الأحد، يونيو 8

أشياء في الذاكرة


أشياء في الذاكرة

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

كانت السيارة الصغيرة المتعبة التي أنهكت الشمس جلدها الابيض المائل للصفرة تقطع الطريق الصحراوي في عز الصيف الحار والجاف، وقد وشّحها الغبار والرمل. وكان جهاز التكييف فيها لا يعمل ، مما إضطره الى فتح الشبابيك. كانت موجات من الهواء الحار تسفع الوجه .. كانت بقعة الشمس اكبر من المعتاد .. تملأ الزجاج الامامي وتضايق العين. وكانت شمسية السيارة بالكاد تغطي شيئا من وجهها اللافح .. كان يتناول زجاجة الماء كلما أحس بالانهاك والعطش .. يشرب قليلا ثم يتابع مسيره .. ينتابه الخوف والحذر والترقب .. فالطريق لم تعد آمنة منذ بدأت الحرب .. وقد يصبح هدفاً سهلاً لرصاصة واحدة لمجرد سلب السيارة .. فهناك قطاع طرق وهناك انتحاريون يبحثون عن سيارت لاستعمالها كمفخخات. تسلل الى أعماقه خوف أن ترصده طائرات أمريكية من الجو وتظن أنه هدف متحرك خاصة ان السيارة قديمة! مد يده الى جيبه للاطمئنان على محفظته. يساوره القلق كثيراً وقد حذروه في البيت كثيراً قبل أن ينطلق. اياك أن تقوم باستخراجها امام الاخرين او ان يبدو عليك انك قلق على نقودك. كان يخبيء في جيب السيارة حقيبته الصغيرة المليئة بالاوراق والوصفات الطبية والادوية وكمية من النقود أخفاها في مغلف بلاستيكي محكم ولكن تعمد أن يبدو عليه انه مهتريء متسخ من الخارج كي لا يلفت انتباه أحد.
أخذ يزيد السرعة أحياناً كي يقطع الطريق قبل أن يحل الظلام. الهواء الساخن يلفح وجهه والشمس الحارقة تحيل الطريق امامه الى شريط ناري ذهبي .. كان السراب يبدو من بعيد على جانبي الطريق كأمواج بحرٍ أصفر .. لم يكن الحر شيئاً غريباً عليه .. فبغداد في الصيف حارة قائظة حارقة .. يتذكر كيف كان في صباه يصعد مثلما كان الناس في الليل يصعدون الى أسطح البيوت للنوم هرباً من شدة الحر .. لم تكن المكيفات منتشرة بعد مثل هذه الايام .. وخلال أيام الحصار والحرب عندما كانت تنقطع الكهرباء كانت الامور لا تطاق .. حر لاهب وظلام وترقب وخوف.

