكن أن يرقى بالأجيال". وأضاف: "إن استعمال فان بوي للغة أمر فريد ورقيق – إنه مراقب ممتاز– مثل سومرست موم بإمكانه الذهاب الى غرفة وتحديد ما يجري فيها تماماً. لديه قدرة مذهلة على رسم لوحات جميلة. وتتسم كتاباته بأسلوب رثائي ونغمة اكتئابية حزينة. إنه رومانسي".


تقول افتتاحية القصة الاولى المسماة "الحب يبدأ في الشتاء": "أنتظر في الظل.. آلتي التشيلو موجودة فوق المسرح. لقد تم صنعها في العام 1723 على جانب تلة في صقلية حيث البحر هاديء تماماً. تهتز الاوتار عندما أنحني قريباً منها كما لو أنها ترحب بحبيبها. اسمي برونو بينيت. لون الستارة التي اقف خلفها من لون الخوخ. والمخمل ثقيل. حياتي في الجانب الاخر. أتمنى أحيانا لو أنها تستمر بدوني.


أضواء المسرح هنا في كيوبيك ساطعة للغاية. نجوم الغبار تدور حول رأس التشيلو المنحني وعند نهايات أوتاره بينما يقدمونني بالفرنسية الكندية. كان التشيلو لجدي الذي قتل خطأ في الحرب العالمية الثانية. كرسي جدي موجود أيضاً على المسرح. أستطيع أن أضع ثقلاً على ثلاث أرجل فقط. والفرش في وسط الكرسي ممزق. في يوم من الايام سيتداعى. حينما يصل الكرسي لقاعة الموسيقى قبل يوم أو نحو ذلك من العرض، ينادي مخرج موسيقي مجنون صائحاً بالاخبار السيئة: "لقد تلف الكرسي تماماً في أثناء النقل".... في يوم من الايام سأعزف بدون آلتي. سوف اقف مستقيما بلا حراك. سأغلق عيني وأتخيل الحياة في البيوت خارج قاعة الموسيقى...".


تبدو الشخصيتان الرئيستان في القصة متعلقتين باشياء مادية كحبات بلوط وحجارة وقفازات لليدين، وكرسي الجد المكسور والتي تصبح ذكريات غالية من الماضي تثقل البال بما ترمز اليه حباً ومرارة في الوقت ذاته. وعندما يطلق برونو وحنه طائرتيهما الورقية في الجو يشرعان في تذكر أحداث ماضيهما خلال السنوات العشرين التي مرت. يقول الراوي: "إن أكثر أحاديث حياتنا أهمية تلك التي تجري في صمت". وحينما يتذكر برونو بعد العرض الموسيقي صديقة طفولته الراحلة (آنا) يقول: "لو أن أحدا منهم يتذكرني، لهربت من بين أغصان حياتي، ولنفضت الزمن عن ملابسي، وبدأت الرحلة الطويلة عبر الحقول الى المكان الذي اختفيتُ فيه بالاساس. ولد يتكيء بشكل منحني على البوابة، بانتظار أن تنهض صديقته الاقرب الى نفسه. ما تزال العجلة الخلفية في دراجة (آنا) تدور". تعكس القصة الوحدة التي يعيش فيها البطل حتى عندما يكون في مدينة تعج بالحركة والصخب مثل لوس انجليس. وحينما يلتقي برونو بحنه التي يلفها الحزن والحداد على فقدان أخيها، يدرك ساعتها أنه ليس وحيداً في هذا العالم. إنها قصة عن قوة الحب التي تشفي جراح الزمن.


