الأحد، يونيو 29

المصير


المصير

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

يجلس على سريره وحيداً في الغرفة، أغلق على نفسه كل شيء، أسئلة كثيرة تدور في رأسه بلا أجوبة، اختزل الماضي والحاضر والمستقبل في دوامةٍ من الأفكار المضطربة، لكن السؤالَ المخيفَ كان عن المصير. هل ساقته قدماه إلى القدر المحتوم في هذه الغرفة الموحشة وحيداً؟ للموتِ طعمٌ لاذعٌ مخيف. كم قرأ عن الموت كأيِّ شيء عادي! لم يغمره هذا الاحساس بالعدمية والقلق من قبل. أثارت قصص الموت المأساوية الحزن في القلب، لكنه في ذات الوقت كان يمارس التنظير عن فلسفة الموت، فيشعر بمعنى الحياة. مفارقة غريبة لكنها الحقيقة. هل ستموت الأحلام هنا؟ هل ستنتحر الآمال الوليدة على رمال الصحراء؟ شعر بالغربة عن المكان. ستكون نهايةً عبثيةً حزينة ، ستمرُّ ولن يشعر بها أحد. لأولِ مرةٍ يتشبّث بالحياة. مستقبل غامضٌ أقلُ وطأةً على النفس من الذهاب إلى عالم اللاعودة المجهول. لم يخفْ من شيء أكثرَ من المجهول. ظنّ لوهلةٍ أن الأدباءَ الذين انتحروا واجهوا المجهول بشجاعة. القضيةُ معقدةٌ أكثر مما يظن، لكن خوفَه من المجهول يزداد وتتصاعد وتيرته. لم يعن له الأمر شيئاً قبل أيامٍ قليلة. آهٍ كم تغيّرُ الايامُ الناس. كلهم هربوا لكنّه أصرَّ على البقاء. حاولوا إقناعه بالذهاب معهم. واجهَ ضعفَهم بابتسامةٍ صفراء. شعر أن الخوف من الموت صار هوساً مبالغاً فيه. أحس بداخله قوةً أكبرَ تعطيه شجاعةً نادرة، لم يعهدها في نفسه من قبل. لم يحس بالخوف قبل أيام. لكن يبدو أن المقاومة بدأت تنهار!

قفز عن السرير فجأة. تناول منشفةَ قماشٍ قديمةً من أدراج خزائن المطبخ. بلّلها بالماء. وضعها على حافة الباب الخشبي. أطفأ التلفاز كي لا يبقى في الغرفة أي نور حوله. أدار مفتاحَ المذياع. شعر بالقلق وتوجس قلبُه خوفاً من الآتي. لقد مرّت عدةُ ليالٍ وهو على هذه الحالة. أعصابه مشدودة وفكره يحاول أن يتخيل حجم الكارثة. يبدو الأمر مرعباًً. لم يحدث شيء لكن الخوفَ يكبرُ يوماً بعد آخر. لم يشعر بالأمان. الغرفة محاذيةٌ للشارع. النافذة عريضة، ومن الممكن أن يدخلَ من بين قطع الزجاج. هناك مسامات حول جهاز التكييف. لو حدث شيء سينتهي به الأمر جثةً هامدةً مدفونةً في غرفة منعزلة ولن يسمعَ به أحد. قفز عن سريره تناول شريطاً لاصقاً وصار يحكم إغلاق حواف جهاز التكييف من كل الجهات. سحب مفتاح الباب من مكانه. سدَّ مكانه بإحكام. لم يترك فتحةً صغيرةً ألا وفكّر بها. انتهى من وضع اللاصق بإحكامٍ حول النافذة. تطلع في أرجاء الغرفة. الوضع خطير ولا يحتمل المجازفة. بدأ الحر يزداد في الغرفة. شعر أنها تحولت إلى ما يشبه الزنزانة. لا يستطيع تشغيل جهاز التكييف في مثل هذا الوقت. بدا مضطرباً وهو يحاول البحث عن منفذ مهما كان صغيراً، وقلبه يخفق سريعاً. وقف على كرسي. مَدَّ جسمه للأعلى. بالكاد وصلت يداه إلى أعلى المكيف. تعب وهو يحاول اغلاق المنافذ العلوية. إرتخت يداه وهو واقف على رؤوس قدميه يحاول الوصول للفتحات العليا. أنزلهما ليرتاح قليلاً. يتصبب العرق من جبينه، والجو حار. الساعة الخامسة عصراً، والغرفة أصبحت مظلمة بعض الشيء. شعر بالعزلة وتسرب الخوف إلى أعماقه كالطوفان. كل شيء يوحي باقتراب النهاية.

تذكر حامد. إنه كثير الضحك والسخرية مما يجري. يتهكم على كل شيء. يظنُّ أن الأمرَ لعبةٌ ولن يحدث شيء. قال إن ما جرى قد جرى، ولكن هذا الخوف ما هو الا فقاعةٌ ستنفجرُ، وسيكتشفُ العالم أنها كانت فارغة! مجرد فرقعة مثلَ صوتِ الرعد! قال إنه لن يتزحزحَ من مكانه مهما حصل.. هنا طاب الموت! لم يظنْ حامدُ أنَ شبحَ الموت سيهبط على هذه الرمال! ما أسهل أن تبقى الكلمات مجرد كلمات! فها هو أولُ مَنْ هرب. أما سمير فلم يخف قلقه وخوفه. كان يقهقه مردداً عبارتَه المعتادة: "الهروبُ ثلثا المراجل"! وما الداعي لموتٍ مجاني في قلب الصحراء؟! سمير واقعي إلى درجة الجبن. ولكنَّ أكرم حاول إخفاءَ خوفِه وتوتِره باصطناع الهدوء! يتحدّثُ كثيراً عن ذكرياته في الخدمة العسكرية، وأحياناً يتحول إلى محلّلٍ استراتيجي. كلمات كبيرة وعبارات منمقة. يجبر أسلوبه الآخرين على الاستماع له! كان يضحك في سرّه من تحليلاته!

قبل أسابيع كانوا يحسون بمللٍ قاتل في هذا المعتزلِ البعيد. يقتلون أيامهم برتابة فظيعة. ليس سوى تفاهات الحياة اليومية والوقت المتثائب البطيء. إنهم مثل رجال كنفاني الذين تكدّسوا في الخزان تحت لهيبِ الصحراء الحارقة. كلُّ واحدٍ في عينيه بريقُ آمالٍ كبيرة. بدأ يدرك أن الطريق لن تؤدي إلى شيء يذكر. سيدفن نفسه هنا من غير معنى للوجود. فكر في رئيسه هاشم. هل يريد أن يصبح مثله؟! مجرد التفكير به يخيفه ويجعله يحسّ بالخيبة. كل يوم يسمع هاشم يتحدث عن نفسه فيتحسّر. سنوات طويلة ضاعت وهو يندب حظه. كلما رآه تتجسد له النهاية العبثية الحمقاء. لا بد من الخروج من هنا. لقد هربوا جميعهم وبقي هو وحيداً.

دوّى صوتُ صفيرٍ حادٍ أثار في نفسه الرعب. لم يسمعْ مثلَ هذا الصوت من قبل. صوت يثير الهلع. جلس على سريره. أمسك منشفة مبلّلة كثيراً بالماء ووضعها على أنفه وفمه. زاد صوت النذير حدة. شعر بخطر داهم يمكن أن ينقضّ عليه في أية لحظة. أخذ يفكر بالأمر من ناحية رياضية. كم يبدو محتملاً أن يكون هو الهدف؟ كل إنسان في المدينة الكبيرة يشعر بخوف أن يكون هو المستهدف. الموت لا يعرف الرحمة. الناس مذعورون وليس أمامهم سوى الاختباء. ولكن أين؟ يمكن أن يطالك الموت أينما كنت. أصبح الناس رهائن الخوف والموت المجاني المحتمل. أمسك المنشفة وقرّبها من أنفه بإحكام. هل يمكن أن يسقط فوق هذه البناية؟ ستصبح ركاماً ودماراً وخرائب. مضت فترة وهو ما يزال على قيد الحياة. تنفس الصعداء قليلاً. أخذ يفكر في الخطر الداهم الآخر. الموت الصامت الذي سيتسلل مع الهواء. خطرت له هواجس مرعبة. هل يمكن أن تقع كارثة بهذا الحجم؟ الأمر أصعب من أن يتخيله ذهنه. أمسك المنشفة بإحكام زائد. أخذت أطرافه ترتجفُ والشحوب بادٍ على وجهه. بقي في مكانه متجمداً ينتظر لحظة النهاية، متهيئاً ليلاقي مصيره. مرت لحظات وهو ما زال على قيد الحياة. مرت دقيقة وهو ما زال يحس بأنه موجود. مرت دقائق أخرى. تنفس الصعداء. عاد صوت الصفير متواصلاً هذه المرة. أدرك أن المصير المحتوم مسألة وقت فقط. عاد إليه القلق والخوف والتوجس. صار يفكر في مأساة ستتجسّد فصولها ولن يكون موجوداً ليراها أو يرى ما سَيُكتب عنها.

قضى ليلة طويلة وهو يصارع الأفكار السوداء. استسلم للنهاية. شعر أنه عاجز عن فعل شيء. أيقن أن عليه أن يتحمّل نتائج اختياره. كانت أطولَ ليلةٍ في حياته. بقي الصفير يأتي بين حينٍ وآخر وأصوات الانفجارات تتردّد هنا وهناك. لم تعرف عيناه طعم النوم. بقي متوتراً خائفاً كسجينٍ ينتظر ليلة التنفيذ في زنزانته. لم يصدقْ أن النهارَ قد لاح أخيراً. هل يستحقُّ الامرُ كلَّ هذا العناء؟ ولكن الأمكنة كلها لم تعد آمنةً. بقي متردداً. في الصباح جاء شكري ليطمئن عليه. إستغرب كيف يبقى وحده. أصر عليه أن يذهب معه إلى بيته. فرح بداخله، فعلى الأقل سيكون هناك آخرون لو حدث له شيء. لم يكن يعرف شكري جيداً من قبل. التقى به في الحافلة عندما قدم إلى هنا أول مرة. لا يتذكر كيف أصبحت علاقته بشكري قوية. ربما بسبب الشكوى المرّة التي تعتمل في صدر شكري. ولكنه محظوظ وكثير الأسفار. لا يقضي الصيف الحارق هنا. أما هو فقد مضت الآن سنتان من غير أن يغادر حدود المدينة! حزم حقائبه وخرج مع شكري. قرر في داخل نفسه وهو يدير المفتاح أنه لن يعود إلى هذا المكان مرة أخرى.

يسكن شكري قرب المطار في بيت واسع. يسكن معه بعض زملائه في الشركة. بيت واسع كأنه مهجور من قلة ساكنيه. في الليل عندما سكنت الحركة، كان صوت الطائرات مخيفاً. اهتز البيت كأنما يوشك على الانهيار من شدة الصوت. لم تهدأ الطائرات تلك الليلة. صوت محركاتها عالٍ كهدير الرعد. كلما أقلعت طائرة أو هبطت كان البيتُ يهتزُّ من عنفِ الصوت كأنما سينخلعُ من أساسه. شعر بالرهبة. ما أن يتلاشى صوت طائرة حتى يبدأَ صوتُ أخرى. كابوس لم يتوقف طوال الليل. كلها ملأى بنيران الموت. ماذا لو سقطت إحداهن؟ ماذا لو سقطت حمولتها؟ ستشتعل جهنم على الأرض حينها. فكر في الضحايا الذين ستلقي عليهم حممها. إن كان قد تملكه الخوف من مجرد سماع صوتها، فكيف بأولئك الأبرياء الذين ستلقي عليهم نارها المدمرة. تباً للعنةِ الحرب. لقد غيرت الحربُ كل شيء. قضى الليل مستيقظاً خائفاً متوتراً تحت وطأة كابوس رهيب. لم تغمض له جفن من التفكير في بؤس الضحايا الذين تنتظرهم بعد ساعات لعنة الشر والتكنولوجيا المتوحشة.

