الجمعة، أكتوبر 31

البحر الميت يعود للحياة


البحر الميت يعود للحياة


اياد نصار



لا تقفي خلفَ هرم ٍ من الصمتِ
قولي أُحِبـُك
لترضى عنك العصورُ والآلهةُ
ويعلو نداء الصوتِ
في سكون المنفى
ويعشبُ البحرُ الميتُ
بالزرقةِ بعد الموتِ!


هواكِ نبضُ الشعرِ وسَمَرُ ليلةٍ معتّقةْ
يا عاشقةً إنتظرتْ ورداً ذابلاً
وكلماتِ الحبِ الممزّقةْ
في زمنِ العشقِ المنسيّ
والموتِ خلفَ الابوابِ المغلقةْ


يا رفيقة َ الحزن على مهل ِ
في دروبٍ ليس بها سوى الملل ِ
صرخَـتـــُك ميلادي
إشتعالـُـك يعلن موتَ قرون ٍ
من عادات أهلي
هذه نهايةُ تاريخ ِ الوأدِ ..
والخوفِ من صحراء النساء
على يديك والخجل ِ


عذابك عذابي ألا يكفي؟
وأنـّاتُـكِ
صرخاتُ حرفي
فانظري في عيوني
بلا خوفِ
كيف لا تبصرُ عيونٌ
لوحاتِك الهاطلة َ بلون ِ الشتاءِ
القرمزي على كفي؟!


وهل ينسى شاعرٌ خيالـَه في
أوراق ِ الماضي الصفراءْ
فلا يرى عيونـَك المخملية َ
تشرقُ على سهول ِ خدودِكِ
الحمراءْ؟!
ألم يسمع هدأة الروح عندما وقفت
تصغي في إنطفاءْ
الى سيمفونيتـَك
حين هبّت عليها الريحُ السوداءْ؟!


طلعَ الصباحُ من دون ِ شمس ِ القصيدة
يا ساحرةَ الحرفِ
يا ربةَ الشعرِ الجديدة
سأصنع لك كوباً من الشاي
فاحتسيه على شُرفاتـِك الفريدة..
لعلّي أصيرُ قديساً
وأبني لك معبداً على ضفاف الروح
القاحلة البعيدة


فعانقيني
يا تحفة َ النرجس ِ الهشـَّة
لتذوبَ بحارُ الجليدِ
من بين ِ يدي المرتعشة
في ليل ِ البردِ والقمر ِ
الذي لا يغيبْ
فلتصنعي من دمي
كلاماً يُضمّدُ جرحَكِ النازفَ
ويطفيءُ اللهيبْ

* اللوحة أعلاه للفنانة العراقية يقين الدليمي 2003

الثلاثاء، أكتوبر 28

شاطيء دوفر


شاطيء دوفر

شعر: ما ثيو آرنولد
ترجمة وتعليق: اياد نصار


البحر هاديء الليلة

المد في أوجه، والقمر يتمدد جميلاً

فوق المضائق _ الضوء على الساحل الفرنسي

يشع خافتاً ثم يختفي؛ تقف منحدرات انجلترا

متوهجةً وواسعةً بعيداً في الخليج الساكن

تعاليْ الى النافذة، ما أروعَ نسيم الليل!

ومن خطِّ الرذاذ الطويل وحده

حيث البحر يلاقي الارض التي غسلها القمر

إستمعي! تسمعي الزئير الهادر

للحصى التي تسحبها الامواج للخلف قليلا وتطوّح بها

عند عودتها فوق الشاطيء العالي،

تبدأ وتنتهي ثم تبدأ من جديد مرة أخرى

مع صدى الحزن المضطرب بطيئة فتجلب معها

الينا نغمة الحزن الابدية.



قديماً سمعها سوفوكليس

على شاطيء بحر إيجه فأثارت

في أذهانه المد والجزر المتكدر

للبؤس الانساني؛ نحن

نجد في الصوت كذلك فكرة

نسمعها عند بحر الشمال البعيد هذا.



بحر الايمان

كان يوماً ما مليئاً أيضاً ويحيط بشاطيء الارض

يتمدد كطبقات حزام لامع ملفوف حولها

لكني حسبي الان أن أسمع

صوت كآبته وهديره الطويل المتراجع

ينسحب الى أنفاس ريح الليل، نازلاً على حوافها الكئيبة

وحصى شواطئها العارية.



آه يا حبيبتي، لنكن صادقين

مع بعضنا بعضاً! لأن العالم الذي يبدو

ممدّداً أمامنا مثل أرض الاحلام

متنوعاً، وجميلاً، وجديداً جداً

ليس به حقاً لا فرح ولا حب ولا ضوء

ولايقين ولا سلام ولا عونٌ لألم

وها نحن هنا كأننا فوق سهل مظلم

غشيته نُذُرٌ مضطربة للكفاح والهروب

حيث الجيوش الغبية تتقاتل في الليل

كان ماثيو آرنولد شاعراً وناقداً انجليزياً كبيراً ولد عام 1822 وتوفي عام 1888 أي خلال الفترة التي أعقبت إزدهار الحركة الرومانتيكية في الشعر الانجليزي وبدء ظهور مرحلة الحداثة. إهتم من خلال شعره وكتاباته بطرح المواضيع الاجتماعية والفكرية السائدة في عصره. كان يعمل مفتشاً للمدارس في انجلترا، مما كان يتطلب منه السفر باستمرار في أنحاء كثيرة من إنجلترا. أصدر في عام 1850 ديوانه الشعري الاول، وفي عام 1852 أصدر ديوانه الثاني. أنتخب أرنولد أستاذاً للشعر في أكسفورد في عام 1857. وكان أول محاضر يقدم مادته عن الشعر بالانجليزية وليس باللاتينية. وفي عام 1865 أصدر كتابه بعنوان مقالات في النقد. عرف عنه شخصيته المحببة وإهتمامه الكبير بالادب والشعر.

يعتبر أرنولد ثالث أعظم شاعر إنجليزي من العصر الفيكتوري بعد ألفرد تينيسون، وروبرت براوننج. وقد كتب رسالة الى أمه في عام 1865 وقد ضمنها الفقرة التالية للحديث عن شعره وأهميته في مسيرة الشعر الانجليزي: " تمثل قصائدي في مجملها الحركة الفكرية في الربع الاخير من القرن. وسوف يكون لها ذات يوم حضور حينما يعي الناس ما هي حركة الفكر هذه. عندي عاطفة شعرية أقل من تنيسون، وأقل توقداً من جهود روبرت برواننغ العقلانية." وإعتبر أنه كان مزيجاً بينهما، وأن هذا التأثير الذي يمزج بين الاثنين سيأتي يوم ما ويقر الناس بالفضل له به. إن الفترة التي عاش فيها أرنولد في القرن التاسع عشر كانت الفترة الفاصلة بين الحركة الرومانتيكية التي كانت في أواخر عهدها والتي كان يمثلها في الادب الانجليزي وليم وردزورث وصامويل كولريج والشعراء الشباب جون كيتس وبيرس شيلي ولورد بايرون وبين تيارات الحداثة التي جاءت مع نهاية القرن التاسع عشر وتعمقت في القرن العشرين. كان أرنولد يعتبر نفسه حلقة الوصل بين هاتين الفترين. وقد عكست قصيدته هذه الفكرة. فهناك الوصف الرومانسي الجميل المؤثر للمكان على شاطيء دوفر التي تقع ضمن مقاطعة كنت على الضفة الانجليزية من بحر الشمال الفاصل بين إنجلترا وفرنسا، وهناك فكرة القلق والحزن الانساني وغياب اليقين والشعور بالضياع وهذه من المواضيع الرئيسية التي طرحتها الفنون والاداب التي ظهرت مع بداية الحداثة في أوروبا.

تعتبر قصيدة شاطيء دوفر من أهم قصائد ماثيو أرنولد التي صوّرت عالماً كابوسياً يموج بالانواء العالية، والاضواء التي تتوهج لفترة قصيرة ثم تختفي لتترك العالم في ظلام. وهي قصيدة غنائية ذات مزاج يغلب عليه طابع الاكتئاب والسوداوية. بل إن بعض النقاد ألمحوا الى أن المتكلم في القصيدة لم يستطع التخلص من هذا الاحساس الكئيب حتى في أكثر اللحظات العاطفية والرومانسية جمالاً، فأبيات القصيدة توحي بأن هناك حواراً بين المتكلم وبين حبيبته التي جاءت معه الى هذا المكان لتستمتع بجماله في ليلة مقمرة على شاطيء البحر، إلا أنه بدل أن يستغرق ذاته في الاحساس بجمال اللقاء والمكان، فقد أحس بنوع من الحزن والضياع. وقد إعتبر أن تراجع الشعور بالايمان هو الذي ملأ العالم بالشك والحزن والاضطراب. ويؤكد أن الحزن الانساني عميق ومتأصل في الانسان. فمنذ أن كتب المسرحي اليوناني سوفوكليس تراجيدياته مثل عقدة أوديب وعقدة الكترا التي يطغى فيها الاحساس بالضياع والالم والحزن والى زمن الشاعر، فان الحزن ما يزال هو ذاته. وقد أراد أن يؤكد بذلك إستمرارية المعاناة والقلق الانساني.

وظف الشاعر مفهوم البحر وحركة أمواجه والمد والجزر في القصيدة على أكثر من صعيد في سبيل تقديم صورة متحركة في أجواء من المساء وضياء القمر ونابضة بحركة الامواج، وعلى سبيل الاستعارة للدلالة عن عالم الاضطراب والفوضى والحزن، حيث يصبح البحر هو عالم البشر الهادر الذي يموج بالحزن مثل صوت امواج البحر الهادرة التي حملت معها نغمات تراجيديا سوفوكليس. كما وظفه للحديث عن بحر الايمان الذي كان يعطي حياة البشر نوعاً من الاستقرارية، وحينما بدأ يتداعى مع بروز الحداثة بدأ يزداد الاحساس بالقلق.

يلاحظ في القصيدة غياب التواصل بين الرجل والمرأة، فلا نسمع سوى صوت المتكلم يدعوها كي تنظر من النافذة لترى المشهد وتسمع صوت أمواج البحر، دون أن يكون لها صوت أو ردة فعل.

تؤكد القصيدة في المقطع الاخير جانباً آخر للازمة وهو غياب الصدق من العلاقات الانسانية. وقد وجه للمرأة دعوة لكي تكون صادقة معه فهذا هو السبيل لسعادة العالم الذي يعاني من الالم والحزن والظلام وغياب الامل.


* اللوحة أعلاه بعنوان المتجول فوق بحر الضباب للفنان الالماني كاسبر ديفيد فريدريخ (1774-1840)

الجمعة، أكتوبر 24

أزهار تموت في المساء


أزهار تموت في المساء

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

تستند للخلف بظهرها على الكرسي مستغرقة في قراءة الصحيفة وقد فتحت صفحاتها على مدى ذراعيها. تنم جلستها عن طباعها: سكون وتأمل ووداعة وميل للتفكير أكثر من الكلام. جميلة الملامح ذات وجه طفولي وشفتين صغيرتين وشعر كستنائي فاتح. شالها الانيق ذو اللون الاحمر المائل للبرتقالي مطويّ ومتدلٍ على حافة يد الكرسي الذي تجلس عليه. تلبس تنورة خفيفة بيضاء اللون ذات طبقات من الكورنيش والدانتيل المخرم الابيض فوق طبقة حريرية عليها أشكال كأنها بقع من الثلج في يوم شتائي. تضع في قدميها حذاءً عليه بكلتان مثل الوردتين في أعلى مقدمته. قميصها برتقالي اللون مطرز من حواف أردانه وفتحة الصدر الواسعة. لا يمكن أن تخطيءالعين لمسةَ الفن في ذوقها في إختيار ملابسها: بساطة وأناقة وإنسجام في الالوان. أمامها طاولة سفرة من النوع الفاخر، وفوقها مزهرية كبيرة من الكريستال الروسي فيها أزهار الغاردينيا بأوراقها الكبيرة البيضاء. تحفة فنية رائعة أثيرة الى نفسها تبدو عليه سمات الارستقراطية. إشترتها ذات يوم من براغ حينما أقامت معرضاً فنياً فيها.

تجلس فاديا مبتعدة بكرسيها عن الطاولة قليلاً. والى جانبها طاولة صغيرة وفوقها فنجان من القهوة. كانت رائحتها تثير اللذة في خلاياها العصبية! تجلس في مواجهة نافذتين واسعتين بعرض الحائط. تغطي ستائر مخملية خضراء موشحة بلون أسود جوانب النافذتين ، بينما تغطي ستائر شفافة بيضاء واجهاتهما. أرضية الصالة من الجرانيت اللامع الذي يشبه قواقع الاصداف في تموجاته. كانت ترفع بصرها بين حين وآخر لتنظر جهة النافذة، ثم تعود لتحدق في الصحيفة. عناوين جذابة وصور وصخب لوني يثير شهيتها للقراءة والاستغراق.
من خلفها كانت لوحتان كبيرتان بألوان الزيت تملأن الواجهة. "درب الى القمر" و"أزهار تموت في المساء". لم ترتجف يدها حينما أمسكت الفرشاة مثلما ارتجفت في تلك الايام حين رسمتهما. ثلاث سنوات مرت بين اللوحة الاولى والثانية، لكنها أحست بذات الاحساس يضرب عميقاً في أعماق قلبها. تتذكر كيف كانت فرشاتها ترسم صورة حياتها بكل عفوية أمامها، كأنها تتحرك على القماش وحدها فترسم فرحها وحزنها الابدي.. ميلادها وموتها. لقد علقتهما على الحائط ليكونا أمام عينيها كل يوم. إنهما اكثر لوحاتها قرباً الى نفسها. لقد حملتهما معها الى كل المعارض في كافة أنحاء الدنيا. رفضت بإصرار أن تبيعهما. ثم قررت بعدها تعليقهما في بيتها. منذ خمس سنوات لم تغبا عن عينيها. كلما نظرت اليهما، أحست بمرارة في القلب وغصة في الحلق حتى تكاد تهمي دمعة خجولة على إسحتياء من عينيها. بالأمس كانت هنا في ذات المقعد تشرب القهوة مع صديقتها الفنانة الجديدة جاكلين وهي تحدثها عنهما. في الاسبوع القادم ستسافر مع جاكلين الى برلين لاقامة معرض مشترك. أحست جاكلين أن صوتها متحشرج كأنما ستختنق بكلماتها من أسى الذكريات.

ما يزال الصباح الربيعي تتخلله نسمة هواء باردة. الشمس تطل خجولة على الدنيا وتحتجب خلف غيوم بيضاء كجبال من قطن تلتقي لتصنع أشكالا غريبة تم تتمزق بلا إنتهاء. تعودت أن تبدأ نهارها بفنجان من القهوة والصحيفة. لا شيء يثير شغفها مثل صفحة الفنون. تعشق الفن الذي يستكشف عالم الاحلام والحنين الى ماضٍ غامض. لقد شاركت في معارض فنية كثيرة حول العالم. ولكنها صارت في الايام الاخيرة إنتقائية. حينما ترسم ، تهطل الوانها على رقعة القماش كالمطر. تولد اللوحات لديها كما تولد كلمات الشاعر في لحظة عشق صوفية.

ترى في لوحاتها امرأةً متسربلةً بجمال حزين مستغرقةً في التأملات. وفي عينيها مسحة من براءة وطفولة يؤرقها مستقبل حالم. كتب عنها أحد النقاد ذات يوم: "إنها صوت المرأة وروحها التي تتشكل أطيافاً من الوان أثيرية لتهوّم في عوالم النور والاشراق والجمال والاحلام. فيها مسحة حزن عميقة لا تدركها سوى عين متأنية".

إفتتحت فاديا جاليري للفنون تعرض فيه بعضاً من لوحاتها وتقيم فيه معارض للفنانين الشباب منذ ثلاث سنوات. كان حلماً يراودها منذ أن كانت في الجامعة، ولكن خريفاً وراء خريف من حياتها أطفات الشعلة في صدرها وانكفأت على ذاتها تعيش على أحزانها ومرارة ذكرياتها. إعتزلت الناس واعتكفت في مرسمها. في تلك الايام البعيدة حينما كانت الشعلة الزرقاء متقدة بينها وبين جبرانها، كان لليل والفرشاة والسهر طعم آخر. كانت مي زيادة رفيقتها الدائمة. وكان هو فيه مسحة الثوري الفلسفية التي تذوب كقطع الثلج بين الصخور فتنبت أعشاب وأزهار برية.

كان كامل أول حب في حياتها وربما الاخير. كان رفيق الدرس والمرسم واللون الزاهي. كان يعيش ثورة في أعماقه تريد أن تغير العالم كله. حينما كان يجتمع الاصحاب ، كان ضباب دخان السجائر يغطي على أحاديثهم فيعطيها شكلاً آخر. كان الكل يعرف كامل بروحه الثورية وشعاراته. لم تكن تحدث مظاهرة أو مسيرة دون أن يشارك بها. كان يقضي أياما غائباً عن المرسم حينما تشتد العيون عليه. لكن الشوق لم يكن من السهل إحتماله. كانت فاديا حلمه ومعاناته فلم يكن يستطع الغياب طويلاً. فكان يدفع الثمن دائما بإصرار. كانت أيام الاحتجاز طويلة مريرة، وكان الشوق قاسياً.

صارا عاشقين. لم يكن الحب الذي جمع بينهما وحده. كان الحلم واللوحة والثورة والكتب والانكسارات التي ألقت بظلالها في كل مكان. وكان القمر بصفائه الازرق وقصص الاساطير وتقلبات الطبيعة بأعاصيرها وأمطارها هي عالمهما. كانا يسهران في المرسم ساعات طويلة، وعندما يقترب موعد المعرض السنوي كانت الشلة تسهر للصباح بين علب الالوان والفراشي وألواح الخشب وقطع القماش. عندما كانت تتعب فاديا من السهر ،كانت تنتحي زاوية من المرسم الواسع فتنام على الواح الكرتون وتتغطى بلفافات الورق العريضة.

في السنة الاخيرة زاد قلق كامل عليها. كانت تخفي عنه الموضوع فتفضحها نظراتها الحزينة. فاديا من أسرة مدنّية ميسورة. والدها طبيب وأمها محامية. يمارس والدها الرسم ليرتاح من عناء الادوية والكتب الضخمة وأنات المرضى. وأمها تحب القراءة والكتابة وتشارك في الندوات واللقاءات. كامل من أسرة فقيرة كبيرة العدد بالكاد يستطيع الفرد فيها أن يحلم مجرد حلم. لم يحالفه الحظ كثيراً في دراسته ولكنه كان موهوباً في الرسم. كان أبوه معلماً يتمنى أن يصبح إبنه طبيباً، ولكنه إستسلم في النهاية للاقدار التي إختارت له طريق الفن حينما رأى ذات يوم رسوماته التي خبأها تحت سريره. كان كامل يستشعر حزناً في عيون فاديا. يلح عليها أن تتكلم. لكنها كانت تلوذ بالصمت. كان يشعر أن أحداً ما سيظهر على حين غرة ليحول بينه وبينها. كان يتلوّى ألما في صمته وهو يرى ضعفه في مواجهة الموقف.

أحست فاديا به وبألمه الذي يعتمل في أعماق صدره ولا يستطيع البوح به. هذه طبيعته أن يلوذ بالصمت دائماً. أرقه التفكير. لم يتخيل أن تنتظر أحلام فاديا على باب المجهول. كان يلوك حزنه بصمت .. يتجرعه بمرارة وإستسلام. رأته في أمسيات وقد إنكب على ذاته وأمسك رأسه بكلتا يديه. عرفت سبب ألمه وإحساسه بالضياع ، فلم تتخل عنه وخاضت حرباً مريرة على جبهة أخرى بصمت من غير أن يشعر بها كامل. تحملت في سبيله الكثير من الرفض و"المنطق" الاجتماعي من أهلها! واجهتم بشدة حتى شقيت به ولكنها احتملت بصمت.

يوم أن تم الاقتران، لم تكن اللغة قادرة أن تصف فرحتهما. حلم بعيد المنال تحقق.. منتهى السعادة التي يمكن أن يرسمها أي منهما في لوحة. بالنسبة لها كان هو روميو ، وكانت هي جولييته التي غيرت مجرى المأساة. يومها رسمت فاديا لوحتها "درب الى القمر". ولكنهما بقيا خائفين أن تتكرر المأساة التي إستطاعا إيقافها أو أن تتحول الى كوميديا مفجعة. شعر كامل بأن درباً طويلاً من المسؤولية قد ألقي على كاهله المثقل، وشعرت فاديا أنها رهنت أحلامها في يدي كامل ولم يبق سوى الانتظار.

مرت سنة لم يترك كامل مكاناً لم يطرقه في سبيل العمل. بحث في كل مكان، ووسّط الاهل والاصدقاء. لم يجد سوى مرارة الانتظار. شعر أن أحلامه ستضيع من بين يديه. أدرك أن الظروف أقوى منه فبدأ يتنازل عن أحلامه. قبل أعمالاً لم يكن يتخيل أن نهاية فنه ستكون فيها. ولم تنقطع لقاءاته بفاديا طوال هذه الفترة. كانت في عينيه مثال المرأة التي رسمها في لوحاته وكان هو مثال الرجل الذي رسمته في خيالها. كانت تنتظر فاديا بصمتها المعهود. وهو يتجرع مرارة الايام والانتظار المجهول.

في ذلك الصيف تغيرت الدنيا في بيروت وإشتعلت الحريق. وامتدت النار تحرق كل شيء في طريقها. لكن الرجال إستبسلوا الى حد أسطوري. كان كامل يرى الدم يسيل على الشاشات والمباني تحترق وتنهار والقنابل تنهمر على رؤوس المحاصرين كالمطر فيتفجر غضباً وقهراً. كان الدم يثور في عروقه من إحساسه بالظلم والعجز عن مواجهته. صارت أصوات الضحايا وألوان الموت السوداء وألوان الدمار الرمادية تملأ اللوحة كلها. عاد الجانب الثوري فيه ينتفض مرة أخرى. لم يستطع أن يبقى ساكناً وهو يرى ويسمع ما يجري. لم يعد من حديث له حينما يلتقي بأصحابه سوى المأساة. إتفق كامل وسعد وناصر أن يسافروا ثلاثتهم سراً للمشاركة مع المقاتلين. كانت صور الصمود تشحن كامل ورفاقه الى حد الاشتعال.

أقلقها غياب كامل.. لم يكن يمضي يوم أو بضعة أيام حتى تراه. فماذا حصل له حتى توقف عن السؤال عنها أو زيارتها أو الاتصال بها؟ في آخر زيارة لها بقي معها حوالي ساعتين. أحضر لها علبة الوان هدية لترسم بها لوحاتها وقال لها ضاحكاً: "لعلها تساعدك قليلا على الانتظار فلا تملّي أو تيأسي ريثما أصبح جاهزاً". نظرت اليه وإبتسمت إبتسامة رضى. بعد عدة ايام فتحت فاديا العلبة فوجدت بداخلها ورقة مطوية مخبأة تحت الالوان. كتب لها أنه لم يستطع البقاء ساكنا بينما يشاهد ما يجري. عرفت كل شيء فأخذت تبكي خوفاً عليه. بعد شهرين عاد سعد وناصر، ولم يعد كامل. قالوا لقد كان خائفاً أول الامر فلم يعرف الخوف مثلما عرفه هناك. ولكنه سرعان ما هزم تردده. كان صامداً خلف المتراس. أصابته شظية في رأسه فبقي ينزف الى أن فقد الوعي. لم يستطع أحد إسعافه في الخندق فقد كان الرصاص ينهمر كالمطر. عندما هدأ صوت الرصاص قليلاً حملوه وخط الدم يسيل من رأسه الى أسفل عنقه، ولكنه لم ينتظر. ودّع الدنيا بإبتسامة ونظرات فيها خشوع.

سالت أنهار من دموع فاديا حتى جفت مآقيها. كانت الصدمة أكبر من أن تحتملها أعصابها الرقيقة. شعرت بالالم يحطمها. صارت تهذي في بعض الليالي من شدة حرقتها. إعتزلت الرسم والناس وكل شيء. لم يعد سوى الحزن رفيقها. لم تعد تحس بأي معنى للحياة. بقيت أشهراً على هذه الحال. لم تستطع أن تتعايش مع غيابه الابدي. وذات ليلة حزينة بقيت واقفة على قدميها الخائرتين طوال الليل ترسم اللوحة حتى أكملتها مع الفجر. كتبت في أسفل اللوحة "أزهار تموت في المساء". إبتعدت خطوات عنها وراحت تتأملها بعيون دامعة، إنهارت ووقعت من الاعياء على أرض مرسمها. لم تشعر بنفسها فبقيت نائمة فوق بقع الالوان على الارض حتى الصباح.

* اللوحة أعلاه بعنوان الرقص في الريح للفنان الكندي دون لي ليجر

السبت، أكتوبر 11

طموح القصة القصيرة


طموح القصة القصيرة

بقلم الروائي الامريكي: ستيفن ملهاوزر
ترجمة: اياد نصار

نشر الروائي والقاص الامريكي ستيفن ملهاوزر هذه المقالة يوم الخامس من شهر أكتوبر في القسم الأدبي من صحيفة نيويورك تايمز بعنوان طموح القصة القصيرة. فاز ملهاوزر بجائزة بوليتزر للفن القصصي في عام 1997 عن روايته مارتن دريسلر. ولد في مدينة نيويورك عام 1943 ونشأ في ولاية كونيتكت، وتخرج من جامعة كولومبيا عام 1965. عرف من خلال روايته الاولى التي صدرت عام 1972 بعنوان إدوين ملهاوس. ولكن شهرته تحققت بعد فوزه بجائزة بوليتزر. اصدر روايته الثانية بعنوان " صورة الرومانسي" في عام 1977 . كما أصدر مجموعته القصصية الاولى بعنوان " تحت اقواس بيني" عام 1986. أصدر عدداً من الروايات والمجموعات القصصية كان أخرها مجموعته المسماة "ضحك خطير: ثلاث عشرة قصة" . أسلوبه قريب من أسلوب إدغار الان بو وبورجيس في تناول مواضيع الغموض والفنتازيا.

القصة القصيرة كم هي متواضعة في مشيها! وكم هي مهذبة في سلوكها! تجلس هناك بهدوء مسبلة العينين كما لو أنها لا تريد أن يراها أحد. واذا استطاعت لسبب ما أن تجذب إنتباهك، فإنها تبادر للقول بسرعة بصوت منخفض شجاع يقلل من شأن الذات ويعرف كل احتمالات الخيبة: "أنا لست برواية كما تعلم. ولست حتى بواحدة قصيرة، فإذا كان ذلك ما تبحث عنه، فإنك لا تريدني". نادراً ما يطغى شكل ما من أشكال الادب على غيره. ونحن نعلم، ونهز رؤوسنا موافقين بأنه في أمريكا الحجم هو القوة. الرواية هي وول-مارت، وشخصية (هَلْك) المخيف، وطائرة جامبو الادب الكبيرة! إن شهية الرواية ليس لها حدود- تريد أن تفترس العالم. فماذا بقي للقصة القصيرة المسكينة لتفعله؟ تستطيع أن تقلّم أعشاب حديقتها، وأن تمارس التأمل، وتسقي أصيص الزهور على حافة النافذة. وتستطيع أن تأخذ دورة في الكتابة الابداعية غير القصصية. تستطيع أن تفعل ما تريد طالما أنها لا تنسى مكانتها، طالما بقيت جالسة وادعة بعيداً عن الطريق! تصيح الرواية: هوو ها! هأنذا قد جئت! فتهرب القصة بحثاً عن مخبأ. تشتري الرواية الارض، وتقطع الاشجار وتقيم المجمعات السكنية العالية. وتتعثر القصة القصيرة فوق أرض البستان، وتعصر ذاتها تحت السياج!

بالطبع هناك فضائل للصغر. لا تستطيع حتى الرواية أن تعطي مثلها. الاشياء الكبيرة تميل لأن تكون غير متقنة الصنع ، خرقاء، خامة. أما الصغر فهو عالم الاناقة والمجد. إنه كذلك عالم السعي نحو الكمال. الرواية متعبة تستنفد الطاقة بطبيعتها، ولكن العالم لا حدود لاستنفاذه، ولهذا فإن الرواية، مثلها مثل ذلك العبد الفاوستي، لا يمكن أن تحقق رغبتها. ولكن على طرف نقيض فإن القصة القصيرة إنتقائية بجوهرها. واذا ما استبعدنا تقريباً كل شيء، يمكنها أن تعطي شكلا مثالياً لما تبقى. كما يحق للقصة القصيرة أن تدعي أحقيتها بنوع من الاكتمال بينما يجانب ذلك الرواية. وبعد القيام بالفعل الاولي لعملية الاستثناء الجذري، يمكنها أن تشتمل على الكثير من القليل الذي بقي! وعندما تتذكر الرواية القصة القصيرة، اذا تذكرتها، تشعر بالسرور في أن تكون كريمة معها. تقول: "أنا معجبة بك" وتضع يداً ثقيلة كبيرة فوق قلبها، " بلا مزاح. أنت جداً-- أنت جداً-- جداً جميلة! جداً متحضرة وراقية! وذكية أيضاً". وبالكاد تستطيع الرواية أن تتوقف عن الحديث. ولكن في نهاية المطاف، ما هو الفرق الذي ستصنعه كلماتها؟ انه ليس الا مجرد حديث! ما يهم الرواية هو الاتساع والقوة. في أعماق قلبها فإنها تزدري القصة القصيرة مما يجعل أي اثر لكلامها ضئيلا للغاية. وليس هناك من فائدة منها لالتزام القصة القصيرة وتزمتها وكبتها لذاتها ورفضها لكل الملذات. الرواية تريد الاشياء. تريد الارض. تريد العالم بأجمعه. السعي نحو الكمال هو عزاء الذين لا يملكون شيئاً آخر.

والكثير يمكن أن يقال عن القصة القصيرة. متواضعة في مظاهرها، فخورة على نحو خجول بفضائلها الصغيرة، لديها توق تافه مقارنة بخصمها الجسور. ترضى بأن تجلس في الخلف وتدع الرواية تأخذ العالم الكبير. غير أن السؤال هو، هل ذلك الموقف المتواضع، اذا لم أخطيء الظن، مبالغ فيه؟ تلك النظرات الخجولة للبعيد هل فيها مسحة من خداع؟ هل يمكن أن تتجرأ القصة القصيرة في أن يكون لها طموح بذاتها؟ واذا كان ذلك صحيحاً، فإنها لن تعلن عنه صراحة بسبب نزعتها القوية لحماية ذاتها، وهي عادة قديمة من السرية فرضها عليها القمع. في عالم تحكمه روايات مغرورة، فقد تعلم الصغر أن يشق طريقه بحذر. يجب علينا أن نحدس سرها. أتخيل أن القصة القصيرة تحتضن أمنية. أتخيل أن القصة القصيرة تقول للرواية: بامكانك أن تأخذي كل شيء - كل شيء، وكل ما أطلبه هو حبة رمل واحدة. وعندها وبحركة لا أبالية، ضاحكة ومزدرية تستجيب الرواية للأمنية.

ولكن حبة الرمل تلك هي طريق الخروج للقصة القصيرة، وهي خلاصها. وأنا أخذ هنا إشارة من وليم بليك:" لكي ترى العالم في حبة رمل". فكر بهذه المقولة: العالم في حبة رمل، اي أن ذلك يعني أن كل جزء من العالم مهما كان صغيراً يحتوي العالم بأجمعه فيه. أو يمكننا أن نقولها بطريقة أخرى: اذا ركزت اهتمامك على جزء غير مهم ظاهرياً، فستجد عمقاً بداخله، ليس أقل من العالم ذاته. في حبة الرمل تلك يستلقي هناك الشاطيء الذي يحتوي على حبة الرمل. في حبة الرمل تلك يوجد هناك المحيط الذي يندفع نحو الشاطيء، والسفينة التي تبحر في المحيط، والشمس التي تشرق على السفينة، والرياح النجمية، وملعقة في كانساس، بنية الكون. وهناك طموح القصة القصيرة، ذلك الطموح الفظيع الذي يقبع خلف تواضعها المخادع: أن يمثّل ويجسّد العالم كله. تؤمن القصة القصيرة بالتحولات، وتؤمن بالقوى الخفية. أما الرواية فتحب رؤية الاشياء بالنظرة السطحية. ليس لديها صبر على حبات الرمل المنفردة التي تلمع بينما يكون من الصعب رؤيتها. الرواية تريد أن تكتسح كل شيء في عناقها الجبار: شواطيء، جبال، قارات. لكنها لا يمكن أن تنجح، لأن العالم أوسع من رواية. العالم يبتعد بعيداً عند كل نقطة. الرواية تقفز بلا كلل من مكان الى آخر، ودائما جائعة، وغير راضية وتخشى دوماً أن تصل الى نهاية، لأنها عندما تتوقف تكون منهكة ولكنها تفتقد الطمأنينة، فقد تجاوزها العالم. القصة القصيرة تركز على حبة الرمل على اساس قناعتها الراسخة بأن هناك- هناك في راحة اليد يقع العالم كله. وتسعى لمعرفة حبة الرمل تلك بذات الطريقة التي يسعى فيها محب الى معرفة وجه حبيبته. إنها تبحث عن اللحظة التي تكشف فيها حبة الرمل عن طبيعتها. في تلك اللحظة من التوسع الغامض عندما تنفجر زهرة كونية هائلة من البذرة الكونية المصغرة، تشعر القصة القصيرة بقوتها. تصبح أكبر من ذاتها. تصبح أكبر من الرواية. تصبح كبيرة بقدر اتساع الكون. وهناك تكمن فظاظة القصة القصيرة وعدوانها السري. وطريقتها هي الالهام والوحي. إن صغرها يصبح أداة قوتها. وتضربها كتلة الرواية الهائلة باعتبارها صورة الضعف الذي يثير الضحك. وتعتذر القصة القصيرة عن لا شيء. تتباهى بقصرها، بل لربما تريد أن تصبح صغيرة أكثر. تود أن تصبح كلمة واحدة. واذا استطاعت ان تجد تلك الكلمة، واذا استطاعت أن تنطق ذلك المقطع، فسيشتعل الكون كله حينها ويزأر. ذاك هو طموح القصة القصيرة الغاضب، إنه ايمانها العميق بعظمة صغرها!


* اللوحة أعلاه للفنان الايراني الامريكي المعاصر فريدون رسولي بعنوان اهتزازات الفرح.

الجمعة، أكتوبر 3

بركات

بركات
قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

تطلع في الوجوه واجماً بخوف وترقب. بقي واقفاً في مكانه خائفاً أن يتقدم. خشيَ أن تكونَ مملكةُ أحد من النزلاء الدائمين فيحلُّ عليه غضبٌ منه. قال سميح بصوت مرتعش فيه شيء من الرهبة: مرحبا. رد التحية عدد قليل منهم. رأى فسحةً قريباً من الزاوية فمشى اليها ووقف هناك. كانوا ينظرون إليه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، يتفرسون فيه.. وهو ينظر اليهم بتوجس. مع كل قادم جديد يسود الجو ترقب ووجوم وخوف متبادل خشية أن يكون غريباً مدسوساً. بعد فترة من النظر والتأمل في أرجاء المكان، تعب من رتابة المنظر. أرخى ساقيه وأخذ ظهره ينزلق ببطء على الحائط حتى وصل الارض وجلس. بقي ينظر في وجوه الآخرين ويتفادى النظر في عيونهم. كلما إلتقت عيناه بعيني أحد من النزلاء أشاح بنظره بعيداً. رائحة الدخان ثقيلة. والرماد يملأ المنافض القديمة المصفرّة. السواد متحجر في أطرافها وزواياها كأنها من عهد الرومان! مجموعةٌ تلعبُ الورق في الزاوية الاخرى فلم تُعِرْ الامرَ إهتماماً. شعر بضيق. مضتْ برهةٌ وهو جالس في مكانه بلا حركة سوى من زفراته الحارة وأفكاره السوداء فأحسَ بالاختناق. حفزته رائحةُ الدخان أن يتناولَ سيجارةً من جيبه. وضعها في فمه وتطلع في الوجوه حوله كأنما يعلن عن تمرد قبل حدوثه منتظراً ردة فعل. أشعلَ السيجارةَ ونفث دخانها بزفرة غضب مكتومة. أحس بيدٍ تتسللُ خلسةً لتلمس كتفه. نظر إلى يساره.. رجل في نهاية الخمسينات ترتسم على وجهه هموم الايام.. كثُّ الشعر.. غزا الشيبُ رأسه. أومأ برأسه وأصابعه يريد سيجارة! تناول واحدة وأعطاه إياها. كانت أصابعُه مصفرّةً من الدخان. ندّت عن الرجل ابتسامة محروم تعبيراً عن امتنان فبانت من بين شواربه الرمادية الكثيفة أسنانٌ نخرة سوداءُ!

تملأ السيارات الطريق كالسيل الهادر. تتحرك ببطء شديد. استسلم الناس للأزمة الخانقة فلم تعدْ تسمعُ صوتَ بوقٍ يبدد سكون الليل. لكن الليلةَ ليست ككل ليلة. إنها ليلة العيد. المحلات مليئة بالمتسوقين ، والشوارع بالمتسولين! الاضواء تنيرُ ظلام الليل. كل الطرق مزدحمةٌ في الجانب الغربي من المدينة. أوقف الناس سياراتهم أينما طاب لهم فكل شيء الليلة مباح!

جلس عدد من الرجال والشيوخ في أماكنهم وهم يتلفّعون معاطفَهم وعباءاتِهم من البرد تحت شادر ذي مزيج من الالوان الحمراء والصفراء والبرتقالية نُصِبَ تحت أشجار الزيتون لاستقبال المعزين. ممر مفروش بالسجاد الاحمر يصل بين الطريق والشادر كي لا تتسخَ أحذية الضيوف. تهبّ الريح قوية، ويصفر صوتها حين تتسلل بين قطع قماش الشادر. اختراع ابتدعه الوافدون ترى فيه ألوانَ قوسِ قزح والالوان الحيادية لينفع لكل المناسبات!! كانت أضواء الشادر ساطعة تنير كل شيء فتحيل الليل نهاراً. عدد كبير من السيارات وقف بشكل عشوائي على جانبي الطريق. طريق ترابية ضيقة موحشة ومظلمة تحيط بها الاشجار من كل جانب.

يجلس شادي وسط المعزين لكنه ليس بينهم! شارد الذهن يلاحق شطحات خياله وأفكاره. يعرف أنه يختزن في ذاته كماً هائلاً من شك ديكارت! رجع يفكر في ذلك المسكين. رن الهاتف بين يديه. فرح بأعماقه لهذا الصوت الذي انتشله من ضياعه. رأى اسمها على شاشة هاتفه.
- الو كيف الجو عندك؟
- موقف عادي جداً سهى. لم يعدْ يثيرُ فينا الحزن أو الدموع.
- ربما لم تعد لدينا دموع لنذرفَها
- أعتقد أننا إستهلكنا دموعنا في موت ديانا ودودي!!!
- أخبرني ماذا لديك؟
- لا شيء أتأمل في وجوه الآخرين!

عاد إلى جو الوجوم والصمت. يجلس إلى جانب شادي رجلٌ في أواخر الاربعينات وقد وضع فمَه في أُذنِ جالسٍ آخرَ يجلس إلى يمينه. مضى عليهما مدةٌ على هذه الحال. يبدو أن بينهما حواراً طويلاً. تنفلتُ بعضُ الجمل من حديثهما السري! كلامٌ مبعثر كالالغاز عن المال والتجارة والسيارات! المقاعد أمامه خاليةٌ. بدأ الناس بالتوافد. جلس عددٌ من الرجال والشيوخ أمامه. مضت فترة تبادلوا فيها النظراتِ في وجوه بعضهم وتأملوا في الشادر المعلق بألوانه وردّدوا عبارات المجاملة المكرورة حزناً على موته. يقف شاب يبدو عليه الحماس ويستحوذ على تفكيره واجب الوعظ. شاب في مقتبل العمر يلبس ثوباً داكن اللون يبدو عليه أنه تخرج حديثاً. يستغل المناسبة والصمت في حضرة الموت ليلقي موعظة بكلمات لا تخلو من السجع. يبدأَ الملل بالتسلل إلى نفوس الجالسين. بعد قليل كان الكل مشغولاً بأحاديثهم الجانبية.

لم يعد يتحدث عنه أحد. لكن شادي كان مشغولا بصديقه القديم. بركات في أواسط الثلاثين من العمر. تزوج منذ ستِ سنوات من موظفة بسيطة تعمل محاسبةً في البلدية. يعمل في محل للتصوير يملكه. واجهته ظروف قاسية مريرة في بداية حياته. لم يكن يملك سيارة فقاسي الامرين من زحمة المواصلات. ساعدته زوجته على مواجهة متطلبات الحياة في بداية المشوار. لم تكن تمضي السنة من غير أن تأخذ شيماء قرضاً أو تشترك بجمعية لتحصل على سلفة تعينه بها على ظروف لم تكن بالحسبان. ولكن عمله في السنوات الثلاث الاخيرة تحسن كثيراً وازداد زبائنه. بدأ ينتقل من تحت الخط الاحمر إلى فوقه. أخذ يفكر بالتوسع فأخذ قرضاً ورهن المحل. بدأ يتوسع بشراء المحل الذي بجانبه واشترى أجهزة جديدة وغيرّ الديكورات. سارت الامور على أحس ما يرام. وانتقل من تحت الخط الاخضر إلى فوقه! واستطاع أن يسدد قرضه خلال الاعوام الثلاثة التي مضت.

- بركات سانتظرك عند الجسر. أرجوك لا تتأخر عليّ. يجب أن أعود للمستشفى
- لماذا لا تنتظرني في مكتب الجمعية؟ أريد أن أسدد دفعةً من ثمن الارض بالمكتب
- لقد تركت الدوام في المكتب. لم يعد مجدياً. عندما أراك سأخبرك
- وعملك بالمستشفى؟ هل تركته؟
- لا ، ما زلت أعمل فيه. ولكن عملي يبدأ اليوم مساءً. وردية ليلية طوال الاسبوع
- وكيف سآخذ الكمبيالات من المكتب؟
- سأحضرها معي مع وصولات الدفع. لا تقلق!
- سأنتظرك عند الجسر، لا تتأخر.

أخذ معه دفعة نقدية ليسدد من ثمن قطعة الارض التي اشتراها من الجمعية بالاقساط. وصل الجسر ووقف على جانب الطريق ينتظر. وصل سميح بسيارته الفارهة الجديدة. يعرفها من لونها فقد رآها معه المرة الماضية. عندما كان يداوم في الجمعية سكرتيراً لم يكن معه سيارة. لقد انتظره بركات عدة مرات عند باب الجمعية فكان يشاهده دائماً ينزل من الحافلة. أعطاه الكمبيالات والوصولات وأخذ منه المبلغ ووضعه في جيبه. قال له سميح إنه افتتح وأخوه مكتباً لتقديم الاستشارات والخدمات المالية، وتناول بطاقة من جيب قميصه وناوله إياها.
- لقد أصبح لدينا الان عدد كبير من المستثمرين الذين وضعوا أموالهم لدينا. نشتغل في كل شيء. بورصات.. عقارات.. مزارع أبقار .. مناحل عسل وباصات للنقل!
- وهل...؟ وقبل أن يكمل سؤاله، أضاف سميح:
- منذ أن بدأنا لم تنزل الارباح الشهرية عن العشر!
- معقول إلى هذا الحد؟
- في أحد الأشهر وصلت إلى الربع!
- وهل الامور مضمونة؟
- هناك كثيرون كانوا مترددين مثلك. لقد سددوا إلتزاماتِهم وديونَهم واستبدلوا سياراتهم! لقد وظّفنا محللين متخصصين. أنظر إلى إسم شركتنا على البطاقة. الاسم وحده يدل علينا!
- دعني أفكر بالامر. أحتاج إلى وقت لأقرر.

عاد بركات للمحل والافكار تدور في رأسه. كان متشككاً أول الامر ولكن سميح صديقه ويعرفه منذ فترة طويلة. بدأت بوادر الاحلام تقترب من رأسه فيحس لها صدى في داخله. صورُ مستقبلٍ غامض أخذت تتشكل أمام مخيلته. بقع من ألوان زاهية راحت تملأ حيزاً رفيعاً وسط لوحة رمادية. خطرت له فكرة. سبق أن تحدث معه أحمد عن الموضوع عدة مرات وهو يرفض التصديق. أحمد زميل قديم من أيام الدراسة. اتصل بأحمد وأمطره بوابل من الاسئلة عن الموضوع! التمعت عيناه فرحاً.

في المساء كان يدخن الارجيلة وهو يشاهد التلفاز، ولكن ذهنه شارد. نادى شيماء لتجلس بجانبه. أخذ نَفَساً وعدّل جلسته وبدأ يحكي لها الحكاية. شعر بشيء غير عادي. لم تتفاجأ شيماء كثيراً. أخبرته أن جارتَهم وضعت هي وزوجها مبلغاً من المال لدى شركة ، وكل شهر يقبضون مبلغاً يسددون به قرض البيت الذي مضى عليه عدة سنوات ولم ينته بعد! شعر بركات بإرتياح، فقد وفرت عليه جهداً طائلا كان يستعدّ لاقناعها به. لم يكن من السهل أن تتقبل فكرة كهذه. فقد عانت الامرين في بداية زواجهما وتحرص على راتبها كثيراً!

في الصباح كان بركات يجلس في قاعة البنك ينتظر دورَهُ. وديعةٌ ربطها منذ سنة ونصف. جمعها ديناراً ديناراً كأنه إنتزعها من فم الاسد. احتضن بركات وديعته مثلما يحتضن أطفاله الثلاثة لحظة جاءوا إلى هذا العالم! بقي متلهفاً للقاء سميح حتى جاء المساء.
سمع كلاماً عن آخرين سبقوه بينما يصارع هو في هذه الحياة! سمع كلاماً لم يفهم منه كثيراً عن أسرار وخفايا الفرص الضائعة الكثيرة التي تنتظر من ينتهزها! ما يزال أولاده صغاراً ، ومصاريف الحياة صارت كابوساً. شعر بالراحة مما سمعه. تبدو الامور بأحسن حال والنسب في ازدياد!

بعد سنة صارت الشركة حديث بركات في كل جلساته. لم تكن الشركة لتجدَ أفضلَ منه ليتحدث عنها! بدأت الارباح تدخل جيوبه. كان يأخذها حيناً وحيناً يضيفها إلى رأس المال! لم يبق أحد من إخوته وأقاربه ومعارفه وأصدقائه في العمل إلاّ وذهب معه ووقع شاهداً على العقود! لم يعد هناك شك في نفسه. أخذ يفكر كيف يزيد من استثماراته ويضرب ضربته بسرعة قبل أن تتغير الظروف. كانت جلسة أرجيلة واحدة مع شيماء كفيلة باقناعها ببيع ذهبها. مرت ستة أشهر أخرى وهم يقبضون كل شهر أرباحهم. لأول مرة يشعر بركات بأنه قادر على العيش في مستوى مناسب. لقد زادت طموحاته ورغبته في الثراء. أليسَ من حقه أن يحققَ كل أحلامه بوقتٍ قصير كما يفعل الذين يسمع عنهم؟! كانت زوجته تؤيده وتشجعه وهي ترى عوائد ذهبها تجري في يديها. لم يمض سوى أسبوع حتى كان قد حصل على قرض من كبير من البنك مقابل رهن الشقة والمحل.

ما يزال سميح يتكيء بظهره على جدار سجن التوقيف، وينفث سيجارة من أعماقه. كانت العيون تتفرس فيه فشعر بالخوف. كان يمكن أن يمر يوم الخميس الماضي دون أن يثير انتباه أحد. وكان يمكن أن تمر العملية عادية، ويسحب مليون دينار من حسابه في البنك لولا مكالمة قصيرة حتى كان الرجال يحيطون به ويطلبون منه الحضور معهم! الليلة ليلة عيد والمدينة صاخبة يملأها الضجيج. يرقد بركات في قسم العناية الحثيثة منذ أسبوعين فاقدَ الوعي. أصابته أزمة مفاجئة وهو جالس في بيته يشاهد مسلسلاً عن الحواري القديمة وبطولاتها! لكنه رحل قبل أن يصل العيد.
* اللوحة أعلاه بعنوان "صراع من أجل الحياة" للفنان الاردني المبدع خالد عطية

خالد أصم وأبكم وقد عمل نجاراً وأخذ يقدم لوحات فنية في غاية الابداع دون أن يتحصل على أية دراسة للفنون. ثم قرر أن يتحول للرسم. حيث بدأ منذ عام 1987 بتدريس الرسم لطلبة كلية الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية. حصل في عام 2001 على الجائزة الاولى لمسابقة الفنون من جامعة الشارقة بالامارات المتحدة.