في القصة الثانية ذات العنوان "نمر، نمر" فإن الراوي هو طبيبة أطفال ولها صديق شاب يلجأن الى التفكير في سلوكيات وذكريات الطفولة. تعض الطبيبة صديقها في نهاية القصة كارتداد الى حالة الطفولة وكتعبير ساذج بريء عن الرغبة في اعادة بعث الحب من جديد. وتطرح القصة الثالثة "التماثيل المفقودة" موضوع العلاقة بين المدينتين لاس فيجاس وروما، وأن هناك مواطن للجمال في المدينة التي شهدت طفولة البطل. في هذه القصة يبكي الدبلوماسي الشاب ماكس عند ساحة القديس بطرس في روما وهو يستعيد ذكريات طفولته في لاس فيجاس. وفي القصة الرابعة "مجيء وذهاب الغرباء" يقع الصبي الغجري الايرلندي الروماني الاصل والمريض (والتر) في حب فتاة كندية يتيمة، ويعتقد أن تجربة الحب الحقيقي تتمثل في تجربة الحب الاول النقي فقط. إنها قصة عن الاجيال والبطولة والمأساة والحب والعائلة. وفي القصة الخامسة "مدينة أشجار الرياح" يعيش جورج فراك في عزلة. ويتلقّى ذات يوم رسالة تغير مجرى حياته بالكامل. فقد كان لتلك الليلة الوحيدة التي قضاها مع نادلة سويدية قبل سبع سنوات ابنة لم يرها. يعود الحلم من جديد برغم السنوات فيترك جورج عمله ويذهب الى استكهولم بالسويد للبحث عن ابنته (لوتا) التي لا يعرفها.. وحينما يجدها يأخذها ليتزلج معها على الثلج. يكتب جورج في رسالته الى أخته هيلين "إنني نادم على الاشياء التي لم أفعلها وليس تلك الاشياء التي فعلتها- أيبدو ذلك لك غريباً؟

تطرح قصص المجموعة حياة أناس عاديين، يقعون في الحب بصوره ومعانيه المختلفة. ومن عازف التشيلو الوحيد الحزين الذي يتعثر أثناء سيره بالمعنى الحرفي للكلمة صدفة بامرأة فتنشأ بينهما علاقة حب، الى ذلك الصبي الغجري الذي يتسكع خارج منزل فتاتين فقدتا والديهما، تأخذ القصص القاريء في رحلة القلب وتطرح قضايا الهوية الذاتية والحزن والحنين واعادة الانبعاث من جديد. ويأخذنا المؤلف مع شخصياته الى أمكنة متعددة تعكس ايقاع المدن المختلفة فمن مونتريال في الشتاء الى روما الى منحدرات ايرلندا الوعرة، وكلها أمكنة تدعو للاستبطان والتأمل. تركز المجموعة على استكشاف ذلك الجوهر الذي يشكل ما هو انساني فينا، وكيف يمكن أن نجد الحب الانساني في أكثر الاماكن غير المتوقعة.


تجسد قصص المجموعة شخصيات تعيش في عزلة ووحدة وتستوطنها ذكريات الماضي المريرة المؤلمة التي تمتليء بصور الاعزاء الراحلين، ولكنها حينما تقع في الحب، فإن الامر يبدو كمعجزة قد وقعت، وسرعان ما تظهر قوة الحب القادرة على تغيير حياتها. يقول المؤلف "اللغة تسمح لنا بالتواصل مع الناس والوصول اليهم ومشاركتهم لنا مخاوفنا الداخلية وآمالنا، واحباطاتنا" ولهذا فقد سمى القصص "تاريخ ما أحسَّ به". وعن تجربة كتابة القصة بالنسبة له، قال إن من عادته أن يمشي بالساعات في شوارع المدن التي يسافر اليها لتولد قصة تحت المطر والحر والبرد وأحيانا الثلج، فالكتابة ليست فن البحث عن قصة لكتابتها، بل أن تتجول في الاماكن التي تذهب اليها وتنظر بعين المتأمل في كل الاشياء من حولك وتترك الافكار تأتي اليك.

* اللوحة أعلاه بعنوان شتاء للفنان الفرنسي ادوارد بيسو (1856-1939)
* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الرأي يوم الجمعة 10 نيسان/ابريل 2010. يرجى الضغط على الرابط التالي لرؤية المقال في الصحيفة:
الحب يبدأ في الشتاء لسايمون فان بوي - جريدة الرأي
 
كما يمكن الضغط على الرابط التالي لرؤية صورة الصفحة الكاملة في الرأي:
الحب يبدأ في الشتاء لسايمون فان بوي - الصفحة الكاملة
 

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:29 ص

    الحقيقة أنك إنسان مثقف رائع ... ليت كل الرجال الناس مثلك

    ردحذف
  2. تحياتي لك مقرونة بكل التقدير على كلماتك التي أعتز وأفتخر بها. تسعدني اطلالتك الجميلة على موقعي، وأتمنى أن أتشرف بمرورك الدائم

    ردحذف