طلع النهار بعد ليلة بائسة أخيراً. وجهه منتفخ وعيونه محمرّة. نهض واستعد للخروج. لم يكن شكري هناك. خرج مبكراً. قرر أن يخرج من البيت أيضاً. لن يبقى فيه ليلة واحدة أخرى. لم يكن يظن أنها مأساوية إلى هذا الحد. صفق الباب خلفه وخرج. بقي يسير في الشارع. طريق طويلةٌ مزدحمةٌ وضيقةٌ، بالكاد تسمح بالسير على جانبيها. الطقس حار، لكنه بقي يمشي حتى وصل المكان. بناية قديمة من خمسة أدوار في حي شعبي مزدحم. حولها مشاغل وورشات صغيرة لتصليح السيارات، ويمر بجانبها جسر علوي. وعلى الطرف المقابل بناية حديثة مستطيلة ضخمة من الرخام من عدة أدوار. عند مدخل البناية وجد عبد القادر واقفاً عند سيارته والميكانيكي ينظر إلى محركها. سيارة ولىّ زمانها. آخر ما يفكر به عبد القادر هو صيانتها. لا يكترث لنظافتها من الداخل. جعلها مثل مستودع متحرك يضع فيها كل شيء! يعيش عبد القادر وحده في شقته، فقد أرسل زوجته وطفله منذ وقعت الأحداث إلى بلده. سأله عبد القادر عن ظروفه ، فأخبره بما حصل معه في الليلتين السابقتين. قال: ولماذا لم تأت إلى هنا منذ اليوم الاول؟!

قضى ليلة هادئة عند عبد القادر. سهرا حتى وقت متأخر مع بعض الأصدقاء. لم يكن هناك من حديث سوى الحرب اللعينة. كانت أجواء الخوف والترقب تغطي كل شيء. لم يكن يودّ أن يزور عبد القادر في مثل هذا الظرف. ولكنه كان بحاجة إلى شيء من الهدوء بعد ليلتين مريرتين. في المساء وهما في زيارة جار في نفس البناية، دوّى الصوت الرهيب مرة أخرى. بدا التوتر والخوف على الجميع. ازداد الصوت حدّة وبقي مستمراً. أحس أن الأمر سيكون أكثر رعباً من ذي قبل. صعد عبدالقادر إلى سطح البناية ليراقب. قال إنه يريد أن يرى الأشياء على طبيعتها في السماء! بقي جالساً مع الرجل الغريب متوتراً قلقاً ينتظر سماع صوت الارتطام العنيف.

بكى الاطفال بحرقة. سمع النساء يتمتمن بأدعية من شدة الخوف. هل يعقل أن يكونوا هم الضحية من بين الملايين في هذه المدينة؟ لا مجال للاحتمال هنا. القضية قضية مصير. يمكن أن تقع كارثة مرعبة. دوّى بعد لحظات صوت ارتطامٍ عنيفٍ جداً. اهتزت البناية. سمع أصوات زجاج يتكسر. تأرجحت البناية بهم من شدة الضربة. أحس أنها أصيبت. لم يصدق أنه ما زال يرى ويسمع. كانت الضربةُ عنيفةً كأنما شقت البناية من نصفها. سمع المرايا وهي تقع وتتهشم. راوده شعور أن البناية ستنهار بين لحظة وأخرى. لا يحتمل الموقف الانتظار. قفز سريعاً لا يلوي على شيء. نزل من الطابق الخامس على الأدراج. لم يظن أن الزمن سيمهله كي يصل الأرض. عندما وصل مدخل البناية، رأى أعداداً غفيرة من البشر تتجمع حولها. سمع صوت سيارات الشرطة والمطافيء. نظر حوله فصعق من هول المنظر. تحولت البناية الضخمة المجاورة إلى كومة من ركام. كان منظراً مخيفاً. من يا ترى يقيم فيها ؟ انهارت الطوابق بسرعة وأصبحت كتلاً فوق بعضها. رأى الصحفيين يتجمهرون في المكان. ستنتشر أنباء الكارثة خلال لحظات في كل أنحاء العالم. لم ينتظر أكثر من ذلك فقد كان المشهد أكبر من أن تصفه الكلمات. أخذ يسير ويشق طريقه من بين الزحام بصعوبة مبتعداً عنهم. لم يتوقف أو يلتفت للوراء. بقي يسير على قدميه دون أن يعرف وجهته. المدينة مزدحمة برغم الحرب. بقي يسير في الشوارع هائماً على وجهه. التمعت في خاطره فكرة. انعطف يميناً عند زاوية الشارع وبقي يمشي. أحس بالارهاق وحلقه ناشف متيبس كالأرض العطشى. بقي يمشي حتى وصل المكتب. قالوا له لا يوجد رحلة إلاّ في الصباح. اشترى تذكرة وجلس بين مقاعد الانتظار. انتحى زاوية وتكوم فيها. حين فتح عينيه وجد ضوء الصباح قد ملأ المكان. وبدأ الناس بالتجمع. عند الثامنة انطلقت الحافلة مبتعدةً عن المدينة!



السبت، يونيو 28

زيارة الى بيت جدي


زيارة الى بيت جدي

قصة: ديلان توماس
ترجمة وتقديم: اياد نصار

ولد كاتب القصة والشاعر البريطاني ديلان توماس في عام 1914 في بلدة بحيرة البجع في اقليم ويلز . وقد نشر أول قصيدة وعمره اثنا عشر عاماً، كما ترك مقاعد الدراسة ليعمل مراسلا لصحيفة محلية آنذاك . ثم ترك الصحيفة وعمره ثمانية عشر عاما ليلتحق بالعمل في فرقة مسرحية . وفي تلك السنة بدأ بنشر قصائده وتقديم نفسه لمحرري الصحف الادبية في لندن . وقد بدأ اثناء تلك الفترة يقدم برامج أدبية اذاعية عبر أثير هيئة الاذاعة البريطانية حول الشعر الحديث ، وكذلك كتابة السيناريو لافلام سينمائية واذاعية . كما تنقل بعدها في عدة دول لالقاء المحاضرات بين الولايات المتحدة والتشيك وايران وايطاليا والتي أدت الى ذيوع شهرته، كمأ اصدر عددا من الدواوين والمجموعات القصصية خلال تلك الفترة . توفي في عام 1953 في نيويورك .

القصة :

إستيقظت في منتصف الليل من حلم مليء بأسواط وأنشوطات طويلة كالأفاعي ، وعربات تجرها الاحصنة وممرات جبلية وخيول تعدو كالريح فوق حقول الصبّار . وسمعت الرجل العجوز في الغرفة المجاورة يصيح : " هيّا أسرعي" .. و" وووه" ولسانه يضرب في سقف حلقه .

لقد كانت هذه المرة الأولى التي أمكث فيها في بيت جدي . كانت ألواح الارض الخشبية تصر صريراً مثل الفئران كلما إعتليت السرير لأنام . والفئران بين الجدران تصدر صفيرا كصوت خشب يسير عليه زائر آخر . كانت ليلة صيف لطيفة ، لكن الستائر كانت تخفق متلاطمة قليلاً ، والاغصان تضرب زجاج النافذة . سحبت الاغطية فوق راسي وغرقت في قراءة كتاب .

صاح جدي: " وووه .. قفي هناك يا جميلاتي" سمعت صوته عالياً كأنما هو صوت شاب. كان لسانه يصدر أصواتاً كحوافر قوية. وقد حوّل غرفة نومه كأنها مرج أخضر . فكرت أن انهض وأرى ان كان مريضاً ن أو أضرم النار في ملابس نومه ، فقد قالت لي أمي ذات مرة أنه أشعل غليونه تحت البطانيات . ونبهتني أن اسرع اليه لمساعدته اذا شممت رائحة دخان في الليل. قمت أسير على رؤوس أصابعي ، أعبر الظلام الى باب غرفته ، أتحسس الاثاث برفق .. وأزعجت ضوء الشمعة باصبعي ، وشعرت بالخوف عندما شاهدت ضوءاً في الغرفة . وبينما كنت افتح الباب سمعت جدي يصرخ بقوة مثل ثور ضخم ينفخ في بوق : " هيا أيتها الخيل ... أسرعي ".

كان يجلس مستقيما في فراشه ، ويتأرجح من جهة لأخرى كما لو أن سريره يتحرك على طريق وعرة .. وقد جعل من أطراف اللحاف التي يمسك بها لجاماً يقبض عليه بيديه . كانت خيوله اللامرئية تقف في ظل خلف الشمعة التي بجانب السرير .. كان يلبس صدرية حمراء ذات أزرار نحاسية بحجم حبة الجوز فوق فانيلته التي يلبسها للنوم . كان تجويف غليونه المحشو كثيراً يصدر دخانا كثيفاً من بين شاربيه مثل كومة صغيرة من التبن تحترق. وعندما رآني فقد سقط اللجام من بين يديه التي تمددت بجانبيه هامدتين زرقاوين ، والسرير توقف كأنه على أرض مستوية ، وقد كتم صوته ولاذ بالصمت ، والخيول توقفت ببطء .

- أثمة أمر ما يا جدي؟ سألته على الرغم من ملابسه التي لم تكن تحترق .

بدا وجهه في ضوء الشمعة مثل لحاف رث ،معلق عالياً في الهواء القاتم الاسود ، ومرقع في كل مكان منه بجلد عنزة .

حملق فيّ بلطف .. ثم نفخ في غليونه ، فبعثر الجمرات التي فيه ونثرها ، وأصدر صفيراً عالياً عبر ساق الغليون كصفير كلب مبلل ، وصرخ: لاتسألني أي سؤال . وبعد برهة قصيرة قال بخبث : هل ترى كوابيس مزعجة في منامك دائما يا ولد؟

قلت : لا

- أووه .. بلى .. أنت تحلم ..

أخبرته أنني استيقظت على صوت كان يصرخ على خيل.

ماذا قلت لك؟ وأضاف : أنت تأكل كثيرا .. من في حياته سمع عن خيول في غرفة نوم؟

تحسس تحت وسادته ، وأخرج محفظة صغيرة لها رنين ، فك خيوطها بحذر ، ثم تناول جنيها استرلينيا ووضعه في راحة يدي وقال: إشتر لك كعكة . شكرته وتمنيت له ليلة سعيدة .. وبينما كنت أغلق باب غرفتي سمعت صوته يصيح عالياً بابتهاج: هيا أسرعي .. هيا .. كما سمعت صوت سريره يهتز متأرجحاً .

في الصباح استيقظت من حلم رأيت فيه خيلاً محمومة على أرض منبسطة وقد تناثر فوقها قطع من الاثاث ، ورجال ضخام مكفهري الملامح كانوا يركبون ستة خيول في وقت واحد ، وقد كانوا يضربونها بملابس نوم محترقة. كان جدي موجوداً على مائدة الافطار وقد لبس ملابس سوداء غامقة . قال لي بعد الافطار :" لقد كانت هناك ريح عاتية الليلة الماضية". وجلس في كنبته بجانب الموقد ليصنع كرات من الصلصال من أجل النار . في ذلك الصباح أخذني جدي للتمشي عبر قرية جونستاون .. وفي الحقول على طريق ليانستيفان .

قال رجل معه كلب صغير نحيل :" هناك صباح لطيف يا سيد توماس". وعندما مشى مبتعداً منحني الظهر مثل كلبه ، وغاب عن الانظار في غابة خضراء قصيرة الاشجار رغم أنه كان من المفروض الا يدخلها كما كانت تشير لافتات بذلك. قال جدي : هناك .. هل سمعت؟ بماذا ناداك ذلك الرجل؟ يا سيد!

مررنا أثناء تجوالنا بأكواخ صغيرة .. وكل الرجال الذين وقفوا متكئين على البوابات هنّأوا جدي على الصباح الجميل .. ومررنا عبر الغابة التي تمتليء بالحمام الذي كسر الاغصان بأجنحته وهو يطير مندفعاً الى أعالي الاشجار. ومن بين الاصوات الناعمة ، والطيران العالي الخائف . قال جدي كرجل ينادي عبر حقل :" لو سمعت هذه الطيور الكبيرة في الليل، فلسوف تستيقظ وتوقظني معك وتقول أن هناك خيولاً فوق الاشجار!

عدنا نمشي ببطء لأن جدي كان متعبا .. ورأينا الرجل محدودب الظهر يتسلل خارجاً من الغابة الممنوعة يحمل أرنباً بكل رفق فوق ذراعه كذراع فتاة في كم دافيء ..

