الجمعة، يوليو 23

الابرياء في الخارج: فلسطين في عيون مارك توين


الابرياء في الخارج: فلسطين في عيون مارك توين
نظرة استشراقية طافحة بالسذاجة والسخرية والكراهية
بقلم: اياد نصار

هذا كتاب قديم في أدب الرحلات ، ولكنه خطير بمحتواه وأحكامه ، التي تكتنفها السذاجة والمبالغات الانفعالية والسخرية المقيتة والكراهية من كاتب مشهور ، عرف عنه التحول في مواقفه وتوجهاته من تأييد الإمبريالية إلى معاداتها ، ومن النقد الديني إلى النزعة المحافظة المدفوعة بتأثير ديني. وللدلالة على خطورة الكتاب ، يكفي أن نعلم أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ، كما ذكرت صحيفة هآرتس ، حمل معه فقرتين من الكتاب ، في عام 2009 ، إلى واشنطن ، لتقديمهما إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما ، عل اعتبارهما دليلاً دامغاً ، ومن كاتب أمريكي مشهور ، له وزن كبير في تاريخ الأدب الأميركي ، وينتمي إلى مرحلة تاريخية تسبق الصراع العربي ـ الإسرائيلي ، ونشوء القضية الفلسطينية ، ما يشي بموضوعيته ، حيث لم يكن النزاع قائماً ، آنذاك ، لإقناعه ، كما يزعم ، بزيف الحق الفلسطيني وتهافت الاتهامات التاريخية لليهود باغتصاب فلسطين وتهجير الفلسطينيين ، على اعتبار أن فلسطين كانت مهجورة ، كما تردد الحركة الصهيونية ، قبل وصول المهاجرين اليهود الذين أقاموا المستعمرات الزراعية الاستيطانية.



قام الأديب الأميركي المشهور مارك توين 1835-1910 ، واسمه الحقيقي صامويل لانجهورن كليمنس ، برحلة إلى الأراضي المقدسة مع مجموعة من الحجاج الأميركيين (حوالى أربعين شخصاً) ، في عام 1867 ، مروراً بمدن شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، كطنجة في المغرب ، ومرسيليا في فرنسا ، ومنها ـ براً ـ إلى باريس ، وجنوة والبندقية وفلورنسا وروما ، ثم ـ جنوباً ـ إلى صقلية في إيطاليا ، وأثينا والقسطنطينية (إسطنبول) ، مروراً بمضيق البوسفور ، حتى وصل مدينة أوديسا ، على البحر الأسود ، في روسيا ، آنذاك ، ثم ـ عودةً ـ إلى مدينة سميرنا (أزمير) في تركيا ، ومنها إلى سوريا ولبنان ، حيث زار دمشق وبيروت وبعلبك ، حتى وصل فلسطين. وقد دأب مارك توين على إرسال مشاهداته في هيئة مقالات أسبوعية لزاوية في صحيفة ألتا كاليفورنيا. وعندما عاد إلى الولايات المتحدة نشر مقالاته في كتاب سماه "الأبرياء في الخارج" The Innocents Abroad ، وأصبح من أكثر كتبه انتشارا ، رغم شهرته روائياً وقاصاً ، خاصة بعد روايته "مغامرات توم سوير" ، التي يروي فيها مغامرات طالب مدرسة ذكي ومتمرد على القيم الاجتماعية المحافظة ، ومغامرات زميله المتشرد ، واسمه هاكلبري فًن. وفي ما بعد ، عاد مارك توين وكتب رواية "مغامرات هاكلبري فن" ، التي جعل هاكْ بطلها عندما صار رجلاً ، فكانت رواية كبرى في تاريخ الأدب الأميركي المعاصر في نقد واقع الحياة في المجتمع الأميركي المحافظ ، بسخرية ، وطرح مشكلات العبيد ومعاناتهم ، والمعاملة المهينة التي كانوا يلاقونها ، ونقد النفاق الاجتماعي.


قام مارك توين بعد عودته بعدة من جولات في عدد من المدن الأميركية ، وألقى محاضرات حول مشاهداته ، وكان مجرد الإعلان عن أنها حول زيارته ، إلى الأراضي المقدسة ، سبباً للحضور الكثيف للجمهور ، ولانتشار واسع للكتاب. وفي إحدى المحاضرات التي ألقاها ، وكانت بعنوان "مخرب أمريكي في الخارج" ، انتقد تلك الطبقة من الأميركيين البسطاء ، الذين يسارعون إلى زيارة المعالم الرئيسة في المدن ، ويجمعون بقايا من حجارتها ، فقال متهكماً: "ما تم جمعه من حجارة من بيت كولومبس في إيطاليا يكفي لبناء بيت من أربع عشرة ألف قدم"، ولكن المدن الحقيقية ، كما يقول ، لم تعد كذلك ، فهم إنما يحملون معهم أساطير الماضي ، وليس الواقع الحالي.


