الخميس، يونيو 5

من الادب الاردني الحديث


تيسير سبول : أحزان صحراوية
بقلم: اياد نصار

كان على موعد مع البدايات والنهايات.. بداية الرواية وبداية القصيدة التي تيمم نحو تخوم النهاية.. وبداية النكسة المريرة ونهاية مشروع لحلم عربي لرد الاعتبار .. وبداية العمل الوطني في الصبا ونهاية مشوار الحياة القصير المتعب ... كان تيسير سبول النجم الذي هوى سريعا والزهر الذي ذبل في عز تفتحه. كان نبل الصدق ، وثورة البراءة في التمرد على القضايا الكبيرة التي ينكسر لها القلب من الاحساس بالفجيعة، ثورة لا تعرف حسابات السياسة بل مباديء الموقف.

فلم يكتب سوى رواية واحدة ولكنه خلف وراءه اسما كبيرا نابضا بروح المعاصرة وتجربة روائية ناضجة رغم حداثة سنه وقصر عهده بالفن السردي وتقنياته، فوضع رواية تعد معلما من معالم الرواية العربية في القرن العشرين ، وتجربة رائدة في فن الرواية على الساحة الاردنية، فكانت رواية (أنت منذ اليوم) التي امتازت بشخصية بطلها "عربي"، التي فازت عام 1968 بجائزة النهار اللبنانية

وكان صاحب عبارة شعرية مؤثرة تحرك الوجدان وتثير العاطفة برقتها وصدقها وروح المعاصرة وتقنيات الفن الحديث في القصيدة. ورغم أنه نشر ديوانا واحدا بعنوان أحزان صحراوية، الا أن بعض قصائده استقرت كمعالم بارزة عن تلك المرحلة التي تمثلها في الادب والنقد المعاصرين سواء على الساحة الاردنية او العربية. كتب باحساس متأثر حزين يحس بالالم والخيبة والتشاؤمية كمن ضاق بهذه الحياة، فكان ديوان أحزان صحراوية الذي نلمس في قصائده الاحساس بالالم والحزن والاغتراب واستبصار النهاية:

أحزان صحراوية

من زمــــــــانْ

من تجاويف كهوف الأزلية

كان ينساب على مدّ الصحارى العربية

ليّنا كالحــلم سحريا شجيا

كليــالي شهرزادْ

يتخطى قمم الكثبان

يجتاز الوهادْ .

من زمـــانْ

شربتْ حسرة ذاك الصوت

حبّات الرمـــــالْ

مزجتــــه في حناياها

أعادته إليّــــا

ليّنا كالحلم سحريا شجيــا

فكأني قد تنفّسْت شجونهْ

وكأن الصوت في طيّـــات صدري

رجّــــع اليوم حنيـــــنهْ

فأراهْ

بدويا خطّت الصحراء لا جدوى خطــــاهْ

موحشا يرقب آثار الطلـــول .

من زمــــــــانْ

غير أني

كلما استيقظ في قلبي اشتياقْ

لمزيد من تداني والتصاقْ

كلما ضجّ نداء البوح

في أرجـــــاء ذاتي

كلما بوغــتّ أني

أتناهى بانسراب اللحظات

كلما أحسست أني

بعض دفء الآخرين

خلتني عدْت أراه

بدويا خطّــت الصحراء لا جدوى خطاهْ

سار في عينيه وهج الشمس

والرمل وعود برمــــــــالْ

ومدى الصحراء صمت

وعذابات ارتحـــالْ ،

فتغنّـى

وسرى الصوت على مدّ الصحارى العربيةْ

مودعا في الرمل غصّات أغانيــــه الشجيـــةْ

ومن قصائده التي اشتهر بها قصيدة :( السؤال)

قبل هذا اليوم كانْ

كان طفلاً

ملء عينيه سؤالْ

ولذا غّذَّ خطاهْ

مسرعاً خلف رؤاهْ

يستطيب الارتحالْ

وهنا باغته الصوت وقالْ:

حيثما وجّهت لا "أين" فقفْ

هذه أرض المحالْ

قبل هذا اليوم كانْ
كان طفلاً

وهو طفلاً ما يزالْ

ولقد يعبر حيناً

سالكاً أيَّ اتجاهْ

ولقد يذكر طيفاً

من قديمات رؤاهْ

ولقد يضحك أو يبكي

فطفلاً ما يزالْ

هو يحيا

والذي مات السؤالْ...

ولكن القصيدة التي تبدأ ب" أنا يا صديقي" كانت شاهدة على اقتراب خط النهاية. تجربة أخرى تظهر نظرته . فاذا كان المتنبي قد نظر الى نفسه بنفس القدر الذي نظر فيه الى شاب طموح في بداية ثورته وانطلاقته حتى عد نفسه في مكانة نبي بين قومه، فان تيسير عبر عن الحكمة الحزينة التي يحبطها غياب الوعي فصار مثل نبي يبشر بكتاب جديد!

أنا يا صديقي

أسير مع الوهم أدري

أيمم نحو تخوم النهاية

نبيا غريب الملامح أمضي إلى غير غاية

سأسقط لا بد، يملأ جوفي الظلام

نبيا، قتيلا و ما فاه بعد بآية

عذيرك بعد، إذا ما التقينا بذات منام

تفيق الغداة و تنسى لكم أنت تنسى

عليك السلام

وفي قصيدة جميلة أخرى بعنوان " مرحبا "

رغم أَن الحبّ ماتْ

رغم أن الذكريات

لم تعد شيئاً ثميناً

ما الذي نخسر إن نحن التقينا

إبتسمنا وانحنينا

وهمسنا : مرحبا

ومضينا

ليس يُدرى ما الذي نضمرهُ

فى خافقينا

مرحبا كاذبة نسكت فيها الناس

حتى لا يقالْ

" آه يا عيني على الأحباب

عشاق الخيالْ "

وحدنا نعلم أنّا

افترقنا وانتهى ما كان من حبّ قديمْ

يوم قلناها معاً :

" حبنا كان خرافة "

نحن كفناه بالصمت

ضننَّا أن نريق الأَدمعا

وافترقنا

غير أن الآخرينْ

أعين مفتوحة دوماً علينا

فدعينا

نمنع الألسن أن تمضغنا

وإذا نحن التقينا

إبتسمنا

وانحنينا

وهمسنا :

مرحبا

وكان على موعد مع النكبة عام 1948 ومع حزيران 1967 في معاناة الهزيمة والكبرياء التي استحالت يأسا ومرارة وشعورا بالعجز. وكانت فرحة غامرة لان في حرب تشرين (اكتوبر) كادت الخطة ان تنجح. وبقدر ما كان سريعا في التجاوب مع دعوة الامل عند اشتعال الشرارة الاولى في حرب اكتوبر، فقد كان احساسه بخيبة الامل فوق الاحتمال لانسان بمثل شخصيته عند حصول ثغرة الدوفرسوار والمفاوضات التي اعقبته.. فكان بداية التململ والاحساس بالاحباط ولم ير في الغياب الارادي عن الحياة سوى صرخة احتجاج على الامل الضائع سريعا! كتب في احدى رسائله:

وجودنا كله مر.. مر يا الله ما اشد مرارته.

وريقي هو الاخر في حلقي مر.

وكان على موعد دائم مع قسوة الحياة وقلة الامكانيات. كانت بلدته أنذاك تعيش النسيان والاهمال، فذهب الى بيروت ليدرس، فرأى عالما اخر لم يكن يعرفه. فكانت رحلة اكتشاف الذات من الطفيلة في الجنوب الى بيروت بحداثيتها وبمعاصرتها وبحريتها وبجنونها وبثوريتها وبإنكساراتها وبهزائمها. فقد حصل على بعثة للدراسة في الجامعة الامريكية ببيروت. وهناك بدأ يشق طريقه نحو بداية العمل الوطني . ولكنه قطع دراسته في بيروت ودرس في جامعة دمشق. وكان ما يزال في بداية حياته مع المرأة التي أحبها فأورثها مجد الذكرى ومرارة الرحلة الشاقة وحيدة شجاعة مع طفلين صغيرين. كان ما يزال في بدايه الحلم ، ولكن السياسة جذبته وأخذته ولم تعده.

ومثلما كان للنكسة والهزيمة تأثير حاد على صلاح جاهين في مصر، فقد أنعكست بالحزن والالم والتمزق الداخلي على سبول . ولكن ضياع الحلم الذي حصل في اكتوبر في عام 1973 عجل بكتابة النهاية. فرحل تيسير سبول في الخامس عشر من نوفمبر 1973 بطلقة من مسدسه في سيناريو يشبه رحيل خليل حاوي في بيروت في عام 1982.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق