الأحد، مارس 30

الوهـم

الوهـــم
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

دائرة ذهبية عريضة تتلألأ راقصة برشاقة فوق صدر الامتداد الازرق .. أوتار الماء تهتز في هدوء .. أنغام سيمفونية دائمة تتلاشى في الفضاء .. وأصابع العازف الرقيقة ترتفع لتتعانق في السماء، تتوحد في بقعة صفراء لامعة .. سرب من النوارس تقترب من السطح .. ثم تحلق وهي تشدو، وتخفق الاجنحة مع رجع الصدى.

الصباح قد ولد لتوه .. أمواج خفيفة تتراكض قادمة من الافق البعيد، تعلن موتها عند قدميه الغاطستين على الشاطيء بينما هو متكوم كتمثال لم يدع منه الزمن غير نصفه الأسفل، وأتى على كل تفاصيله. بدا كصخرة صماء قبل أن تلمسها يد النحات. كان رأسه يتكيء على يده كالمفكر.. عيناه تحدقان في لوحة السماء البعيدة على سطح الماء. لم يكن يبدد السكون المطبق الذي يطوي المكان سوى انكسار الامواج القادمة من بعيد وابتهاج النوارس.

يا لذاكرتي القوية! لم أكن أعرف أنني امتلك ذاكرة كهذه من قبل. تستعيد كل هذه التفاصيل بدقة. كانت تثيرني أقوالهم عن الذاكرة. حاولت كثيرا في الايام الخوالي أن أخفف من بلادة ذاكرتي .. لكن بلا جدوى، فهجرت التفكير في أمرها. قنعت بما لدي بعد عذاب طويل. أدركت أن كل انسان يولد بواحدة لا تعرف التغير. لكن يبدو أن الوهم قد عاد من جديد. انها ليست قوية .. فليس هذا سوى المشهد الاخير في حلمي. نعم .. قبل لحظات قليلة!

ضوء خافت ينبعث من ركن غرفة الفندق الغارقة في الظلام. لم تنفع معه كل محاولات اطفائه. حملق فيه قليلا .. تمتم بكلمات مبهمة يلعن طريقته في الاعلان عن وجوده. انه يفسد عليه النوم كل ليلة منذ أن وصل المدينة .. يقطع عليه حلمه احيانا .. يثير قلقه المتوطن .. يفسد جهده الشاق في اخماده. نهض من فراشه ..ضرب مفتاح النور بعنف، اشتعلت الانوار. ضربها ثانيةً فماتت مرة اخرى! الا ذلك الضوء الخافت! تردد في الغرفة صدى أصوات صاخبة. وجد نفسه يزيح الستارة المضطربة قليلا. لقد أصبحت عادة عنده .. لا يعرف لماذا يتجه الى الستارة دائما كلما قطع هذا الضوء نومه. حاول مرارا أن يقتل هذه الطقوس لكنها تبدو قد اصبحت عملا غريزيا .. ثم أنه لا يستطيع أن يأوي الى فراشه الا اذا ترك الضوء مشتعلا!! من العبث تفسير التناقض في حياتنا! لقد اصبحت عبثية ومتناقضة أحياناً الى حد لا ينفع معه التفسير والمنطق! يراودك شعور ان التفكير في التناقضات يزيد القلب مرارة على مرارته، وأن البحث عن ملاذ يريح العقل كمثل البحث عن المستحيل. لقد ازداد تبرمه من الحياة هنا مؤخرا. في كل مرة يتذكر تلك السنوات التي قضاها بعيدا عن هنا، يشعر انه يحلم!

نظر الى السماء. كانت مزيجا فريدا من السواد الموشح باللون الفضي .. لقد التهمت نصف القمر، ولم تترك للدنيا سوى نصف يصارع لاجل البقاء! استهواه المشهد. أحضر مقعدا ووضعه في مواجهة النافذة. راح يتأمل فيه .. امتدت خيوط فضية بين عينيه وبين ذلك النصف اللامع. أحس أن عالما آخر غير الذي عرفه يأتي في الليل .. كل شيء في الوجود يبدو مختلفا جديدا. شعر أنه قد تحرر من كل ما يحيط به، وانصهر في قلب العازف الصامت المتألق.

أصوات صاخبة ترددت مرة اخرى في غرفته، قطعت عليه تأمله. أحس بأنه ما يزال أمام النافذة. نظر الى ساعته.. لم ير شيئا.. أخرج يده من نافذته المطلة على القمر.. مد رأسه قريبا من الساعة. ضوء ساطع ينبعث من الطابق السفلي.. عادت الاصوات الصاخبة تقرع أذنيه .. انطلقت ضحكات عالية أثارت غضبه، فأغلق النافذة واسدل الستارة. همْهَمَ بصوت لم يسمعه.

لقد كانت الامور هادئة في الزيارة الماضية قبل سنة تقريباً .. كان الفندق يقبع في ركن بعيد منعزل من المدينة تحيط به الاشجار والمساحات الخضراء .. وكان يجد متعة في الجلوس في غرفته ليراقب الميناء من بعيد. كان بعيدا عن وسط المدينة .. راق له الهدوء والبعد عن صخب المدينة .. تذكر أن المبنى التجاري الملاصق للفندق كان مجرد رمل وحصى وجدران خشنة .. كان يثير في نفس نديم الرهبة والشعور بالعزلة في الليل عندما كان ينزل من غرفته ليتمشى حول المكان. غير انه كان يرتاح للصمت الذي يسوده. انه المكان الوحيد الذي يذكره بالهدوء في هذه المدينة. المدينة كلها مولعة بالضجيج والصراخ وابواق السيارات والضوضاء. تعود الناس فيها على حياة الفوضى واذا لم يسمعوا هذه الاصوات فانهم يخترعونها. لقد اصبح سائقو السيارات مدمنين على استخدام الابواق، واذا لم يجدوا سببا لذلك فانهم يطلقون زعيق البوق لاثبات الوجود لمن حولهم! لا يوجد مدينة تعكس مظاهر الانانية والفوضى مثلها، والاغرب ان سكانها يعتبرون أنفسهم أنهم خير من تسعى به اقدام وسيارات في العالم! يعتقد الناس انهم يموتون اذا اصيبوا بامراض او وقعت لهم حوادث، ولكن موت الروح في اجواء الصخب الاناني العنيف لا يعرفه احد. احيانا تبدو المدينة هادئة جميلة تثير الابتهاج، وفي أحيان أخرى تبدو جسما يعيش بلا روح!

ترددت الاصوات المدوية في أرجاء الغرفة فقطعت تفكيره .. قام الى طاولته .. أشعل سيجارة .. أزاح الستارة قليلاً .. كان القمر متوهجاً وقد بدأ يهبط نحو الافق المظلم. عاد الى فراشه مرة أخرى.. أخذ ينفث الدخان في قلب الظلام القابع كفيلسوف يصارع لاخراج فكرة من رأسه.. تململ في الفراش، فأصدر السرير صريرا كإنسان يكتم نشيجه. لم يجد شيئا يثير اهتمامه أو يحرك نفسه الخاملة. أخذ يستجمع الصور الباهتة في ذهنه بصعوبة: " حافلة تمتليء بمجموعة من الشباب تنهب الطريق نحو خليج العقبة .. أغاني الشباب والفتيات الذين تكدسوا في نهاية الحافلة تتردد عاليا .. عدد قليل من الشباب ممن ينفرون من هذا اللهو والصخب تناثروا في المقاعد الامامية، يحدقون في الاشجار المترامية على جانبي الطريق .. ويراقبون السيارات القادمة من الاتجاه الاخر.

كان الجو صافيا والحرارة معتدلة ، وبدأ البحر الواسع يقترب اكثر فأكثر ..أخذت العيون تراقب تلألؤ المياه التي تحتضن الشمس البرتقالية. نزل الجميع في الفندق الذي يقف مبتعدا قليلا عن نهايات الامواج المتراكضة .. نشر الظلام أستاره رغم الاضواء الكثيرة التي تناثرت على الشاطيء .. جلس الشباب والفتيات وهم يضحكون ويتمازحون ويعلقون بشكل عفوي ساخر على بعضهم بعضاً. حصى عديدة كانت تنطلق الى المياه فتولد دوائر صغيرةعلى السطح .. تتسع ثم لا تلبث أن تتلاشى. انقضت ليلة جميلة كان ينتظرها هذا الفوج الممتليء حياة ونشاطا باشتياق.

مع بداية الصباح التالي كان الجميع يستقلون الحافلة استعداداً للجولة .. مقعد فارغ أثار الانتباه .. تلفت الشباب الى بعضهم .. قالوا لا بد أن واحداً لايريد أن يأتي معنا .. انطلقت اصوات داخل الحافة .. تشابكت مع بعضها ثم انطلقوا .. وبقي المقعد فارغا.

على الشاطيء الذي بدأ يستقبل أشعة الشمس تكوم شاب قد استغرق في تأمل عميق. المكان خال من صدى الحياة البشرية.. وليس سوى هذا الذي يشبه صخرة سوداء من صخور الخليج .. كانت عيناه تراقب صورة الشمس التي تهتز مع حركة المياه حينا وحينا اخر تلاحق النوارس وهي تخفق بأجنحتها .. تقترب من السطح .. تصغي الى موسيقى الامواج .. تعانقها ثم تطير باتجاه الشمس".

بدأ ظلام الغرفة يتسلل الى الخارج ببطء .. اشعة الفجر الذي أعلن عن ميلاده أخذت تجد طريقها عبر شق الستارة .. بدأت ملاح اشيائه المتناثرة في الغرفة تظهر شيئا فشيئا. اشعل سيجارة ثانية ثم استدار ناحية الجدار الملاصق للسرير .. لم يكن يريد مشاهدة موت الظلام البطيء! كانت تغلف وجهه مسحة من حزن، وفي جفنيه بعض الانقباض.

ملأت أشعة الشمس أرجاء غرفته .. انكشف ملامح محتوياتها تماماً .. كل شيء بدا في غير مكانه الطبيعي هكذا أحس .. الا اللوحة المعلقة على الجدار .. كانت تثير احساساً غريباً بمدى كآبة الفنان.

جفل فجأة من على سريره .. لقد دوى صوت طرقة عنيفة مفاجئة في الجانب الاخر من الجدار .. هدر صداها في أذنيه كالرعد، فأحس لها بقشعريرة في بدنه. كان الدوي على وشك التلاشي حينما هدرت طرقة اخرى .. سمع اصواتا في الشقة المجاورة.. رمى بنفسه على الجدار وراح يضرب بكفيه، لكن احتجاجه ضاع في حمّى الطرق. بدا الامر غريبا وخاصة في الفندق. ولكن لا مجال للمنطق في عالم من الفوضى!

بعد قليل توقف الصوت، لكن أعصابه بقيت متوترة متشنجة .. ونفسه منقبضة حذرة .. يتوقع أن يدوي الصوت مرة أخرى في أية لحظة. مر وقت قصير وهو متأهب، لكن الصوت بدا كأنه قد خمد. نفث دخان السيجارة بقوة وهو يتنفس الصعداء. مشى نحو النافذة .. أزاح الستارة .. دخلت الاشعة الى الغرفة بقوة.. أخذ ينظر الى الشارع .. رفع بصره للسماء .. شعر أنها مختلفة .. ليست هي التي احتضنت القمر ليلة الامس .. أدار بصره هنا وهناك .. لعله كان يبحث عن بقايا القمر .. لم ير غير الشمس .. لم يستطع ان يحدق فيها .. فعاد يتفحص الشارع .. استرجع وهو يتأمل الشارع الذي بدأت تدب الحركة فيه صورة صديقه مرسومة هناك .. تذكر جمال الذي كان كالفيلسوف دائم التذمر من هذه المدينة القاتلة كما كان يسميها، وسخريته من عبوس الوجوه وتجهمها الدائم التي تثير الاحساس بالضيق والمرارة والاثم! ما تزال قصة جمال تثير في نفسه التساؤلات. كان في قمة عطائه وكان دائم التوهج، غير أن أحاديثه لم تعد تناسب هذا العصر. فكان الاصدقاء يهزون رؤوسهم بالاعجاب ويضحكون فيما بينهم!

أحس بوطأة الحزن المكتئب الممزوج بالامل في صدره .. أخذت ذكريات جمال وعاداته وابتعاده عن قلب المحيط الانساني الهادر تمر من امام عينيه مثل شريط سينمائي. كانت لقاءات الاصحاب مستمرة فلا يمضي اسبوع دون جلسة في المقهى حين يصل جمال ومعه اخر الصحف والاصدارات وهي متجعدة بين يديه والكتب قد تمزقت اغلفتها، ومع الدخان المتصاعد ورشفات الشاي تتصاعد الكلمات ويتحول كل حديث الى جدل سياسي مقيت! صار المكان شاهداً على لقاءاتهم الدائمة حول ذات الطاولة في تلك الزاوية العتيدة. ذات يوم وهو قادم الى هذا المكان لاحظ أن هناك عدداً كبيراً من الناس متجمهرين .. اقترب منهم يريد ان يستطلع الامر بذهول .. كانت الشمس في الاعلى ترسل اشعتها بكل بهاء وتألق على الرؤوس التي احتشدت .. نفذت بعض الاشعة من بينها .. فلمعت قطرات الدماء كقطع الزجاج المهشم. كان جمال على الارض يودع الحياة بابتسامة حزينة.. كتم نشيج بكائه فنزلت دمعة.

أحس بالاختناق .. شعر بغشاوة قاتمة تتشكل أمام عينيه الغائمتين.. رأى جدران الغرفة تقترب منه كأنما تريد ان تطبق عليه. وملامح الوجود خارج النافذة تتداخل في بعضها.. الشمس التي تصعد الى أعلى السماء رآها تتحول الى بقعة سوداء كبيرة.. دوت في أذنيه أصوات هادرة من كل صوب .. أخذ يفكر في الهروب من هذا السجن القاتم الذي يريد أن يبتلعه. غير ملابسه بسرعة متناهية .. صفق الباب خلفه وهبط المصعد مسرعا الى بهو الفندق .. ما تزال اصوات تطن في أذنيه .. اسرع أكثر .. خرج من الفندق الى الشارع .. ازدادت حدة الاصوات .. دوّى صوت بوق سيارة يصم الآذان.. خطوط سوداء ارتسمت على الشارع. صاح السائق يشتم ويلعن بينما غاب وسط البشر .. كانت حياته مسألة لحظة . اخذ يركض ويملأ رئتيه هواء من شارع الى اخر كالهارب الذي تطارده قوى خفية. بقي يتلفت هنا وهناك. شعر بالضياع وهو يبحث من شارع الى اخر ومن زاوية الى اخرى. وفجأة أشرقت أساريره بالامل والتمعت عيناه تحت ضوء الشمس. كان الفوج منهمكا بالنظر الى واجهات المحلات واطلاق الضحكات .. ندت عن شفتيه ابتسامة وهو يلوح لصفاء وحسام.. كان الشباب يلبسون القبعات الملونة تحت اشعة الشمس الحارقة . تباطأت خطواته اتسعت ابتسامته.. ظهرت اسنانه البيضاء.. غمز صفاء بعينيه وهو يبتسم. توقفت .. ندت عنها ابتسامة .. أخذا يسيران معا .. كان يلتفت فجأة بين حين وأخر ليختلس نظرة الى صفاء ، فتلتقي عيونهما في ضحكة خجلى .. ثم اختفيا في زحمة الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق