الأحد، يناير 11

العودة


العودة

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قالت أمي ببساطتها المعهودة: جين وكاميليا طيبتان جداً. تأتيان لزيارتي كل يوم ثلاثاء.
قلت مستغرباً: ومن هما جين وكاميليا؟
-: ألم ترهما؟! حسبتك تعرفهما.
-: لم يسبق أن رأيتهما عندنا! فكيف سأعرفهما؟!
-: تأتيان كثيراً في يوم عطلتهما. ولكنك لا تكون هنا. بنتان سويسريتان تعيشان في حي خرفان المجاور. واستدركتْ بحسرة: تعيشان لوحدهما. لم تتزوجا. أشفق عليهما أحياناً!

الدنيا قبيل الغروب في بواكير آذار. الطقس ربيعي والمشهد من حولي يدفعني للتأمل وإستشعار سكون الطبيعة ورهبتها! تخترق الطريق الجبال الصخرية والوديان والسهول الخضراء. تملأ أزهار الاقحوان الفضاء والارض مثل بساط أخضر والاشجار متأنقة بأوراقها. أجلس في المقاعد الامامية وأتكأ على مسند الكرسي وأنظر من زجاج مقدمة الحافلة كما أفعل كل خميس في رحلة العودة. تتوالى صور الطبيعة مثل مشهد بانورامي. كنت أود أن أقترب منها أكثر. أن أمسكها بيدي وأتاملها طويلاً. ولكن سنوات مضت وأنا مجرد عابر سبيل لا يناله منها سوى النظرات.

تسير الحافلة بسرعة كبيرة. تتمايل عند المنعطفات فأحس أنها على وشك الانقلاب. الموسيقى النشاز تملأ السكون الجاثم بكل فجاجة. لم أكن أصغي الى كلماتها ولكنها تخترق أسماعي رغماً عني، فتثيرني بركاكة عباراتها. كنت متعباً من أسبوع حافل وأتلهف للوصول الى البيت كي أرتمي على أول صوفا أجدها! عادت أمي تقول:
- طيبتان كثيراً. تأتيان لزيارتي بانتظام كل اسبوع.
- هل تتحدثان العربية؟! سألت مستغرباً من انطلاق أمي في الحديث عنهما!
- تتحدثان بلغة ركيكة بلكنة غريبة لكنها مفهومة!
- لا أصدق أنك بنيت هذه الصداقة معهما من دون لغة مشتركة للتخاطب!
- سترى عندما تأتيان المرة القادمة.

تعجبت من قدرة أمي على هذا التعايش من غير أن تكون قد دخلت مدرسة في حياتها. واستغربت كيف استطاعت أن تبني صداقة معهما. وأدركت كم تنطوي صدرونا نحن المتعلمين على غرور فنظن أن التفاهم بين البشر يحتاج الى شهادات!
- وكيف تعرفت عليهما؟
- التقيت بهما صدفة في السوق المجاور وهما تشتريان بعض الاغراض.

نسكن في حي المهاجرين. حي شعبي فقير في بيت صغير قديم يقع في قاع درج طويل بالكاد يتسع لنا. تحب أمي أن تشتري أغراض البيت بنفسها. تذهب للسوق صباح كل سبت، وتشتري المؤونة وتعود قبيل الظهر. تعود وهي تنوء بحمل الاكياس في يديها. رجوتها عدة مرات ألا تحمل تلك الاكياس. فتقول لي: ومن سيحملها عني؟! أذهب للسوق وأخوك نائم حتى الظهر. لا يستيقظ حتى لو دوّى صوت مدفع عند رأسه. أبقى أنادي عليه وهو يرفع رأسه متأففاً يريد أن ينام. فكنت ألوذ بالصمت من إجاباتها!

تجلس الى جانبي في الحافلة فتاة قد غطت وجهها الا من عينيها. بقيت ساكناً وعرفت أن الرحلة ستكون طويلة! أشعر بعدم الارتياح حيال جلوسي بجانبها، فكل التفاتة الى جانبي لرؤية المشهد خارج النافذة ستثير الظنون والصمت المتوتر. تجلس متسمرة في مكانها طوال الطريق. أحس أنها تتصنع الوقار أو أنها تجبر نفسها على الجلوس هكذا لإظهار الرزانة.

- جين وكاميليا تجمعان تبرعات للايتام وتساعدان النسوة في الحي. ولكني حزينة لأنهما في غاية الجمال ولم تتزوجا! يضيع شبابهما هدراً!

الحافلة مليئة بالركاب. أغلبهم من الشباب والبنات العائدين من الجامعة في عطلة نهاية الاسبوع. أنهمك عدد منهم بأحاديث هامسة خشية المتطفلين. الكل يحمل كتباً وأوراقاً ودوسيهات في حجره، ولكن لا أحد يقرأ في شيء أمامه. بدأت الشمس بالانحدار في الافق، مثل كرة برتقالية كبيرة. تمر اللحظات والكرة تنحدر وتغيب. أتحسر.. بعد قليل سيحل الظلام ويختفي كل هذا الجمال على طول الطريق. أتعجب كيف يكون شكل الحياة في هذه البقاع في الظلام.

- هل تعملان مع برنامج أو جمعية للاغاثة ومساعدة الفقراء؟
- أخبرتني كاميليا أنهما ستسافران الى غزة لتقديم معونات للاطفال الايتام. لقد جاءتا الى عمان قبل ثلاث سنوات. وتعملان مع منظمة دولية لمساعدة عائلات الأسرى في سجون الاحتلال. ينقلن الرسائل من المساجين الى عائلاتهم في غزة والضفة الغربية.

حل الظلام تدريجياً فلم يعد في مقدوري أن أرى الاخضرار. أخذت أقرأ في الصحيفة. صرت أقرأ صفحاتها بتمعن على غير المعتاد كي أقتل الوقت! حتى صفحات النعي توقفت عندها كي أرى كيف يتصرف الناس مع الموتى! يبدو أننا لم نطور أسلوبنا في هذا المجال بعد كل هذه السنوات الطويلة!
- ومتى ستأتيان المرة القادمة؟
- لقد أخبرتهما عنك المرة الماضية وعن دراستك. أتمنى أن تأتيا وأنت هنا.

بدأت الحافلة تنحدر من المناطق الجبلية الى سهل البقعة. بدأت تختفي الجبال العالية وتظهر أضواء البيوت الكثيرة على إمتداد السهل. تزدحم الطريق بالسيارات. تمتد بيوت الصفيح والطرقات الطينية في المخيم على جانبي الطريق الطويل. مخيم كبير شاسع يضم مئات الالوف. البيوت ذات سقوف من الزينكو، وقد إزدحمت طرقاته بالعربات والعجائز والاطفال والمحلات التي تبيع كل شيء! أسطح البيوت مثل غابة كثيفة من الاطباق اللاقطة وهوائيات التلفزيون! تذكرت شيلا قبل عدة سنوات. إمرأة انجليزية عملت سنوات في كينيا في تعليم اللغة هناك. كانت رقيقة حساسة ، تخاف من أي شيء ، ودائمة الابتسام والحركات الايمائية! عندما مرت من هذا الشارع لاول مرة وهي في طريقها للجامعة، ذهلت من عدد هوائيات التلفزيون فوق أسطح بيوت المخيم! إستكثرت ذلك على ساكنيه. كانت تظن أن الناس بعد خمسة وأربعين عاماً ما يزالون يعيشون تحت الخيام! ولكن ذهولها حرك في داخلي هاجساً مكبوتاً. هل ما يزال كل هولاء يفكرون بالعودة؟! كم من المفاتيح التي حملتها أمهاتهم ما تزال معهم؟
- وماذا قالتا عن معاناة الناس هناك؟
- قابلتا عددا كبيراً من الشخصيات المعروفة. لقد أرتني كاميليا الصور!
- معقول؟ كيف حصل هذا؟
- بفعل نشاطاتهما الواسعة وتنقلهما المستمر فقد صارتا تعرفان كل شيء عن المنطقة.

بدأت الحافلة تدخل حدود المدينة. الاضواء تتلألأ.. والشوارع مزدحمة بالبشر والسيارات. نظرت عبر النافذة. ما تزال الفتاة جالسة في مكانها بلا حركة وهي تنظر الى خارج النافذة. المحلات متلاصقة على طول جانبي الطريق بلوحاتها الفوضوية وحجارة أرصفتها المتكسرة. توقفت الحافلة. نزلت وحملت حقيبتي ووقفت أنتظر سيارة. كان كلام أمي عن جين وكاميليا ما زال يتردد في خاطري. حاولت أن أتخيلهما. أحسست من كلام أمي أنهما فتاتان كبيرتان صلبتا العود حتى تقوما بهذه المهمة لوحدهما وتتحملان حياة الغربة في بيئة قاسية ليست كتلك التي إعتادتا عليها. قالت أمي:

- شكت لي كاميليا من المرارة التي يعيشها الناس تحت الاحتلال. قالت لي أنها بينما كانت تقف ذات مرة على باب أحد البيوت وهي تحنو على طفل يتيم صغير. أحست بيوم القيامة يقوم من حولها. لقد دوّى الصوت وارتفعت كرة النار قريبا منها. لقد سقطت قذيفة في حوش الدار فقتلت الام وصارت جثتها أشلاء. كاد أن يغمى عليها وصارت تصرخ من الصدمة حتى فزع الناس.

أوقفت سيارة أجرة صفراء وطلبتُ منه أن يوصلني الى منزلنا. كنت متعباً. خفت أن يفتح السائق معي موضوعاً كالعادة من الملل الذي ينتابهم طوال النهار وهم على الطرقات! مرهق وليس بي رغبة في الحديث! بقيت هادئاً ويبدو أنه كان مستغرقاً بسماع الاخبار فلذت بالصمت! كانت ما تزال صور الطريق الجميلة تمر أمام عيني. تذكرت شيلا مرة أخرى.
وقفت السيارة في نهاية الشارع. منزلنا في آخر الدرج الطويل أسفل الشارع. نزلت ببطء أتكيء على الجدار. دققت جرس المدخل فسمعت صوت مزلاج الباب ينفتح. طلت أمي بوجهها البشوش الباهي. عانقتني ودخلت. رأيت فتاتين في نهاية العشرينات من العمر وذات شعر أشقر جالستين تنظران الى التلفزيون. قالت أمي: هذا سامي الذي حكيت لكما عنه. وصل الان من إربد. ابتسمتا وسمعتهما تقولان بعربية بلكنة أجنبية أهلا وسهلاً . التفتت الي أمي وقالت: هذه جين وكاميليا. لقد وصلتا أمس من رام الله. سمعت أمي تتمتم وتدعو لهما بالستر والزواج! ضحكت في سري! جلست قليلاً وتركت أمي تودعهما على طريقتها الخاصة ودخلت للداخل لارتاح من عناء طريق العودة.


* اللوحة أعلاه بعنوان حيرة للفنان العراقي أمين العزاوي

هناك تعليق واحد:

  1. اعجبتني القصة جـدا و ما اعجبني اكثر شيء فيها وبجميع قصصك هو العنوان المشوق فقد احترت من اي القصص ابدا فجميعها لها عناوين مميزة ,, تحياتي لك لما كتبت .

    ردحذف