هذه هي المرة الثالثة التي يسافر فيها كريم الى عمان .. قبل سنتين كان في بغداد في مكتبه في حي الاعظمية عندما رن جهاز الهاتف .. كان الصوت بعيداً مشوّشاً متقطعاً .. لم يفهم شيئاً .. إنقطع الخط .. كانت الاتصالات صعبةً للغاية وغير متوفرة والناس تعاني الامرين اذا ارادت الاتصال بالخارج .. أعادوا الاتصال به .. كانت صدمة كبيرة له وسط ذهول وحزن .. تحشرج صوته ودمعت عيناه وخارت قواه .. لم يدر أين هو ولم يعد يحس بشيء حوله .. كانت أخبار القتل والموت والدمار وصور الاشلاء والدماء على الطرق شيئاً مألوفاً .. لم يعد الاحساس بها يحرك المشاعر فلا دموع أو إنفعالات إضافية باقية .. صار الموت خبزاً يومياً في كل شارع .. ولكن هذه المرة هزّه الخبر كثيراً .. أخبروه أن أخاه كاظم قد مات في حادث سيارة في ليبيا.
خرج كاظم من العراق في أول فرصة سنحت له قبل أربع سنوات ليعمل في ليبيا .. كانت الامور في بغداد هادئة ولكن الحصار ذبح الناس واستنفد طاقاتهم على الاحتمال. أخذ معه زوجته وابنه الوحيد. كان يعمل خبيرا في هندسة الانتاج الزراعي. ولكن سيارة طائشة يقودها شاب مستهتر حطمت أحلامه وأحلام اسرته. كان إبنه في الصف الخامس وقد واجه بعض الصعوبات في التأقلم مع نظام المدرسة هناك. كان دائما يسأل والده بحنينٍ ظاهرٍ متى سيعودون للعراق. فكان يقول له بحيرة ظاهرة من نبرات كلامه قريبا سنعود، ويشرد بأفكاره الى بلده ويتخيل كم تغيرت في مدى عدة سنوات قليلة. كان يحس بأعماقه أن الاستقرار والهدوء الذين عرفهما عندما كان فتىً صغيراً قد ضاعا للابد.
سافر كريم الى ليبيا لإعادة عائلة أخيه وانهاء أموره في العمل والسكن والحصول على مستحقاته وتعويضاته. قام بكل الاجراءات اللازمة لدفن أخيه في بنغازي واعادة عائلته. لم تكن المسألة سهلة ً. لقد مكث هناك شهرين حتى تمكن من انهاء كل المعاملات والحصول على الاوراق الخاصة بأخيه وعائلته. كانت اجراءات طويلة ومعقدة وكل شيء يحتاج الى دليل. ولو أحس الميت مقدار التعب الذي سيتحمله الاحياء في سبيله لعاد من الموت! عندما كان كريم في طريق العودة الى بغداد فقد توقف ثلاثة ايام في عمان لايداع المبلغ الذي حصل عليه في أحد المصارف. كان يخشى من العودة به عبر الطريق الصحراوي الى العراق في ظل الظروف آنذاك.

استمر كريم في القيادة برغم الحر والشمس والانهاك .. كانت الشمس قد بدأت تبتعد عن زاوية نظره .. ولكنه ما زال يحس بالعرق يتصبب على جبينه ورقبته. أمسك مغلفاً ورقياً كان على المقعد الذي بجانبه وصار يستخدمه كمروحة لتحريك الهواء لعله يخفف من الشوب ويحرك الهواء قليلا. بدأت السيارات والشاحنات تزداد من خلفه ومن الطرف المقابل للطريق. شعر انه اقترب من الحدود .. عندما وصل نقطة الحدود فقد نزل من السيارة وهو يرى اثار العرق على قميصه وظهره فأخذ يبحث عن ماء يشتريه كي يشرب ويأخذ معه احتياطاً. كانت هناك أزمة في المغادرين والسيارات على كلا الجانبين .. لا بد من الانتظار ثلاث ساعات على ما يبدو كي يستطيع الخروج. لقد صار كابوس الانتظار الطويل والتفتيش الدقيق مألوفاً. أدرك ان الدول المجاورة صارت تشتبه في كل عراقي يدخل! كل مرة يشعر بالأسى من منظر الصفوف الطويلة و تذكر كم قرأ من قصائد وهو في المدرسة حول الوحدة وحتمية ازالة الحدود ، وقارنها بالواقع! أخذ يتمتم بينه وبين نفسه "الحدود هي أفضل معيار لتحديد قيمة الانسان العربي في شرقنا وغربنا العزيزين"!! ولكن الظروف علمته ان يكون هادئاً صبوراً وأن يتحمل فوق طاقته، فظروفه لا تسمح له حتى مجرد التذمر! وأخيراً جاء دوره بالمغادرة. وتكرر المشهد على الطرف الثاني من الحدود. لقد صار العبور بسلام دون تأخير ودون سؤال أو جواب بحد ذاته هدفاً وأمنيةً بعيدةَ المنال.

انطلق عبر الطريق الصحراوي مرة أخرى في سيارته العتيدة باتجاه عمان .. شعر بارتياحٍ قليلاً فقد كان يخشى أية مفاجأة على الطريق من بغداد الى الحدود. كانت الشمس قد بدأت تنزل عن منتصف السماء باتجاه الغرب.. ولكن الجو ما زال حاراً والهواء يهب ساخناً. اخذ يقلب مفتاح الاذاعة على محطات مختلفة. لم يكن به هوىً أو مزاجٌ أو إحتمالٌ لسماع الاخبار والحوارات السياسية المملة التي توتر الاعصاب من صراخ المتحدثين وحواراتهم المتشنجة. كان يبحث عن شيء يهديء الاعصاب بعد هذه الرحلة الشاقة. بقي يقلب الابرة .. أخيراً خرج صوت ناعم .. كانت ليلى مراد تغني أنا قلبي دليلي. سرح معها الى أيام الزمن الماضي .. لقد أصبحت تاريخاً .. ولا يبدو ان التاريخ سيعيد نفسه!
أخذ يفكر في العملية التي سيجريها في عمان .. وأخذ يفكر في فصول المعاناة الرهيبة التي مر بها المرة الماضية .. لم يكن الالم وحده .. ولكنه أصبح مثل المتشرد الذي لا يستقر في مكان واحد نهائياً .. لقد أجرى عدة عمليات في الاردن وسوريا .. كانت فصول المعاناة طويلة .. ثلاث عمليات في مدى سنتين .. لقد أخبروه المرة الماضية عن طبيبٍ ماهرٍ متخصصٍ بهذا النوع من العمليات. إتصل به صديقه محسن من الاردن .. وأخبره أنه قد حجز له شقة فندقية قريبة من عيادة الطبيب المختص .. لقد أخبره الاطباء قبل سنتين أن لديه ورماً ويجب أن يجري عملية كل سنة لاستئصاله .. في المرة الماضية جاء الى عيادة هذا الطبيب الذي أجراها له وقد نجحت .. صار كريم يدعو له بالتوفيق في كل مرة يأتي على ذكره! لم يكن يشعر أحد غيره بمدى الالم والمعاناة الذين احتملهما .. ولكن العملية كلفته كثيراً .. وبعدها صارت اجراءات الدخول صعبة للغاية .. فقرر ان يذهب المرة الماضية الى سوريا لاجرائها .. ولكنه هذه المرة استطاع ان يتدبر واسطة للحصول على الفيزا .. بدأت الشمس تنحدر قليلا والهواء يهب حاملا معه نسماتٍ باردةً بعض الشيء .. ما تزال كثبان الرمال تمتد على جانبي الطريق .. ما تزال الطريق طويلة الى عمان.

تذكر معاناة المرة الماضية .. لقد اقام في سوريا حوالي السنة متنقلاً بين مدينة واخرى من فندق الى فندق ومن بيت الى بيت .. وقد كان هناك مجموعة من اصدقائه العراقيين الذين ساعدوه كثيراً .. كانت حالته الصحية صعبة وبالكاد يستطيع الحركة ولا يعرف أحداً في سوريا. وكان دائما يحمل معه حقائبه واوراقه ووصفاته وصور الاشعة والتخطيط وعلب الدواء ونقوده .. لم يكن يعرف كم سيمكث في سوريا اذا ساء الوضع في بغداد .. الظروف متقلبه ويمكن ان تسوء الامور او تغلق الحدود او يسوء الوضع في بغداد فيضطر للبقاء في سوريا.. خبأ بين اوراقه لما خرج من بغداد دفتر شيكاته اذا احتاج اليه.. في سوريا التقى بهادي .. كان لاجئاً عراقياً .. كان هادي تاجراً لقطع السيارات وقد تعرض محله للنهب والعبث عدة مرات الى أن تم تفجيره في النهاية .. ولم يسلم هو من التهديد .. فقد كان يجد اوراقاً في مدخل بيته تهدده بمصيرٍ أسود.. لم يكن يعرف لماذا يستهدفونه وخاصة انه ليس له ارتباط باي حزب او جماعة سياسية.. وفكر بالالوف الذين قتلوا بطرقٍ بشعة لمجرد وشاياتٍ وربما بدافع السرقة البحتة، فأيقن ان المخاطرة غير محسوبة ، وأن من يمارسون القتل لا يحتاجون لسبب لينالوا منه .. ولكن ربما ليس لديهم متسع للوصول اليه فالقوائم طويلة بانتظار الامر بتصفيتهم! فقرر الهرب من بغداد .. رحب به هادي واستقبله بكل ترحاب وضيافة في بيته .. كان بيتاً شعبياً في دمشق .. شرح له وضعه وسبب قدومه والظروف التي مر بها.

ساعده هادي في الدخول الى أحد المستشفيات .. بقي عدة أيام فيه ، وقد أجرى عدة فحوص وتحليلات .. وبعدها أجريت له العملية .. قالوا له ستصبح على ما يرام بعد ثلاثة ايام .. كان قلبه يمتليء أملاً بعد معاناة طويلة حتى وصل الى هنا. نام بعمق من الاجهاد. عندما استيقظ في الصباح شعر براحة فقد اختفى الالم .. قالوا له يجب أن يراجع لمدة شهر .. في اليوم التالي خرج من المستشفى .. شعر أن بإمكانه ممارسة حياته الطبيعية مرة أخرى. ضحك من الفكرة. فكل شيء في حياته صار غير طبيعي .. شعر أنه يثقل على هادي .. قال له ان بامكانه البقاء متى شاء .. ولكنه كان يشعر بالضيق .. لم يقل هادي شيئا او يبدو عليه التبرم .. ولكنه أحب ان يشعر باستقلالية .. طلب من هادي ان يساعده كي ينتقل الى شقة مستقلة .. انتقل الى شقة قريبة من مكان سكن هادي. بقي يراجع المستشفى بشكل منتظم لمدة ثلاثة اسابيع .. بعدها بدأ يشعر ببوادر الالم مرة أخرى .. كان الوجع يزداد في الليل. يبقى يتقلب في فراشه .. لم تنفع مسكنات الالم .. عادت حالته كما كانت قبل العملية .. صار يحس بالوجع ولا يقوى على الوقوف .. لا بد من أحد كي يساعده على المشي . قرر أن يذهب لمستشفى آخر .. اتصل بهادي .. وفي اليوم التالي أخذه الى مستشفى أخر .. وبعد اجراء الفحص قالوا له لا بد من عملية اخرى .. ولكنه لا يستطيع عملها الان .. لا بد من مرور ثلاثة أشهر على الاقل .. أحس بخيبة أمل .. بدت عليه علامات الغضب المكبوت .. إحتج ولكن إحتجاجه لم ينفع أمام إصرار الطبيب .. كان كريم بطبعه هادئاً ولكنه لم يعد يستطيع الاحتمال اكثر من ذلك .. حاول أن يقنعهم .. قالوا له لا يمكن .. هناك مخاطرة .. أعطوه أدوية ومسكنات .. قالوا له اذا شعرت بألم شديد ولم تعد تحتمله فيجب أن ترجع مرة أخرى .. خرج والغيظ يتملك أعماقه، ولكنه لم يكن يستطيع عمل شيء.. استمر كريم يستعمل الادوية التي وصفوها له.. كان الالم يعاوده بين الحين والاخر ولكنه ليس قوياً .. كان يستطيع التحرك وأحيانا يستعمل عكازاً ليسنده .. لم يكن معتادا على العيش هكذا .. شعر أن المرض قد غير أسلوب حياته .. وربما للابد .. شعر بالقلق يساوره .. فحياته بدأت تتغير فعلاً .. لم يعد يشعر ان حالته طبيعية كما كانت سابقاً .. كان كريم يخشى المرض كثيراً .. كان يحس أن لديه رهاباً فطرياً من المرض.

انتقل كريم خلال هذه المدة بين مدينة واخرى لدى أصدقائه.. وصار كل صديق يعرفه ويقدمه الى أصدقاء آخرين ..كان أغلبهم عراقيين لاجئين من جحيم الحرب والقتل الطائفي .. لم يكن يريد العودة قبل أن يجري العملية الثانية .. خشى إن غادر الا يتمكن من العودة مرة أخرى .. ولكنه عانى استمرار الانتقال والرحيل من مكان الى أخر .. لا يتذكر كم فندق او شقة نزل بها .. لقد كلفته العملية الشيء الكثير .. ولكنه مضطر للقيام بها .. شعر بالمعاناة .. حياته كلها انقلبت رأساً على عقب .. أصبح مشتتاً عن أسرته لا يعرف الاستقرار .. مرت الثلاثة أشهر طويلة ً مملة ً عليه .. شعر بالحنين لبيته وزوجته وأطفاله.. كان على اتصال دائم معهم .. ولكن الخطوط في أغلب الاوقات سيئة.. كان ينتابه قلق شديد عليهم كلما سمع بالاخبار عن إنفجار أو قصف في الحي الذي يسكنه فيهرع الى التلفون للاطمئنان .. حاول ان يقتصد في مصاريفه .. لم يكن يعرف كم ستطول الامور هنا.. عندما تكون مسافراً او لاجئاً تشعر ان الحياة كلها نفقات .. حتى شربة الماء يجب أن تدفع لتحصل عليها! كان يتمنى الا يضطره العلاج الى سحب بعض امواله .. في أول مرة خرج بها من العراق قبل عدة سنوات أودع مبلغاً من المال باسمه في عمان ليكون احتياطياً .. كان يخشى ان يتعرض للسرقة في ظل غياب الاستقرار. لو اضطرته الظروف سيكون على الاقل لديه شيء من المال يعينه على العلاج أو المعيشة اذا اضطر للعودة مرة أخرى.

انقضت المدة وعاد للمستشفى مرة أخرى .. كان يدعو ويتمنى أن تنجح نهائيا هذه المرة .. لم يعد بمقدوره الصبر والتحمل اكثر من ذلك .. قبل العملية اتصل ببيته ليسمع صوت زوجته وأولاده .. بدأ الخوف يدب في نفسه القلقة المتوترة .. لو حصل له شيء ما ، فعلى الاقل يكون قد سمع أصواتهم واطمأن عليهم .. قالوا له ستكون كل امورك بخير .. لا تقلق.. ولكن يجب أن تبقى تراجعنا لمدة شهر بعد العملية .. لا يتذكر ماذا حصل له بعد ذلك .. فتح عينيه كانت الدنيا صباحاً .. كانت هناك ممرضة قرب سريره .. ابتسمت في وجهه .. قالت له الحمد لله على سلامتك .. ندت عنه ابتسامة ضعيفة متعبة .. بعد قليل جاء هادي وبعض الاصدقاء .. قالوا له كل شيء على ما يرام .. بقي بعدها يراجع بانتظام مدة شهر .. كان الشهر بالنسبة له كسنة .. شعر به طويلاً قاتلاً .. كان يريد العودة لبغداد بأي ثمن .. لم يعتد على هذه الاقامة المتنقلة في حياته .. آه كم تغير الحرب ظروف البشر.

بدأت الاشجار تظهر على جانبي الطريق .. رأى من بعيد اشارةً معدنيةً تدل على محطة للمحروقات فتوقف عندها قليلاً ليملأ خزان السيارة .. سأل العامل عن مكان يستطيع أن يتوقف فيه لتناول بعض الطعام او شراء بعض الحاجيات .. فأخبره عن مكانه .. على بعد كيلومتر بدأت السيارات والمحلات تكثر هنا وهناك .. والمارة يقطعون الشارع .. مر من امام بيوت ومحلات مختلفة .. كانت أغصان الاشجار مغبرة كأنها بيضاء من رمال الصحراء .. توقف قليلاً ليرتاح ويتناول بعض الطعام .. إنتابه شعور خفي بالخوف .. تحسس جيوبه ومحفظته .. رأى مطعماً يقدم بعض الوجبات فدخل اليه .. كان يشعر بالجوع والانهاك .. اكل قليلاً من الدجاج والارز واللبن .. ثم طلب فنجاناً من القهوة وتناول سيجارة وأشعلها.. بعد نصف ساعة كانت السيارة تغذ الخطى الى عمان مرة أخرى .. استمر في القيادة بنشاط .

أخذت الشمس تنحدر نحو الافق .. لم تعد لاهبة حارقة .. نسمات الهواء تهب قوية .. حارة بعض الشيء ولكنها منعشة .. بدأت تدب الحياة على جوانب الطرق .. تذكر ان يدير الابرة مرة أخرى .. كانت هناك أصواتٌ وموسيقى .. بدت الطريق مألوفة ً له .. صار يحاول تذكر بعض المعالم والمحلات التي مر بها المرة الماضية .. شعر براحة كبيرة عندما دخل المدينة. أراد أن يختبر ذاكرته اذا كان بإستطاعته الوصول الى نفس الفندق الذي أقام به المرة الماضية دون سؤال أي أحد .. بدأ قلبه يتوتر قليلا كلما توغل داخل المدينة .. تبدو معالم المدينة قد تغيرت .. هناك الكثير من البنايات العالية والجسور العريضة والانفاق التي لم يرها المرة الماضية .. صار يساوره القلق .. شعر ان الفندق كان اقرب المرة الماضية، لكنه استمر في السير .. شعر أن الطريق اصبحت طويلة للغاية .. ما بال الذاكرة؟! وأخيرا هذه هي لوحته من بعيد .. تنفس الصعداء وهو يتوقف امام الفندق!

في صباح اليوم التالي استيقظ نشيطاً بعد يوم شاق ومرهق .. فقد استسلم بالأمس للنوم العميق بعد رحلة الطريق الطويلة المتعبة وحر الشمس الذي أصابه بالدوار .. كان يتأهب للذهاب الى عيادة الطبيب .. سأل في بهو الفندق عن كيفية الوصول الى عيادته .. حينما وصل كانت هناك سكرتيرة تجلس في قاعة واسعة للانتظار .. كانت غرفة أنيقة ومرتبة ومقاعدها مريحة وفاخرة .. واللوحات الطبية التراثية معلقة هنا وهناك .. كانت هناك لوحات للطبيعة الصامتة ذات الالوان الزاهية .. وكانت المجلات المتنوعة موضوعة على منصب خشبي بطريقة أنيقة .. أستقبلته السكرتيرة بلباقة .. سألته ان كان هناك موعد بينه وبين الطبيب .. اعتذر واضاف أنه جاء بالامس مساء من بغداد. قال لها: يوجد لديكم ملف لي .. لقد أجرى الدكتور لي عملية .. أخذت تبحث في الشاشة التي أمامها .. ثم ذهبت وأحضرت الملف. قالت له: الدكتور عنده مريض الان .. سأخبره حالما ينتهي .. بعد قليل خرج المريض فأطل الطبيب يبتسم ويرحب .. كان لقاءاً وعناقاً حاراً .. استقبله الطبيب بكل حرارة وود .. واصطحبه الى غرفته.

- الحمد لله على سلامتك .. متى وصلت؟

- بالامس مساء .. كانت رحلة شاقة ًومتعبة.

- كيف أحوالك؟ طمئني عنك وعن صحتك؟

- لقد تعبت يا دكتور .. العملية التي أجريتها لي ارتحت بسببها كثيراً .. ولكني لم أتمكن من العودة .. حاولت ولم أستطع .. صارت إجراءات الدخول والزيارة صعبة ً للغاية.

-وماذا فعلت؟ ونظر الطبيب الى ملفه أمامه ليستذكر تفاصيل حالته .. آه كريم .. تذكرت الان .. يجب ان تعمل هذه العملية كل سنة .. أخبرني ماذا فعلت منذ آخر مرة كنت هنا؟

-قصة طويلة .. لم اتمكن من القدوم .. ذهبت الى سوريا .. وهناك عملت العملية مرتين .. في المرة الاولى لم تنجح تماماً .. فعملت واحدة أخرى .. لقد بقيت هناك ما يقرب السنة متنقلا هنا وهناك.

-والان كيف تشعر؟

- يعاودني الالم بين حين وأخر .. لقد تغيرت حياتي تماماً .. أحياناً لا استطيع المشي بدون مساعدة أحد .. الادوية والمسكنات هي ما يبقيني حياً .. أحس بصراع داخلي .. لقد أنهكني المرض والسفر وكثرة التنقل.

- سنرى الان وضعك بالتفصيل. ولكن كيف هي أمور الاهل والعائلة؟ كيف عائلة أخيك؟

- الاوضاع صعبة جداً ومزرية كما تعرف. لا يوجد بيت يكاد يخلو من فاجعة ٍ أو مصيبة ٍ أو حالة ٍ ما .. ولكننا مع ذلك صابرون.

قام الى سرير الفحص .. وأخذ الطبيب يفحصه ويسأله ويقرأ في الاوراق التي كانت معه.. كان الله في عونك .. يبدو انك عانيت الامرين .. ولكنك ستكون بحال جيدة. لا تقلق.

اجرى الطبيب عدة فحوصات، وقال له يجب أن تجري بعض الاختبارات وسنقرر عندها ماذا سنفعل .. ولكن الان يجب ان تقوم بهذه الاختبارات التي سأكتبها لك .. بقي كريم يراجع الطبيب لمدة يومين .. وأخيرا قرر أن يجري له العملية .. لم يكن كريم هذه المرة خائفاً .. فبعد المعاناة المرة الماضية والالم الذي حرمه الراحة والنوم .. شعر بشيء من الثقة في نفسه ورغبة في اجراء العملية.

في اليوم التالي استيقظ كريم متأخراً على غير عادته .. فتح عينيه ، وجد نفسه على السرير ومكان الادوية التي أعطيت عبر وريده قد تركت أثراً في يديه .. أحس المكان غريباً عليه .. أخذ يدور ببصره في أرجائه .. كانت هناك ممرضة تتحرك خارج غرفته .. أحس بالهدوء والراحة .. تأمل حاله ويديه .. لم يعرف ماذا حصل له بعد أن سأله الطبيب "هل أنت مستعد؟" وأحس وخزة مؤلمة في ذراعه .. وعند الظهر جاء الطبيب وأخبره ان العملية كانت على ما يرام .. وانه سيكون بخير .. قال له لا تجهد نفسك .. يجب أن ترتاح كثيراً .. ستبقى تحت المراقبة هنا لمدة ثلاثة أيام وبعدها اذا كانت حالتك تسمح فتستطيع الخروج .. خرج كريم بعدها من المستشفى .. كان في حالة جيدة ومستقرة .. في اليوم التالي ذهب الى عيادة الطبيب .. قال له يجب أن تستمر في مراجعتي هنا اسبوعياً لمدة شهر ..استخرج دفتر شيكاته من مغلف كان يحمله .. حرر شيكا للطبيب .. كان مبلغاً كبيراً ولكنه كان مستعداً مالياً ونفسياً له .. لم تعد حالته تحتمل التأجيل.

في اليوم التالي وبينما كان يتناول طعام الغداء في الفندق .. جاء جرسون وقال له إن هناك من يريده .. كانت سكرتيرة الطبيب على الجانب الاخر.. إعتذرت إن كانت قد قطعت عليه شيئا .. أخبرته ان الشيك الذي حرره أمس لم يتم صرفه لعدم كفاية الرصيد. لم يصدق أول الامر .. قال لها لا بد أن هناك لبساً ما في الامر .. لا يمكن ان يحصل ذلك .. فهناك رصيد كافٍ .. أكدت له ما حصل .. بدأ القلق يساوره ولكنه متأكد أن هناك خطأ ما .. قال لها سيراجع البنك وبعدها سيمر على العيادة لمتابعة الموضوع .. وأسرع من فوره بالذهاب الى البنك .. منذ أن أودعها قبل سنوات خلال اقامته القصيرة انذاك لم يكن يعرف ماذا حصل لها ، فقد كان العنوان الذي أعطاه لهم هو عنوان الصديق الذي أتى معه حينها .. ولكن صديقه عاد الى العراق بعدها بفترة وجيزة .. كل ما يذكره أنه بعد أن أودع المبلغ فقد سحب منه مرةً واحدةً بعد شهر .. يتذكر تفاصيله وقيمته ولمن .. بقي طوال الطريق يشعر بالقلق والتوجس .. هل يعقل ذلك ؟؟ مستحيل كيف حصل ذلك؟؟

أخذ يؤكد لهم أن بالامر خطأ ما .. أو محاولة مقصودة من شخص ما أو شلة للاحتيال عليه .. أحس بالقلق والخوف .. كيف يمكن أن يحصل ذلك؟؟ شعر بأزمة في صدره .. مستحيل .. لم يتركوا له شيئاً يذكر .. الا يكفيه ما مر به من محن ومصائب؟ الا تكتمل الا بالاستيلاء على كل مدخراته وأمواله.؟ شعر باحباط كبير وحنق عظيم مما حدث .. كاد أن يفقد أعصابه من الصدمة .. أحس ان كل تعبه قد ضاع في لحظة .. شعر بخيبة أمل وكادت أن تنزل دمعة من الأسى .. أسماء يعرف أصحابها والتقاهم عندما كان في دمشق.. كيف وصلت هنا.. هو لم يحرر لهم شيئا.. شعر بغضب شديد مما حصل .. أحس أن بعضهم إستغلّ مرضه وثقته وأخذ كل شيء .. أخذ يستذكر الايام التي قضاها في سوريا .. لم يكن يشك بأي أحدٍ نهائياً .. لقد عامله الكل بكل اهتمام وطيبة.

بدأ الشك يتسرب الى نفسه .. هل من المعقول أن يخون أحدهم الثقة بهذه الطريقة؟! هل من الممكن أن يكون وقعت منه الاوراق في يد شخص وقد إستطاع تزوير كل ذلك للاستيلاء عليها؟! كم يصبح الانسان شريراً أحياناً في سبيل المال! كم تعمي المادة بصيرته فلا يكترث لمصائب الاخرين في سبيل أنانيته .. صار يدقق في أسماء اصدقائه ومعارفه.. أخذ يستعيد تصرفاتهم معه .. هل من الممكن أن يخون الانسان صديقاً في أشد أوقات الضعف والمرض والحاجة؟ هل صار المال يعمي الى هذا الحد؟

أخذ كريم يفكر في ورطته الان؟ ماذا سيقول للطبيب؟ وماذا ستكون ردة فعله؟ وبماذا سينفق خلال اقامته في الفندق؟ أخذ يفكر في تحويشة عمره التي ضاعت منه؟ هل هناك صدمة أكبر من هذه؟ الى متى ستلاحقه المتاعب وسوء الحظ والتعاسة؟ طلبوا منه أن يحضر دفتر شيكاته معه غداً للتأكد .. عاد الى الفندق وهو يحس بقهر كبير .. شعر بالمرارة تخنقه .. لماذا يحدث كل ذلك معه؟ لم يعرف ماذا يفعل أو يتصرف. لقد أصابته هذه الورطة بذهول أصابه بالشلل .. اتصل بعيادة الطبيب وأخبرهم بما حصل .. شعر بحرج شديد وهو يشرح للسكرتيرة ما حصل وهو يتخيل ماذا يقولون عنه بقرارة أنفسهم. أخبرها أنه سيمر غداً للعيادة لتسوية الامر.

جلس في غرفته لا يعرف كيف يتصرف؟ أخذ يفكر هل يتصل بأحد يعرفه؟ أم ينتظر للغد؟ عاد يفكر في أصدقائه ويستعيد تفاصيل اللقاءات معهم .. عاد الشك يساوره .. أصابته حيرة شديدة .. لقد كانوا في قمة العون والضيافة .. صار يقلب في أوراقه بحثاً عن دفتر الشيكات .. بعد قليل رن جهاز الهاتف في غرفته .. كان يتكلم على الطرف الاخر شاب بصوتٍ عال .. سيد كريم .. نحن متأسفون ونعتذر منك .. كان هناك خطأً في رقم الحساب .. هناك تشابه كبير بالارقام .. مسألة فنية بسيطة .. نحن نتأسف منك كثيراً .. يرجى مراجعتنا غدا لتصويب الامر.

كانت أشعة الشمس رقيقة ً معتدلة ً في اليوم التالي .. والهواء يهب عليلاً .. لم يشعر بجو ٍ كهذا منذ زمن .. في المساء كان يتناول العشاء مع صديق قديم درس واياه في بغداد في المدرسة والجامعة وبعد التخرج إفترقا ولم يلتقيا مرة أخرى .. كان يعرف انه يقيم بعمان وقد التقى به صدفة في قاعة الفندق في الصباح واتفقا على اللقاء في المساء .. كان لقاءً جميلاً يمكن ان يسميه شريط الذكريات .. أخيراً إكتشف أنه بقي في الذاكرة أشياء ٌ جميلة لم تُمْحَ برغم ما حصل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق