الخميس، نوفمبر 4

رسّام من كوكب آخر


رسّام من كوكب آخر

قصة قصيرة

بقلم اياد نصار

* نشرت في مجلة أفكار الاردنية الصادرة عن وزارة الثقافة العدد 261 لشهر 10/2010


 رأيته جالساً في مكاني العتيد. ترددت قليلاً. فكرت أن أجلس في زاوية أخرى. أخذت أتلفت حولي باحثاً عن مكان آخر. شعرت باستياء. هذا مكاني المفضل الذي أجلس فيه كل مساء. مَنْ هذا ومن الذي أتى به؟ منظره ليس مألوفاً. كأنه مخلوق غريب قادم من كوكبٍ آخر. ألم يعجبه سوى مكاني؟ إنه متنفسي الوحيد. أهرب اليه من صخب الحياة في بيتنا، الذي صار كالسجن، وبؤس الحي الذي يذكرني دائماً بالكآبة. لا أظن أني أعرفه أو رأيته من قبل. يجلس مكاني على العشب الجاف، بجانب النافورة في منتصف الدوار، الذي يتوسط الطريق. ملابسه غريبة فضية لامعة تشبه ملابس رواد الفضاء. يلبس صدرية متقاطعة عريضة ذات أطراف مدببة، تخرج كثيراً عن نهاية كتفيه، ويضع فوق ذراعيه وساعديه أكماماً، تنتهي بقفازات سوداء تغطي نصف أصابعه، وفي ساقيه سراويل فضية كثيرة الثنيات. يلبس في قدميه حذاء رياضياً فضياً أنيقاً، وعلى عينيه نظارت سوداء ذات عدسات لامعة ورفيعة. شعره أبيض متموج، يميل الى الفضي، مصفف في خصلات متباعدة عن بعضها، ومرفوعة للاعلى والخلف. له شاربان أشقران عريضان تحت أنفه، ويمتدان على ذقنه حتى يصلان أسفل أذنيه. إقتربت منه وسلّمت عليه، وأنا أتأمل في منظره الغريب. نظر اليّ وابتسم. قلت له: "إنك تجلس في مكاني المعتاد". بدا عليه التأثر. أخذ يتمتم بكلمات لم أفهمها. لم أنتظر أن يشير اليّ بالجلوس، وجلست على العشب قريباً منه.


خرجت عند المساء الى الشارع العلوي، لأجلس على العشب بجانب النافورة على الدوار. كنت أشعر بالملل والحر الذي لا يطاق. بيتنا مثل صندوق من الاسمنت، الذي يصبح كالفرن في الصيف. بيت صغير معلق في منتصف سفح الجبل. درج طويل يمر من جانبه حتى يصل الى آخر الحي في الاسفل، ويصعد حتى يصل الى الشارع العلوي. عشرات من البيوت والطوابق الاسمنتية العشوائية المعلقة، تحيط بنا من فوقنا، ومن تحتنا، ومن كل جانب. يخالجني دائما خوف داخلي من مجرد التفكير بالامر. ماذا سيحصل لو تململت الارض من تحتنا، مثلما تفعل أحيانا حين تضجر من الصمت الابدي، أو تضج من تصرفات البشر فوقها؟! يتملكني احساس بالرعب، قبل أن أستطيع أن أطرد الفكرة من رأسي.هنا عشت طفولتي في منتصف السفح، وعرفت الحياة بين الادراج والجدران والبيوت المعلقة في الهواء. هنا عرفت أن البيت ليس سوى للمنام وممارسة رتابة الحياة اليومية. هنا النوافذ تطل على بيوت الاخرين، وترى وأنت في غرفتك أسطح منازلهم، وتسمع أصواتهم. ليس للبيوت أسرار هنا. حين قدمنا لأول مرة كنت صغيراً، ولكنني رأيت أن كل الساكنين على الادراج، من أمامنا، وخلفنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، وعن يميننا وعن يسارنا، قد أصبحوا جيراننا، وصارت حكاياتهم حكاياتنا، وهمومهم همومنا، خلال فترة قصيرة. يجمع بين الناس خيط واهٍ من الود، الذي أثقلته مصاعب الحياة وقلة الحيلة، حتى كاد أن ينقطع أحياناً. هنا مرّ الموت على حيّنا باستمرار دون أن يسمع به أو يراه العالم.


أبو راجي رجل وحيد عجوز ضخم الجثة، أقعده المرض. عندما كان يتحدث، كان يتصبب عرقاً، فيظل يمسح بمحرمته جبينه ورأسه الاصلع. إعتاد أن يزورنا كثيراً، ويروي بطولاته أيام الشباب. ولكن السكري أقعده طريح البيت. أرسلني أبي ذات يوم اليه، فبقي يروي لي سيرته. كان مع المقاتلين في جيش الانقاذ. لقد استبسل في الدفاع عن مدينته قبل أن تسقط. أحسست أنه لم يبق له في الدنيا سوى أن يعد الايام، قبل أن تأتي النهاية، التي لم تعد بعيدة. لا أظن أن المرض قتله ، بل النسيان.


وفي بيت جيراننا، الذين يسكنون خلفنا، كان هناك المسكين طلال. كم كنت أشعر بالأسى له. رأيته يسير ذات يوم على سطح بيت الجيران أمامنا. ليس هناك مكان يلعب فيه سوى الدرج وأسطح البيوت. كان يمشي تحت أوراق الدالية العالية، التي ارتفعت فوق الارض، حتى وصلت سطح الطابق الثاني. رأيته يلعب بالكرة، ويتعلق بالاوراق والاغصان. وقفت أراقبه وهو يلعب. لكنه ظل يمشي الى الطرف حتى أختفى من أمامي. يا الهي. سمعت صوت ارتطام بالارض. شعرت بهول الحدث، وركضت الى الشارع السفلي. هجم الناس عليه، ونقلوه الى المستشفى، وهو مضرج بدمائه، وقد انكسرت عدسات نظارته، وتهشم وجهه. توقع الناس في حيّنا ألا يفيق من غيبوبته. سقط من ارتفاع ثمانية أمتار، لكنه لم يمت. كان طلال مريضاً .. يظل يصرخ على النازلين والصاعدين الادراج. إعتاد أهله أن يحبسوه في غرفة، أو يشدون وثاقه الى حديد الشبابيك، حتى لا يخرج من البيت. قاسوا الامرّين لأجله، لكن ظرفهم كان سيئاً، فلم يستطيعوا تأمين ثمن علاجه. بعد أشهر افتقدته، فلم أعد أراه أو أسمع صوته. قالوا تعهدته جمعية لرعاية المعاقين، فأراحوا الحي منه وأراحوه من سقطة أخرى، كان يمكن أن تكون فيها نهايته. لا أظن أن السقوط قتله، بل النسيان.


كم مررت أسفل الجبل في حيّنا، فلم يستوقفني المشهد في يوم ما. كنت أرى البيوت معلقة في الهواء كالصناديق متراكبة فوق بعضها، فأبحث عن بيتنا من بينها، فلا أستطيع تمييزه في كثير من المرات. أقف وأدقق النظر، وأنا أبحث عنه فلا أراه. كم تبدو متشابهة ومتلاصقة ومتراتبة فوق بعضها كمدن الصفيح. هنا كانت البداية، وهنا ولدت المدينة ذات يوم. لا أعرف في أية سنة سكن الناس في هذا الحي، ولكنه أقدم أحياء المدينة، ومن أكثرها فقراً. في كل صندوق إسمنتي يوجد قصة تثير الحزن، يمرّ عليها الموت بكل صمت.


نظرت الى الرجل الفضي، وأنا أتعجب من منظره. لاحظ استغرابي، فابتسم وقال بلكنة ثقيلة: "لا تخف أنا إنسان مثلك". قلت له بانجليزتي الركيكة: "لست خائفاً ولكني لم أرَ إنسانا يلبس هكذا من قبل". قال: "أنا فنان أحب الرسم والسفر. أحب أن أرسم كل المدن التي أسافر اليها". سألته: "ومن أي البلاد أنت"؟ "من ألمانيا. أعيش في برلين. هل تعرفها"؟ "سمعت بها، لكني لم أعرف في حياتي سوى هذا الحي". قال: "أعجبني الحي كثيراً وقررت أن أقيم هنا عدة أيام لأرسم بيوته في لوحاتي". وسحب حقيبته الجلدية التي كانت الى جانبه واستخرج دفتراً كبيراً. فتحه وأعطاني إياه. أخذت أقلب أوراقه. كان فيه استكشات ورسومات بالفحم الاسود لبعض بيوت حيّنا وطرقاته وأدراجه، وكانت هناك رسومات للحي وعماراته عند سفح الجبل. قال: "غداً سأضع منصباً ولوحة وفراشي الرسم والالوان، قرب الشارع عند أسفل سفح الجبل، وسأرسم واجهة الحي. لماذا لا تأتي وتساعدني وتتعلم الرسم"؟ قلت له: "ربما، ولكنك لم تخبرني سبب إرتداء هذه الملابس والالوان". قال: "إذا أتيت غداً سأخبرك".


في تلك الليلة لم أستطع النوم من شدة الحر، وبقيت أفكر في ملابسه وألوانها وأشكالها، وأنا أضحك في سري من غرابتها، وأتعجب ما الذي أعجبه في حيّنا حتى يتوقف ليرسمه. وقلت في نفسي إن هولاء الغربيين لهم عادات غريبة. ما الذي يفعله هذا الرجل الغريب في حياته؟ يدور على البلدان ليرسم مدنها؟! وهل هناك ما هو جميل في حيّنا ليستحق رسمه؟ لم أفهم كيف أعجبته واجهات بيوتنا، وعماراتنا، التي تعطي شعوراً بالكآبه والبؤس وضنك الحياة، التي تقتل الانسان قبل أن يأتيه الموت! ربما أعجبته لأنه لم ير مثلها في بلدته؟ ولكنه لو عاش فيها لربما غير رأيه؟ لو مرّ في طرقات الحي، وشمّ رائحة المياه، ومساحيق الغسيل وأكوام النفايات فوق الحاويات وتحتها .. لو رأى السيارات القديمة، التي عفا عليها الزمن، وعلى حوافها من الخلف عبارات تدفع الحسد، لربما لم يفكر في رسمها؟! لو رأى كيف أصعد الادراج لاهثاً، أو رأى كم هي متهالكة ومعتمة البقالة التي ما زالت على حالها، وأبو جميل ينهر الصغار، حتى يدفع أهلهم له الحساب.. لا أذكر متى توقف ذهني عن التفكير في الامر تلك الليلة، ولكن تراءت في خيالي صور عن مدينته، التي حدّثني عنها ووصفها لي. في الصباح، حين فتحت عيني، سمعت صوت أبي منادياً عليّ، فعرفت أنني ما زلت هنا!


لم أستطع أن أنسى التفكير في ذلك الزائر الغريب. بقيت ملابسه ورسوماته تلح عليّ كي أذهب وأراه. لقد أثار فضولي، ولم استطع أن أفهم لمَ يهتمُّ بحيّنا الى هذه الدرجة؟ هل هناك أشياء يراها ولا نراها نحن؟ نزلت الادراج الطويلة حتى وصلت أسفل السفح. كانت الدنيا قبيل الظهر. كان قد نصب اللوحة وأعد الفراشي والالوان، وجلس على حافة السور، وقد تجمع بعض الناس حوله وهم يضحكون. كان هناك رجل يحاول أن يلتقط صورة للجالسين. جلس الرسام في الوسط، ومن حوله الى اليمين جلس رجل عجوز يلبس ثوباً وحطة وعقالاً، وهو يبتسم، وقد بدت عليه آثار الزمن القاسي، والى اليسار جلس رجل أصلع الرأس، وقد اسمرّت بشرته، وتشققت يداه، واخشوشنت. وفي الجانب الاخر جلس رجل بدين يلبس ملابس رثّة، ومن خلفهم كانت صورة الحي تثير الأسى. تقف بنايات الحي كناطحات سحاب توشك أن تتداعى. أعدت عليه سؤالي عن سبب إرتداء ملابسه الغريبة فلم يجب. بعد هنيهة نبس ببضع كلمات: "سأخبرك عندما أنتهي من رسم اللوحة". كان بارعاً في نقل المشهد الى لوحته. ولأول مرة في حياتي أخذت اتأمل تفاصيل مآسي المشهد أمامي. بقيت طيلة الوقت أتأمل في لوحته، وهي تتشكل لحظة بعد أخرى، وأساعده أحيانا في خلط الالوان. كان يتجمّع بعض الناس حولنا أحياناً، يتأملون في اللوحات، ثم يذهبون. بعد أربع ساعات إنتهى من رسم اللوحة. ابتعد قليلاً، وراح يتأملها، ويضيف بعض الرتوش هنا وهناك. ثم وضع توقيعه على اللوحة. لم أصدق ما رأيته وفغرت فمي دهشة. نظرت اليه كأنما أبحث عن إجابة، فأومأ اليّ برأسه كمن يقول نعم. فتحت ذراعي، وعانقت (طلال) والدموع تنهمر من عيني.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الاردني سلام كنعان




هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف2:46 ص

    سلا م عليكم
    اهلا اخ اياد قصة جميلة بالفعل تجسد لنا شر يحة من مجتمعنا العر بى المنسى و المهمش للاسف فى المقا بل المجتمع الا و ر بى الا نسا نى بالخصو ص و نها ية مفاجاةو غير متو قعة كنت ا تمنى ا ن يتلقى طلال هدا المصير فى بلد ه هد ا سو ف يتحقق ما دا م هنا ك ا مل اليس كد لك ا خ ا يا د. شكر ا لك فر يدة

    ردحذف
  2. عزيزي الاستاذ إياد

    جميلة هذه القصة وتنطوي على الكثير مما يمكن قوله... الملفت تلك الحيادية في الطرح، الراوي لا يقحم نفسه في التشخيص أو التحليل نيابة عن أحد
    والخاتمة غير المتوقعة

    تناول باقي الفنون كالرسم والموسيقى وغيرها... يثري القصة وينفث فيها روحا اخرى تحتاجها القصة القصيرة لأستمرار هذا الجنس.

    تحياتي لك أستاذ إياد
    ناصر الريماوي

    ردحذف
  3. صديقي القاص المبدع ناصر الذي أحظى دائما بشرف زيارته وجمال حرفه على هذه الرقعة

    أنت تقرأ النص يا صديقي بعين ثاقبة وقدرة قاص متمكن على التحليل المكثف، ما يسعدني فعلا من خلال امساكك بالمحاور الرئيسة والاساليب التي تتشكل منها القصة.

    أرجو لك نجاحاً باهراً، ولقلمك استمرار العطاء. هل هناك من إصدارات جديدة لك؟ أو منشورات في الصحف والمجلات؟

    مع محبتي
    اياد

    ردحذف
  4. ناصر الريماوي10:23 ص

    شكرا للسؤال أخي الأستاذ إياد

    كان آخر ما نشر لي هو قصة جاليريا في مجلة افكار السنة الماضية، انا أنشر على المدونة والفيسبوك هذه الأيام وقليلا ما اكتب، انتظر إصدار الطبعة المنقحة الثانية من مجموعة جاليريا عن دار فضاءات، كانت الأولى عن دار تالا ووزعت في سوريا فقط، النشر في الصحف والمجلات يتطلب متابعة وتواصل وانا أفتقد للأمرين معا لوجودي خارج الوطن، ولثقل مهمات العمل هنا
    أشكر لك هذا الاهتمام من كل قلبي
    ناصر الريماوي

    ردحذف