في اليوم الاخير لزيارتي أخذوني الى ليانستيفان في عربة يجرها مهر قصير ضعيف .. ربما كان جدي يقود ثوراً . شد اللجام بقوة ، وراح يضرب المهر بالسوط بعنف بالغ ، وأخذ يصرخ ويلعن ويشتم الاطفال الذين كانوا يلعبون في الطريق . ومن ثم وجد نفسه مجبرا على الوقوف فوق ظهر المهر ، وهو يجذب اللجام بشدة .. وراح يلعن قوة هذا المهر الشيطانية.

- " انتبه يا ولد" . كان يصرخ بهذه الكلمات كلما وصلنا الى منعطف ويسحب اللجام بقوة ، ويلوح بالسوط ويضرب به مثل سيف من المطاط .. والعرق يتصبب منه . وكلما اجتاز المهر المنعطف بصعوبة قاسية ، كان يلتفت جدي اليّ ويتنهد مبتسما ويقول : " نجونا هذه المرة يا ولد" .

عندما وصلنا الى قرية ليانستيفان على قمة التلة ، ترك العربة بجانب حانة " إدوينسفورد آرمز". وفك الزرد عن فم المهر وأعطاه قطعة من السكر قائلاً :" أنت مهر صغير ضعيف يا جيم حتى تجر رجالاً ثقيلين مثلنا". طلب جدي بيرة وطلبت أنا عصير ليمون ، ثم دفع للسيدة إدوينسفورد جنيها من محفظته الرنانة. سألته إدينسفورد عن صحته هذه الايام ، فأجاب بأن قرية "ليانجادوك" أفضل بكثرة قنواتها. ثم ذهبنا لنلقي نظرة على فناء الكنيسة ومدفنها ، وكذلك البحر ، وجلسنا في غابة تدعى " العصى" ، ثم صعدنا ووقفنا على منصة فرقة الجوقة في وسط الغابة ، حيث يغني الزوار في ليالي الصيف. صار شريف هذه القرية رئيس بلدية منتخب لسنوات. وقف جدي في فناء الكنيسة واشار الى البوابة الحديدية حيث توجد شواهد الاضرحة والصلبان الخشبية . وقال: " لا معنى من الاضطجاع هناك" .

ثم قفلنا عائدين غاضبين هائجين ، فجيم أصبح ثورا مرة أخرى .

استيقظت متأخرا في ذلك الصباح الاخير بالنسبة لي هنا من خضم الاحلام حيث رأيت فيها أن بحر ليانستيفان كان يحمل قوارب شراعية طويلة كالبواخر . وصوت الجوقة الموسيقية الصاخب يصل من الغابة ، وقد ارتدى أفرادها صدريات تلفها خيطان وحبال شتى ، نحاسية الازرار ، انهم يغنون بلهجة ويلزية غريبة للبحارة المسافرين . عند الافطار لم أجد جدي على المائدة، ويبدو أنه نهض مبكراً. تمشيت في الحقول ، وأنا أحمل معي مقلاعاً للصيد ، وقضيت سحابة ذلك الصباح أحاول اصطياد طيور النورس والغربان التي انتشرت فوق الاشجار في مزرعة القسيس . هبت ريح خفيفة حارة ، وزحف الضباب من على سطح الارض ، وتسلل بين الاشجار فغطى الطيور المزعجة ، وتناثر الحصى الذي قذفه المقلاع من خلال الريح والضباب كحبات البرد . وانقضى الصباح دون أن يسقط طائر!

انتصف النهار فكسرت مقلاعي ، وعدت الى بيت جدي لتناول الغداء من خلال حديقة القسيس . لقد أخبرني جدي ذات مرة أن القسيس كان قد اشترى ثلاث بطات من "كارمارثن" وعمل لهن بحيرة صغيرة في وسط الحديقة ، لكنهن تركن البحيرة وخرجن يتهادين في مشيتهين الى قناة المزراب تحت عتبات باب المنزل المكسورة وهناك أخذن بالصياح والسباحة . عندما وصلت آخر الممر المشجر نظرت عبر فتحة في السياج ، فرأيت أن القسيس قد حفر نفقاً صغيراً عبر الارض بين المزراب والبحيرة ، ووضع لافتة مكتوب عليها بخط واضح : " هذه الطريق الى البحيرة" والبطات كانت لا تزال تسبح تحت العتبات .

لم يكن جدي في الكوخ . ذهبت الى الحديقة لكنه لم يكن هناك أيضا كعادته يحملق في أشجار الفاكهة. ناديت عبر الحديقة على رجل كان يقف متكئا على رفش في حقل خلف سياج الحديقة:

- هل رأيت جدي هذا الصباح ؟

لم يتوقف الرجل عن الحفر ، وأجاب بغير اكتراث كأنما يتحدث من أنفه :" رايته يلبس صدريته الغريبة" .

كان يعيش جريف ، الحلاق ، في الكوخ المجاور. صرخت عليه من خلال الباب المفتوح : سيد جريف ، هل رأيت جدي؟ خرج الحلاق وهو يلبس قميصه ذا الاكمام الطويلة وقال: " كان يلبس صدريته المفضلة" . لم أكن أعلم أنها كانت مهمة ، لكن جدي كان يلبسها فقط في الليل .

- هل ذهب جدك الى ليانستيفان ؟ سأل السيد جريف بقلق .

- ذهبنا الى هناك بالأمس في عربة صغيرة .

أسرع الى الداخل وسمعته يتكلم لهجة ويلز. ثم خرج يلبس معطفه الابيض ، وقد حمل عصاه المخططة الملونة التي يتوكأ عليها . مشى خطوات سريعة عبر شارع القرية ، وركضت أنا بجانبه ووقفنا عند مشغل الخياط . صرخ جريف عالياً : دان ، وأطل دان الخياط براسه من النافذة حيث جلس مثل كاهن هندي ، لكنه يلبس قبعة خيّال في سباق للجياد .

- " داي توماس ارتدى صدريته" قال الحلاق جريف وأضاف :" وذهب الى ليانستيفان" وبينما قام الخياط دان يبحث عن معطفه ، كان السيد جريف قد أخذ يهرول ثانيةً.

- ويل ايفانز ، ويل ايفانز . صاح جريف امام مشغل النجار . وقال: داي توماس إرتدى صدريته وذهب الى ليانستيفان .

قالت زوجة النجار التي خرجت من ظلام المشغل الدامس المليء بالمناشر والمطارق : سأخبر مورجان حالاً .

نادينا على القصاب ، والسيد برايس ، وكان السيد جريف يعيد بلاغه في كل مرة كمنادٍ يطوف في شوارع بلدة يذيع البيانات .

تجمعنا كلنا في ساحة جونستاون . كان الخياط على دراجته ، والسيد برايس فوق عربته الصغيرة التي يجرها مهر ، بينما صعدت أنا والسيد جريف ومورجان النجار والقصاب الى عربة أخرى تتمايل يمنة ويسرة ، وتوجهنا نحو بلدة "كارمارثن" . كان الخياط في المقدمة يطلق جرس دراجته كما لو كان هناك حريق او سرقة . فدخلت امرأة عجوز كانت أمام بوابة كوخها في نهاية الشارع الى داخل بيتها ، تركض كدجاجة منتوفة الريش . لوحت لنا امرأة أخرى بمنديلها اللامع .

سألت : أين أنتم ذاهبون؟

كان جيران جدي أناساً مهيبين بالفعل ، كرجال كبار السن يرتدون قبعات سوداء وجاكيتات ويمشون على أطراف معرض . هز السيد جريف رأسه وقال متفجعاً : لم أتوقع هذا ثانية من داي توماس .

- " ليس بعد المرة الماضية " . قال السيد برايس بأسى .

تابعنا مسيرتنا المسرعة . تسلقنا تلة " كونستيتيوشن" ، ثم انحدرنا نثير الجلبة الى شارع " لاماس" والخياط ما زال يقرع الجرس ، وكلب كان يعدو وينبح بشدة أمام العجلات . عندما قطعنا مسرعين الشارع المرصوف بالحصى الذي يقود الى جسر " تاوي" ، تذكرت رحلات جدي الليلية المزعجة التي جعلت الفراش يتأرجح ، والجدران تهتز . ورأيت في خيالي طيف صدريته الزاهية الالوان تلف خصره ، وغطاء الوسادة المرقع يطوق راسه ، بينما بدا وهو يبتسم في ضوء الشمعة . قفز الخياط عن السرج ، واستدار قبلنا وقد ترنحت دراجته على اليمين والشمال قبل أن تقع الارض وراح يصرخ ، انني أرى داي توماس .

تحركت عربتنا وهي تثير الجلبة فوق الجسر ، ورأيت جدي هناك. كانت أزرار صدريته تلمع في ضوء الشمس ، وقد لبس بنطاله ، بنطال الأحد الاسود الضيق ، وقبعة طويلة مغبرة كنت رايتها في الخزانة التي في العلية . وحمل معه حقيبة صغيرة تاريخية . عندما رآنا انحنى محيياً : " صباح الخير يا سيد برايس ، سيد جريف ، سيد مورجان ، وسيد ايفانز" ، أما أنا فقد قال لي : " صباح الخير يا ولد " .

قال السيد جريف بصرامة : وماذا تظن أنك تفعل على جسر " كارمارثن" في رابعة النهار؟ وأضاف وهو يشير بعصاه الملونة الى جدي : بصدريتك المفضلة وقبعتك القديمة؟

لم يجب جدي ، لكنه مال بوجهه الى مجرى النهر ، وقد أخذت لحيته تتمايل وتتحرك كلما تكلم ، وراح يراقب رجال القارب الصغير البعيد ، وهم يتحركون على الشاطيء كالسلاحف .

- وأين تظن أنك ذاهب بحقيبتك السوداء القديمة ؟ قال السيد جريف وهو يرفع عكازته .

أجاب جدي : " إنني ذاهب الى "ليانجادوك" لأُدفن هناك" ، وكان ما يزال يراقب مجاديف القارب تغوص في الماء برفق ، وطيور النورس تحلق فوق الماء المثقل بالأسماك . شكا السيد برايس بمرارة قائلاً: لكنك لم تمت بعد يا داي توماس!

وأطرق جدي يفكر ملياً لعدة لحظات ، ثم قال : " لا معنى للموت في ليانستيفان ، الارض مريحة أكثر في ليانجادوك ، تستطيع أن تحرك ساقيك بدون أن تضعها فوق البحر" . اقترب جيران جدي منه وقالوا: أنت لم تمت يا سيد توماس!

فكيف سيتم دفنك؟

- لا أحد سيدفنك في ليانستيفان ، لا تخف .

- إرجع الى بيتك يا سيد توماس .

- هناك بيرة مثلجة مع الشاي

- وكعك

لكن جدي وقف بثبات على الجسر ، ووضع حقيبته على جنبه ، وأخذ يحملق في النهر الجاري تارة ، والسماء تارة أخرى ، مثل نبي ليس لديه أدنى شك .

الجمعة، يونيو 27

أشجار لا تنحني


أشجار لا تنحني

وقفة مع الشاعر بديع رباح


بقلم إياد نصـار

في شعره تلمس روح التحدي وعبق الارض المجبول بالدم والسير على الجمر في سبيل الحلم القادم . وتستشعر هذا المزج الرائع بين الهم العام والخاص في بوتقة انسانية يتبدّى منها الحنين اللامتناهي للارض والاصرار على الحياة. ولم تغب فلسطين عن رؤيته الشعرية منذ البداية، بل انها لعبت دورا كبيرا حاضرا في كل مرحلة من مراحل تجربته. لقد اكتملت عناصر الابداع الفني للشاعر بديع رباح من خلال مسيرته الادبية والعملية . ولد عام 1952 وحصل على بكالورويس في اللغة العربية عام 1977 وعمل في الصحافة الادبية ومارس التعليم. وقد ساهم التحاقه بالعمل الوطني الفلسطيني واغترابه للعمل في مدرسة أبناء شهداء فلسطين في لبنان واليمن كثيرا في أن تتفتح عيناه مبكرا على المأساة. ولهذا تجد الهم الوطني الفلسطيني حاضرا في أغلب دواوينه. كما عرف الاغتراب في الولايات المتحدة حيث عمل محررا في الصحافة الادبية هناك.

أصدر الشاعر ثلاثة دواوين مطبوعة هي قلب يمشي على الجمر ، وديوان حب ووفاء ، وآخرها ديوان أشجار لا تنحني الذي صدر عام 2007 . وهو يعد لاصدار ديوان جديد بعنوان جراح تتحدى الزمن. كما أن له مساهمات في القصة القصيرة.