وسجل توين ، في الكتاب ، مشاهداته خلال الرحلة ، بلغة ساخرة جارحة ، أحياناً ، وضمنه القليل من جوانب الإعجاب ، والكثير من النقد لنمط الحياة والثقافة والتقاليد والفن في المدن التي زارها ، وعقد المقارنات بينها وبين نمط الحياة والثقافة في الولايات المتحدة ، بما يعكس ثقافته ونمط حياته في مواجهة أنماط لم يعتد عليها من قبل ، وشكلت تجربة جديدة غير مألوفة بالنسبة له.


يحتوي الكتاب ، الذي يجمع ما بين السيرة الذاتية والسرد الروائي ، على كثير من المقارنات التي تنطوي على تصورات وقناعات متناقضة بين تجارب مارك توين ومشاهداته الأماكن المشهورة ، وما كتبه آخرون عنها والرد عليهم. وقد امتاز بأسلوبه المعروف في السخرية المضحكة والنقد المر والإسهاب ، مع الاقتباس من الكتاب المقدس ، وخاصة في الجزء المتعلق بفلسطين ، التي زار جانباً من مدنها وقراها وسهولها وجبالها ووديانها وكنائسها وأديرتها ، حتى غادرها إلى الإسكندرية ، عائداً إلى الولايات المتحدة.


وكما هو مألوف في النقد الأدبي في تفسير معاني الرحلة في الأدب الروائي ، فإن الرحلة تصبح رمزاً يشير إلى رحلة اكتشاف الذات والآخرين ، وتجربة خوض الحياة ، بعيداً عن رتابتها واعتياديتها في الوطن ، واتساع الأفق نتيجة المؤثرات الجديدة ، وتكوين خبرات مغايرة خلالها ، حتى تصبح الرحلة بمعنى الولادة الفكرية للمؤلف ، والسفر في أعماقه لاكتشاف الذات وأوهامها السابقة. إلاّ أن الكتاب لا يعكس تطوراً فكرياً كبيراً ملحوظاً طرأ على أفكار مارك توين نتيجة الرحلة ، بل بقي ينطلق من سذاجة الصدمة أمام كل ما هو مختلف في المدن التي مر بها ، ومن كثير من الكراهية والاستغراب من ممارسات السكان المحليين ، وعدم تفهم أسبابها ودوافعها أو إدراك التباين في التطور الصناعي والحضري بينها ، واستمر في استخدام اللغة الجافة الجزافية التي تعمم الأحكام.


يظهر توين ، كما قال أحد النقاد ، بمظهر الأبله البريء ، خاصة في عدم تقديره منجزات الحضارات السابقة ، أو أعمال الفنانين العظام ، مثل مايكل أنجلو ، التي لم يبد تجاهها أي تقدير. بل إنه عاد باكتشاف جديد ، يقوم على أن الكثير من الرحالة الأميركيين لا يقولون الحقيقة عما يجري في الخارج ، ويجمّلون الصورة ، وينقلون إلى القارئ الأميركي ما يرضي تشوقه ، وليس ما هو واقع فعلاً. كما عكست أفكار توين بعضاً من التصورات التي كانت شائعة في الغرب عن الأراضي المقدسة ، والتي اشار إليها المؤلف في معرض حديثه عن بعض كتب الرحالة ، سواء اتفق معها أو اختلف ، ولكن مجمل الصورة التي قدمها عن بلاد الشام عامةً ، وفلسطين خاصةً ، كانت بالغة السوء. وفي أحيان كثيرة يتحول السرد إلى السخرية من سكان المدن والقرى التي زارها ، والذي يستحوذ على جانب كبير من الكتاب. كما يلجأ كثيراً إلى اسلوب المبالغات في إظهار ضيقه بما يشاهده ، فتجده يصف فلسطين بأنها المكان الأكثر وحشة وعزلة وبشاعة.


لا بد من الإشارة إلى أن مارك توين قام بالرحلة عقب انتهاء الحرب الأهلية الأميركية 1861-1865 بسنتين ، وكان ، آنذاك ، في الثانية والثلاثين من عمره. ولا شك أن أجواء الحرب ، والقلق على مستقبل الوطن والتمسك به وبقيمته ومنجزاته وتاريخه ، مقارنة بغيره ، والدفاع عنه أمام نهضة البلدان الأوروبية الأخرى ، وهدوء الحياة فيها أثرت فيه ، علاوة على انطباعات الشباب ، التي غالباً ما تميل إلى ردة الفعل الانفعالية المتطرفة.


تتحدث الفصول ، من السادس والأربعين إلى السادس والخمسين ، عن ذلك الجزء من رحلته ، الذي شمل فلسطين ، منذ لحظة دخولها ، من عند منبع نهر الأردن في دان وبانياس ، ومن ثم منطقة باشان ، التي تضم الجولان والعرقوب جنوب سوريا ولبنان ، عند التقائهما بفلسطين.


ولم يكن ما قاله من نقد تهكمي مرير يقتصر على فلسطين وحدها ، فسوريا التي وصلها من قبل ، وصف قراها بطريقة تنم عن التعصب والكراهية والاستعلائية. وحتى لو سلمنا أن بعض المشاهد حقيقة ، فإنه لم يحاول التعرف على أسباب هذه الحالة البائسة ، التي كان يعانيها السكان العرب في ظل حكم الدولة العثمانية المريضة المنهكة بالحروب والبيروقراطية والسلطة الهرمية المتخلفة ، والتي أدت إلى إفقار السكان في المناطق الخاضعة لسيطرتها ، وتخلفهم. قال ، في وصف حياة قرية سورية: "ترى ، فجأة ، طفلاً عارياً يمد يده للاستجداء ويقول بغشيش. إنه لا يتوقع سنتاً واحداً ، ولكنه تعلّم أن يشحد قبل أن يتعلم أن يقول أمي ، ولا يستطيع ترك ذلك ، الآن... القرية السورية أكثر منظرْ مؤذْ في العالم".


يمعن توين في الوصف بطريقة تنم عن التعالي والازدراء. "جلس ، هذا الصباح ، خلال الإفطار ، التجمع المعتاد للبشر القذرين ، وانتظروا أن تلقي إليهم الفتات ، نظراً لبؤسهم. لقد ذكروني بالكثير من الهنود الحمر. جلسوا في صمت وصبر لا يكل ، يراقبون حركاتنا بتلك الوقاحة المقيتة ، التي هي ، فعلاً ، من صفات الهنود ، والتي تجعل الرجل الأبيض عصبياً وهمجياً يود إبادة القبيلة بكاملها". ويضيف: "لهولاء البشر صفات أخرى. فالحشرات تأكلهم ، والأوساخ قد غطت أجسادهم تماماً. والأطفال في حال يرثى لها. فعيونهم ، جميعاً ، ملتهبة". ويعلق بكلمات تفوح منها العنصرية قائلاً: "هل تتخيلون أن أما أميركية يمكن أن تجلس ، مدة ساعة ، وطفلها في يديها ، وتدع المئات من البعوض تدور ، حول عينيه ، كل هذا الوقت ولا تفعل شيئاً؟"


ورغم أنه يروي في كتابه تفاصيل رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة ، إلا أنه يتطرق ، بين حين وآخر ، إلى الكثير من حوادث التاريخ ، ومرجعيته ـ في ذلك ـ هي نصوص الكتاب المقدس ، خاصة العهد القديم. كما يتطرق إلى بعض الأحداث والمعارك المهمة التي جرت في فلسطين خلال الحروب الصليبية ، تحت جزء يسميه "أسطورة". حيث يقول إنه اجتاح أوروبا الاقطاعية ، آنذاك ، هوس ديني ، يتعلق برغبة كل قادة أوروبا في السيطرة على كنيسة القيامة ، وخوض حروب دينية من أجلها.


يتحدث مارك توين عن مشكلة المواصلات والتنقل ، التي شكلت مبعث قلق بالنسبة له عندما علم أنه لا توجد ، في فلسطين ، خدمة نقل الركاب المسافرين ، وأن من الصعوبة الحصول على مترجمين فوريين ، أو الحصول على دواب للمرافقين. "في القسطنطينية أبرق الجميع إلى القناصل الأميركيين في الإسكندرية وبيروت لإخبارهم أننا سنكون في حاجة إلى مترجمين ووسائل نقل. لقد كنا فاقدي الأمل ، وكنا سنأخذ خيولاً ، أو حميراً ، أو جمالاً أو كناغر ، أو أي شيء".


ينم حديث مارك توين عن نوع من خيبة الأمل ، التي أحس بها ، هو والحجاج الذين معه ، نتيجة تصوراتهم الخاطئة التي حملوها معهم قبل الزيارة ، فلم يشعروا بابتهاج أنهم اقتربوا من دخول الأرض التي قطعوا كل هذه المسافات لزيارتها. كتب ، يقول عن رفاقه: "كانوا على مبعدة ساعة واحدة من حدود الأرض المقدسة ، غير أنهم بالكاد بدؤوا يقدرون أنهم يقفون على الأرض التي طالما قرؤوا عنها ، وبدأت الأسماء التاريخية تنفض عنها الغبار". وفي رأي مارك توين فإن دان هو حد فلسطين من الشمال ، وبئر السبع حدها في الجنوب ، ويقول: "إن هذا هو ما يدل عليه القول المعروف: من دان إلى بئر السبع. وهذا شبيه بقولنا: من ماين إلى تكساس "أي من الشمال إلى الجنوب" ، ومن بالتيمور إلى سان فرانسيسكو ، "أي من الشرق إلى الغرب". وذكر أنه لو تم تقسيم ولاية ميسوري فإنها تساوي ثلاث فلسطينات.


شعر توين بالذهول أمام مساحة فلسطين الصغيرة مقارنة بالولايات المتحدة ، ولكن الذي أثار دهشته وعكس سذاجة تفكيره واحتكامه إلى معايير ثقافته التي تحكم على الآخرين والعالم من خلالها ، هو أن لفلسطين هذا التاريخ العريق ، برغم مساحتها الصغيرة. "لقد كانت أفكاري جامحة كثيراً. لقد ارتبطت الكلمة فلسطين ، في ذهني ، على الدوام ، بصورة غامضة لبلد كبير بحجم الولايات المتحدة. لا أعرف لماذا ، ولكن هكذا بدا لي الأمر. وأغلب الظن أن سبب ذلك كان ، باعتقادي ، أنني لم أتخيل أن بلداً صغيراً يمكن أن يكون له مثل هذا التاريخ العريق". غير أنه يستدرك ، فوراً ، لينقلب إلى التهكم الساخر: "لم تتغير فلسطين ، منذ تلك الأيام ، لا في أخلاقها ولا عاداتها ولا عمارتها أو شعبها".


ومن المقارنات الغريبة التي يوردها قوله: "إن الرجال العرب حسنو المظهر ، ولكن النساء العربيات لسن كذلك، نحن كلنا نؤمن بأن مريم العذراء كانت جميلة ، ومن غير الطبيعي أن نفكر في غير ذلك. ولكن هل يفترض ذلك فينا أن نسير على المنهج نفسه ، ونعد نساء الناصرة الحاليات جميلات؟"


ترد كلمة بغشيش ، بلفظتها ، في الكتاب ، للإشارة إلى أشياء لم يكن من الممكن تحقيقها من دون إعطاء مبلغ من المال نظير الحصول عليها ، وإنه لم يكن سوى البغشيش من سبيل لذلك. ويستخدم الكلمة كثيراً عند حديثه دائماً عن العرب الذين يمر بهم في سوريا وفلسطين ، وإنه لا همّ لديهم سوى استجداء المال من الزوار.


وفي صورة تدعو إلى الضحك من سذاجته ، فقد تفاجأ عندما رأى أن السلطان العثماني رجل عادي في حجمه. يقول: "إن الملوك هنا غير أولئك في أوروبا وروسيا وإنجلترا. هنا تفقد العبارة كل أولئك الملوك عظمتها". ويشبه الملوك ، هنا ، برؤساء قبائل الهنود الحمر المتوحشين ، كما يصفهم ، الذين يعيشون على مرأى من بعض ، والذين يعدون ممالكهم كبيرة إذا بلغت خمسة أميال مربعة، ولهذا اعترف بأنه لا بد أن يحجم تصوراته عن فلسطين لتكون واقعية أكثر. "يكون المرء انطباعات ضخمة في اليفوع ، والتي يبقى يكافح من أجلها طيلة حياته". غير أنه لم يتمكن من أن يتخلص منها ، حتى بعد عودته.


