الجمعة، مارس 11

خليل قنديل.. كتابة نبض الشارع



خليل قنديل..كتابة نبض الشارع

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي ليوم الجمعة 4/3/2011

يطل خليل قنديل على قرائه كل يوم ليكتب السهل الممتنع في قضايا ثقافية واجتماعية وإنسانية واسعة الطيف، بلغة تنطوي على درجات من التصريح والتضمين ومستويات التحليل المختلفة، بحيث تبدو ظاهرياً أقرب إلى لغة القارئ العادي، وليس القاص ذي العبارة الرشيقة الذي عرفناه أو الأديب المتخصص في اختيار كلماته من معجم أحاديث الإنتلجنسيا.


وتتراوح إضاءاته ما بين مشكلات التخلف، والتنمية، وهبوط الذوق الفني، وهيمنة مفاهيم الصمت، والعلاقات النفعية، والمماحكات، وتسطيح القضايا، وتزييف الوعي، وانتشار ظواهر التسلق، والمجاملة في الأوساط الأدبية، التي تنحدر بمستوى الإبداع، وتحيل الفعاليات الأدبية إلى مناسبات احتفالية كرنفالية دون إضافة قيمة تسهم في نهضة إبداعية حقيقية.

قنديل قريب من نبض الشارع، ويكتب من عمق معاناة الناس التي يشعر بها، ويكتوي بمظاهرها التي يقتنص منها دائما موضوعات لكتاباته اليومية. ولكن ما يستحق الإشادة أن قنديل قاص مخضرم ومخلص لفن القصة منذ ما يزيد على ربع قرن. قليلون هم من لم تغوهم الرواية في هذا العصر رغم جوائزها الكثيرة، ورغم الاحتفاء "الأسطوري" الذي يلقاه الروائيون أحيانا، وأجد لزاماً هنا أن أشيد في هذا المقام بقلعة القصة الأردنية الأخرى التي بقيت صامدة في وجه رياح الرواية، يوسف ضمرة، الذي يطل علينا بين حين وآخر، بإرادته القوية، ونفسه المرهفة، وعطائه الموصول، ليقدم إبداعه ونظراته النقدية العميقة، والتفاتاته اللغوية الجمالية.

يمتاز أدب خليل قنديل بأنه أدب الحياة الشعبية بكل واقعية صرفة ينقل تفاصيلها وأمكنتها ونماذج شخصياتها وموروثاتها وأساطيرها ومقولاتها وتصوراتها وخرافاتها. وتقدم قصصه القصيرة صورا بالغة الدقة من نمط معيشة الناس ومعاناتهم وهواجسهم ورغباتهم وأوجاعهم وأسلوب تفكيرهم. تمور قصصه بالحركة والصوت والروائح ويركز على الوصف الذي ينقل تأثير العالم الخارجي على الإنسان ليكون البديل الذي يرسم المعاناة النفسية الداخلية.

شخصياته القصصية من النوع الذي تراه كل يوم في الشوارع والأزقة والأحياء الشعبية وبيوتها القديمة التي تبدو مألوفة، لكن قصصها اليومية المكرورة تتلمس بشكل مكثف أوجاع الفقراء والمهمشين وتأثير المكان فيهم.

وصف الناقد فخري صالح أسلوبه بقوله: "تغلب على قصص خليل قنديل الواقعية الخشنة والوصف التفصيلي الدقيق لمشاعر شخصياتها ومونولوجاتها، كما إن القاص، في سياقات أخرى، يعيد سرد الحادثة الواقعية في إطار العجيب والغريب والسوريالي والاقتراب من روح الطبيعة العاصفة المدمرة، ما يذكّر بالقصة والرواية القوطيتين ممثلتين بكتابات أبي القصة الأميركية، وربما في العالم كلّه، إدغار ألن بو".

احتفت الأوساط الأدبية في الأردن بصدور مجموعة قنديل الأخيرة "سيدة الاعشاب"، حيث رأت فيها تجسيدا فنياً يرصد تفاصيل العلاقة الدقيقة بين ثلاثية المكان والإنسان -خصوصاً المرأة- والميثولوجيا الشعبية.

إنها قصص تشبه حكايات الكبار التي كنا نسمعها في طفولتنا بقدرتها على توظيف عنصرَي التشويق والنهايات بما يوثق الفلكلور والأدب الشفاهي الشعبي حول قضايا الحياة اليومية التي تجمع ما بين الخرافة والأسطورة والحلم. يقول في ذلك: "عليّ أن أعترف أنني مدين لسلالة من الأجداد والأعمام لهم رشاقة نادرة في اصطياد المفارقة وتوظيفها في بدهية السرد الشفاهي.. ومن تلك الذاكرة الشفاهية، حصلت على بداهتي التي تميزني بين الأصدقاء، وربما كتابياً".

اهتم قنديل في مجموعاته القصصية جميعها بمادة الحياة اليومية والتفاصيل الصغيرة للناس في الأسواق والشوارع والأدراج والأزقة. وهو يعتمد في عمله القصصي على الملاحظة الدقيقة لحركة هؤلاء الأفراد. وبرأيه فإن "القاص الذي لا يمتلك العين الصقرية القادرة على التقاط أدق التفاصيل، والعلاقة الفانتازية ما بين التفاصيل، فاشلٌ بامتياز". ولهذا يشعر أن هذا المنجم ما يزال بكرا يحتاج إلى استكشافه: "لي العديد من القصص والحكايا مع شوارع لم أكتبها، وقصص أخرى لساحات عامة وأسواق، وربما أشجار، وصباحات جميلة أبقيتها حبيسة فِـيّ لأنها لي أنا".

لذلك تميز قنديل في "سيدة الأعشاب" كعادته في التقاط التفاصيل الدقيقة وتوظيف المقولات والأساطير الشعبية في إعادة الحياة لجوانب صغيرة في حياتنا التي كثيرا ما نمر عنها فلا تستوقفنا، لكنها تستوقف عين القاص الدقيقة. ورغم قلة كتاباته القصصية وانشغالاته الصحفية والحياتية، إلا أنه ما يزال منحازاً لصف القصة.

مما يجدر ذكره أن قنديل، الذي عُرف عنه روح النكتة والدعابة والفطنة وطبيعته الاجتماعية الساخرة أحياناً والتي تضيق ذرعاً بالرسميات في اللقاءات الطويلة التي لا يحتملها، بدأ مشواره القصصي العام 1983 مع "وشم الحذاء الثقيل"، الذي صدر عن رابطة الكتاب الاردنيين، ثم مجموعة "الصمت" عن اتحاد كتاب وأدباء الامارات العام 1991، ثم "حالات النهار" العام 1995، وفي العام 2002 أصدر مجموعته الرابعة "عين تموز".

وقد احتفت رابطة الكتاب الأردنيين في العام 2006 بصدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، متضمنة مجموعاته الأربع السابقة، والتي كتب قصصها على مدار ربع قرن من الزمان، وذلك بإقامة حفل توقيع للكتاب وأمسية تحدث فيها روائيون ونقاد حول مضمون أعماله وتجربته القصصية. وفي العام 2009 نال درع أمانة عمان بمناسبة صدور مجموعته القصصية الأخيرة "سيدة الأعشاب" في العام 2008 والتي صدرت عن وزارة الثقافة ضمن مشروع التفرغ الإبداعي، وقد أقيم لكتابه حفل توقيع في بيت تايكي حضره وزير الثقافة الذي ألقى كلمة أشاد فيها كثيراً بالقاص خليل قنديل. كما تحدث فيه أدباء عن تجربته الإبداعية.

قنديل، الذي وُلد في إربد العام 1953، واسمه الحقيقي خليل محمد العبسي، صاحب مشوار طويل مع الأدب والصحافة، فقد عمل لسنوات طويلة سكرتيراً لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات العربية المتحدة. كما عمل في الصحافة منذ ثمانينات القرن العشرين، وما يزال يعمل في صحيفة "الدستور".

ينتظر القراء من قنديل، مزيدا من الإبداع القصصي الجميل، والعطاء الصحفي البارع الذي يقتنص الجوهر بوعي قنديل المغرم بالبحث عن حكمة العيش وخلاصة التجربة الكامنة في ثنايا مواقف الحياة، التي قد نمر عليها مرور الكرام، لكن قنديل يقدمها في كلمات ذات إضاءت فلسفية واجتماعية تحمل الهم والرغبة في التغيير المجتمعي الإيجابي.

رابط المقالة بجريدة الرأي

رابط الصفحة الكاملة بجريدة الرأي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق