الخميس، مايو 28

القوارير


القوارير
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

ظننت أنه أدرك كلامي القاسي الجمعة الماضية. قلت في نفسي ساعتها لن يعيدها مرة أخرى. لكن يبدو أنني كنت واهماً. يظهر أنني لم أفهم طينته بعد! جلست أنتظر قدومه بعد العصر. مرت أكثر من ساعة ولم يحضر.


- أين ذهب هذه المرة يا تُرى؟


تأخر كثيراً. طال انتظاري وتململي. مرّ وقت طويل وأنا أذرع البيت والحديقة داخلاً خارجاً. بان على وجهي الغيظ، وازدادت زفراتي حدةً كلما أمعن النهار في المغيب واقترب الليل. ليس عندي وقت لهذا العمل سوى اليوم. مرّت ساعات المساء ولم يحضر. هذه ليست أول مرة يتغيّب فيها عندما أريده. الى متى سأحتمل تهرّبَه من واجباته؟ أيظنني غافلاً عنه وعن ألاعيبه؟ لا يعرف أنني لا يمكن خداعه بهذه الاساليب. لكن هذه نتيجة طيبتي. شعرت بالكآبة من المرارة والانتظار. لم يعد عندي صبر على أكاذيبه. إزددت حنقاً عليه. حلّ الليل فيئست من حضوره. إنشغلت بعد قليل ونسيت التفكير في أمره. لم أتذكره الا في الصباح.


إستيقظت مبكراً على غير عادة. الجو بارد والريح تنخر مسامات جلدي. أتى الخريف قبل موعده هذه السنة. السماء رمادية ملبّدة بالغيوم، والشمس تطل من بعيد على استحياء وتغيب، مثل عروس تنوء بخفرها في ليلة زفافها. ريح باردة تلسعني، فأشعر أن لها دبيباً في مفاصلي. يداي متيبستان باردتان من حمل الحجارة. لا أريد أن أظلّ تحت رحمة قدومه. القيت بكاهلي على المقعد الحجري البارد، وصدري يعلو وينخفض من بقايا أنفاسي اللاهثة. إحمرّت راحتا يدي وصارتا كقطعة ثلج. وريقات مصفرّة تدور من حولي، وتقطع عليّ تركيزي، فأسرح معها. أتامل حركاتها المجنونة، قبل أن تتقصّف وتستقر في الزوايا. أفكر أننا يمكن أن نصير مثلها ذات يوم. تلقي بنا الاقدار في زوايا الحياة المنسية ننتظر النهاية في صمت وعزلة. إرتعشت من الفكرة.


أتجول حول البيت في الحديقة. ما يزال الندى على أوراق شجرة التفاح، وعلى الازهار في الاحواض. تأخر سليم. تشاغلت بنقل حجارة الحوض الكبير، الذي ماتت أزهاره الى خلف السور. رأيت القطة جاثمة تحت قوس المدخل في سكونٍ، مغمضةَ العينين، مقرورةً من البرد. جلست على المقعد الحجري المعتاد. كان فنجان القهوة ينتظرني! لا بد أنه أحضره خلال جولتي لينفد بجلده من نوبة غضبي! لكنه واهمٌ، فقلبي مليء عليه!


أشعلت سيجارة وأخذت أرتشف القهوة. تباً للحامدي! انها مرّةٌ باردةٌ ثقيلةٌ مثل ظلّه. عاد سليم الحامدي لعادته القديمة. نبهت عليه أكثر من مرة أن يحضرها ساخنة. ألا يكفي غيابه أمس؟ أخيراً لمحته قادماً نحوي بقامته الطويلة، ونظراته التي لا تجعلني أصدقه. حاولت مراراً أن أقنع نفسي بأنه يقول الحقيقة، لكن عينيه تلتمعان خبثاً كعيني ثعلب.


- أين كنت؟ منذ الصباح وأنا أبحث عنك؟


- كنت أحضّر القهوة


- وأين كنت يوم أمس؟


- في المستشفى. أنت تعرف أنه لا راحة لي إلا يوم الجمعة


- ألم أقل لك أن تنقّبَ الارض، وترتّبَ الاحواض، وترفعَ الحجارة؟ لا أطيق منظرها هذا.


- بلى، لكن يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي أبقى فيه الى جانبها


- ولماذا تأخرت بإحضار القهوة؟


- لم يبق لدي سجائر، فذهبت لشرائها، لكن البقالة كانت مغلقةً فانتظرتُ حتى ُفتحَ الباب. خشيت أن تطلب مني سيجارة، عندما تنقطع أحياناً منها، فلم أحبْ أن أخيّبَ أملك.


تسكتني إجاباته دائماً، وتحرجني، لكني لا أصدقه. كلما سألته أين كان يقول لي في المستشفى. أفكر أحيانا بطرده، لكن من أين لي أن أجد مثله. لقد تعودت عليه. رغم أنه يزوغ عندما أريده، إلا أن ما يشفع له أنه ينفذ ما أطلبه منه دون جدال. أصرخ أحياناً عليه، لكن إجاباتِه وأيمانَه التي يحلفها، ووقوفَه كالمسكين أمامي تجعلني أصمت. أعرف في قرارة نفسي أنه يكذب. عيونه الثعلبية تشي بذلك.


أطل وليد من البوابة الخارجية ومعه قوارير الماء. قلت لسليم بصوت خفيض: "لماذا لا تتعلم منه؟ كلما اتصلت به، يأتي فوراً. ألا تعرف أن تكون مثله؟". إبتسم سليم من غير أن يقول شيئاً، فأحسست في عينيه عدم رضى عن المقارنة! كان وليد يبتسم كعادته. شاب في بداية الاربعينات من العمر. مهذب للغاية. لا تدل ملابسه الرثة ولحيته النابته وشعره الاجعد عليه. عندما رأيته أول مرة، تفاجأت به. لم يكن كلامه اللطيف الذي كنت أسمعه عبر الهاتف يتناسب مع مظهره. يوحي صوته بأنه رجل أرستقراطي! كنت دائما أتعامل مع صاحب المكتب مباشرة. راعني مظهره عندما رأيته أول مرة بعد عدة أسابيع. إزددت إعجاباً به لأنه عصامي مكافح. ليت سليم يتعلم منه بدلاً من بلادته. كلما اتصلت به يقول: حاضر. وخلال ساعة تكون القوارير في البيت.


اتصلت به ذات يوم في الصباح كالمعتاد. صارت الدنيا عند العصر ولم يحضر. إتصلت بالمكتب شاكياً متذمراً. إقترب موعد وصول الضيوف، ولم يكن لدينا في البيت قطرة ماء! شعرت أنني في ورطة! ماذا سيكون موقفي إذا لم يجدوا ماءً يبلون به ريقهم! إتصلت به غاضباً. أسمعته كلاماً قاسياً، لكنه بقي هادئاً. قال إنه سيوصلها مهما كلف الامر. حضر الضيوف ولم يحضر، فاتصلت به، صائحاً مقهوراً من الغيظ: ماذا جرى لك؟ هل لك أن تتخيل الورطة التي وضعتني فيها؟ يبدو أنني حسدتك! لم يرد كلامي. ولم أكد أقفل الخط حتى سمعت الجرس. ضحكت من الموقف! قال إن السيارة تعطلت منذ الصباح، وهو يحاول تصليحها في ورشة السيارات. لكنها لم تعمل. فاضطر لتوصيل القوارير في سيارة أجرة حسب وعده. أحسست يومها بالندم.


وضع وليد القوارير، وأخذ قسائم الماء، وذهب. قلت لسليم: "إهتم بتنقيب الارض وإزالة باقي الاحجار ورش المبيدات ريثما أعود". كنت أراود نفسي على الذهاب الى الحلاق منذ أيام. ليس سهلاً أن تقضي نصف ساعة بلا حراك تحصي أنفاسك وأنت تتأمل المرآة أمامك أو الشعر المتساقط في حجرك. الحلاقة، مثل النوم، وقت ضائع بلا طائل. غير أنك في النوم تنسى مشاهد الرتابة اليومية وسيريالية البشر، أما في الحلاقة فتظل تتململ كالمسافر الذي ينظر الى ساعته أكثر من عدد دقائق رحلته الطويلة!


عندما رجعت، لم أجد سليم. تطاير الشرر من عيني. قالت لي زوجتي منى إنه ذهب الى المستشفى لأمر طاريء. أدركت أن سليم مصرٌّ على اللف والدوران ولن يستقيم. عجزت أن أجعل منه شخصاً مثل وليد في انضباطه. فكرت أن أطرده ساعتها. ولكن منى هدّأت من إنفعالي. قالت إن إبنته مريضة في المستشفى منذ شهر لاصابتها بفقر الدم. قلت لها لا أصدقه. هذه حجة يستغلها كلما أراد الخروج. أنا أعرف أنه يذهب لكي يعمل في مكان آخر. كيف يبقى هنا مقابل دنانير معدودة في الشهر، بينما يكسب مثلها في أسبوع؟! سليم آخر إنسان يرضى بالقناعة.


كنت في البيت عندما رنّ جرس الهاتف. إنه وليد. بادر بالاعتذار عن الازعاج. كانت نبراته تدل على خطب ما ألمّ به، وقد بدا عليه التأثر. قال إن إبنه الصغير انسكب عليه ماء ساخن واحترق ساقه. كان في حالة صدمة، وقد بدا الحزن والاضطراب في كلامه. شعرت بالاسى نحوه. قال إن المستشفى يريدون إجراء عملية له ولا بد أن يدفع مبلغاً تأميناً لنفقاتها. أخبرني أنه ينتظر حوالة مستعجلة من أخيه في دبي، وأنه بحاجة الى المبلغ ريثما تصل الحوالة. إستغربت من جرأته، فهذه أول مرة يفعل ذلك. لم أفكر بالامر كثيراً، فالملهوف يفعل أي شيء. شعرت أنه قد حان الوقت لأرد له جزءاً من طيبته. قلت له لا عليك. تعال الى البيت. حينما جاء بعد ربع ساعة، كان منظره يدل على البؤس. كان شعره منفوشاً، أشعث، ولحيته متموجة السواد بالبياض، وملابسه عليها بقع مصفرّة.


روى لي ما حدث، وعيناه تدمعان من التأثر. غبت قليلا وعدت والمبلغ في يدي وأعطيته اياه. لاح بصيص أمل في عينيه، وبوادر ابتسامة على شفتيه. تغير وجهه وأصبح أكثر إشراقاً. قلت له إذهب للمستشفى وطمني عنه. قال إنه سيتصل بي بعد عدة أيام لاعادة المبلغ.


في المساء رجعت الى البيت، وأنا ما زلت أفكر في وليد وابنه. شعرت بالألم. بعض الحوادث تصبح ذكرى مريرة مثل وشم لا يزول، يترك أثاره في زوايا القلب والذاكرة. عندما دخلت البيت كان الجو متوتراً. لم تخبرني منى شيئاً، لكنني رأيت في عينيها أمراً. سألتها فأخبرتني إن سليم جاء الى البيت وقد بدا عليه الخوف، وطلب مساعدة لأن إبنته في حالة خطرة. قالت: "لاحظ سليم ترددي في إعطائه شيئاً، لعلمي بما تقوله عنه، فاعتذر وخرج". حاولت تبديد حرجها مما حصل وقلقها: "لا تصدقي كلامه كثيراً. هذه حيلة أخرى من حيله".


صدقت توقعاتي. فلم يعد سليم منذ ذلك اليوم الى البيت. وأدركت أنه كان يحاول استغلال غيابي ليأخذ نقوداً قبل أن يختفي. شعرت بالحنق من تصرفاته. مرت أيام وأصبحت الحديقة مهملة. شعرنا بالضيق والحاجة الى من يعتني بها. وأخيراً ساعدني صديق في العثور على عامل آخر بدلا من سليم، فنسيت التفكير في أمره. مرت عدة أسابيع. تذكرت وليد. واستبد بي الانزعاج وخيبة الامل، فإتصلت به. وقبل أن أنبس ببنت شفة، بادر الى القول أن المبلغ كان لديه، وفي اليوم الذي كان يريد الحضور لاعادته، فقد صدم فتاة صغيرة وتسبب لها بعاهة، ووضعته الشرطة في الحجز نتيجة ذلك. شعرت بالتأثر الشديد والتعاطف معه، وحاولت التخفيف عنه.


في صباح اليوم التالي وانا أشرب فنجان القهوة وأقرأ الجريدة. رن جهاز هاتفي. كان المتصل صاحب مكتب المياه. سألني إن كان قد بقي لدينا قسائم لشراء قوارير المياه. قلت له نحن ندفع الاشتراك ونسجل على ورقة من غير قسائم. وتساءلت متعجباً: "ألم تتوقفوا منذ عدة أشهر عن إصدار القسائم"؟ تنهد بحسرة وقال: "هذا ما توقعته". قلت له: "أخبرني. يبدو أن في الامر شيئاً يثير الريبة". فقال إنه اكتشف أن وليد يستغل معرفته بالزبائن ويأخذ منهم نقوداً. صدمت من وقع كلماته. ثار بداخلي احساس بأنني واحد من ضحاياه، بيد أنني تذكرت ما قاله المرة الماضية من أنه كان قادماً لدفع المبلغ لولا الحادثة التي حصلت له. ضحك صاحب المحل وقال: "لقد مضى على هذه الحادثة أربع سنوات، وهو يستعملها ذريعة في كل مرة"! شعرت بالغضب. إعتمل الغيظ في داخلي. وقعت عيناي وأنا أستمع اليه على الخبر في الصفحة أمامي. غريب أنني لم أنتبه له. كنت مشدوداً للمفاجأة أفكر بوليد، فلم أنتبه طيلة الوقت الذي كنا نتحدث فيه الى الاعلان. كان نعياً عن "زهرة تذبل" وتحته إسم وفاء سليم الحامدي.

* اللوحة أعلاه للفنان المصري مكرم حنين بعنوان "عودة حورس"

السبت، مايو 23

مسرحية صندوق الرمل


مسرحية
صندوق الرمل The Sandbox

للكاتب المسرحي: إدوارد ألبي Edward Albee
ترجمة وتعليق: اياد نصار

مسرحية قصيرة لأجل ذكرى جدتي (1876-1959)

الممثلون

الشاب ،25 سنة، جميل الطلعة، قوي البنية ، يلبس ملابس السباحة

الأم ، 55 سنة، حسنة الهندام، إمرأة ذات شخصية قوية

الأب ، 60 سنة، رجل صغير، أشيب ، نحيف

الجدة ، 86 سنة، إمرأة صغيرة البنية، حكيمة، ذات عيون براقة

عازف الموسيقي ، ليس بعمر معين، ولكن من المستحسن أن يكون شاباً

ملاحظة: عندما ينادي الاب والام بعضهما بعضاً بأسمائهما خلال سير المسرحية ، يجب ألا يكون هناك أي إيحاء بالجهوية أو المناطقية. هذه الاسماء تخلو من العاطفة وتشير الى مرحلة ما قبل الخرف والخواء في شخصيتيهما.

المشهد: مسرح بسيط يحتوي فقط على الاشياء التالية: قريباً من الاضواء الامامية الارضية للمسرح وفي أقصى جهة اليمين، مقعدان الى جانب بعضهما يواجهان النظّارة. قريباً من الاضواء الامامية الارضية للمسرح وفي أقصى جهة اليسار يوجد كرسي يواجه يمين المسرح وأمامه حامل للنوتة الموسيقية ، وفي أقصى الخلف من المنتصف وبوضع عالٍ مائلٍ صندوق رمل للاطفال مع لعبة سطل ومجرفة، والخلفية هي السماء التي تتغيرمن وضح النهار الى سواد الليل الحالك.

في البداية، إنه وضح النهار. الشاب يقف على المسرح وحيداً خلف صندوق الرمل باتجاه أحد جانبي المسرح ويقوم بأداء تمارين رياضية. يظل يمارس التمارين الرياضية حتى نهاية المسرحية تقريباً. ويستخدم في هذه التمارين الذراعين فقط وتوحيان بخفقان واضطراب الاجنحة. الشاب هو في النهاية ملاك الموت.

تدخل الام والاب من يسار المسرح. الام أولا.

الام (تتحرك نحو الاب): حسناً ها قد وصلنا. نحن على الشاطيء.

الاب (متذمراً): أشعر بالبرد

الام (تجحده بضحكة صغيرة): لا تكن سخيفاً. إنها دافئة مثل قطعة الخبز المحمص. أنظر الى ذلك الشاب هناك. لا يعتقد أنها باردة. (تلوح بيدها الى الشاب) مرحباً.

الشاب (بابتسامة تحبب): مرحبا

الام (تنظر حولها): هذا سيكون رائعاً، ألا تظن ذلك؟ هناك رمل ومن خلفه ماء. ما رأيك؟

الاب (على نحو واهٍ): مثلما تقولين.

الام (بذات الضحكة الصغيرة): نعم. طبعاً مثلما أقول. إذن إتفقنا. أليس كذلك؟

الاب (ينتفض): إنها أمك وليس أمي.

الام: أعرف أنها أمي. ماذا تظنني؟ (فترة توقف) حسناً الان. دعنا نتقبل الامر على ما يرام. (تصرخ في الاجنحة على يسار المسرح) أنت! هناك! بامكانك الدخول.

(يدخل عازف الموسيقى ويجلس في كرسي على يسار المسرح، ثم يضع لوحة النوتة الموسيقية على الحامل، ويصبح جاهزاً لبدء العزف. تهز الام رأسها موافقة)

الام: حسن كثيراً ، حسن كثيراً. هل أنت جاهز يا زوجي؟ لنذهب لنحضر أمي.

الاب: كما تقولين.

الام (تقود الطريق الى الخارج من يسار المسرح): بالطبع مثلما اقول. (تنظر الى العازف) بامكانك البدء الان.

(يبدأ الموسيقيّ العزف. تخرج الام والاب ، بينما يستمر العازف في أثناء ذلك بالعزف ويهز رأسه باتجاه الشاب)

الشاب( بذات الابتسامة المحببة): مرحبا.

(بعد لحظة ترجع الام والاب يحملون الجدة. يحملونها بأيديهم من تحت ابطيها. متصلبة. ساقاها مرفوعتان للاعلى، وقدماها لا تصلان الارض. يوحي التعبير على وجهها القديم بالحيرة والخوف)

الاب: أين نضعها؟

الام (بذات الضحكة الصغيرة): حيثما أقول بالطبع. دعني أرى. حسناً ...جيد. هناك. في صندوق الرمل. (فترة توقف). ماذا تنتظر؟ صندوق الرمل!

(يحملان الجدة الى صندوق الرمل ويلقيانها فيه)

الجدة (ترفع نفسها الى وضع الجلوس، وصوتها يصبح ما بين ضحكة طفل وبكائه) آآآآآآآآخ . آآآآآآآآآآآآه

الاب (ينفض الغبار عن نفسه): ماذا نفعل الان؟

الام (الى العازف): بامكانك التوقف الان. (يتوقف العازف) ،(تحول نظرها ثانية الى الاب) ماذا تقصد ماذا نفعل الان؟نذهب هناك ونجلس بالطبع. (تنظر الى الشاب) مرحبا من هناك.

الشاب (يبتسم مرة أخرى): مرحبا

(تتحرك الام والاب الى المقاعد في يمين المسرح ويجلسان. فترة توقف)

الجدة (مثلما في السابق): آآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ! آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!

الاب: هل تعتقدين .. هل تعتقدين أنها .... مرتاحة؟

الام (بفارغ الصبر): وكيف لي أن أعرف؟

الاب (فترة توقف): ماذا حري بنا أن نفعل الان؟

الام (كما لو أنها تتذكر): نحن ... ننتظر. نحن ....... نجلس هنا ......... وننتظر. هذا هو ما نفعله؟

الاب (بعد فترة توقف): هل يجب أن نتحدث مع بعضنا؟

الام (بتلك الضحكة الصغيرة، تنزع شيئاً عن فستانها): حسناً، يمكنك الحديث إذا أردت... إن كان بامكانك أن تفكر بأي شيء لتقوله... إن كان بامكانك أن تفكر بأي شيء جديد.

الاب (يفكر): لا... لا أظن ذلك

الام (بضحكة منتصرة): بالتأكيد لا!

الجدة (تضرب المجرفة اللعبة بالسطل) آآآآآآآآآآآخ! آآآآآآآآآه!

الام (ترفع صوتها) كوني هادئة يا أمي. كوني هادئة وانتظري.

(الجدة تعفر حفنة تراب من المجرفة على الام)

الام (ما تزال تنظر الى النظّارة) أتعفرين رملاً علي؟! يجب أن تتوقفي عن ذلك. أمي يجب أن تتوقفي عن القاء الرمل علي! (الى الاب) إنها تعفر الرمل عليّ.

(ينظر الاب الى الجدة التي تصرخ عليه)

الجدة: آآآآآآآآآآآآآه

الام: لا تنظر اليها. اجلس هنا وحسب... كن هادئاً .... وانتظر. (الى عازف الموسيقى) أنت..هيا.. إفعل ما يجب عليك فعله.

(يعزف الموسيقى، الام والاب بلا حراك يحدقان النظر أبعد من النظّارة. تنظر الجدة اليهم، تنظر الى عازف الموسيقى، تنظر الى صندوق الرمل، وترمي فيه المجرفة)

الجدة: آآآآآآآآآآآآآخ! آآآآآآآآآآآه! (تتوقع ردة فعل، فلا تنال شيئاً. تتوجه مباشرة الى النظّارة): بأمانة! يا لها من طريقة للتعامل مع سيدة كبيرة في السن! جُرّوها خارج البيت.. ضَعوها في سيارة.. أخرجوها من المدينة.. تخلصوا منها بإلقائها في كومة من الرمل.. واتركوها هنا لتنتهي. إنني في السادسة والثمانين! لقد تزوجت عندما كنت في السابعة عشر من عمري الى مزارع. لقد مات وأنا في الثلاثين. (الى عازف الموسيقى) هل لك أن توقف ذلك من فضلك؟ (يتوقف الموسيقيّ عن العزف). إنني إمرأة عجوز ضعيفة... كيف تتوقعون أن يسمع أي شخص حديثي مع وجود ذلك الصوت! بيب! بيب! بيب! (تتحدث الى نفسها) لا يوجد إحترام هنا. (توجه كلامها للشاب) لا يوجد إحترام هنا!

الشاب (بذات الابتسامة): مرحبا!

الجدة (بعد توقف، تستأنف نظرتها الحانية نحو النظّارة) توفي زوجي عندما كنت في الثلاثين، (وتشير الى الام) فكان علي أن أربّي تلك البقرة الكبيرة هناك بمفردي. يمكنكم أن تتخيلوا كيف كان ذلك. يا الهي! (الى الشاب) من أين أتوا بك؟

الشاب: أووه..إنني هنا منذ فترة.

الجدة: أراهن أنك كذلك. ههه، ههه، ههه. هل لك ان تنظر الى نفسك!

الشاب (يمد عضلاته): أليس ذلك شيئاً رائعاً؟ ( بينما يستمر في تمارين الرياضة)

الجدة: آوه يا ولد.. سأقول جيدا تماما.

الشاب (بتحبب يقلدها): سأقول.

الجدة: من أين أنت؟

الشاب: جنوب كاليفورنيا.

الجدة ( تهز رأسها): ما هو اسمك يا حبيبي؟

الشاب: لا أعرف ...

الجدة (الى النظّارة): وذكي أيضا!

الشاب: أقصد .. أقصد، أنهم لم يعطوني واحداً بعد... الاستديو

الجدة (تنظر اليه نظرة تفحص سريعة): لا تتكلم.. لا تتكلم.. حسناً.. يجب أن أتحدث المزيد.. لا تذهب بعيداً.

الشاب: آوه ، لا.

الجدة (توجه انتباهها مرة أخرى الى النظّارة): لا بأس، لا بأس. (ثم تلتفت بنظراتها مرة أخرى الى الشاب) أنت .. أنت ممثل، أليس كذلك؟

الشاب (تشرق نظراته): نعم أنا كذلك.

الجدة (الى النظّارة مرة أخرى، وتنتفض) أنا ذكية في ذلك. على أية حال، كان علي أن أربي .. تلك التي هناك بمفردي، والذي يقف الى جانبها هناك. هذا الذي تزوجته. غني؟ سأخبرك... نقود ، نقود، نقود. لقد أبعداني عن المزرعة ، والذي كان عملاً راقياً حقيقة منهما. وأخذآني الى البيت الكبير في المدينة معهما، وخصّصا لي مكاناً لطيفاً تحت الموقد.. وأعطياني بطانية للجنود.. وطبقي.. طبقي الخاص بي! فماذا بقي لدي هناك لأشكو منه؟! لا شيء بالطبع. أنا لا أشكو. (تنظر أعلاه الى السماء، تصرخ الى أحد خارج المسرح) أليس من المفروض أن تصبح ظلاماً الان يا عزيزي؟!

(تخبو الاضواء، يحل الليل. يبدأ عازف الموسيقى بالعزف. يصبح الليل حالك السواد. هناك بقع من الضوء المسلطة على كل الممثلين ومن ضمنهم الشاب الذي يستمر بالطبع في تمريناته الرياضية)

الاب (بجلبة): لقد حل الليل.

الام: ششش. كن هادئاً ... انتظر

الاب ( يتأفف) إنها حارة للغاية

الام: ششش. كن هادئاً ... وانتظر

الجدة (الى نفسها): هكذا أفضل. الليل. (الى عازف الموسيقى) عزيزي هل لك أن تعزف هذا الجزء كله؟ ( يهز العازف رأسه). حسناً لتكن جميلة وهادئة. أنت ولد طيب. (يهز الموسيقيّ رأسه، ويعزف موسيقى هادئة) هذا جميل.

(هناك جلبة خارج المسرح)

الاب (يتحرك) ماذا كان ذلك؟

الام (تشرع في البكاء): لم يكن شيئاً.

الاب: لقد كان ... لقد كان.. الرعد.. أو موجة تتكسر.. أو أي شيء.

الام (تهمس من خلال عبراتها): لقد كانت جلبة خارج المسرح... وأنت تعرف ماذا يعني ذلك...

الاب: نسيت.

الام (بالكاد قادرة على الكلام): انها تعني أنه قد حان الوقت للمسكينة أمي... وأنا لا أستطيع إحتمال ذلك.

الاب (خالياً من أي تعبير): أنا .. أنا أعتقد أنه عليك أن تكوني شجاعة.

الجدة (باستهزاء): نعم يا ولد. كن شجاعاً سوف تتحمل، سوف تتغلب على ذلك.

(جلبة أخرى صوتها أعلى خارج المسرح)

الام: آوووووووه.... آوووووووه

(صمت)

الجدة: لا تشعلوا الانوار بعد. أنا لست جاهزة. لست جاهزة تماماً. (صمت). حسنا يا عزيزتي.. لقد أصبحت جاهزة.

(تعود الاضواء مرة أخرى، يصبح الوقت وضح النهار. يبدأ الموسيقيّ بالعزف. يكتشفون أن الجدة ما تزال في صندوق الرمل تضطجع على جنبها وترتكز على كوعها، نصفها مغطى بالرمل وهي مشغولة بعفر الرمل على نفسها)

الام (تدمدم) لا أعرف ماذا يتوجب علي أن أفعل بهذه المجرفة اللعبة الملعونة...

الاب: ماما! انه وضح النهار!

الام (باشراق): إنها فعلا كذلك. حسناً! لقد انتهى ليلنا الطويل. يجب أن نضع الدموع جانباً. ننزع عنا الحداد ، ونواجه المستقبل. إنه من واجبنا.

الجدة (ما تزال تعفر الرمل وتستهزيء): ننزع عنا الحداد ، ونواجه المستقبل. يا الهي!

(تنهض الام والاب) يمطّان جسديهما. تلوح الام الى الشاب.

الشاب (بتلك الابتسامة ذاتها): مرحبا!

(الجدة تمثل دور الميت ! تذهب الام والاب لرؤيتها. مدفون أكثر من نصفها بقليل في الرمل. والمجرفة في يديها المتصالبتين على صدرها)

الام (عند صندوق الرمل، تهز رأسها) رائع! إنه .. إنه من الصعب أن تحزن.. وأنت تراها تبدو سعيدة للغاية. (بكبرياء وإيمان) من المجدي أن نقوم بالاشياء على ما يرام. (الى العازف) حسناً، يمكنك التوقف الان إذا أردت. أقصد خليك هنا للسباحة أو أي شيء. لا مانع لدينا. (تتنهد بعمق) حسناً، هيا بنا.

الاب: أنت أم شجاعة!

الام: أنت أب شجاع!

يخرجان من يسار المسرح)

الجدة (بعد مغادرتهما، تستلقي بهدوء تماما): من المجدي القيام بالاشياء على ما يرام... يا ولد آوه يا ولد. (تحاول النهوض).. حسناً يا أولاد. .. (لكنها تجد أنها لا تستطيع).. لا ..لا أستطيع النهوض.. لا استطيع أن أتحرك...

(يتوقف الشاب عن تمريناته الرياضية، يهز رأسه الى عازف الموسيقى ، يمشي الى الجدة، يجثو على ركبتيه عند الصندوق)

الجدة: لا .. لا أستطيع

الشاب: ششش.. إبقي هادئة

الجدة: لا .. لا أستطيع

الشاب: آوه .. سيدتي.. ما يزال يوجد سطر هنا.

الجدة: آوه، أنا آسفة يا حبيبي، هيا تابع

الشاب: أنا ... آوه

الجدة: خذ وقتك يا عزيزي

الشاب (يستعد ويؤدي السطر مثل شخص هاوٍ): أنا ملاك الموت. أنا آوه.. لقد جئت من أجلك.

الجدة: ماذا .. ماذ..( ثم باستسلام) .. أووووووه فهمت الان.

(ينحني الشاب فوق الجدة ويقبلها برفق على جبهتها)

الجدة (عيناها مغلقتان، يداها مطويتان على صدرها مرة أخرى ، والمجرفة بين يديها، وابتسامة حلوة على وجهها) حسناً .. لقد كان ذلك رائعاً للغاية يا عزيزي...

الشاب (ما يزال جاثياً): ششش... كوني هادئة...

الجدة: ما قصدته.. لقد قمت بذلك بشكل رائع يا عزيزي.

الشاب (خجلاً): ... آوه ...

الجدة: كلا.. أنا أعني ما أقول. لقد فعلت ذلك. لقد فعلتها بإتقان

الشاب (بابتسامته المحببة) آوه.. شكرا لك. شكرا جزيلا لك.. يا سيدتي

الجدة (ببطء وبسرعة بينما يضع الشاب يديه فوقها) أنت .. أنت على الرحب والسعة.. يا عزيزي

(تظهر لوحة مشهد. يستمر عازف الموسيقى بالعزف بينما تسدل الستارة ببطء).

المؤلف:

إكتسب إسم إدوارد ألبي شهرة واسعة بعد أن إقترن إسمه بمسرحيته الناجحة (من يخاف من فرجينيا وولف؟) عام 1962. وبالطبع فرجينيا وولف هي روائية إنجليزية وكانت من أبرز كتاب تيار الوعي في الرواية الذي عرف أيضا الايرلندي جيمس جويس ، وقد شكل موتها صدمة للاوساط الادبية حيث أقدمت على الانتحار بعد أن أصيبت بانهيارت عصبية. ولد المسرحي الامريكي في عام 1928 في ولاية فرجينيا، لكن والديه الحقيقيين تخليا عنه ، فتم تبنيه بعد ولادته وأخذ الى أسرة في نيويورك. كان والده الذي تبناه إبن رجل أعمال ثري لديه سلسلة من المسارح الفنية ومن هنا تعرف إدوارد على عالم المسرح وهو ما يزال بعد طفلاً. طرد من كلية ترينيتي كوليج عام 1947 بسبب عدم انتظامه بالدروس ورفضه حضور الصلوات الالزامية. غادر منزل أبويه وهو في العشرينات الى الابد. وقد قال أنه لم يشعربالراحة ابداً لدى أسرته الجديدة ، وأن أبويه بالتبني لم يكن لديهما فكرة عن ماذا يعني أن تكون أباً أو أماً! وربما أنا لم أعرف أن أكون إبناً جيداً!

قضى حوالي عشر سنوات بعدها يعمل في أعمال مختلفة كي يعيل نفسه. وقد جرب خلال هذه الفترة كتابة الشعر والقصة القصيرة قبل أن يجد موهبته في المسرح. اشتهر بمسرحياته العديدة ومن أهمها: قصة الحيوانات عام 1958، صندوق الرمل عام 1959، الحلم الامريكي عام 1960، من يخاف من فرجينيا وولف عام 1962.

المسرحية:

بعد نجاح مسرحيته الاولى وهي قصة الحيوانات عام 1958 فقد شرع في كتابة مسرحية بعنوان الحلم الامريكي ، ولكنه عُهد اليه أثناء كتابتها وضع مسرحية أخرى قصيرة لمهرجان دولي للمسرح. وقد إستوحى شخصياتها من ذات المسرحية الاخرى التي كان يشتغل عليها، ولكنه فيما بعد قال أن مسرحية صندوق الرمل برغم قصرها كانت أكثر مسرحياته المفضلة الى نفسه.

تتألف المسرحية من فصل واحد وهي تستغرق حوالي خمس عشرة دقيقة على المسرح. تنتمي المسرحية الى تيار اللامعقول أو العبث Theatre of the Absurd الذي عرف كتاباً مسرحيين مشهورين مثل صامويل بيكيت في مسرحية (في إنتظار غودو). تتحدث المسرحية عن محنة بطلتها الجدة التي تتعرض الى الاهمال من قبل إبنتها وزوجها رغم أنها تحملت شقاء الحياة وحيدة بعد أن توفي زوجها وهي في الثلاثين وقامت بتربية إبنتها بمفردها حتى تزوجت من رجل غني. يمثل شاب في المسرحية دور ملاك الموت لذلك يبقى على خشبة المسرح يمارس تمريناته الرياضية باستخدام تحريك وخفقان ذراعيه كالاجنحة مما يوحي بأنه ملاك للموت يبقى حاضراً في ذهن الجميع وكأن الكل ينتظر تلك اللحظة. كما يظهر في المسرحية عازف للموسيقى لا يتكلم شيئا سوى العزف او التوقف عن العزف حسب اشارات وتعليمات الشخصيات الاخرى له بما يوحي بأجواء جنائزية.

بالاضافة الى الجدة، هناك شخصية الام والاب الذين يبدو واضحاً الصراع الخفي وعدم الانسجام بينهما. وأكثر ما يلفت الانتباه هو الخواء والعبث في تصرفاتهما بلا معنى وهما على شاطيء البحر حيث هناك صندوق للرمل يلهو به الاطفال، ولكن ليس ثمة أطفال هنا، إنما هناك الجدة التي وضعاها في صندوق الرمل ومن حولها لعبة مجرفة وسطل في رمز للقبر وإهالة التراب عليها، وهذا ما نراه في ختام المسرحية حيث يغطي الرمل أكثر من نصفها ويأتي الشاب الذي يمثل ملاك الموت فيجثو عند صندوقها ليقوم بمهمته الاخيرة.

نلاحظ طبيعة العلاقة المتوترة الساخرة المتأهبة التي تتأثر لأدنى اختلاف في وجهات النظر التي تدور بين شخصية الام المسيطرة التي تقرر تصرفات الاخرين، في مقابل استكانة زوجها الذي نراه خالياً من أي انفعال أو تعبير في الحديث عن الجدة، أم زوجته. وهذا يتحول الزواج بينهما كما يقول المؤلف في مستهل المسرحية الى زواج التكيف بدلاً من الحب ويصبح خالياً من أية عاطفة.

تنتقل المسرحية في بدايتها من وضح النهار الى حالك ظلمة الليل في آخرها، وكأنها بذلك تمثل دورة الحياة منذ الميلاد الى الموت


* اللوحة أعلاه بعنوان صندوق الرمل للفنانة رينيه كوتيس / هاواي

الجمعة، مايو 15

العروس


العروس

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أختنق في هذا الجو الفاسد. مصيري لعبة حظ بأيدي لصوص، والفرح صار حبة دواء انتهت صلاحيتها.. زمن غادر.. في لحظة ينهار كل شيء.. والمستقبلُ يصبح جثةً على درب المجهول.. عادت الى البيت واجمة. بدت لي ضائجة متعبة متوترة، والاعياء خطف وجهها مثل خفاش متشبث في كهف مظلم. لم تقل شيئاً، لكن عينيها قالتا كل شيء. لم يكن في الجو سوى لهاث أنفاسها بعد المشوار في عز الظهيرة. لم أرَ عينيها غائرةً بين تجاعيد وجهها من غير بريقٍ مثلَ اليوم.. خلعت منديلها عن رأسها بتأفف وضجر. راعني رؤية البياض في مؤخرة رأسها. انقبض صدري كأنني مستني صعقة كهرباء.. لم يكن الشيب واضحاً في شعرها بمثل هذا الوضوح من قبل. سمعت زفرات أنفاسها المتلاحقة. كانت تغلي وفي داخلها مرجل يوشك أن ينفجر. الصيف لاهب والحر لا يطاق. والسماء بدت بيضاء كالحة بالسراب من شدة الوهج. تهب الخماسين بين حين وآخر، فأختنق من الغبار.. أكره الصيف.. لم أحس به ثقيلاً مثل السنة. في النهار تنضح الجباه والرؤوس التي انحسر عنها الشعر بحبات العرق! وفي الليل تهب ريح يرتعش لها الجلد. لقد أنهك التقلب روحي وأعياها.

لم أتجرأ أن أبادرها بالسؤال. يقدح الشرر من عينيها. أرى الجواب في وجهها وأسمعه في أنفاسها اللاهثة. بعد قليل قالت بيأس المستسلم: "ماذا سنفعل الان؟" أطرقتُ وقد عقدت الحيرة لساني. مات الامل الذي راودني منذ الصباح. دعوت في سرّي كثيرا أن تجدها أمي. لو عرفتها لخنقتها بيدي. لا تعرف أنها سرقت أمل قلبي الميت في الحياة. وسرقت عزة نفس أمي التي رأيتها منكسرة. توشك أن تبكي أمي قهراً على صورتها التي ستتحطم.. تذهب كل يوم وتعود بخفي حنين. ولكن كان لدّي اليوم إحساس أنها ستجدها وأننا سنخرج من هذه الورطة. تبدد الامل. شعرت بالغيظ والقهر. ارتسمت خيبة كبيرة كأنها اصابع دامية على وجه مذعور. هل يمكن أن يضيع كل شيء في لحظة؟ أتحرّق أن أعرف من تكون. إزددت حقداً في صدري عليها. صار مصيري لعبة في يدها. كيف يمكن أن تكون إمرأة بهذه الجرأة وتبلد الاحساس؟

يتصل "جمال" بين حين وآخر ليطمأن أمي. أعرف أنه مجرد تسكين للألم بدواء انتهت صلاحيته. لم يحصل شيء منذ أسبوعين. كل يوم تذهب للفرع فلا تسمع سوى الوعود والتعاطف. تذهب للمركز الامني لتسأل عنها لعلهم وجدوها بلا فائدة. لم أكن أتخيل أن الشر يمكن أن يتحول الى ملاك بلباس أبيض.. يختفي بيننا ونحن لا ندري. تأثر جمال كثيراً بالقصة: اذا لم يجدوها، فسأدفع ذلك من جيبي.

أريد أن أصرخ.. لا أريد شفقة من أحد. أريد حقي.. منذ ثلاث سنوات وهو يشقى في سبيله، ويقاسي معاناة الغربة لاجل ذلك اليوم. أحاول أن أتخيل كيف يعيش وحده في مركز صحي على تخوم الربع الخالي. رسائله تفيض بالشوق ومرارة الوحدة وشظف العيش وحيداً. عندما اسمع رنة هاتفه أميزها.. اضطرب ويخفق قلبي.. أغلق الباب ورائي.. أخجل أن يسمعني أحد وأنا محمرة الوجه. يخبرني أنه يعدّ الايام يوماً بعد يوم وساعة بعد أخرى. هل ما زال ذلك اليوم قريباً أم صار بعيداً؟ أحس إنه صارأبعد من مركزه النائي في شرورة شرق نجران. كيف سنخبره؟ وماذا ستكون ردة فعله؟ ماذا سيظن بنا؟

تزوج إخوتي الاربعة الكبار ورحلوا عنا. لم يبق سوى أنا وأمي.. تعبت منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا. تفتحتْ على دنيا قاسية لم أر فيها أبي. قالت أمي إنه انفجر فيه لغم وهو على الحدود. عشت حسرة كبرت معي كل يوم. أثور على قدري بالبكاء والدموع كلما ذكرت أمي سيرته. لماذا حرمتني الايام أن أراه وأسمع صوته وأحس بحنانه؟ غدر بي الحظ أو القدر لا فرق. احتجت أمي ببساطتها: بل هو نصيبنا. لا يهم يا أمي.. لا يعرف معنى الحرمان سوى من جرحته أنياب الحياة. كنت أتمنى كأي فتاة أن ترى أباها الى جانبها في مثل ذلك اليوم. كلما رأيت ملامحه المبتسمة في الصورة على الحائط وهو يلبس لباسه العسكري، أحس بفجيعة القدر الذي حرمني منه قبل أن آتي للدنيا.. لكنني تصالحت مع قدري ودفنت حسرتي في أعماقي عندما أطل فارس. لمست في كلامه حناناً إفتقدته منذ زمن. أحسست بالامان الممزوج بخوف في دنيا قاسية. وجدت كثيراً من الشبه بيننا. تركت أمي ووقفت أحدق في ملامح أبي.. تنثال الذاكرة الحزينة بتخيلاتها.. أشعر أنه يوشك أن يتكلم.. أحدق فيه فينفجر شلال الالم في شراييني.. أكاد أختنق..

فارس حفر في الصخر بيديه وعلّم نفسه بنفسه. كان يعمل وهو في المدرسة، وعندما تخرج، حصل على بعثة ودرس التمريض. عندما جاء لبيتنا أول مرة مع أمه، إختلستُ بعض النظرات اليه. رأيت في وجهه وهيئته شقاء الايام، ولكن ابتسامته كانت تتوشح بالتفاؤل.. وكلامه يزرع بذرة الامل في نفسي. من أسرة فقيرة في حيّنا، ولكننا لم نكن نعرفهم. آمنة أم سعيد جارتنا وصديقة أمي هي التي أحضرته. ماذا سنقول له الان؟ ماذا يبقى من مستقبلي معه الان؟

رن الهاتف فأسرعت أمي. سمعتها تقول بنبرة انكسار: "لو لم تكن لهذه اليتيمة لما تأثرت الى هذا الحد". عرفت أنه جمال. سألتها ماذا يريد. قالت إنه قدم طلباً لتعويضنا، وهو ما يزال ينتظر الجواب من ادارته. شعرت بحزن له طعم حامض في أعماقي يوجعني.

عدت أعصر ذاكرتي علني أجد ابرة في كومة قش.. كان يوم خميس بعد العصر والمحلات مليئة بالبشر. في نهاية الاسبوع يأتي أناس كثيرون من كل مكان. يطوفون ويدورون من غير هدف. صارت الشوارع والمجمعات متنفسهم الوحيد. تصر أمي أن ترافقني في كل مشوار. تقول إنني لا خبرة لي في مساومة التجار وألاعيبهم. فكيف تتركني في هذا الموقف؟ بعد أسبوعين سيصل فارس، ويجب أن أشتري ملابسي الجديدة قبل أن يأتي. بالامس خرجنا لسوق الصاغة وأخذنا نتجول أمام محلات الذهب. أذهلني بريقه وأشكاله. ولكن أمي كعادتها تتريث في الشراء. "سنذهب لنتفرج على الذهب، ونعرف الاسعار ولكن لن نشتري". وافقت على مضض. لا أمل في مجادلتها. لم تأخذ معها سوى نقود قليلة كي لا تتهور بالشراء! تحملت أمي المسؤولية بعد وفاة أبي، ولكن قوة أمي قشرة خارجية تخفي ضعفها.. وصرامتها قناع تخفي به حنانها الذي لا تجيد التعبير عنه بالكلمات.

السوق في جبل الحسين مزدحم عن آخره.. بدأت العطلة الصيفية. دخلنا محلا للأحذية. جلست وجاء البائع وصار يحضر لي أحذية شتى، ولكن لم يعجبني شيء. رأيت تبرماً في عيني أمي. كثيراً ما نتناكف عند الشراء. لا تعرف أمي عن الطراز الدارج شيئاً. أحس أنها نسيت شبابها يوم أن توفي أبي.

دخلنا محلاً لملابس النوم. كان ضيقاً ومليئاً بالنسوة وأطفالهن. أعجبتني بعض القطع. لم تعجب أمي كثيراً. شفافة خفيفة قصيرة! حاولت إقناعها ولكنها بقيت متمسكة برأيها. ضقت ذرعاً وقلت: "أنا من ستتزوج لا أنت". اخترت قميصاً كحلي اللون من قماش حريري شفاف مطرزة حوافه بالساتان والفراء وعلى الصدر نوع من الدانتيل المخرم. قالت إنه فاضح! استنجدت بمكرٍ ببائعة المحل، فأخذت تقنع أمي حتى أذعنت لاصراري على مضض. أخذت أمي تساوم البائعة. أخذت ألكز أمي بطرف أصابعي حتى توافق وننتهي من الامر! استخرجت أمي محفظتها. كانت تنتزع الدنانير منها واحدة بعد الاخرى بصعوبة. برغم التعب ومناكفات أمي ومساوماتها الطويلة، فقد كنت في غاية السعادة. كنت أتخيل نفسي وأنا في تلك الملابس واقفة بين يدي فارس، فأحس بالخجل!

أرسل فارس مهري وثمن جهاز العروس طيلة الاشهر الماضية الى أمي.. حوالات عن طريق البنك. فتحت أمي حساباً بها وأودعتها لديهم. طلب فارس أن اشتري ما أحتاجه، فإجازته السنوية قصيرة ولا يريد أن تضيع في التحضير للعرس.

رجعنا للبيت. كنت سعيدة بما اشتريته وأنا أجربه آمام المرآة. فتحت أمي محفظتها وأخذت تعد نقودها الباقية. فجأة شهقت صارخة: هل أخذتيها؟ قلت لها ما هي؟ أخذت تبحث بنزق وانفعال عنها في داخل محفظتها. صاحت مرة أخرى وهي تنظر في عيني: لقد ضاعت. ارتبكت من المفاجأة.. هل أنت متأكدة؟ وانتزعتُ المحفظة من يدها وأخذت أنبش بداخلها. لم تكن هناك. إستبد بنا القلق. أخذنا نفتش في الخزانة وأدراجها. لم نترك مكانا في غرف البيت الا وفتشنا فيه. ولكنها لم تكن هناك. طمأنت أمي الا تقلق ، فالدنيا ليل. ثم تذكرت أنها ليلة الخميس وأن الفرع سيكون مغلقاً في نهاية الاسبوع. قلت لها سنكون صباح الاحد على باب الفرع للابلاغ عن فقدانها قبل أن يحدث شيء.

ليل طويل.. إستبد بأمي القلق وبقيت تشكو. كنت قلقة ولكنني تظاهرت بالهدوء، وحاولت التخفيف من قلقها. رأيت في عينيها جزعاً كبيراً. لم تهدأ وهي تتخيل أن أحدا وجد البطاقة وسحب كل المبالغ التي كانت في حسابها. قلت: "لا يمكنه ذلك فهو يحتاج للرقم السري". انتبهت كالمجنونة وأسرعت الى الخزانة ونبشت بين الاغراض. تنفست الصعداء. لكنها بقيت طيلة نهاية الاسبوع خائفة متشككة.. شعرت أنها كثيرة القلق من غير مبرر. في صباح الاحد نهضنا مبكرين وذهبنا. ما يزال الفرع مغلقاً فانتظرنا حتى فتحت الابواب.

دخلنا مباشرة لمكتب المدير. شرحت له أمي ما حصل. أخذ يضرب على لوحة المفاتيح أمامه. سأل أمي كم كان لديها في الحساب. قالت له ستة الاف دينار. أعاد ضرب المفاتيح. ارتسمت على وجهه بوادر مفاجأة. شعرنا بصدمة. وندت عن أمي صرخة كتمتها في آخر لحظة. قلت له: "لا يمكن أن يحدث ذلك. أضعنا البطاقة في السوق ليلة الخميس ، فهل يعقل أن يكون قد استطاع أحد استخدامها؟ البنك مغلق وهو لا يعرف الرقم السري. تأكد مرة أخرى". قال إن الإسم هو نفسه. أمسك الهاتف واتصل بشخص آخر وطلب منه أن يرسل له تقريراً في الحال. لم أفهم كثيراً ما قاله. ولكنه طلب منا الانتظار.

دخلت بعد قليل فتاة تحمل تقريراً وأعطته للمدير. أخذ ينظر فيه. رأيت على وجهة علامة تعجب كبيرة. وارتفعت حواجب عينيه للاعلى. شعرت بقلق شديد في أعماقي وأنا أرى ملامح الدهشة تكبر على وجهه. نظر الى أمي وقال لا يوجد به سوى ثلاثين دينارا وبضعة قروش. قالت بانكار مضطرب: لا يمكن. اشترينا بعض الملابس ودفعت نقداً للبائعين. بان ساعتها على وجهي ملامح صدمة غير متوقعة. أحسست في أعماقي أنني فهمت شيئاً لم أكن أريد إدراكه أو تصديقه. سألته أمي باضطراب: أخبرني ماذا حصل.

- لم يبق في حسابك سوى دنانير معدودة.

تفاجأت أمي ولم يحر لها جواب. كان وقع كلامه قوياً. تمالكت نفسها وقالت: "لا يمكن.. أنا لم أسحب أي شيء منه".

- يظهر في التقرير أنك جهزت لابنتك منها! ملابس وأحذية وعطور وحقائب بكميات كبيرة وحتى تحف تم شراؤها ليلة الخميس"!

وفجأة بدا عليه الانتباه والذهول. "يبدو أنك وقعت ضحية إمرأة مهووسة بالشراء! لقد اشترت بالبطاقة بكل الرصيد تقريباً في خلال ساعتين"! أفقت من كابوس، وأنا أرى أن أمي لم تستوعب الصدمة بعد. وضعت يدي على وجهي ونظرت للاسفل. فكرت في فارس وخطر لي ساعتها خاطر مريع، بينما كانت أمي ما تزال تصيح بانفعال.

* اللوحة أعلاه للفنان السلفادوري خوسيه فنتورا في جاليري رؤى للفنون / عمّان

الاثنين، مايو 11

الى صديق.. بشير خلف


الى صديق..
بشير خلف

بقلم إياد نصار

دخلت بشوقي المعتاد الى حجرتي الخاصة .. أدرت القرص على الارقام السرية. وصلت الى الصندوق الاخضر. مددت يدي. كانت هناك تنتظرني. رب صدفة خير من ميعاد. كل يوم يحمل إلي حمام البريد الالكتروني الزاجل أخباراً ورسائل وتحرشات اعلانية من جهات متطفلة! لكنها لم تكن من بينها. كان العنوان جميلا مكتوبا بالخط الاندلسي. شعرت بلهفة تجتاحني لأفض عنها المغلف وأفتحها. إنتشر في الجو عطر جميل. ليس غريباً عني. كان مضمخاً بندى الارض الطيبة. استحضرتْ كلماتها في ذاكرتي تاريخ المجد وفاحت منها رائحة الارض وأشجار النخيل على تخوم الصحراء. فاضت كلماتها بالحب الذي ملأ الجو من رحاب تلك الحسناء الجميلة الموشحة بالجلال التي أطرقت زمناً في ذهول من عقوق بعض أبنائها الذين غرسوا خنجراً في صدرها ولكنها كانت أكبر منهم وأكبر من الموت. كنت على موعد مع رسالة من صديق قاص وكاتب من الارض التي أحمل لها في نفسي عشقاً قديماً كبر معي.. الجزائر.

بشير خلف ، التقينا صدفة على بياض الورق ونتعرف على أوجاع الحياة كأصدقاء. رسالتك ايها الصديق الكريم إحتفيت بها حفاوة تليق بك وبإبداعك. تنسمت عطرها وتحياتها وبادلتها أطيب التحيات. لقد سعدت بهذا اللقاء والتواصل. لن أفيك حقك من الود والثناء على هذه الكلمات من معدنك الطيب الاصيل ، ولعلي لا أبلغ حسن ضيافتك لي في مدونتك الجميلة.

وأنتم يا أصدقائي أود أن أختطف هذه المساحة لأرحب بضيفي. أديب وقاص جزائري جميل العبارة التي تضعك من فورك في جو المكان وتحمل بصمة التعبير عن خصوصيته وتندغم في الارتباط بإنسانه وقضاياه. قضاياه الذاتية تصبح قضايا الفضاء المكاني الذي ينتمي اليه. إنه صوت الابرياء القابضين على جمر الانتماء للارض الذين حاولت اليد السوداء أن تغتال فرحتهم خلال العشرية الدموية وما تزال تتربص بهم. تطرح قصصه قضايا الواقع اليومي المعاش بإحباطاته وانتكاساته.

بشير خلف أحد الادباء الجزائريين النشطين. أصدر خمس مجموعات قصصية هي أخاديد على شريط الزمن ، القرص الاحمر ، الشموخ ، الدفء المفقود ، وأخرها ظلال بلا أجساد. بشير خلف من ولاية الوادي الجزائرية في شمال شرق الصحراء على تخوم بسكرة في الشمال وورقلة في الجنوب والغرب ومن منطقة تدعى وادي سوف souf ويرأس حاليا الجمعية الثقافية في ولاية الوادي المسماة "رابطة الفكر والإبداع". له مدونة جميلة تسمى "سوف أوراق ثقافية". وإذا كنا قد عرفنا توأمة المدن العربية ، فإنني هنا أفتتح هذه التوأمة بين أوراقنا الثقافية وعن تسمية شارع رئيسي في أوراقي الثقافية بإسم سوف أوراق ثقافية! هذا الذي نسير فيه الان!

كما أخبرتكم فقد حمل الي البريد الزاجل هذه الرسالة التي أعتز بها من الصديق بشير التي يشرفني نشرها هنا عرفاناً وإمتنانا مقرونة بكل المودة وعاطر الثناء، راجياً أن يبقى القلم يبوح بكل ما يليق بذوقكم من إبداع ، وأن تبقى أوراق ثقافية مساحة حرة للابداع ونشر الثقافة العربية والتواصل مع الاقلام الابداعية في كل مكان.

الأستاذ الفاضل الكاتب المبدع أيّاد نصّار
تحية طيبة من الجزائر، حيّاك الله
إنني اطلعتُ على مدوّنتك، وأطلع عليها باستمرار، واطلاعي ليس من باب الفضول، ولكنه اطلاعٌ معرفيٌّ ..مدوّنة ثرية ما شاء الله ..هي تجسّد فعلا مواهبك وإمكاناتك الإبداعية المتعدّدة، وتجسّد أيضًا ما تعلنه في تعريفك لنفسك، فيها القصة القصيرة، والقصيد الشعري، والنقد، والأعمال المترجمة، واللوحة التشكيلية، والمقال النقدي الإبداعي.....

ما أعجبني وأبهرني هذا التنظيم للمدونة، وطريقة عرْض الإدراجات، ثم هذا التراوح بين القصة والشعر، وإرفاق العمل الإبداعي باللوحة التشكيلية الجميلة ..

عملٌ رائعٌ تشكر عليه، وأراه سندًا للثقافة العربية، وفضاءٌ للبوح الجمالي، والإبداع الأدبي الفنّي.. أراه جديرا أن يكون مثالاً للمدونات الحقيقية التي يجب أن تكون.

أدعوك أستاذي لزيارة مدوّنتي: سُـــوفْ.أوراق ثقافية.
بشير خلف
كاتبٌ وقاصٌّ من الجزائر

سأعيش مع فيض إبداعكم القصصي من خلال موقعكم

ولكم وافر التحية
اياد نصار


* اللوحة أعلاه للفنان الجزائري محمد بوكرش بعنوان نفوذ حضارة

الأحد، مايو 10

رسائل حب شرقية


رسائل حب شرقية


اياد نصار


في الشرقِ قلبٌ عاشقٌ ،

وفي الغربِ ضفائرُ بلونِ

الذهب والحناء وشفاهٌ

تتلألأ كقطع زمرد بلورية.

طال الغيابُ يا سيدةَ الشعر

والحكايا

يا لنهديك كتفاحتين وكأسِ نبيذٍ

في ليالي الشتاء الثلجية.

لأزهارِكِ رائحةُ التبغ المعتّقِ

ولونُ الجمر بين أوراقه الرمادية.

سأناديكِ .. ويضيع ندائي.. أعرفُ

فوقَ رمالِ الصحراء

الذهبية.

يا لطولِ الليل خلفَ مشربياتِك الخشبية

يا لرائحةِ الياسمين في الليالي العمّانية

أناديك يا ساحرةً يا غزالةً غجرية.

نوافيرُكِ يا سيدةَ العشق

وزنبقاتُه المائية

تصبُّ حروفي

في صحنِ فنائِك لتروي عطشَ الروح

وتعيدَ الدمع لعيوني الحجرية.

أوشكتْ أن تحكي من طولِ صمتِها

الاسودُ الرخامية:

رسائلُ الحبِّ جفتْ وصارتْ للعشاق رمزاً

بل وردة حبٍّ أزلية ،

تحملها أيادي العشاق في مواكب الشعر والهوى

والاساطير الشرقية

سافرتْ اليكِ في همسِ الليل أحلامي

وعادت تحكي عن أجملِ حورية

آسرتها آلهةُ البحر الاغريقية.

حين كانت تنام على ساعدي

كان العطر ينتثرُ

في طرقاتِ البحر المرجانية.

نقشتُ اسمكِ على كل أوراقي

في آنيةِ شرفتي الزجاجية ،

وحفرتُه على راحة كفي فأدميتُها

لأجل عيونِك العسجدية.

كم تشرقُ عيونُكِ بالدمعِ

كلوحةِ زخرفةٍ أسطورية.

بنيتُ لكِ في قصائدي

قصوراً شرقية ،

فحطَّ طائرٌ فوق فوانيس قصورك الشيرازية ،

عند مداخل الياسمين واللوز ،

وغفا على أعمدة من نقوش فارسية.

سمعتُ ألحانه قبل مولدي

فصرتُ أردد كلماتِ أغانيك

المخملية.

أكتب ذكرياتي أساطيراً للحب ،

لعلَّ القمرَ في ليالي الصيف يروي

قصتنا

على الجدران المرمرية.

قصتُنا لم يعرفْها ألفُ عامٍ وعامٍ

من حكاياتٍ ترويها عرافةٌ

مغربية.

غنيت باسمكِ يا سيدتي ،

فاتقدتْ شعلةُ النور

في الليل ،

وصارت حروفُ رسائلكِ

نقوشاً على جدران

هياكلي الشعرية.

قالت لا تنسى ..

وهل ينسى من كانتْ صورتها

محفورةً في حناياه الاندلسية؟

تحركت أوتار عودي

في ليالي الشوق والغربة

تعزف للدنيا ألحاناً من

رسائل حبها الوردية

* اللوحة أعلاه للفنانة التشكيلية المغربية نزهة بوعمود

الأربعاء، مايو 6

اليزابيث ستراوت: رواية في مجموعة قصصية





















فازت روايتها بجائزة بوليتزر للسرد لعام 2009
اليزابيث ستراوت: رواية في مجموعة قصصية

بقلم: اياد نصار

فازت الروائية اليزابيث ستراوت Elizabeth Strout بجائزة بوليتزر للاعمال الروائية لعام 2009 عن روايتها المسماة "أوليف كيتردج" Olive Kitteridge وهي رواية تتألف من مجموعة من ثلاث عشرة قصة قصيرة مترابطة متسلسلة تجري أحداثها في بلدة صغيرة من ولاية ماين في الولايات المتحدة الامريكية. ولهذا أطلق عليها "رواية في مجموعة قصصية". تقع المجموعة في 270 صفحة وصدرت عن دار راندوم للنشر. وهي الرواية الثالثة للمؤلفة بعد روايتها الاولى المسماة "ايمي وايزابيل" التي نالت عنها جائزة صحيفة لوس انجليس تايمز لأول عمل روائي عام 1999. كما كانت تلك الرواية أيضاً إحدى الروايات الست التي تأهلت للفوز بجائزة أورانج للسرد النسائي عام 2000 في المملكة المتحدة ، وبعد روايتها الثانية المسماة "تحمّل معي" التي صدرت عام 2006.

ولدت اليزابيث في عام 1956 في مدينة بورتلاند التي تعد العاصمة الثقافية والاقتصادية لولاية ماين وقد حصلت في عام 1982 على بكالوريوس في القانون من جامعة سيراكوز بالولايات المتحدة في تلك السنة التي نشرت فيها أول قصة قصيرة لها. وتعيش حالياً في نيويورك مع زوجها وابنتها ، وتعمل في تدريس الادب والكتابة في كلية مانهاتن في نيويورك. وقد نشرت قصصها ورواياتها في عدد من المجلات ومن أهمها النيويوركر.

تعيد مجموعة اليزابيث ستراوت الجديدة الحياة الى مجمتع هامشي فقير في بلدة تجسد روح نيوانجلاند على الشاطيء الشرقي للولايات المتحدة حينما يأتي الاصدقاء ويتكلمون لهجات نيوانجلند المألوفة. ولكن الرواية تخلق عالماً من الكآبه الذي يشعر فيه الاباء بالحنين المؤلم الى أبنائهم ، ويرثي الازواج حال علاقاتهم الزوجية التي صارت باردة يملؤها سوء الفهم. أما بطلة المجموعة التي أخذت اسمها منها هي "أوليف كيتردج" وهي إمرأة ذات طابع ريفي بالمعنى الحرفي للكلمة. "أوليف" معلمة رياضيات متقاعدة تنتقد وترفض التغيرات التي تصيب بلدتها الصغيرة "كروسبي" على ساحل ولاية ماين ، وفي العالم بشكل عام، ولكنها تفشل في رؤية التغيرات في الشخوص المحيطين بها: عازفة الموسيقي التي تسيطر عليها قصة حب قديمة ، وكذلك تلميذها السابق الذي فقد الرغبة في الحياة ويفكر بالانتحار فتساعده للتغلب على ذلك ، وكذلك ابنها كريستوفر المتخصص في علاج أمراض القدمين الذي ترهبه وتخيفه تصرفات أمه "أوليف" بحساسيتها غير المنطقية ، وزوجها الصيدلي هنري الذي يجد أن إخلاصه للزواج قد أصبح نعمة ولعنة في آن واحد، ولكنها تقف الى جانبه حينما يتعرض لنوبة تقعده عن الحركة.

تعتبر أوليف وعائلتها الشخصيات الرئيسية في نصف القصص تقريباً. وتضع كثير من القصص اوليف في مركز الاحداث. كما تلعب دوراً في القصص الاخرى ، سواء فرعياً أو عابراً. ويمكن أن تقف كل قصة لوحدها، ولكن إذا جمعت مع بعضها فإنها تصبح رواية أوليف كيتردج. وبينما يصارع سكان بلدتها مشاكلهم الصغيرة والكبيرة ، تتوصل اوليف الى فهم عميق لذاتها وحياتها بطريقة لا تخلو من الالم والصراحة القاسية. وتقدم اوليف كيتردج نظرات عميقة في الوجود الانساني وصراعاته ومآسيه ومباهجه. كما نكتشف أن الحياة في بيئة البلدة الصغيرة ليست مملة أو بسيطة كما نتخيل بفضل قدرتها على تجسيد وتطوير الشخصيات في الرواية.

تجري أحداث إحدى القصص في مراسيم الدفن لرجل مات والتي تكتشف زوجته للتو خيانته لها فتسعى أوليف للتخفيف عنها. قصة أخرى تروي أحداث عملية اختطاف رهينة في مستشفى. وفي قصة أخرى يفاجيء عاشق قديم عازفة بيانو في احدى الردهات مما يتسبب في اضطرابها ووقوعها تحت تأثير ذكريات قديمة مؤلمة. وفي قصة أخرى تزور أوليف التي تجسد دور الام المسيطرة ابنها القلق وزوجته الحامل الدكتورة "سو" كثيرة الجلبة والشكوى. تنطوي أغلب القصص على نوع من الخيانة. وبعض منها يقدم قصصاً رومانسية هشة بعيدة الاحتمال للحب. ولكنها تقدم فضاءً واسعاً للتجربة الانسانية.

في القصة الافتتاحية المسماة "صيدلية" يظهر فيها هنري وهو يتذكر تلك الايام التي كان يدير فيها محلاً في البلدة ولكنه إضطر لبيعه لسلسلة محلات كبيرة. كما يتذكر أنه قبل عشرين عاما دعى مساعدته الشابة دينيس وزوجها الى العشاء في تحد لرغبة اوليف. ويحتل العشاء مساحة عدة صفحات بسبب جو العدائية فيه. أوليف تقدم أطباقاً من الفاصوليا المخبوزة والكاتش اب لهم كمقبلات بينما يحاول هنري الاستمرار في الثرثرة بعصبية واضحة.

يربط وجود اوليف كيتردج القصص الثلاث عشرة فيما بينها والتي تروى في تسلسل زمني. ولهذا نرى اوليف وهنري يكبران ويكبر معهما ابنهما كريستوفر ويتزوج ويسكن بعيداً. وعندما نشاهدها لاول مرة في المجموعة فهي امرأة كبيرة في منتصف الاربعينات. ومن خلال سرد الاحداث في المجموعة تصبح تلك المعلمة التي على أبواب التقاعد التي بلغت ما يزيد عن الستين ولكنها مثل جسم كوني لديه قوة جذب مركزية هائلة. لكنها ليست شخصية لطيفة. فالتلاميذ يخافون منها. ولم ترققها السنوات. يقول لها إبنها بكل فظاظة: "تستطيعين أن تجعلي الناس تشعر بشيء فظيع". وبعد أن تتبادل الشكوى مع صديقة لها تقول بتذمر: "كم هو لطيف دائما أن تسمع مشاكل الاخرين". ولكن تصرفات اوليف على هذا النحو تعود الى تعرضها للاكتئاب الذي عانت منه سنوات بعد وفاة والدها منتحراً.

ولكن مع توالي القصص ، تبدأ صورة أخرى معقدة مركبة للمرأة بالظهور. فصحيح أن أوليف ترمي ابنها بعبارات جارحة ، لكنها تحبه أكثر مما تستطيع إحتماله. وزوجها رجل طيب ، لكنها تجد عناءً في التعبير عن حبها له. تنتابها حالات مزاجية عاصفة مثلما تنتابها كذلك نوبات ضحك عميق مفاجيء. ولهذا يخافها الكثيرون ويحبها قليلون ولكن الجميع يحترمها. إنها شخصية براغماتية ترى أن الانفعالية والعاطفة شيئاً من الحماقة. وربما ينظر اليها البعض على أنها باردة المشاعر. ففي أحد المشاهد يعتقد أحد الاصدقاء أن اوليف تعاني ويسأل: ألا يجعلك ذلك تشعرين بالغضب؟ فتجيب اوليف لا معنى للغضب فما حصل قد حصل.

لديها حس بالتعاطف مع الاخرين وحتى الغرباء. ففي إحدى القصص تنفجر اوليف بالدموع عندما تقابل إمرأة مصابة بفقدان الشهية العصبي، وتقول لها: "أنا لا أعرفك ، ولكن ايتها السيدة إنك تحطمين قلبي. إنني أتضور جوعاً أيضاً. لماذا تظنين أنني آكل كل قطعة حلوى تقع عيناي عليها؟" فترد الفتاة وهي تنظر الى هذه المرأة الضخمة ورسغيها ويديها الكبيرتين: "أنت لا تتضورين جوعاً". فتقول أوليف: "بلى ، كلنا نتضور جوعاً". وهكذا نجد أن لديها قدرة مذهلة لتضع نفسها في مكان الاخر والاحساس بأزماتهم ، ولكنه تعاطف يخلو من الانفعالية. إنها تدرك أن الحياة وحيدة وغير عادلة. وأن الحظ وحده يأتي ببركاتٍ مثل زواج طويل أو موت مفاجيء. وهي تدرك المرات التي ندمت فيها كما تعي فشل الاخرين وآمالهم الواهية.

وبينما يتبلور إدراك اوليف لذاتها وتعاطفها مع الاخرين خلال الكتاب فإنه يتطور كذلك لدى القاريء. ويمتاز أسلوب ستراوت بالاسلوب الحر غير المباشر حيث يروي الرواي بضمير الغائب ويستخدم أحيانا نفس الكلمات أو الأوصاف أو النبرة التي تستخدمها شخصية ما. إذ يقول الراوي: "أزهرت الزنابق في تألق سخيف" في إحدى جمله الوصفية ، ولكن كلمة سخيف هي كلمة مألوفة ترد كثيراً على لسان اوليف.

إن المتعة التي تتأتى من قراءة "أوليف كتردج" تنبع من الاحساس بالتعاطف مع الشخصيات المعقدة وليست تلك التي تثير الاعجاب دائما. وهناك لحظات تسير فيها الرواية نحو التعاطف مع وجهة نظر تلك الشخصية بطريقة أكثر قوة وتأثيراً وإمتاعاً. هناك إدراك كبير أنه يتوجب علينا أن نحاول أن نفهم الاخرين حتى لو لم نقدر أن نطيقهم!

تجري أحداث روايتيها السابقتين "تحمّل معي" و "ايمي وايزابيل" في منطقة نيوانجلاند وتطرح نفس القضايا: شؤون العائلة، والاقاويل في بلدة صغيرة، والحزن. وتمزج في روايتها الاخيرة ما بين نَفَس الرواية التأملي الطويل وبين الرؤية الخاطفة للقصة القصيرة. وتلقي الضوء على ما يفهمه الناس عن الاخرين وما يفهمونه عن أنفسهم من خلال الانتقال من حكاية الى أخرى، ومن زاوية الى أخرى للحدث.

وحين سئلت في مقابلة أجريت معها عام 2001 عن الفترة الزمنية التي استغرقتها في كتابة روايتها "ايمي وايزابيل" قالت إن كتابة الرواية لديها عملية طويلة تستنفذ طاقتها وإنها تأخذها عادة ما بين خمس الى سبع سنوات. ولهذا فقد كتبت القصة القصيرة لسنوات عديدة لأنها أحبت القصة القصيرة ولأنها أكثر قدرة على الامساك بها من الرواية. ولكن هذا الاحساس ربما تغير بعد أن كتبت رواية ايمي وايزابيل. فالرواية بدأت فكرتها كقصة ، وأخذت تكبر وتكبر قبل أن تدرك أنه من الضروري تحويلها الى رواية. وقد لاحظت أن أسلوبها بدأ يتغير وجملها وتعبيراتها بدأت تتغير ، وحتى اسلوبها السردي بدأ يتغير حتى أصبحت تشعر أنه من الصعب عليها أن تكتب قصة ، وقد استمر هذا الاحساس معها ثلاث سنين.

وعن شخصيات رواياتها تقول أنها تشعر بارتباط حميمي معهم وكأنهم جزء من حياتها وحتى عندما لا تمسك القلم لتكتب فان شخصياتها تعيش معها دائما. لقد اصبح الامر مثل الاطفال الصغار الذين لا تتركهم يذهبون للمدرسة لوحدهم الا عندما تنتهي من الكتاب وينشر ويبدأ الناس في استقبال شخصياتها. عندها تشعر أنه يمكن أن تتركهم في العالم لوحدهم.

أما عن مسألة الابداع والموهبة فتعتبر ان الموهبة في الكتابة ليست الا الجهد الشاق في تثقيف الذات ، وأما الموهبة فهي قدرة الكاتب على التخلص من الزيف فيما يكتب واعادة كتابة الاشياء والجرأة في التخلص مما لا يرضى عنه.

* اللوحة أعلاه للفنان العراقي د. صبيح كلش بعنوان قلب مهزوم