الثلاثاء، مارس 1

نساء العتبات بين اشكاليات النقد السياسي والبناء الروائي


 


"نساء العتبات" للروائية العراقية هدية حسين
بين اشكاليات النقد السياسي والبناء الروائي

إياد نصار

* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم الثلاثاء 1/3/2011

بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية التي امتدت بين عامي 1993 و2010 تأتي رواية "نساء العتبات" للروائية والقاصة العراقية هدية حسين في سياق مهم، ليس على صعيد طرح قضايا المرأة وحسب، ولكن ضمن معالجتها بمنظور تحليلي لجملة من المشكلات الانسانية والاجتماعية والسياسية التي تورّثها الديكتاتورية أولاً، وثانياً باعتبارها شهادة توثيقية تمتليء بصور الحزن والموت والخراب، وتؤرخ لمرحلة حاسمة من تاريخ العراق المعاصر، وتطرح في ثناياها عواقب الاستبداد السياسي وويلات الحروب، التي تدمر النسيج الاجتماعي، وتفتك بالبشر، وتهدم الاحلام، وتضع الناس في تقويم الزمن الخطأ، ليدفعوا الثمن من حياتهم ومستقبلهم، وتفتح الباب على عذاب الهجرة والنفي والغربة. تلخص الرواية رغم صفحاتها القليلة - 210 صفحات من القطع الصغير- مأساة العراق "بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة.. الحروب، الخوف، عسكرة الحياة، رعب الموتى على ذويهم، سوق الرجال الى جبهات القتال، وموتهم أو عودتهم معوقين، أو فقدانهم". واذا كان من خصوصية للرواية فهي انشغالها بالتعبير عن جوانب شتى من بؤس المرأة تحت وطأة الحرب وتداعياتها وتأثيراتها النفسية العميقة على المرأة العراقية التي لا تجد خلاصاً، لا قبل الحرب ولا بعدها.

يثير عنوان الرواية مثلما يثير غلافها الكثير من التساؤلات. فمن هن نساء العتبات؟ وهل قررت هدية حسين، التي طالما طرحت قضايا المرأة في أعمالها دون أن تتبنى خط التوجهات النسوية في الادب، أن تغير اتجاهها؟ تساؤلات لا بد منها. ولكن تبقى صورة الفتاة ذات الملامح الطفولية الغامضة حاضرة في الذهن، لنكتشف أنها تستولي على أحداث الرواية بقصتها؛ أنها (أمل) الضحية التي ماتت صغيرة وتركت لغزاً خلفها، وهي (أمل) بطلة الرواية التي تعيش معاناة، تذكّر بمعاناة خالتها التي رحلت وأورثتها اسمها.

تستحضر العتبات في الذهن رموزاً ومعانٍ كثيرة، وتكتسب مستويات متعددة من التوظيف في الرواية. العتبات مرادف للقصص المغمسة بالوجع في البيوت الفقيرة، والزقاق الموحلة، والاماكن الكئيبة، وبوابة للدخول الى عالم الخيبة وسوء الطالع والمعاناة، ورمز لعالم النساء المهمشات اللواتي يضحين بكل شيء لأجل رجل مفقود، يحلمن أن يعود ذات يوم. وهي التجسيد الحي لصور تعبيرية من الحرمان والفقدان والانتظار، والنافذة التي نطل منها على المشهد: منمنمة من قهر وخوف ضمن لوحة فسيفساء أوسع تشمل الوطن كله. وفي مستوى آخر، تصبح عتبات عصر جديد يحمل معه الخوف والدم ودمار الحرب المادي والنفسي.

تحمل كل واحدة من نساء العتبات في ذاكرتها قصة بؤس. تتعدد القصص وتفاصيلها، ولكنها تؤكد في النهاية حقيقة مفادها أن المرأة ضحية كل مغامرات الرجل، بدءأ بالحرب وانتهاءً بأوهام حب الجسد. تدفع كل امرأة في الرواية الثمن من عمرها وأحلامها وحريتها، وترهن نفسها ومصيرها الى رجل، لكن الرجل "الحلم" لا يأتي، وهكذا تموت روحها قبل أن يموت جسدها. هناك أمل وجمّار وفطومة وصفية وأم عدنان وصبرية، وغيرهن، والاسماء لها في الرواية دلالات ترميزية عالية.

تؤكد حكايات نساء العتبات، كما ترى البطلة، الحقيقة المرة: لقد حوّل النظام بحروبه البلد الى سجن كبير ليس فيه سوى النساء البائسات والرجال المفقودين: (جبّار) - زوج أمل والضابط في الحرس الجمهوري- اختفى في الحرب ولم نعد نسمع أخباره، وأبوها (مصطفى) اختفى منذ سنوات طويلة خلال الحرب العراقية الايرانية، واختفى (زهير) المكلف برعايتها أثناء هروبها الى عمان عن مسرح الاحداث، ومات (ماجد المرهون) زوج خادمتها جمّار، وقتل (مريوش) زوج أم عدنان بصاروخ سقط على منزلهم، ومات ابنها في حرب الكويت، وقتل ابن فطومة الاكبر في الحرب، وأعدم الثاني لأنه رفض التطوع. واختفى المعلم أبو محمود لأنه وضع طبقاً لاقطاً على سطح بيته. وللسخرية لم يبق أحد من الرجال حياً الا المجنون! عاد من الأسر في ايران بعد أربعة عشر عاماً ليجد زوجته قد تزوجت أخاه!

يدرك القاريء منذ الجملة الاولى أنها رواية الحرب، وأن الحرب حاضرة فيها في كل تفاصيلها. فهناك اشارة في أول الرواية وآخرها الى سقوط التمثال في ساحة الفردوس، مما يستحضر في الذهن سقوط النظام عندما وصلت طلائع المارينز الى بغداد. بل إن الشخصية الراوية التي تسرد بضمير الأنا العليمة تستهل حكايتها بالحديث عن الهروب من بغداد الى عمان. وهكذا ترسم افتتاحية الرواية ملامح المكان والزمان، ولكنها ملامح ملطخة بالدماء وممزوجة بقصص الالم ومنذرة بالعواقب حين تختار امرأة أن تحيا خارج السرب.

تبدع الرواية في تجسيد بشاعة الحرب ودمارها وفجائعها وعبثيتها على نحو مؤثر. ولعل ما قاله والد أمل، الذي لا نراه في الرواية، وكان يعمل أستاذاً في الجامعة عندما أخذوه للحرب، ولم يرجع منذ ذلك الحين، هو أبلغ تعبير: "نحن حطب الحروب، وسنحترق بنارها لنضيء مجد الحكام الزائف".

تؤرخ الرواية لأيام الحرب الواحدة والعشرين حتى يوم التاسع من نيسان الذي سقطت فيه بغداد. غير أن عملية تأريخ الحرب، تتخذ في الرواية شكل العناوين الاخبارية، التي تبقى تظهر كل يوم. وإن تكن سمّتها الكاتبة "عناوين المحرقة الجديدة"، إلا أن هناك إفراطاً في توظيف الارشفة التاريخية، مما ينزع بالرواية نحو التقريرية. وعند تلك اللحظة تغيب القصة الاساس في الخلف لتفسح المجال لعناوين الحرب التي اتخذت خطاً أسود غامقاً لأن تبرز. وبالرغم من كل الاهوال التي تصفها الرواية، والاحداث العسكرية خلال أيام الحرب، وما رافقها من أعمال نهب وقتل وتشريد، والتي تؤرخ لها، إلا أننا لا نجد في طول الرواية أو عرضها كلمة واحدة تصف القوات الغازية بالمحتلة، أو تصف ما جرى بأنه احتلال، وتبقى البطلة أغلب الوقت صامتة لا تبدي رأيها فيما يجري.

تقوم الرواية على توظيف مواقف المفارقات والمتناقضات لابراز النقد السياسي وإدانة الحرب، حيث تصف الاحداث بأنها "أم الكوارث" في اشارة ساخرة من "أم المعارك" التي أطلقها النظام على حرب الخليج الاولى. ولعل قصة زواج أمل من الضابط الذي يكبرها بثلاثين عاماً هي إدانة للحرب التي أخذت الشبان للقتال، فلم تعد قادرة على التواصل مع من هم في مثل سنها، لأنهم لا يستطيعون منحها الامان أو الحلم. وحينما عرض جبار على زوجته أن تقرأ الكتب في مكتبته، والتي تضم كراريس حزبية، وكتباً سياسية، فقد أعرضت عنها في رفض رمزي للحرب، وكل ما يمت للنظام بصلة.

غير أن هدية حسين تضع دائما كلمات النقد السياسي في فم شخصياتها باسلوب يحيل الشخصية الى مجرد حاملة أفكار ذات بعد رمزي، تنم أفعالها وكلماتها عن مواقف مفروضة على النص. أمل العروس التي تدخل قصر زوجها الذي بدا مثل الجنة بالنسبة لها، وبدلاً من أن تعبر في أول ردة فعل لها عن السعادة حينما رأت غرف القصر الباذخة، فإنها تترك كل شيء، وتنشغل في التفكير بقضية أخرى على نحو غريب: "إذا كان هذا قصر ضابط في الحرس الجمهوري، ترى كيف تكون قصور الرئيس المنتشرة في المدن العراقية؟". وحينما ترى النياشين والأوسمة التي حصل عليها جبار من معارك سابقة، لا يخطر في بالها سوى القول: "كم من الدماء سالت لكل قطعة من هذه القطع؟".

ورغم أن البطلة تبقى متحفظة وخائفة في أغلب الاحيان، فإنها تترك دور ممارسة النقد السياسي لخادمتها القروية البسيطة، التي لا تفلح في استدراج أمل، وتعوض الرواية عن ذلك فنياً بافراط جمّار في النقد الى حد كبير، في اشارة ضمنية الى أن هذا هو حديث كل الناس المقموعين الذين لا يتاح لهم التعبير في الوطن. تصفها أمل بأنها أكثر معرفة منها ببواطن الامور، لتعزيز مصداقية نقد جمار للنظام. تصبح جمار الصوت الناطق باسم البطلة، كأنما هو صوتها الغائب وجرأتها المفقودة. شخصية جمّار في الرواية لا قيمة فعلية لها على مسرح الاحداث سوى أنها حاملة أفكار بامتياز، تهرّب من خلالها البطلة ومن وراءها الكاتبة أفكارهما. تحمّل جمار النظام مسؤولية كل المآسي. وعندما تذكر جمّار كلمة عفريت، تتذكر أمل قول أمها "عفريت الحروب يتلبّس الرئيس، وسيضيع آلاف الاباء مثلما ضاع أبوك". ما يثير الاستغراب أننا لا نسمع منها ولا كلمة واحدة، تنتقد جهات أو أطرافاً دولية بعينها، ويلمس القاريء بوضوح أن الرواية تتبنى موقفاً دافعه تحميل النظام كل المسؤولية التاريخية، علماً بأن الرواية لا تذكر صدام حسين بالاسم نهائيا، بل تبقى تتحدث عنه بالاشارة والرمز.

تصر الكاتبة أن تمسك القاريء من يديه كي لا يضيع في تفاصيل الرواية! وكأنني بها لا تثق في قدرته أن يدرك تفاصيل الرواية دون تدخل منها في تقديم ايضاحات تفسد أحياناً انسيابية السرد. تقول الراوية "أمل" عن زوجها: "زوجي ضابط كبير في الحرس الجمهوري يدعى جبار منصور، يكبرني بثلاثين عاماً، تزوجته في ظروف عصيبة سأتوقف عندها لاحقاً"، وتقول في موضع آخر "تلك الطفلة هي خالتي التي ماتت قبل ولادتي، حينما كانت أختها صفية (أمي فيما بعد)". وعندما ترصد البطلة التحولات التي اصابت شخصيتها وحتى جمال وجهها، فإنها تتذكر رواية أوسكار وايلد "دوريان جراي". وبدلا من أن تدع القاريء يتخيل التشابه بين تحولاتها وتحولات دوريان جراي من الجمال الى البشاعة، أو يبحث عن الرواية ليقرأها ويكتشف أوجه التشابه، فإنها تترك السرد جانباً لتحكي لنا قصة دوريان جراي! كما أن الاسلوب الذي تروي فيه أمل حكاية "إلزا" في رواية "ابنة الحظ" لايزابيل الليندي يحمل الرغبة في شرح كل التفاصيل للقاريء، كي لا يضيع في اكتشاف أوجه الشبه بين الحكايتين. تقول بلغة ناقد في أثناء روايتها: "عن تلك الحياة المرتبكة القلقة تدور أحداث رواية "ابنة الحظ" لايزابيل الليندي، شخصيات كثيرة وعالم شائك وجدتني أسير فيه على خطى إلزا سوميرز"!

توظف هدية حسين في بنائها الروائي اسلوب الاخراج المسرحي والرواية داخل رواية. فالبطلة الساردة تجلس في سيارة الاجرة العائدة من عمان الى بغداد. تسترخي وتعزل نفسها عن محيطها، وتأخذ بمشاهدة الفيلم سيء الاخراج كما تقول الذي لا يراه أحد سواها. إنه شريط ذكريات حياتها بكل تفاصيله وأوجاعه وأحلامه المنهارة. وهكذا تبدأ مشاهد الشريط بالتوالي باضطراب مشوش يعكس ذاتها المتشظية من شقة في تلاع العلي في عمان، وهناك تبدأ معه أحداث رواية داخل رواية.

عثرت أمل بالصدفة على رواية في مكتبة في وسط البلد، وحين قرأتها اكتشفت أنها تروي قصتها وقصة عائلتها. لا تعرف كاتبتها ولكن جذبها ما كتب على غلافها حول معنى الحياة في وحدة وصمت. وبرغم الدقة في تصوير الشخصيات ونقل تفاصيل الاحداث، إلا أن كاتبة الرواية لم تجسد شخصيتها كما ينبغي لأنها لم تفهمها كما تقول. تحكي الرواية داخل الرواية عن المتغيرات التي مر بها العراق كالحروب، وتأثيراتها على الناس بما تنطوي عليه من الموت والفقد والمآسي وقصص الحب الخائبة.

يتواصل استخدام اسلوب الرواية داخل رواية، فقد حملت أمل معها من بغداد رواية "ابنة الحظ" الاكثر قرباً الى نفسها، والتي تحكي قصة الزا سوميرز التي أحبت خواكين مورييتا، على أمل أن ينقذها من البؤس، غير أنه يتركها وقد حملت منه، لمصير مجهول تلاقي فيه المرض والاحساس بالضياع والخديعة، مختبئة على ظهر المراكب، حتى يرسل لها الحظ حكيما صينيا يساعدها على الشفاء بالاعشاب. تبقى الزا تدور بين المدن في الغرب الامريكي وترى قصص المعاناة والاحلام الواهمة التي يبحث أصحابها عن الذهب، بينما تبحث هي عن (رجلها) الهارب بلا طائل، حتى تكتشف أنه قاطع طريق ومطلوب للعدالة.

يظهر بشكل واضح أوجه التشابه بين حكاية إلزا وحكاية أمل التي تهجر بؤس أسرتها، باحثة عن أحلام الغنى في الرجل الذي اختارته، فتجد نفسها غريبة منفية خارج العراق وحيدة، الاّ من خادمتها الحكيمة جمّار، مثل الزا والحكيم الصيني. توظف هدية حسين النص الروائي المقارن لتؤكد مدى معاناة المرأة في كل مكان، وانها في جوهرها واحد وإن اختلفت التفاصيل.

تسرد جمّار حكايتها على سيدتها في توظيف جديد للرواية داخل الرواية. يفيض حديث جمّار بالآم الغربة والحنين الى الوطن، ولا تقل مأساتها عن مأساة أمل. تبرز حكاية جمار تغلغل الظلم في الثقافة الشعبية، ومعاناة المرأة الضحية دائماً في كل نظم الاستبداد، واستباحة حقوق الرعية وانتهاك كرامة الانسان من قبل السلطة، سواء أكانت رئيس دولة، أم شيخ قبيلة.

ويعكس القلق المسيطر على تفكير أمل من تصرفات خادمتها جانباً من شخصيتها، التي تشربت مفهوم السلطة. تشعر بقلق لأن جمّار أخذت تنسى أصول التصرفات أمام سيدتها كما كانت تفعل في بغداد، وصارت ترفع التكلف بينهما. يعز على أمل أن ترى سلطتها تضمحل. وهكذا تدرك ما تفعلته الحرب والغربة من تحولات في العلاقات الاجتماعية. ومرة أخرى توظف الرواية قصة رواية "شعب يوليو" للكاتبة نادين غورديمر لتؤكد هذه الحقيقة.

أما من جانب آخر، وعلى صعيد البناء الروائي في نقطة تماس مع الاسلوب، فيلمس القاريء أن هناك قفزات سردية في الرواية، حيث يتم التجاوز عن مفاصل مهمة في الحبكة لأجل أن تكون كل الاجواء مأساوية وحزينة، وكأنه لا تولد في أجواء الحرب قصص للحب وما ينشأ عنها من تداعيات. فعلى سبيل المثال، هناك قفزة في السرد تختصر الكثير من الصراعات النفسية والعائلية والاجتماعية مما يمكن أن يجري أو يقال؛ فعندما توقف جبار بسيارته الفارهة ليقل أمل التي كانت تنتظر حافلة تأخذها الى الجامعة، ينتقل بنا السرد فجأة بعدها الى زواجها من جبار. هناك صراع درامي يمكننا أن نتخيل أنه قد حدث بينها وبين ذاتها، وبينها وبين أمها والاخرين، وخاصة أننا نعرف أن أمها لم تكن راضية عن العرس. كما تم اغفال جانب مهم آخر تماماً، وهو ظروف جبار، وخاصة أنه متزوج ولديه أولاد، وكان يمكن أن تضيء جوانب الصراع بين الواقع والحلم. كما لم تكرس أي اهتمام بنقل صور من حياتها الجديدة بعد زواجها مباشرة، لنلمس التغيير في حياتها، بل مرّت عنها مرور الكرام، لتثبت أن القصر كان مجرد سجن بالنسبة لها. فقد أهملت تلك الفترة من بداية زواجها، واكتفت بالقول: "ستخفت الدهشة بعد عدة شهور، وأعتاد على ما أرى، فلم يعد يبهرني شيء، بل صرت أرى بوضوح قضبان القفص الذي دخلته بإرادتي ورميت مفتاحه في بحر عميق".

وعلى صعيد آخر، أعتقد أن هناك اختزالاً للحدث في الرواية على حساب تحليل الشخصية التي تقوم به الشخصية ذاتها بطريق البوح المباشر. وما أعنيه هنا أن الاحداث عادة في الروايات تلعب دوراً مهما ودالاً للقاريء في فهم التحولات التي تطرأ على الشخصيات، وهو ما يسمى بتطور الشخصية من خلال التغيرات التي تطرأ على وعيها وتصرفاتها وأفكارها. غير إن التحولات التي تطرأ على شخصية أمل ونظرتها للاخرين ولمعاني الحياة المختلفة، نتعرف عليها من خلال حديثها هي عن هذه التحولات التي طرأت عليها، كعالم نفسي يحلل شخصيتها بدلا من الحدث. فبدلاً من التركيز على سرد الاحداث والمواقف والصراعات والتصادمات مع الشخصيات الاخرى، كزوجها وأمها، بما يتيح للقاريء أن يتلمّس بشكل شفيف غير مباشر طبيعة التحولات التي تطرأ على نظرتها الى هذه الشخصيات، أو مواقفها، نلاحظ أنها تنوب عن القاريء في تحليل هذه التحولات في شخصيتها!

ترسم الرواية تدريجياً ملامح شخصية أمل ونمط تفكيرها المختلف عن أمها وعن باقي النساء، اللواتي وقعن تحت وهم القناعة، والقبول بالامر الواقع، والاحلام التي تدور حول فقدان الرجال من حياتهن بسبب الحرب. لا تريد أمل أن تكون جزءاً من ماضيها أو مكانها الذي عاشت فيه، ولا أن تكون جزءاً من تاريخ أمها. ولهذا عندما ركبت سيارة جبار وهي تغادر بيتها قالت: "وداعاً لأوجاع الماضي".

تعيش بطلة الرواية في عالم من الصمت الذي تسمع فيه نداء روحها الداخلي، وتعيش مع شخصيات الروايات التي تقرأها، فهي "الضفاف الاكثر أماناً" بالنسبة لها! وتجسد لغة الرواية الانيقة صراع بطلتها النفسي بين قناعاتها وتمسكها بالجانب المادي الشكلي كما تقول عنه.

تبدع هدية حسين في تطوير شخصية البطلة الساردة. ونلمس منذ الصفحة المائة والتسع والعشرين، أي بعيد منتصف الرواية، تحولاً مهما في شخصيتها، ويبدو أنه مؤشر على عودتها الى الواقع. غير أننا نلاحظ أن هناك تسارعاً ملحوظاً في السرد في الصفحات الاربعين الاخيرة من الرواية، حيث نحس الرغبة الجامحة في الخروج من الصمت، الذي كانت تعيشه الى البوح المتسارع المتمثل في سرد تفاصيل الحياة اليومية وأحاديث نساء العتبات، حيث تسرد ماضي كل واحدة منهن!

تنتهي الرواية من حيث بدأت: تعود أمل مع جمّار عبر الطريق الصحراوي برغم المخاطرة الى بغداد. وقبل أن تغادر عمان تبيع خاتم الزواج في اشارة الى اختفاء جبار من حياتها. يتراءى لها أن وجه أمها يسير معها عبر زجاج السيارة. وهنا تصبح الام الملاك الحارس في اعلان رمزي عن عودتها الى بيئتها وتقبل أفكارها وتضحياتها. تطرح الرواية مسألة وهم الخلاص المادي الفردي، في تأكيد على فشل الحلول الذاتية في ظل الازمات الكبرى كالحروب.

يمثل المشهد الاخير من الرواية موقفاً رمزياً بالغ الاهمية يطرح التساؤلات بأسلوب تعبيري، حيث تقف أمل أمام خزانة السيوف ورؤوس الغزلان المقطوعة والمحنطة في قصرها المدمر، وتستذكر حكاية رواية "ابنة الحظ" حين وقفت الزا بجانب الراس المقطوعة وقالت: "انني الان حرة"، وتتخيل أنها تقف بجانب رأس جبار المقطوعة دون أن تستطيع أن تحس أو تصرخ أنها صارت حرة.

رابط المقال بجريدة النهار اللبنانية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق