الثلاثاء، أكتوبر 28

شاطيء دوفر


شاطيء دوفر

شعر: ما ثيو آرنولد
ترجمة وتعليق: اياد نصار


البحر هاديء الليلة

المد في أوجه، والقمر يتمدد جميلاً

فوق المضائق _ الضوء على الساحل الفرنسي

يشع خافتاً ثم يختفي؛ تقف منحدرات انجلترا

متوهجةً وواسعةً بعيداً في الخليج الساكن

تعاليْ الى النافذة، ما أروعَ نسيم الليل!

ومن خطِّ الرذاذ الطويل وحده

حيث البحر يلاقي الارض التي غسلها القمر

إستمعي! تسمعي الزئير الهادر

للحصى التي تسحبها الامواج للخلف قليلا وتطوّح بها

عند عودتها فوق الشاطيء العالي،

تبدأ وتنتهي ثم تبدأ من جديد مرة أخرى

مع صدى الحزن المضطرب بطيئة فتجلب معها

الينا نغمة الحزن الابدية.



قديماً سمعها سوفوكليس

على شاطيء بحر إيجه فأثارت

في أذهانه المد والجزر المتكدر

للبؤس الانساني؛ نحن

نجد في الصوت كذلك فكرة

نسمعها عند بحر الشمال البعيد هذا.



بحر الايمان

كان يوماً ما مليئاً أيضاً ويحيط بشاطيء الارض

يتمدد كطبقات حزام لامع ملفوف حولها

لكني حسبي الان أن أسمع

صوت كآبته وهديره الطويل المتراجع

ينسحب الى أنفاس ريح الليل، نازلاً على حوافها الكئيبة

وحصى شواطئها العارية.



آه يا حبيبتي، لنكن صادقين

مع بعضنا بعضاً! لأن العالم الذي يبدو

ممدّداً أمامنا مثل أرض الاحلام

متنوعاً، وجميلاً، وجديداً جداً

ليس به حقاً لا فرح ولا حب ولا ضوء

ولايقين ولا سلام ولا عونٌ لألم

وها نحن هنا كأننا فوق سهل مظلم

غشيته نُذُرٌ مضطربة للكفاح والهروب

حيث الجيوش الغبية تتقاتل في الليل

كان ماثيو آرنولد شاعراً وناقداً انجليزياً كبيراً ولد عام 1822 وتوفي عام 1888 أي خلال الفترة التي أعقبت إزدهار الحركة الرومانتيكية في الشعر الانجليزي وبدء ظهور مرحلة الحداثة. إهتم من خلال شعره وكتاباته بطرح المواضيع الاجتماعية والفكرية السائدة في عصره. كان يعمل مفتشاً للمدارس في انجلترا، مما كان يتطلب منه السفر باستمرار في أنحاء كثيرة من إنجلترا. أصدر في عام 1850 ديوانه الشعري الاول، وفي عام 1852 أصدر ديوانه الثاني. أنتخب أرنولد أستاذاً للشعر في أكسفورد في عام 1857. وكان أول محاضر يقدم مادته عن الشعر بالانجليزية وليس باللاتينية. وفي عام 1865 أصدر كتابه بعنوان مقالات في النقد. عرف عنه شخصيته المحببة وإهتمامه الكبير بالادب والشعر.

يعتبر أرنولد ثالث أعظم شاعر إنجليزي من العصر الفيكتوري بعد ألفرد تينيسون، وروبرت براوننج. وقد كتب رسالة الى أمه في عام 1865 وقد ضمنها الفقرة التالية للحديث عن شعره وأهميته في مسيرة الشعر الانجليزي: " تمثل قصائدي في مجملها الحركة الفكرية في الربع الاخير من القرن. وسوف يكون لها ذات يوم حضور حينما يعي الناس ما هي حركة الفكر هذه. عندي عاطفة شعرية أقل من تنيسون، وأقل توقداً من جهود روبرت برواننغ العقلانية." وإعتبر أنه كان مزيجاً بينهما، وأن هذا التأثير الذي يمزج بين الاثنين سيأتي يوم ما ويقر الناس بالفضل له به. إن الفترة التي عاش فيها أرنولد في القرن التاسع عشر كانت الفترة الفاصلة بين الحركة الرومانتيكية التي كانت في أواخر عهدها والتي كان يمثلها في الادب الانجليزي وليم وردزورث وصامويل كولريج والشعراء الشباب جون كيتس وبيرس شيلي ولورد بايرون وبين تيارات الحداثة التي جاءت مع نهاية القرن التاسع عشر وتعمقت في القرن العشرين. كان أرنولد يعتبر نفسه حلقة الوصل بين هاتين الفترين. وقد عكست قصيدته هذه الفكرة. فهناك الوصف الرومانسي الجميل المؤثر للمكان على شاطيء دوفر التي تقع ضمن مقاطعة كنت على الضفة الانجليزية من بحر الشمال الفاصل بين إنجلترا وفرنسا، وهناك فكرة القلق والحزن الانساني وغياب اليقين والشعور بالضياع وهذه من المواضيع الرئيسية التي طرحتها الفنون والاداب التي ظهرت مع بداية الحداثة في أوروبا.

تعتبر قصيدة شاطيء دوفر من أهم قصائد ماثيو أرنولد التي صوّرت عالماً كابوسياً يموج بالانواء العالية، والاضواء التي تتوهج لفترة قصيرة ثم تختفي لتترك العالم في ظلام. وهي قصيدة غنائية ذات مزاج يغلب عليه طابع الاكتئاب والسوداوية. بل إن بعض النقاد ألمحوا الى أن المتكلم في القصيدة لم يستطع التخلص من هذا الاحساس الكئيب حتى في أكثر اللحظات العاطفية والرومانسية جمالاً، فأبيات القصيدة توحي بأن هناك حواراً بين المتكلم وبين حبيبته التي جاءت معه الى هذا المكان لتستمتع بجماله في ليلة مقمرة على شاطيء البحر، إلا أنه بدل أن يستغرق ذاته في الاحساس بجمال اللقاء والمكان، فقد أحس بنوع من الحزن والضياع. وقد إعتبر أن تراجع الشعور بالايمان هو الذي ملأ العالم بالشك والحزن والاضطراب. ويؤكد أن الحزن الانساني عميق ومتأصل في الانسان. فمنذ أن كتب المسرحي اليوناني سوفوكليس تراجيدياته مثل عقدة أوديب وعقدة الكترا التي يطغى فيها الاحساس بالضياع والالم والحزن والى زمن الشاعر، فان الحزن ما يزال هو ذاته. وقد أراد أن يؤكد بذلك إستمرارية المعاناة والقلق الانساني.

وظف الشاعر مفهوم البحر وحركة أمواجه والمد والجزر في القصيدة على أكثر من صعيد في سبيل تقديم صورة متحركة في أجواء من المساء وضياء القمر ونابضة بحركة الامواج، وعلى سبيل الاستعارة للدلالة عن عالم الاضطراب والفوضى والحزن، حيث يصبح البحر هو عالم البشر الهادر الذي يموج بالحزن مثل صوت امواج البحر الهادرة التي حملت معها نغمات تراجيديا سوفوكليس. كما وظفه للحديث عن بحر الايمان الذي كان يعطي حياة البشر نوعاً من الاستقرارية، وحينما بدأ يتداعى مع بروز الحداثة بدأ يزداد الاحساس بالقلق.

يلاحظ في القصيدة غياب التواصل بين الرجل والمرأة، فلا نسمع سوى صوت المتكلم يدعوها كي تنظر من النافذة لترى المشهد وتسمع صوت أمواج البحر، دون أن يكون لها صوت أو ردة فعل.

تؤكد القصيدة في المقطع الاخير جانباً آخر للازمة وهو غياب الصدق من العلاقات الانسانية. وقد وجه للمرأة دعوة لكي تكون صادقة معه فهذا هو السبيل لسعادة العالم الذي يعاني من الالم والحزن والظلام وغياب الامل.


* اللوحة أعلاه بعنوان المتجول فوق بحر الضباب للفنان الالماني كاسبر ديفيد فريدريخ (1774-1840)

هناك 3 تعليقات:

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. حدث خطا بسيط لكني لا اعرف ممن تعليقي كان على قصة (ازهار تموت في المساء)لو ليس (ليس شاطيء دوفر) فأرجو تصحيح مسار التعليق من فضلكم..و لكم جزيل الشكر

    ردحذف
  3. يبدو أنك انتبهت الى عبارة اترك تعليقك فوق القصة وكتبت هناك التعليق. عادة هذه العبارة ترد في نهاية الموضوع. وبالتالي فقد كتبت التعليق في نهاية قصيدة دوفر وليس أزهار تموت في المساء. وعل كل حال تم نقل التعليق. واشكرك جمان على تعليقاتك واهتمامك بالكتابة هنا وأهلا وسهلا بك دائما

    ردحذف