وحول تجربته مع الأديرة الكاثوليكية في فلسطين ، والتي هزت قناعاته التي نشأ عليها ، فقد كتب: "لقد نشأت على كره أي شيء كاثوليكي ، وأحياناً ، ونتيجة لذلك ، فقد وجدت أنه من الأسهل أن تكتشف الأخطاء الكاثوليكية أكثر من الفضائل". ويقول: "لكن هناك شيئاً واحداً لا أود نسيانه أو التغاضي عنه ، وهو العرفان بالجميل الذي ندين به ، أنا وكل الحجاج ، إلى آباء الكنيسة في فلسطين ، فأبوابهم دائماً مفتوحة ، وهناك ، دائماً ، ترحيب بمن يدخل... ومن دون هذه الملاجئ المضيافة فإن السفر في فلسطين متعة لا يجرؤ أقوى الرجال على القيام بها.


ولم تنج كنيسة المهد ، في بيت لحم ، من نقده المتعسف ، حيث ذكر أن "طراز بناء مغارة الميلاد كان يفتقد الذوق ، وتلك هي السمة البارزة في كل الأماكن المقدسة في فلسطين". ولم ينج ، كذلك رعاة الكنيسة ، من نقده: "ومثلما هو الحال في كنيسة القيامة ، فإن الكهنة في كنيسة المهد كانوا يعبرون عن الشعور بالحسد ويفتقدون لمسة الإحسان". وقال ، مصوراً الجو العام على نحو يفيض بالشكوى ، ويبتعد بالمكان عن الروح الإيمانية التأملية: "لا يمكن أن تستطيع أن تفكر ، هنا ، على نحو يثير فيك الإلهام والتأمل مثل أي مكان آخر في فلسطين ، فالشحادون والمقعدون والرهبان يحوطونك ، ولا يجعلونك تفكر سوى في البغشيش". ولهذا لا يخفي سعادته الكبيرة بمغادرة بيت لحم إلى القدس ، بعد أن زار قبر راحيل ، وابتعد عمن وصفهم بـ"جيوش الشحادين وباعة القطع الأثرية".


لم تكن هذه المرة الأولى التي يلجأ مارك توين فيها إلى السخرية من العرب ، فقد ذكر في روايته "هاكلبري فن" ، التي كتبها بعد سنوات عدة من الرحلة ، أنه تم طلاء العبد الأسود الهارب عبر نهر المسيسبي باللون الأزرق ، وتصويره مهرجاً في السيرك كي يتمكن من الهرب ، وقد وضع عليه لوحة تقول "العربي المريض" ، وإلى جانبها كتب يقول: "ليس مؤذياً عندما لا يفقد عقله".


وما يلفت الانتباه هو ميل مارك توين إلى التشكيك ، دائماً ، في ما كتبه الرحالة الآخرون ، وتسفيه قناعاتهم ، واستغرابه منها بناء على تجربته هو. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الدافع لكذبهم جميعاً؟ وما الذي حصل لمارك توين حتى فرح بمغادرة فلسطين غير آسف أو متحسر على مغادرتها ، برغم كل ما فعله وتحمله للوصول إليها؟ "ربما تقتضيني الحكمة الشائعة أن أصطنع كذبة لطيفة وأقول إنني تركت فلسطين عن غير رغبة مني. إنهم يتظاهرون بقولها. ولذا أشك في كلام كل من يقول ذلك. وأقسم إنني لم أسمع أياً من حجاجنا الأربعين يقول شيئاً من هذا القبيل". تفيض الكراهية من كلماته بطريقة فجة ، حتى في لحظة وداعه الأض المقدسة ، في قوله: "فلسطين مقفرة وغير جميلة. ولماذا تكون غير ذلك؟ هل يمكن للعنة الرب أن تجمّل أرضاً؟".


وأنا أعتقد أن الحالة النفسية لمارك توين ، بسبب البعد عن الوطن ، خاصة أنه قضى سنتين بعيداً عن نمط الحياة والثقافة التي تعودهما ، يضاف إلى ذلك حالة الفقر والتخلف التي كانت سائدة في المنطقة تحت الحكم العثماني ، والمفارقة الشديدة بين حال مدنها وقراها ، وحال المدن الأوروبية التي زارها ، لعبت ، كلها ، دوراً في شعوره بالصدمة استناداً إلى تصوراته غير المنطقية ، التي حملها معه ، ما جعله يلجأ إلى اللغة التهكمية ، كقوله: "من بين كل البلدان التي تمتاز بالمشاهد الكئيبة الفظيعة ، فإن فلسطين هي رائدتها، تلالها مقفرة ، وخاملة الألوان ، وبلا ملامح جميلة الشكل. وديانها صحاري يرثى لحالها المزرية ، والبحر الميت وبحيرة طبرية يقعان في منتصف أرض ممتدة وواسعة من التلال والسهول ، حيث لا تقع العين على أي منظر حسن. كل تضاريسها قاسية خشنة ، إنها أرض كئيبة ، بلا أمل ، ينفطر لها القلب".


إن وصف فلسطين ، على اعتبارها أرضاً يباباً ، بهذه الطريقة ، لا يمكن أن يكون صحيحاً أبداً ، خاصة في ظل ازدياد رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة في عصره ، والتي كان مارك توين نفسه أحد حجاجها.


بعد كل هذا ، لا عجب أن وجدت الحركة الصهيونية في الكتاب كنزاً توظفه لإظهار أن فلسطين كانت مهجورة من السكان ، وأن من عاشوا فيها ليس سوى مجموعات متناثرة من الفقراء البؤساء ، الذين تركوها خراباً آلاف السنين. ولهذا احتفى اليهود بالكتاب كثيراً ، لاسناد دعاويهم في أن بريطانيا "منحت أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض".


يحتاج دحض المزاعم في الكتاب إلى الكثير من الجهد والبحث التاريخي ، وتقديم الأدلة التي تفند الادعاءات الصهيونية. ويكفي ، في عجالة ، أن نقول إن الفترة ما بين زيارة مارك توين فلسطينَ في عام 1867 ، وقيام أول مؤتمر وطني فلسطيني في سنة 1919 ، ضد اليهود وسلطات الانتداب البريطاني ، في إشارة إلى بروز وعي واسع بخطورة الهجرة اليهودية ، وسلب الأراضي.. هذه الفترة تبلغ حوالى خمسين عاماً. فهل تحولت فلسطين ، فجأة ، من بلاد مقفرة من السكان إلى بلاد تمور بالحراك وبالثورات التي تعبر عن استشعار الخطورة ورفض المخططات للاستيلاء على فلسطين؟ كما أنه من المعروف أن فلسطين تشتهر بكثرة القرى والبلدات والتجمعات الزراعية ، من شمالها إلى جنوبها ، بشكل كبير جداً ، حتى لا تجد شبراً إلا وهناك قرية فلسطينية وبإسمها العربي. ومن ينظر إلى خارطة فلسطين يدهشه هذا الكم الهائل من مواقع القرى التي ، لو رمينا إبرة ـ عشوائياً ـ على الخارطة ، لوقعت ـ في كل مرة ـ في موقع قرية فلسطينية. إن حجم القرى الفلسطينية والبيوت التي استولى عليها اليهود ، على إثر نكبة عام 1948 ، يدل على كثرتها الهائلة ، وعلى مدى الكثافة السكانية فيها ، والدليل على ذلك أن عدد الفلسطينيين قبل النكبة بلغ مليوناً ونصف المليون نسمة.


إن معظم شعب فلسطين ، قبل النكبة ، كان من الفلاحين المرتبطين بالأرض والزراعة ، وبيوت الحجر والبيارات والبيادر ، وليسوا متنقلين أو طارئين على المكان. والمفارقة أن اليهود ، وبرغم هجراتهم الهائلة بالألوف ، التي سهلها الانتداب البريطاني ، خاصة من أوروبا ، وشجعتها الحركة الصهيونية ، وقدمت لها المال ، لم يبلغوا حجم سكان البلاد الأصليين وقت النكبة. كما لا يذكر التاريخ أن هذا العدد الضخم من الفلسطينيين قدم إليها مهاجراً من دول أخرى ، كما فعل اليهود. فمن أين ، إذن ، جاء الفلسطينيون لولا أنهم عاشوا على أرضها عبر التاريخ؟ إن الأبرياء الذين اغتصبت أراضيهم ، فعلاً ، في الخارج.

* بورتريه مارك توين بريشة جيمس بكويث
* نشرت المقالة في ملحق جريدة الدستور الثقافي ليوم الجمعة 23/7/2010 .

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة pdf





الأحد، يوليو 4

ثقوب سوداء



قصة قصيرة
ثـقـوب ســـوداء


إياد نصار

منذ الصباح وأنا أتخيل شكل لقائي بها الليلة في رأس السنة. أفكر ماذا سنقول من أمنيات وأشعار. شعرت قلَقاً يدب في أعماقي. كيف سنودع العام ونستقبل آخر كعاشقين يبحثان عن دفء في حروف باردة؟ مرّ اليوم طويلاً والمطر ينهمر خفيفاً بين حين وآخر. غيوم سوداء تتلبد في الجو وبرودة تتسرب من النافذة. في خضمّ لحظة شرود تأملية أصابتني أول المساء ، كما يحدث عادة عندما أخلع عني التعب في الأريكة الوثيرة. رنّ الهاتف. قالت ، والحزن بادْ في نبراتها: "قرأتك على الطائرة ، ونظرت من النافذة ، فلم أر سوى كثبان الرمال الجرداء" ، ثم صمتتْ. تخيّلتُ في تلك اللحظة أنها أشاحت بوجهها وقد علته ملامحُ عتابْ ممزوجة بالغضب. أعرف "لبنى" عندما تكون غاضبة من شيء ما. أدركت سبب حزنها من غير أن تبوح به. صرت خبيراً في فهم فلسفتها. حاولت أن أوضح لها الأمر ، ولكن النغمة المتقطعة دوّت فجأة ، وغاب صوتها في الفراغ ، فتلعثم صوتي ومات على شفتي.


أمس ، حينما التقيت بالشلة ، ردّد جمال وجهاد وهدى وفاتن الأمر ذاته بعتب واضح يفيض من الكلمات. ولكن غضب لبنى فاجأني: فلم أكن أتوقعه. جلست أنتظرها في الليل ساعاتْ طويلةً ، علّها تعود. بادرني النعاس بالهجوم على حين غفلة. أصابتني هزة ، وشعرت كأنني أسقط عن الكرسي. نظرت إلى شاشتي ، فأحسست أنّ النوم قد سرقني للحظاتْ ، قبل أن يعيدني إليها. وأخيراً لمع اسمها في زاوية الشاشة ، والساعة تشارف الثانية عشرة والنصف بعيد منتصف الليل. فتحت عيني وفركتهما كمريض يصحو من إغماءة. يبدو أنني استيقظت من الوسن على صوت إطلاق الألعاب النارية ، التي كانت ما تزال تبدد سكون الليل ، ورأيت قطراتً المطر تسحّ على زجاج النافذة. اقتحمتُ خصوصيتها:
ـ عمتً صباحاً يا سيدتي.
ـ "صباحُك فاكهة للأغاني" الحزينة. ماذا تفعل؟
ـ أجملُ أغانينا دوماً حزينة. أتجول في حقول ألغام الكلمات.
ـ ستنفجر الكلمات عيوناً مالحةً في واحاتي اليابسة.
ـ أما زلتً غاضبةً؟
ـ بل مقهورة. تخامرني شكوك أكبر من شك ديكارت.
ـ لنتفائل فليس سواه من دواء للقلوب المتعبة.


لم تردْ. بقيتُ أنتظر ملولاً. لكنها توقفت عن الكتابة. طال انتظاري. تشاغلت أسمع أغنيتها التي تحبها.. "بيقولوا الوقت بيقتل الحب..".. بقيت أسمع وأنتظر. وفجأة ، عاد المطر ينهمر على زجاج النافذة. لمعت حروفها مرة أخرى:
ـ لقد راح زمن المعجزات.. ولم يبق فارس لهذا الزمان،
ـ شككتُ في اعتقادي قدومَكً. انتظرتًك ورصدتُ احتمالاتْ بائسة،
قالت: أحاول ألا أخذلك وأنت تنعم في تجاهلي. فماذا عساي أقول؟
ـ ......هل ينفع صمتي رداً؟
ـ ليلى محظوظة.. تذكرها وتنساني. أنسيتَ كل أحاديثنا ولقاءاتنا؟ ألم أستحق منك اشارة في مقالك؟ وسعد ، هل صار أقرب إليك مني؟
ـ لم تكن ليلى سوى مثال فقط.
ـ ولماذا لم أكن أنا ذلك المثال؟ هاشم ، هل هناك أحد أقرب مني اليك؟
ـ أنت قريبة وهم بعيدون. لم يكونوا سوى أمثلة من زوايا العالم المختلفة لأقول كم غيرت الإنترنت من حياتنا وأعادت صياغتها.
ـ لا يزول الحزن ، بسهولة ، مثلما يأتي.

صمت كلانا فترة وأنا أفكر في حزنها الغامض حين بادرتني فجأة: ما جديدُكَ؟
ـ كلماتّ كالسراب لا تتقن سوى التلميح وتفجير النهايات.
ـ سلاحك الذري الذي تشهره في وجهي فأرحل إلى عالم الغياب والنسيان.
ـ تؤلمني كلماتُكً ، ولكن تنتظرك حروفي كل مساء. لم أسمع أحداً يحلل شخصياتي مثلك. لربما تنتظرك هي الأخرى بشغف لترى نفسها في مرآتك.
ـ هل رصدتَ فرحاً في ليلة وداع العام؟
ـ ليس سوى ثقوب سوداء على أعتاب عارْ جديد،
ـ واحزناه.. كل عارْ ونحن بخير.


ساد صمت.. فعدت إلى الانتظار الملول ، وفيروز تغني: "بديت القصة تحت الشتي بأول شتي..." لم يطل انتظاري. عادت إلى فلسفة الحياة من جديد. أعطتها الحياة كل قواميس الدنيا لتصنع من أفكارها لوحاتْ وتماثيلَ غامضةً حزينة كأنها خارجة من تحت ركام الحرب. كتبتْ:
ـ المجهول أكبر من أن ندركه. شعور يتربص خلف اليقين الزائف والإيمان الخائف.
ـ لبنى ، أحس كأني بقايا إنسان. آن لي أن أحطم جدار العزلة ولكني أضعت مفتاح بابي،
ـ إلى متى سأنتظرَكَ خارج سجن كلماتك لنحتفل ، وأنت لا تفكر سوى في ليلى.
ـ لا بد من الاحتفال معاً وشرب الأنخاب.
ـ أنخابي توقظ عقلي فأشقى بقدومًكَ أكثر وأنثاي عاقر،
ـ بل فاتنة في براري الليل،
ـ هل ضللتُ طريقي أمام وحي كلماتكَ؟
ـ لبنى ، الكلمة زورق لعبور درب الحياة. وكيف تضل طريقها من كانت مثلكً تعشق الوطن؟
ـ ضاع مني الوطن فصرت مثل بحارْ تائه بلا قرار.
ـ وطنكً هو إبداعُكً.. هو الوطن الذي تعيشين به ، أما الذي تعيشين فيه فهو منفى.
ـ وإن كان بعيداً عنا هاشم؟ أيكون شقاءً مزمنا؟
ـ تذكرت أبي الذي مات وعينه على الوطن. بكيت حزناً كما بكيت عندما كنت طفلاً في ليل حكاية أمي عن الغول.


أحسست أنها كانت شاردة الذهن ، لكنها قطعت أفكاري بملاحظتها: ذكرتَ الأنثى غير مرة الليلة. كان واضحاً أن الغيرة والشكوك تمور بداخلها. احترت ماذا أكتب لها ، وأخيراً تجاسرت:
ـ لا بد للشاعر أو الرسام أو الصعلوك من إمرأة في حياته.. الابداع دون أنثى لا يكتمل.
ـ لي من العشق آياتّ ، ولكن فارسي لا يأتي. آياتي صارت أكثر مرارة من شيطان مجروح،


أحببت أن أبعد الحوار عن جو الملام ، فقلت مستدركاً:
ـ لم تخبريني عن رحلتكً. كيف كانت؟
فقالت: الآن تذكرت لتسألني؟ لا بأس. رأيت اسمكَ ، فجأة ، فوق السطور في الجريدة ، وأنا أخفي خوفي وتوتري وراء صفحاتها فوق الغيم. تهللت أساريري وسال الفرح في واحات روحي. شعرت أنكَ ظهرتَ لتنقذني من خوفي كلما اهتزت الطائرة. سكنت نفسي قليلاً من توترها ، وأنا كريشةْ في مهب الريح في أعالي السماء. لم أكن ساعتها وحيدة. عشت مع حروفكَ.. كنت سعيدة حتى وقعت عيني على اسمها. لما رأيته مات الإحساس فجأة في صدري. سقطتُ من علْ في الهاوية. وصار قلبي كجذع شجرة يابسة. رأيت الدنيا من حولي جرداء.


ساد صمت بيننا.. لم أعرف ماذا أكتب لها.. وهي بقيت ساكتة. انتبهت إلى الصوت الذي كان يتردد في بهاء.. "وخلصت القصة بتاني شتي.." شعرت أن لقاءنا في ليلة رأس السنة قد مات قبل أوانه. انطفأ وهج شاشتها وانقطع الاتصال. أحسست بغصة مريرة. نظرت إلى زجاج النافذة ، كان المطر قد توقف. مر عام الآن ولم أرها منذ تلك الليلة. يبدو أنها رحلت مع السنة ذاتها.

* اللوحة أعلاه بعنوان ثقب اسود للفنانة الامريكية سيسيل هيرنغ
** نشرت القصة في جريدة الدستور الملحق الثقافي ليوم الجمعة 2/7/2010

رابط القصة بموقع الصحيفة

رابط الصفحة الكاملة pdf