يستوقفك في شعره امساكه الرائع بزمام اللغة حيث يطوعها في عبارة شعرية موسيقية رشيقة، وهو يتناول كثيرا من القضايا الانسانية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالارض ومعاناة الانسان الفلسطيني، ولكنه يتفاعل مع قضايا الانسان العربي في لبنان والعراق . ويحتل الاردن جانبا من شعره الذي يتبدى فيه الانتماء بأنبل صوره .. وتحتل المدن العربية جانبا كبير من شعره فهو شاعر يعشق الارض ويدافع عن الانسان . فعمان حاضرة في شعره والقدس وبيروت وبغداد وجنين ورام الله فهو ابنها الذي تفيض قصائده عشقا وحنينا لها ، يقول في قصيدة ( أيام في بيروت) :

لا زلت أذكر يا بيروت

أياما قضيناها

يعانق حبنا المعهود

دوماً عالي الشهب ِ

ونكتب في دفاترنا ..

صباح الخير ِ يا شبعا

صباح الخير يا حيفا

صباح الخير يا بئر السبع

يا ريحانة النقبِ ...

وحتى المخيم حاضر في شعره فهو قد صار رمز الشتات الفلسطيني . يقول :

كنت يوما

في المخيم

كل ما حولي

مآسي تتكلم

كما يطرح قضايا ذاتية ولكن في اطار جميل يبدو فيها البعد الفني والجمالي.

وقد أحببت أن أختار له هذه القصيدة الجميلة من ديوانه الاخير والتي أعطت إسمها للديوان ( أشجار لا تنحني) كنموذج على إبداعه الشعري:


أشجار لا تنحني

ظلّوا كأشجارِ الصنوبر

شامخين

عشقوا كأحلى عاشقين

ما همّهم جور الليالي

مطلقاً

أبدا ولا ظلمُ

السنين

لم ينحنوا للريحِ

رغم عتوّها

وتشبثوا بالارض

في غزة

ببنت جبيل

في عيتا

وفي جنين

هم هكذا قالوا:

إذا عشنا

نعيش كما ترى

لن ننحي للغدر

مهما قد جرى

إنا عقدنا العزم

أن لا ننحني

وأن نظل صامدين

فإما ان نذل الخصم

في ساح الوغى

وإما ان نموت

واقفين




الأربعاء، يونيو 25

سامية عطعوط وأسلوب القصة القصيرة جدا


نظرة نقدية تحليلية لقصة " قحطان"

بقلم اياد نصار

يمتاز أسلوب القاصة سامية عطعوط بالايجاز والرمزية العالية المكثفة واستخدام اسلوب الفانتازيا الغرائبية لنقل مشهد متحرك موجز ، لكنه يغطي مساحة زمانية طويلة قد تمتد قرونا وقد يقصر الى موقف موجز هو في حد ذاته اكتشافي يدرك فيه الانسان فلسفة الحياة في لحظات. وبرغم ابتعادها الدائم عن تصوير التفاصيل الصغيرة لخلق الاحساس بمكان الحدث او عدم التركيز على تحليل الحالة النفسية للشخصية، الا أن التفاصيل القليلة والعبارات الموجزة تنجح في خلق الجو العام الذي يجسد القضايا الرئيسية او الفرعية التي تشغل بال شخصياتها. كانت بداية الانتاج القصصي باصدار مجموعتها القصصية الاولى عام 1986 بعنوان جدران تمتص الصوت ،ثم فوزها بالمركز الاول مناصفة في مسابقة الابداع الفكري لدى الشباب العربي عام 1990 بمجموعتها القصصية بعنوان طقوس أنثى والتي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، كما صدر لها مجموعة أخرى في عام 1998 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بعنوان طربوش موزارت. كما صدر لها مجموعة بعنوان سروال الفتنة في عام 2002 عن وزارة الثقافة. وما يزال لها قيد الطبع مجموعة بعنوان راحيل الغجرية وقارع الاجراس. والكاتبة عضو رابطة الكتاب الاردنيين، واتحاد الادباء العرب

في قصة قحطان التي نشرت ضمن مجموعة طربوش موزارت، يبدأ استخدام الرمز المكثف منذ العنوان وحتى اخر كلمة في القصة بأسلوب الفانتازيا التي تستوحي أجواء الف ليلة وليلة. فهناك مصباح علاء الدين وهناك الكهف الذي يعيش فيه قحطان منذ قرون مع عملاق مخيف يخشى مواجهة نور الشمس التي تصبح مرادف عري الحقيقة ودليل الواقع الذي يخشى العملاق مواجهته كي لا يذوب فيصير قزما. وهكذا يصبح قحطان أكثر من مجرد بطل للقصة، فالاسم له دلالة لغوية وتاريخية تستحضر في الذهن تاريخ الانسان العربي وماضيه البعيد. ولكن قحطان يعيش مفارقة تاريخية فهو يحس بعقدة النقص والتلاشي لانه مجرد قزم صغير بشع، بينما يقبع وحيدا أسيراً لظل عملاق يسيطر عليه ويبقيه لديه أسيرا في سجنه او كهفه قرونا طويلة. بل ان قحطان يشعر بالحسد لهذا العملاق المسترخي ، وهو اشارة الى الماضي الذي يعيش فيه العربي حالة من العشق المرضي تجعله ينفصل عن واقعه، والظل يوحي بأن العملاق قد اختفى عن الوجود ولم يبق سوى شبحه او ظله في ذاكرة قحطان.

ويعيش قحطان بين حدين غريبين، ففي الاسفل يقبع هذا العملاق الذي يقبع مسترخيا بليدا لا يقوى على الحركة، وبين مصباح علاء الدين الذي يتعلق به قحطان ليوقظ العملاق من سباته. وهكذا يصبح علاء الدين الامل الذي يتطلع اليه قحطان، ولكن هذا الامل لا يخلو من الغرائبية والاماني الخرافية والاسطورية والاوهام كما يدل على ذلك مصباح علاء الدين يعبر عن الاحلام العاجزة التي تنتظر المجهول ليبعث فيها الحياة. وهكذا يمضي قحطان عمره بين تاريخ عظيم قد تحول الى شبح نائم بل ظل لا وجود له الا في خيال قحطان، وبين مصباح سحري للدلالة على تعلق قحطان بالاوهام والخرافات وانتظار المعجزات.

وحينما يبدأ قحطان يدرك أنه قد قضى فترة زمنية طويلة يصفها بأنها مائة عام بعد مائة عام وهو في سبات مع ظل العملاق في اشارة الى تخلف الانسان العربي عن ركب الحضارة والعلم والحقائق والعيش على أوهام الماضي، فانه يسعى الى بعث هذا الماضي من جديد. ولكن العملاق يرفض الخروج الى دائرة الشمس الساطعة. ومن كثرة إلحاح قحطان فإنه يوافق اخيرا، ولكنه يصبح كالتائه الذي يبحث عن طريقه. يشعر قحطان بالضياع مثلما يشعر العملاق، وينادي عليه، ليكتشف انه قد تحول الى قزم مثله كتوأم له! بل اصغر حتى من قزم ، بل أن اسمه هو الاخر قحطان. وهكذا يعيش الانسان العربي هذه الازدواجية والانفصام في الشخصية المنفصلة عن حاضرها . وهذه لحظة ادراك الذات التي تكتشف مدى غربتها وعزلتها وعيشها في الاوهام.

يلاحظ القدرة الفنية العالية التي تمكنت من طرح موضوع حضاري بايجاز ولغة مكثفة تعتمد توظيف الرموز التاريخية لنقل وتعزيز الفكرة، التي تتعلق بحاضر وتاريخ الانسان العربي الذي يعيش في جمود وفي عزلة عن نور الحقائق دون أن يدري كم فاته، وعندما يستدرك ذلك فانه يسقط لانهما زال يعيش فجوة كبيرة. فهناك مصباح علاء الدين، وهناك كهف يعيد الى الذاكرة قصة أهل الكهف الذين وعوا على أنفسهم في مفارقة تاريخية، وهناك نور الشمس، وهناك العملاق الهائل الذي تحول الى مجرد ظل، وهناك قحطان، وهناك الفترة الزمانية التي توحي باشارة الى ألف ليلة وليلة .


القصة:


كنت أرى ظلّه فانحني له.

كان عملاقاً هائلاً. ظلّه يغمر المساحات باتساعها والمدى بهروبه. بينما كنت مجرد قزم قميء. اعتدت على وجوده في الاسفل وسط المكان، كعملاق. وعلى تعلّقي بمصباح علاء الدين المثبت في السقف كعقلة إصبع صغيرة.


هو يجلس مسترخياً متثائباً يراقب المصباح يهمر له من أشعته. ينظر الى ظلّه يكبر يوما بعد يوم ومائة عام بعد مائة عام، وأنا أتدلى تعباً، حاسداً، أرقب انتشاره كظلٍّ وانكماشي كحيوان.


ألحّ عليّ يوم أمس هاجس أن أوقظه من ذهوله، وتحديقه الى اللون المنسكب حولنا.

- قحطان، استيقظ . آن لنا أن نصحو . مرَّت مدة طويلة دون أن نحرك ساكناً أو يحركنا متحرك.

- أوووف تبّاً لك. أنا مرتاح هكذا.

أجاب مزمجراً . هزّ صوته أرجاء كهفنا. لكنني أصررت.

- تعال معي نر الشمس في الخارج. مرةً واحدة فقط ونعود. أرجوك . انهض. تعال.

- أوووه . يا لك من شخص لحوح. حسناً. سوف أتزفت معك، شرط أن تصمت.


قال هذا ونهض متثاقلاً، عابساً. سُررت لاقتناعه. ترجلّت عن مصباحي. سبقته للخارج مسرعاً. بهرني نور الشمس. أغمضت عيني وناديت على توأمي.

- قحطان . قحطان . اين أنت؟

- ها أنذا خلفك.


التفتّ اليه، وما كدت ألمحه حتى فزعت. بدا لي توأمي مجرد قزم، ضئيلٍ، هرم. كان أصغر حجماً من ظلّي المنكمش على ظلّه ... بكثير.

الأحد، يونيو 22

هروب

هروب

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

كانت الغرفة كئيبة متسخة معتمة .. وقد أثارت حساسية أنفي برائحتها المتربة .. وكان فيها نافذة عريضة مفتوحة على مصراعيها من غير اي شبك او حديد للحماية .. كان هناك سريران في جانبي الغرفة. أشار الى السرير الذي بجانب النافذة وقال: هذا لك بامكانك ان تنام هنا. كانت الاغطية جرداء ذات لون بني كما لو كانت مثل أغطية الجنود في ثكناتهم. وكانت تنبعث منها رائحة كالعفن .. نظرت الى السرير الاخر كان هناك شخص ما متكوم تحت الغطاء. كانت ملابسه ملقاة على الكرسي بجانب سريره .. ورائحة الغرفة الرطبة نفاذة .. شعرت حينها بالمفارقة العجيبة بين الاسم الذي كنت اراه كلما مررت من جانب الفندق وبين منظره من الداخل! شعرت بالرهبة من وجود ذلك الشخص في الغرفة .. قلقت ولم أعرف كيف أتصرف. شعرت أن خصوصيتي قد انتهكت .. باغتني الصوت من خلفي هل تريد شيئا؟ التفت وقلت: لا ، شكرا .. سمعت اصوات خطواته يبتعد .. لم يكن معي حقيبة أو اي شيء آخر .. جئت كما أنا .. لم يكن معي حتى ملابس للنوم! أخذت أفكر كيف سيكون عليه منظري اذا نمت بملابسي، كيف سأبدو عندما استيقظ وتكون ملابسي متوعكة وشعري منكوشا!! لم يكن معي حتى مشط للشعر! أفكار كثيرة خطرت لي وجعلتني اشعر بالخوف .. أردت أن أنسحب وأترك الفندق .. خشيت أن يظن الاخرون أنني هارب من شيء ما! أخيرا قررت انه لا بد من شيء من الشجاعة .. خلعت قميصي وبنطلوني بسرعة واختبئت تحت الغطاء بملابسي الداخلية!

لقد حدث الامر فجأة .. كانت الدنيا صيفا حاراً والوقت ليلاً .. كنت أسير في الشارع متلفتا حولي .. كان هناك ضوء خافت من مصباح قد انكسر صحنه على عمود كهرباء قديم .. لم يكن غير هذا المصباح في الشارع كله .. كان الشارع شبه معتم وموحش .. مشيت بجانب سور الشارع العلوي المطل على البيوت الرابضة في سفح الجبل .. نظرت الى أسفل الجبل .. كانت أغلب الشوارع شبه خالية وكانت هناك سيارات قليلة تسير .. لا بد أن الناس متسمرون الان امام التلفاز، كما لو كان هناك حظر للتجول! كنت أسير بخطوات سريعة كي لا يلحقوا بي. بقيت أمشي والافكار تتصارع في رأسي .. شعرت بحزن شديد لانه سيفوتني مشاهدة السحرة وهم يرسمون لوحاتهم بالكرة .. كنت أفكر أين أذهب .. يجب أن أقرر سريعاً .. بقيت أمشي وانا أفكر بمشكلتي .. استبعدت أن أذهب لبيت أحد ممن أعرفهم .. سيستغربون قدومي في هذا الوقت المتأخر .. ولن يتوقف الفضول والسؤال ، وفي النهاية سأعود بخفي حنين .. كنت حينها في نهاية المرحلة الثانوية .. لم أتغيب مرة واحدة عن البيت في حياتي .. ولهذا كنت أشعر بالضياع لا أدري أين أذهب وكيف سأقضي الليل .. كنت أريد أن أغيب عن الانظار نهائياً .. لقد حاولت معه مرات عديدة ولكنه كان يرفض في كل مرة .. لم أكن أحس بالفارق الكبير الا تلك الليلة التي أمضيتها أمام جهاز التلفاز في بيت أمجد .. كان أمجد رفيقي منذ أن دخلت المدرسة في اليوم الاول. واستمرت علاقتنا طوال هذه السنوات .. أحسست بروعة المشاهدة .. الالوان رائعة والصورة مذهلة والكرة كأنما ستخرج من الشاشة وتستقر أمامي! شعرت بالفارق الرهيب .. الان يستطيع المرء أن يشاهد المباراة ويعرف كل لاعب لاي الفريقين ينتمي! في بيتنا الكل سواسية! لا تعرف مع أي فريق هو الا اذا شاهدت اتجاه حركة قدميه!

في تلك الليلة عندما رجعت للبيت في وقت متأخر، عادت معي احاسيس مختلطة متناقضة .. وأدركت الفارق الذي أضافته الالوان لحياتنا كما لو جعلت منها لوحة تفيض بالحياة وبريقها! ولكنني أدركت أيضا بأن المعاناة ستكون طويلة طالما بقيت بالابيض والاسود! وأن التغيير سيكون صعباً. منذ فترة طويلة وأنا أطلب من أبي أن يشتري لنا جهازاً آخر ملوناً وهو يرفض! وكنت كلما كررت الطلب، أسمع محاضرة عن فضائل التوفير ورذائل الفقر! كان أبي يستغل المناسبة لتوجيه درس لكل فرد فينا لا يخلو من التقريع .. وكان الدرس يطول حتى صرت أتمنى أنني لو لم أفتح فمي .. ولكن لم يعد هناك مجال للصبر والانتظار، ففي كل ليلة تفوت فرصة أخرى لرؤية العالم بالالوان! والاحساس بالقهر يزداد! كان أبي لا ينسى أن يختم درسه لنا بالقول: " سيأتي يوم يحتاج فيه الموظف الى أخذ سلفة من راتبه او قرض ليتمكن من شراء كيس من الخبز"!

كنا برغم قسوة التأنيب نضحك بالسر .. كنا نعتقد أن أبي يبالغ كثيرا وانه يريد ان يوصل لنا رسالة مؤداها أن ظروفه المادية لا تسمح بالتبذير! وأن من الاحسن أن ننسى أي تفكير بشراء جهاز جديد أو كل ما يمت لعالم الاغنياء بصلة! كان المغزى واضحاً وقد استوعبته ! ولذلك تطوعت بعد سنتين من انتظار الدراجة الهوائية التي وعدني بها الى الاستغناء عنها. لقد أعجبته تضحيتي واشاد بها امام الجميع. كنت أحس بفخر كلما اشاد بي، ولكني نسيت طفولتي في محل الدراجات الهوائية! وكبر معي حزن قديم يتمثل في الرغبة بركوب الدراجة!

بقيت عيوني مفتوحة وانا تحت الغطاء .. ولكن الرائحة كانت قوية تُسبب الصداع .. أحسست بها تدخل كياني كله .. كنت مشتت الذهن .. خفت من وجود انسان غريب يشاركني النوم بذات الغرفة .. خطرت لي هواجس شتى .. من يكون هذا النائم؟ هل أنام وأنسى التفكير بوجوده ؟ هل سأكون بأمان؟ اين سأضع هويتي ومحفظتي؟! هما كل ما لدي الان .. اسئلة كثيرة اجتاحتني وجعلتني أرفع رأسي وأتلفت بأرجاء الغرفة .. فكرت أن أنزل وأتكلم مع موظف الاستقبال كي يغير لي الغرفة .. لكنني كنت قلقاً .. خشيت أن يشك أن هناك شيئاً ما وقد يرفض اقامتي عندهم! فقد سألني اول ما دخلت وكنت أشعر بالقلق .. هذه اول مرة في حياتي الج فيها الى فندق خلسة تحت جنح الظلام! عندما سألني كم ليلة ستبيت عندنا، قلت له حتى الصباح! نظر الي باستغراب ولكنه لم يقل شيئأ!

حركت رأسي على الوسادة لاستكشف هيئة نوم مريحة .. أصدر السرير صريرا خشيت معه أن يوقظ النائم الغريب .. حاولت أن انسى التفكير بالرائحة .. طفح سيل من التساؤلات في رأسي. صرت أحاول لملمة الامر .. ولكنني كنت أفكر وذهني مشتت تلك الليلة .. كيف سأمضيها .. أفكر بالغد الذي سيأتي بعد عدة ساعات الى أين سأذهب .. صارت تلح على مخيلتي صورة أبي .. احيانا أراه يبتسم لي، وأحيانا أراه غاضباً حزيناً .. تراءت لي صور من حياتي الماضية التي اتشحت بالمعاناة .. شعرت أن تلك الليلة كانت بداية تاريخ جديد لي .. لا اعرف ماذا سيحدث بعد اليوم .. بدأت أحس بالضعف .. صرت أفكر بجدوى التمرد والجيبة خاوية الا من دنانير معدودة .. ولكني اقتنعت أنه لم يكن أمامي غير ما فعلت .. الى متى أنتظر ولا يتحقق شيء؟!

لم يعد عندي صبر على فلسفة أبي الاقتصادية .. كان يعتمد فلسفة كنت أسميها اقتصاد الحرب. وقد شاءت الصدف ان تكون أمي من أشد المؤمنين باقتصاد الحرب! بل إن أبي كان يغضب عندما يعرف أنه قد اشترى كمية من المواد التموينية ليجد أن خزانة أمي مليئة بها. كان يصيح ويحتج. الخزانة ملأى بعلب السردين. لماذا طلبتِ سردين؟ وأمي لا تعرف الكتابة والقراءة. تعرف الاعداد فقط! فلم تدرس سوى الى الصف الثاني! فكانت تحفظ في ذاكرتها قائمة طويلة من الاغراض وفي اليوم الشهري الموعود قبل صرف الراتب بيوم، كان أبي يحضر قلما وورقة ويجلس الى طاولة المطبخ ويقول لها: ماذا تريدين؟ اخبريني وهو يسجل. فكانت تملي عليه قائمة طويلة من المواد! فيغضب وينرفز ويحمر وجهه. لقد اشتريت الشهر الماضي عشرين قطعة صابون، فأين ذهبت؟! لماذا تحبين تخزين الصابون؟ هل ستقع الحرب ولن نجد ما نغسل به؟! لقد اشتريت المرة الماضية عشرة علب للجبنة الصفراء. هل نفدت كلها؟! هناك التزامات ومسئوليات كثيرة جداً. لماذا نشتري كل هذه الاغراض؟ كانت أمي تتحمل الاستفهام والعصبية بكل سكون وخنوع. كانت تشرح أحيانا أن المواد نفدت فالعائلة كبيرة مثل الجراد على حسب وصفها! والاولاد يتناولون الاغراض كأنما هم في بقالة. كانت تقول ان بقالة المطبخ لا تغلق أبدا والايدي والافواه غادية آتية تتناول ما تقع عليه! كانت أمي تعرف أن أبي يحب اقتصاد الحرب كثيرا! وقد يحتد اذا لم يجد كمية من كل شيء في البيت. ولكن قلة ذات اليد كانت تدفعه للعصبية .. عندما كان يحس ان الراتب قد تبخر في اليوم الاول كان يحتد ويزبد ويتهمنا باللاأبالية، والتبذير وعدم تقدير تعبه في سبيل تحصيل النقود! كان يجلس في المطبخ المزدحم، ليسجل ما تحتاجه .. وكانت أمي مثل وزير التموين .. يثق فيها ويسجل كل ما تطلبه .. امرأة بارعة في التدبير .. لا تحب أن ترمي شيئا. فلسفتها أنه يمكن الاستفادة من اي شيء في يوم ما. لم تكن ترمي العلب البلاستيكية الفارغة او زجاجات المربى أو سطول الجبنة او تنكات الزيت الفارغة او أكياس السكر والطحين الا نادراً.

كان المطبخ يزدحم بالكراسي القديمة المهترئة، وأكياس البصل والبطاطا وبقايا قطع الصابون التي كانت تجمعها لتستخدمها في الغسيل! وأوراق الصحف التي كانت تصفر مع الايام. كنت أركز وأسرح بقراءة الصحف التي تضع أمي عليها صحون الافطار او الغداء او العشاء حتى أنسى أمر الاكل ذاته. لم نكن نستعمل الشراشف المصنوعة من النايلون كما كان يفعل آخرون. لماذا التبذير في غير طائل؟! كنا نضع كل شيء على ورق الصحف. فكنت ألتهم الاخبار بالقراءة. كنت أقرأ تقريبا كل شيء! كانت الصحف المصفرة وسيلتي للمطالعة وقد أفادتني كثيرا! عرفت من خلالها أشهر أدباء العالم العربي وأشهر السياسيين. وعرفت تاريخ القضية الفلسطينية وأدركت أسباب الاحباط الذي يرزح تحته الانسان العربي! وكنت أعرف أسماء اللاعبين وهواياتهم. كنت أقرأ المقالات الدسمة عن أي شيء وكل شيء منها! وكثيرا ما كانت تؤنبني أمي وتصرخ في وجهي .. هل هذا وقت القراءة أم وقت الاكل؟! وأحيانا لم أكن أعي ماذا كانت تقول .. وقد لاحظ ابن جيراننا ان لدي عادة لم أكن اعرف انني ربيتها ونشأت عليها! فقد لاحظ انني التقط الصحف الملقاة على قارعة الطريق لاقرأ فيها! وقد حدث مرة أننا كنا نسير معا في الطريق فتناولت ورقة ممزقة من صحيفة قديمة ملقاة ، وحملتها وصرت أقرا فيها، فتركني أسير لوحدي وذهب في حال سبيله! اشتكاني يومها لأمي فكانت تلك اخر مرة نترافق في مشوار معا!

لم استطع النوم برغم التعب من رائحة الأغطية والتفكير .. كانت المخاوف من الغد أكبر من ان تغمض عنها جفوني .. كان الغريب نائما بلا حراك في سريره، مما جعلني اشعر بالاطمئنان .. تذكرت القصص التي كان يرويها أبي عن الحرص .. كان أبي يحفظ الكثير من القصص والامثال الشعبية والحكايات والاحداث وتواريخها ، وكان يحب أن يروي لنا وللضيوف الكثير من النوادر التي مر بها أو سمعها .. وكان اسلوبه يشد انتباه المستمع له حتى النهاية .. كان يعتبر ان هذه الامثال والعبارات التي تقال في المناسبات هي أساس الحياة واساس الرجولة التي يجب أن يتعلمها الشاب في بداية حياته! لقد حفظت بعض القصص من كثرة ترديدها .. ولكن هذه الامثال لم تمنع أبي من أن يقول عبارته الشهيرة:" سيأتي يوم يحتاج فيه الموظف الى أخذ سلفة من راتبه او قرض ليتمكن من شراء كيس من الخبز"! لا أظن أن أبي سيكرر تلك المقولة هذه الايام لو كان مايزال على قيد الحياة. فحتى الخبز طالته يد الغلاء الفاحش! ربما يجب أن اجد بديلا لعبارة أبي. فكرت ان من الافضل للانسان أن يفكر في بديل اخر يأكله غير الخبز! فلعله تتحقق رؤية ماري انطوانيت ويكتشف الفرنسيون أنهم ارتكبوا خطأ في اعدامها!

كنت أختلس النظر الى السرير الاخر وأنا أرى آثار انسان متكوم هناك .. لم اشعر برغبة في التعرف اليه .. لم أكتسب هذه الصفة وراثياً! كانت طبيعة ابي اجتماعية للغاية. كان من النوع الذي يحب التعرف بالناس وزيارتهم ومعرفة تفاصيل حياتهم. كان لديه قدرة هائلة على تكوين المعارف والاصدقاء ومعرفة أدق التفاصيل عنهم. ولو ذهب الى مدينة غريبة عنه لاول مرة، فانه سيعرف كل سكان الحي الذي يسكن به خلال شهر واحد .. اذكر أنني سكنت في أماكن مختلفة، ولفترات طويلة ولم أكن أعرف اسم جاري! لو كان أبي حيا لاعتبر ذلك تقصيراً ما بعده تقصير .. كنت اتفاجأ باستمرار وانا أسير معه انه يعرف قصة حياة كل واحد من جيراننا! كان يسجل اسماءهم وارقام هواتفهم وأحيانا تفاصيل أعمالهم في سجل يدوي من اعداده بخط يده. كان لديه دفاتر وسجلات عديدة يسجل فيها كل مصاريفه وما حصل معه واسماء من يلقاهم. ولم يكن يرمي منها شيئاً .. كان مثل أمي في المطبخ .. كانت عنده حقائب عديدة يضع فيها دفاتره ومغلفاته ذات اللون البني وأوراقه وكل شيء كتبه بيده .. لم يكن يرمي حتى مسودات الرسائل والملاحظات واقصوصات الورق والعناوين .. لم تكن سجلاته تغادر اية صغيرة او كبيرة مرت به.. كان أحيانا ينادي علينا كي نقف امامه مثلما يقف الشاهد امام القاضي .. يسألنا عن تفاصيل ما مر بنا ذلك اليوم أو درسناه أو اشتريناه في غيابه!

ونحن صغار كان أبي يشتري من البقالة التي بجانب بيتنا ويدفع له اخر الشهر كل حسابه .. كانت أمي ترسلنا أحيانا لنشتري منه .. وقد أدركت أنا وأختي السر فصرنا كلما ذهبنا لشراء ما تحتاجه أمي للبيت لا ننسى أنفسنا! ونسأله ان يسجل في الدفتر العتيد. وذات ليلة عاد أبي وهو غاضب ومحتد .. بقي طوال تلك الليلة يؤنبنا على فعلتنا السوداء تلك!! لا أدري كيف كنا نظن أنه لن يعرف عنها .. كان من المفروض أن نعرف انه سيكتشف الامر قريباً .. وفعلا لم يمض أكثر من نهاية الشهر حتى عرف بالامر! من الغريب كيف غاب عن بالنا اهتمام أبي بالتفاصيل!

لم يكن يبدد صمت الغرفة الا أصوات السيارات التي تمر بين حين وأخر .. ويبدو أن أنفي قد ألف الرائحة فلم أعد أحس بها! كنا في بداية العطلة الدراسية الصيفية. كنا نكره أكثر ما نكره العطلة الصيفية . فبعد ثلاثة ايام بالتمام والكمال من انتهاء الامتحانات وبدء الاجازة، كان أبي يطلب منا أن نحضر كتب الصف التالي الذي سنترفع اليه في بداية الخريف القادم. كان يحتفظ بمكتبة تضم بعضا من الكتب المدرسية لكل المراحل، فكان يطلب منا كل يوم في الصباح أن نقرأ درسا جديدا. وبعد العصر كان يراجع لنا ما درسناه. كنا نجلس الى جانبه ونحن نكاد نموت خوفا وهلعا.. كان يستبد بنا خوف من غضبه اذا لم نتمكن الاجابة على سؤال ما. كان يتوتر بسرعة اذا لم نعرف الاجابة على سؤال بدهي بنظره! كان ينرفز ويتحول لون وجهه الى الاحمر كالدم .. واذا استمر وجومنا كانت يده تنزل على وجوهنا كالصاعقة! كنت أحس ان الدنيا انقلبت أمامي من صدى الضربة في أذني! كنا نكره العطلة المدرسية كرها شديدا بعكس الاخرين! ولو أن أمي كانت تجعل كل صباح فيها شيئا جميلاً. أذكر أن أمي كانت تصحو باكراً لتشتري لنا أصابع كرابيج حلب او الحليب الطازج او اللبن المخيض لنشربه بمجرد ان نصحو من النوم.. كانت تملأ البيت أزهارا وورودا ونباتات خضراء من مختلف الاشكال والالوان وتضعها في علب او قناني زجاجية صغيرة وتعلقها بالحبال في زوايا البيت لتمتد وتكبر اوراقها في كافة ارجاء البيت .. كان أول شيء تفعله عندما تصحو من النوم ان تتفقد ابناءها من النباتات والازهار! كانت تحبهم كثيرا وترعاهم برش الماء وسقايتهم .. وكان لكل نبتة موعد محدد للسقي! كانت تحب الريحان والسجدة العطريه وفم السمكة والزنبق والياسمين والمدادة وغيرها الكثير!

نظرت الى ساعتي لكن الظلام كان مطبقاً .. حاولت أن أعرف الوقت ، فلم أتمكن .. شعرت أن تلك الليلة طويلة أكثر من العادة .. كان النائم في السرير الاخر في غاية السكون فلم يبد منه طوال الليل أية حركة .. استرجعت وانأ أحملق في الظلام تلك الامسيات التي كنا نتحلق فيها حول التلفاز. كان أبي يحب سماع الندوات وبرامج الحوار. كان هناك تفاهم عجيب حول تقاسم الوقت لحضور برامج التلفاز. كان جهازنا العتيد ذي اللونين الابيض والاسود ألمانياً. كان أبي يحبه كثيرا ويشيد بنوعيته وصناعته .. لاول مرة اكتشفت من خلال كلامه ان الالمان ماهرون في صناعة اجهزة التلفاز! كانت أمي وأخواتي يحبون متابعة مسلسل السهرة بعد الاخبار. كنت أحس بالضجر الكبير من الانتظار! لم أكن أحب هذه البرامج. لذلك كان أبي واخوتي يذهبون للنوم ويتركوني مع التلفاز وحدي اشاهد برنامجا أو فيلماً أجنبياً. كنت أمدّ فراش النوم في غرفة الجلوس وأتمدد وأشاهد التلفاز على ضوء القمر في ليالي الصيف. لم يكن لي غرفة للنوم. كنا نعيش في بيت صغير بالكاد يتسع لنا. وأنا كنت المحظوظ بين أخوتي الذي ينام في غرفة لوحده!

بقيت طوال الليل مستيقظا قلقاً .. أتقلب في فراشي وانا ادقق في تفاصيل الغرفة .. لو كان الامر لي لما كان يستحق ذلك المكان ان يسمى فندقاً .. شعرت أن المكان غريب عني .. كنت أحاول أن انسى الافكار التي كانت تزدحم في رأسي .. ولكن يبدو أنني من شدة التعب والسهر والقلق نمت من غير وعي مني .. في الصباح استيقظت على صوت السيارات في الشارع .. كانت تطلق زواميرها بسبب وبلا سبب .. كانت المنطقة مزدحمة بالسيارات والبشر وكل شيء .. نظرت الى ساعتي كانت تشير الى العاشرة صباحاً .. تطلعت حولي الى السرير الاخر كان فارغاً .. لم أحس به كيف استيقظ وخرج .. ولم أدر من كان هنا اصلاً! تفقدت محفظتي وهويتي .. شعرت بالارتياح قليلاً .. بعد قليل كنت أخرج من الفندق واسير في الشارع .. استغرب الموظف من هذه السرعة في الرحيل .. لكنه لم يقل شيئاً .. خرجت لا أعرف أين أذهب. بقيت أسير في شوارع المدينة بلا هدف او اتجاه .. كانت الدنيا قد أصبحت بعد العصر وانا اشعر بالتعب والجوع والارهاق .. أخذت أقنع نفسي بعدم جدوى الهروب أو التمرد! عند المساء كان التعب والارهاق قد نالا مني فلم استطع الصمود أكثر! فغيرت الخطة!

دخلت البيت بتردد وترقب .. كنت اتوجس خيفة من ردة الفعل .. صارت أمي تبكي لما رأتني .. روت لي القلق طوال ليلة أمس وكيف أن ابي لم يترك أحدا يعرفه إلا واتصل به ليسأل عني بدموع صامته .. بقيت اشعر في داخلي بالرهبة من ردة فعله حينما يعود .. بقيت قلقاً متوتراً حتى ذكرت أمي فجأة أن أبي ذهب لمحل اجهزة التلفاز ليشتري جهازاً جديداً! أحسست ساعتها كأن جبلا قد انزاح عن كاهلي. زال القلق قليلا ولكني بقيت أخشى ردة فعله .. حينما عاد أبي ومعه الجهاز نظر الي وهو بالباب نظرة غضب وبقي واقفا ينظر الي برهة من الوقت. ولكنه بعد ذلك فتح ذراعيه وهجم علي يعانقني!

الجمعة، يونيو 20

الأرض اليباب


الارض اليباب

بقلم: اياد نصار

لم تؤثر قصيدة من الاداب الاجنبية في العصر الحديث في الادباء العرب مثلها..وذلك لسببين يعودان للقصيدة ذاتها وللشاعر.. فالشاعر كان من رواد الحداثة في الادب الغربي ومن كبار أعلام النقد الادبي وكان من رواد الشعر الحر في الشعر الانجليزي.. لقد تأثر به وبمقولاته وأفكاره وقصائده عدد كبير من الادباء والشعراء والنقاد العرب منهم على سبيل المثال لا الحصر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة ولويس عوض وصلاح عبدالصبور وجبرا ابراهيم جبرا وأدونيس ويوسف الخال ومحمود درويش ويوسف اليوسف وغيرهم. والقصيدة تعد من أكبر وأعقد القصائد الشعرية ثراء في تناولها لقضايا الانسان المعاصر واعطاء بعد حضاري متواصل من خلال ربط الاحداث والاسماء والشخصيات بتراث الحضارات الاوروبية المختلفة كاليونان والرومان وغيرها من تلك التي ظهرت في اوروبا. كما يوظف فيها الشاعر كل ابداعاته واطلاعاته الواسعة على اللغات الاوروبية فهناك علاوة على الانجليزية الفرنسية والالمانية والروسية والاسبانية واللاتينية وغيرها ويستمد من تراث الاساطير والملاحم والرموز العالمية الشيء الكثير مما يجعل القصيدة ليست في متناول القاريء العادي، بل تحتاج الى ثقافة واسعة من الاطلاع وحب البحث والتحري والتقصي للوقوف على مراميها وأبعاد مضامينها.

كانت رحلتي مع القصيدة حينما أهداني كتابه الاستاذ الكبير الدكتور عبدالواحد لؤلؤة وهو الناقد الادبي المعروف وصاحب موسوعة المصطلح النقدي ، والمهتم بدراسة تاريخ ونقد الاداب الاوروبية المختلفة وخاصة المعاصرة منها في الشعر والرواية والمسرح علاوة على اهتمامه الكبير بدراسة الادب الشكسيبيري، اضافة الى ترجماته العديدة ودراسته للادب العربي المعاصر وأعمال شعراء مرحلة الريادة الشعرية والحداثة. وقد بذل المؤلف في هذا الكتاب جهدا بحثيا في الترجمة الشعرية ونقدها والادب المقارن من خلال تناول دراسة ترجمات هذه القصيدة الكبرى وهي أرض اليباب التي قام بها أربعة من الادباء العرب وتحليل ترجماتهم وبيان نقاط ضعفها او ابتعادها عن اصابة المعنى الحقيقي او قلة اطلاع المترجم على اصول الكلمات وجذورها في اللغات الاوروبية. وقد قدم المؤلف ترجمته للقصيدة حيث حاول ان يعوض عن نقص تلك الترجمات.

أما الشاعر فهو ت. س. إليوت واما القصيدة الكبرى فهي الارض اليباب The Waste Land by T. S. Eliot . كان شاعرا وكاتبا مسرحيا وناقدا ومن أشهر الشعراء والنقاد في القرن العشرين الذين ما تزال أعماله تؤثر في أجيال من الادباء. ولد الشاعر إليوت في عام 1888 وتوفي عام 1965 . وقد تخلى عن جنسيته الامريكية في عام 1927 واكتسب البريطانية ، كماتحول للمذهب الانجليكاني. الف العديد من الكتب في مجال النقد الادبي وبعض المسرحيات علاوة على دواوين الشعر. فمن قصائده المشهورة أغنية حب جي الفرد بروفروك، وأربعاء الرماد، والرجال الجُوَف، والرباعيات الاربع، والارض اليباب. وقد نال جائزة نوبل في الاداب عام 1948 .
وفي مجال المسرح فقد كتب مسرحية جريمة في الكاتدرائية، ومسرحية الاجتماع العائلي، ومسرحية حفلة شرب وغيرها علاوة على اسهاماته النقدية. ومن أهم الافكار التي طرحها اليوت في النقد الشعري كانت فكرة تواصل التراث. ففي مقالته" التراث والموهبة الفردية" اعتبر ان الشعر يجب أن يكون امتدادا للتراث الادبي والحضاري للامم السابقة وليس منقطعا عن سياقه التاريخي، فالفن ليس منقطعا من سياقه، ومن الضروري فهم التراث الادبي للامم السابقة حتى نتمكن من فهم وتفسير وملاحظة تأثيرها العميق في اعمالنا المعاصرة. ومن الافكار الاخرى الهامة التي اوردها هي المعادل الموضوعي والذي يعني ربط النص بالأحداث وحالات الذهن والتجارب، وأنه لا بد من وجود حكمٍ نقدي موضوعي غير ذاتي يتم الوصول اليه من خلال تعدد القراءات التي قد تكون مختلفة، لكنها تتكامل لتفسير العمل، وبالتالي يصبح هذا هو المعادل الموضوعي لتفسير العمل الادبي.

أما الارض اليباب، فانها قصيدة حداثية كبرى اشتغل عليها اليوت سنوات وأهداها بعد ان رأى انها اكتملت عناصرها المتعددة والمعقدة الى استاذه عزرا باوند. ولم يترك إليوت شيئا الا وذكره في القصيدة ما بين توظيف اللغات اللاتينية والاغريقية والالمانية والسنسكريتية الهندية والاساطير والقصص اليونانية والرومانية والاروبية الجرمانية والشرقية وهناك اشارات مسيحية ايضا. تعكس القصيدة ثقافة اليوت العالية التي عبر عنها في النقد. والقصيدة ملأت الدنيا وشغلت الناس. حتى امتد تأثيرها للعالم العربي. فهي قصيدة تتكون من خمسة فصول طويلة هي دفن الموتى، ولعبة الشطرنج، وموعظة النار، والموت بالماء، وما قاله الرعد. كتبها اليوت عام 1922 بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وبعد طلاقه من زوجته الاولى. فكانت تمثل انهيار حلم ظن جيل كامل انه باق. القصيدة تعكس اجواء غياب اليقين والوهم والدمار والانحطاط الاخلاقي والانهيار النفسي الذي أصاب جيلا كاملا. فالحرب كانت نهاية مرحلة هامة من الفكر الاوروبي التي تحطمت قيمته في شوارع مدن اوروبا المدمرة، ومن هنا نشأت الكثير من المدارس الفكرية والفلسفية والادبية والفنية والشعرية التي كانت خروجا على تلك المرحلة. ونلمح في القصيدة توظيف السخرية والرؤيا والسحر، كما نلاحظ تغير صوت المتكلم لاعطاء حالة التنوع والتشظي التي اصابت فكر الانسان المعاصر. كما نلاحظ توظيف الرموز والاساطير واسماء شخصيات تاريخية وانتقال مكان الحدث فجأة وزمانه تأكيدا لمذهب اليوت النقدي في التراث والموهبة الفردية.

وقد أحببت أن اقتطف الجزء الاول من القصيدة بعنوان دفن الموتى من ترجمة الاستاذ الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في كتابه المنشور بعنوان: "الارض اليباب: الشاعر والقصيدة".

الارض اليباب

بعينيّ أنا رأيت (سيبيلاّ) في كومي معلقة في قارورة، وعندما كان يصيح بها الاولاد:" سيبيلاّ ماذا تريدين؟"؛ كانت تجيبهم دوماً: " أتمنى أن أموت"

الى عزرا باوند الصانع الامهر


1 دفن الموتى


نيسان اقسى الشهور، يخرج

الليلكَ من الارضِ الموات، يمزج

الذكرى بالرغبة، يحرّك

خامل الجذور بغيث الربيع.


الشتاء دفّأنا يغطي

الارض بثلج نسّاء، يغذي

حياة ضئيلة بدرنات يابسة.

الصيف فاجأنا، ينزل على بحيرة (شتارنبركَر)

بزخة مطر؛ توقّفنا بذات العُمد،


ثم واصلنا المسير اذ طلعت الشمس، فبلغنا (الهوفكَارتن)

وشربنا قهوة،

ثم تحدّثنا لساعة.

ما أنا بالروسية، بل من ليتوانيا، ألمانية أصيلة

ويوم كنا اطفالا، نقيم عند الارشيدوق،

ابن عمي، اخذني على زلأّقة،


فاصابني الخوف. قال، ماري،

ماري، تمسكي باحكام، وانحدرنا نزولاً.

في الجبال يشعر المرء بالحرية

اقرأ معظم الليل وانزل الجنوب في الشتاء.


ما هذه الجذور المتشّبتة، اية غصون تنمو

من هذه النفايات المتّحجرة؟ يا ابن ادم،

انت لا تقدر ان تقول او تحزر، لأنك لا تعرف غير

كومة من مكسّر الاصنام، حيث الشمسُ تضرب،

والشجرة الميتة لا تعطي حمايةً، ولا الجندبُ راحةً،

ولا الحجرُ اليابسُ صوتَ ماء. ليس


غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء

(تعال الى ظل هذه الصخرة الحمراء)،

فأريك شيئا يختلف عن

ظلك في الصباح يخبّ وراءك

أو ظلك في المساء ينهض كي يلاقيك؛

لسوف أريك الخوف في حفنة من تراب.


نشيطة تهبّ الريح

تجاه الوطن

يا فتاتي الايرلندية

أين تنتظرين


" أعطيتني زنابق أول الامر منذ سنة؛

فصرت أدُعى فتاة الزنابق".

ولكن عندما رجعنا، متأخرين، من حديقة الزنبق،

ذراعاكِ ممتلئان وشعركِ مبلولٌ، ما استطعتُ

الكلام، وخانتني عيناي، لم أكن،

حيّاً ولا ميتاً، ولا عرفتُ شيئاً،

وأنا أنظر في قلب الضياء، الصمت.

موحشٍ وخالٍ هو البحر.


(مدام سوسوستريس، البصّارة الشهيرة،

أصابها زكام شديد، ومع ذلك

فهي معروفة كأحكمِ امرأةٍ في أوربا

لديها رِزمة ورق خبيثة. اليكَ، قالت،

هذه ورقتك، الملاح الفنيقي الغريق،

(لؤلؤتين كانتا عيناه. انظر!)

هذه بيلادونا سيدة الصخور

سيدة المواقف


هنا الرجل ذو العصيّ الثلاث، وهنا العجلة،

وهنا التاجر وحيد العين، وهذه الورقة،

وهي خالية، هي شيء يحمله على ظهره،

محجوبة عنّي رؤيته. أنا لا أجد

الرَّجل المصلوب. إخشَ الموت بالماء

أرى جموعاً من الناس، يدورون في حلقة.

شكراً. اذا رايت العزيزة (مسز إيكويتون)

قل لها إني سأجلب خريطة البروج بنفسي:

على المرء أن يكون حذرا هذه الأيام.


مدينة الوهم،

تحت الضباب الاسمر من فجر شتائي،

إنساب جمهور على جسر لندن، غفير،

ما كنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع.

حسراتٍ، قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون،

وكل امرىء قد ثبت ناظريه أمام قدميه.

انطلقوا صعدا ثم انحدروا في شارع الملك وليم

الى حيث كنيسة القديسة (ماري ولنوث) تعدّ الساعات

بصوت قتيلٍ على آخر الدقة التاسعة.

هناك رايت واحداً عرفته، فاستوقفتُه صائحاً: (ستِتْسن)!

" يا من كنتَ معي على السفائن في "مايلي!"

" تلك الجثة التي زرعتَها السنة الماضية في حديقتك،

" هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟

" أم أن الصقيع المباغت قد أقضّ مضجعها؟

" ابعدِ الكلبَ عنها، فهو صديق للبشر،

" وإلا فسيحفر بأظافره ويستخرجها ثانية!

" أنت، أيها القاريء المرائي! يا شبيهي، يا أخي!"


السبت، يونيو 14

الندّان

الندّان

قصة: مارتن ارمسترونج
ترجمة وتقديم: اياد نصار

ولد كاتب القصة الانجليزي مارتن ارمسترونج في عام 1882 وتوفي عام 1974. كان شاعرا وقاصا وقد درس في جامعة كامبردج. وقد خدم خلال الحرب العالمية الاولى مع الجيش الانجليزي في فرنسا. وقد تزوج من الكاتبة الكندية جيسي مكدونالد. وقد أصدر عددا كبيرا من الدواوين الشعرية كان أولها "الخروج" عام 1912 كما أصدر ثماني مجموعات قصصية كان أولها مجموعته المعنونة "مسرح الدمى" في عام 1922. كما أصدر روايتين بعنوان " حضن المحب" و" الافاعي في العشب" . وبعد دراسته فقد مارس الصحافة اضافة الى الكتابة الابداعية.

تطرح القصة عدة محاور وأفكار رئيسية من خلال الحوار الذي يجري بين الندّين المتنافسين وهما معا في عربة قطار مسافر. ويبدو من الحوار أن الكاتب قد وظف لغة تشد انتباه القاريء من خلال توظيف بارع للغة في خلق حوار يمتاز بالمفاجآت. ويتضح من خلال براعته في تجسيد الشخصيات ان الصورة الذكية التي يعززها السيد كروثر عن نفسه في مقابل نزق السيد هارابي ليست كما هي فعلا. اذ يبدو في النهاية أن هارابي ليس كما حاول هو أن يقدم نفسه او كما نراه بعيون السيد كروثر، بل كان يتعمد تقديم نفسه على هذه الشاكلة. ولكنه في الحقيقة رجل في غاية الذكاء بشكل يفوق تصنع السيد كروثر. يبدو واضحا نقد الكاتب بشكل ساخر للاسلوب الانجليزي الاجتماعي الذي يتميز بالبرود والبعد عن الاهتمام بخلق تواصل اجتماعي مع الاخرين أو ابداء الاهتمام بمشاكلهم. فقد اوحى السيد هارابي ان رمى الحقيبة من نافذة القطار كان بهدف لفت انتباه رفيقه لكي يكون بالامكان بدء الحوار بينهما!! كما تطرح القصة موضوع العلاقات الزوجية في اسلوب ساخر حيث تصور موقف الصراع الدائم باسلوب مضحك بين الرجل والمرأة الذي يسعى كل طرف من خلاله أن يعزز دوره واستقلاليته. كما تطرح موضوع حاجة الانسان للتواصل مع الاخرين وابتكار الوسائل المختلفة حتى الغريب منها لتحقيق هذه الحاجة. وتؤكد على معاناة الانسان النفسية عند شعوره بأنه وحيد ومنعزل عن الاخرين.

القصة:
كان ما يزال امام القطار ثلاثة أرباع الساعة كي يصل الى محطته المقصودة، وكان يسير مسرعا بسرعة ستين ميلاً في الساعة عندما نهض السيد هارابي ربستون وهو رجل أعمال ثري من مقعده وسحب حقيبته عن الرف ورمى بها الى خارج النافذة. فرفع الراكب الاخر الوحيد في العربة وهو السيد كروثر عينيه من كتاب كان يقرأ فيه، وشاهد ما حدث. كان السيد كروثر رجلا صغيراً نحيلاً. تبادل الرجلان نظرة حادة ولكن سرعان ما استأنف السيد كروثر القراءة في حين أن السيد هارابي عاد الى مقعده وراح ينفث أنفاسه التي أمكن رؤيتها وهي تتصاعد لفترة من الوقت نتيجة المجهود الذي قام به. لقد ضايقته نظرة رفيقه في العربة التي رمقه بها الى أبعد الحدود.

خلت نظرة السيد كروثر من الانفعال مهما كان ضئيلا! ولم تفصح عن اي ذعر أو دهشة، ولا حتى نصيب تافه من الاهتمام. وكان ذلك بكل تأكيد في غاية الغرابة.. فثار فضول السيد هارابي حتى بلغ أشده.. وليس هذا فحسب، فقد كان بطبيعته رجلا اجتماعيا ثرثارا. كان في ظنه أن فعلته هذه سوف تفتح الباب امام تبادل الحديث دون أدنى شك، ولكن شيئا من هذا لم يحدث. وما دام الامر قد جرى كذلك فإنه لم تتح له الفرصة لتفسير تصرفه على هذه الشاكلة. وبدأ يشعر بأنه قد جعل من نفسه أحمقاً في عيون رفيقه أو لربما أسوا من ذلك. فلعل رفيقه ظن بأن الحقيبة كان بداخلها جثة، وفي هذه الحالة فلربما أخبر الشرطة بذلك عندما يصلان الى وجهتهما المقصودة. وستتوالى عليه آنئذ كل ضروب المشاكل والتحقيقات المذلة. هذه كانت التخمينات والظنون التي ألمت بالسيد هارابي وسلبته الطمأنينة والارتياح اللذين يستحقهما.

أما السيد كروثر فقد عانى من جانبه من تشتت الذهن. فبالرغم من أنه كان يتظاهر بالقراءة الا أنه في الواقع لم يكن قادرا على ذلك. وبرغم ما بدا عنه من اللامبالاة الا أن منظر سيد ثري يقذف بحقيبة من النافذة من قطار سائر قد أدهشه الى حد كبير لكنه لم يفصح عن دهشته. ومن الواضح أن رفيقه كان يخطط لردة فعل عنيفة من جانبه. وهكذا فقد آثر السيد كروثر التزام السكون. وسواءاً أكان الامر مزحة أم لا، فان السيد كروثر اعتبره انتهاكا لا مبرر له لعزلته. لقد بدا الامر كما لو أن الرجل قد فرقع كيساً من الورق على أمل أن يجعله يقفز من جفلة من مكانه. ولكن بكل الاحوال، فانه لم يكن ليقفز! وما كان سيكترث بشيء من هذا القبيل. وان تخيل الرجل أن قذف حقيبة من النافذة سوف يضفي على نفسه شيئا من الاهمية فإنه بلا ريب كان مخطئاً.

لكن السيد هارابي قد بلغ به الامر حداً فإما أن يتكلم أو أن ينفجر. ولكنه فضل الخيار الاول! فقال: " معذرة يا سيدي لكنني أجد نفسي مضطراً للقول بأنك تدهشني". رفع السيد كروثر عينيه عن الكتاب الذي كان معه ونظر نظرة فاترة وقال: "أدهشك؟ هل القراءة في القطار تدهشك؟" رد السيد هارابي: " كلا، كلا. لم أكن أقصد ذلك. الذي يدهشني هو أنك لم تدهش عندما رميت حقيبتي خارج النافذة".
- أحقاً؟ أهذا ما أدهشك؟ ما أسرع دهشتك.
- لست أدري بشأن ذلك، فبالتأكيد يا عزيزي أنه كان أقل ما يمكن القول عنه منظراً غريباً. واراهن بأنه لم يسبق لك من قبل أن شاهدت رجلا يرمي حقيبة من نافذة قطار متحرك. فأجاب السيد كروثر: " لا أذكر أنني شاهدت ذلك. لكن إن لم تخني الذاكرة في هذا السياق لم أر قط رجلا يأكل لفتا نيئاً في القطار أو يرقص أثناء تأدية أدعية المائدة. لكن ما الغرابة في ذلك؟ فاذا سمح المرء لنفسه أن يندهش من أي شيء مهما كان تافها فإن حياته كلها ستصبح سلسلة من المفاجآت التافهة.
- وأنت تعتقد أنه عمل تافه أن يرمي أحدهم حقيبته من نافذة عربة قطار؟ رد السيد كروثر: تماما! وارتدت عيناه مرة أخرى الى صفحات كتابه.
قال الرجل الاخر وقد بدا مغتاظاً بعض الشيء: اذن فما الذي، ان سمحت لي بالسؤال، تعتبره عملاً مهماً؟
هز السيد كروثر كتفيه استهجانا بضجر وقال: ربما كنت سأظنه مهما لو كانت الحقيبة حقيبتي.
- فهمت. انك تعتبر نفسك أكثر أهمية مني.
- لا أذكر أنني ذكرت نفسي. لكنني بكل تأكيد أعتبر حقيبتي أكثر أهمية من حقيبتك. وأنا لا أقصد بذلك نوعية الجلد. ولكن حقيقة أنها لي في حين أنك غريب تماما عني فحسب.
- وشؤون الغرباء لا تثير اهتمامك.
- فقط بمقدار ما تمس شؤوني.
-حسنا. قال السيد هارابي: لا بد أنني ظننت عندما رميت حقيبتي من النافذة ان ذلك كان بالكاد سيخفق في أن يمس...
رد السيد كروثر ببرود: أبداُ!
فعلق السيد هارابي: ان ذلك يظهر كيف يختلف الناس. فلو أنك رميت حقيبتك من النافذة لكنت في غاية الفضول كي أعرف لماذا فعلت ذلك. أجاب السيد كروثر بتجرد تام: استشف من ذلك أنك تواق لأن تخبرني لماذا فعلت ذلك.
- لست كذلك ان لم تكن تثير اهتمامك، على الرغم من أنه، وأنا مضطر لقول ذلك، يصعب علي التصديق أن أحدا يمكنه الا يجد ذلك مثيرا للاهتمام.

وتوقف عن الكلام للحظات لكن السيد كروثر لم ينبس ببنت شفة. بل على العكس من ذلك فقد أظهر كل أمارات الاستغراق في القراءة مرة أخرى. وللحيلولة دون ذلك فقد اتكأ السيد هارابي للخلف في مقعده وشرع في سرد قصته:

حقيقة الامر أنني قد هجرت للتو، منذ ساعة ونصف، بيتي وزوجتي، وهانذا أبدأ حياة جديدة. والسبب الذي رميت من أجله حقيبتي من النافذة منذ لحظات هو أنني أدركت فجأة أنني كنت أحمل فيها معي شيئا من حياتي الماضية. ملابس وفراشي شعر وسواها وكلها لها ذكريات. والذكريات هي بعينها ما أريد الخلاص منه، ومن هنا جاء تصرفي غير المألوف. أنني أعترف أنني لست شاباً. انني رجل في حوالي الخمسين، وقد مضى على زواجي واحد وعشرون عاماً ومع ذلك فهآنذا ابدأ حياة جديدة. حقا، قد يبدو لك ذلك عملا في غاية الغرابة.
- "على العكس" قال السيد كروثر وأضاف: ليس هنالك ما هو طبيعي أكثر من ذلك. ويبدو أن الجواب قد فاجأ السيد هارابي.
- طبيعي؟ أنت تعتقد أنه طبيعي؟ لا بد لي من القول أنك تدهشني. فقال السيد كروثر: تبدو لي رجلا ميالا للدهشة كثيراً.
فرد السيد هارابي بنزق على نحو لاذع: في حين أنك، كما أفترض، تفتخر بأنك لا تندهش من أي شيء.
- مطلقا. رد السيد كروثر. القصد هو، كما أعتقد، أننا نفاجأ بأمور كثيرة، فأنت تخبرني أنه قد مضى على زواجك واحد وعشرون عاما ثم تتوقع مني أن أندهش عندما أضفت انك تهجر الان زوجتك. لكنني يا عزيزي لا أجد ما يثير الدهشة في الموضوع. الذي يدهشني أنك استغرقت كل هذا الوقت كي تفعل ذلك.
ففكر السيد هارابي ربستون مليا في وجهة النظر هذه وقال: أستنتج من ذلك أنك رجل غير متزوج.
- لست الان. أجاب السيد كروثر
- ليس الان؟ أتعني أنك كنت متزوجا وأنك قد تركت زوجتك؟
- ليس تماما. فأن يترك المرء زوجته يعني أن يترك بيته. وهذا لم يكن واردا أبدا. فأنا مغرم ببيتي. انه منزل ساحر ذو حديقة ساحرة. وقد تضاعفت فتنتهما هذه الايام إذ املكهما لنفسي.
- تقصد أنك طردت زوجتك؟
- آوه.. كلا.. كلا. فهذا سينطوي على كل صنوف النكد.
- إذن ماذا؟ سأل السيد هارابي وقد ثار فضوله مرة أخرى: ماذا فعلت؟
لوح الرجل الاخر بيديه ابتهاجا وقال: هنالك اساليب أخرى.. اساليب اسهل. فقال السيد هارابي: أود أن أعرفها.
فقال السيد كروثر: لا أعتقد أن اسلوبي الخاص يناسبك.
- ولماذا لا يناسبني؟ رد السيد هارابي وهو يطفح بالفضول.
- لماذا لا يناسبك؟ حسنا. إن اسلوبي يتطلب .. ماذا عساي أقول؟ تكتم، براعة، والكثير من التخطيط الدقيق.
- وهل تظن أنني غير قادر على ذلك؟
فقال السيد كروثر: حسنا. كان يجب علي القول أن التكتم لم يكن من سماتك، ورغبتك الظاهرة في أن تبعث الدهشة في الاخرين قد، إن أردت اتباع أسلوبي، تضعك في موقف مزعج جداً.
- إنك تثير اهتمامي على نحو شديد. والآن أرجوك أخبرني ماذا فعلت.

بدا التردد على السيد كروثر، لكنه ما لبث أن عزم قراره وقال: اذا أخبرتك فأنا اثق في أنك لن تتهمني بوجود أية رغبة لدي في إثارة دهشتك. فلم يكن لدي على الدوام أدنى رغبة في أن أثير دهشة أحد. ولاحظ من فضلك أنني لم أجبرك على سماع المعلومات. فلو أنك لم تتكلم معي لكنا الان نسافر في صمت مطبق. فأنا معي كتاب يثير اهتمامي الى حد كبير. ولو أنك، اذا سمحت لي بقول ذلك، لم تجرني الى الحديث.
- تماما! تماما! قال السيد هارابي الذي بلغ به ألامر الان درجة عالية من الاثارة: أنا أقر بذلك. أقر بذلك كلياً. وأعدك بأن أبذل قصارى جهدي كيلا يبدو على أي مظهر للدهشة. فقال السيد كروثر: حسنا، ان ما فعلته كان ببساطة كالتالي، وسامحني اذا بدا لك الامر مثيرا بعض الشيء. وتذكر من فضلك أنني سوف أمقت بشدة أي مظهر للدهشة من جانبك. حسنا، وكما كنت أقول فانني وببساطة قتلت زوجتي.

لقد استقبل السيد هارابي ربستون السر المباح على نحو رائع. فصحيح أنه جفل وأصبح شاحبا قليلا، لكنه استرد أنفاسه خلال لحظات قليلة. وقال شكرا لك يا سيدي. ودعني أعبر لك عن عظيم تقديري لصراحتك. وفي الحقيقة فانك تغريني في أن ابادلك الصراحة. دعني أعترف لك ما دام الامر كذلك أنني في حقيقة الامر لم أهجر زوجتي لسبب بسيط وهو أنني أعزب. إنني أزرع الخضروات على نطاق واسع وأذهب الى لندن في سبيل أعمالي مرة كل اسبوع. أما بالنسبة للحقيبة فان لدي بعض الاصدقاء يسكنون في بيت تجاوزناه ببضعة أميال. وكل أسبوع أملأ حقيبة، (حقيبة قديمة جدا ان كنت قد لاحظت ذلك) بالخضروات وأحضرها معي وأرمي بها من نافذة العربة حينما يمر القطار ببيتهم، فتتدحرج على الجسر وتقف عند مدخل بيتهم. أعرف أنها طريقة بدائية لكنها توفر أجرة البريد، كما لا يمكنك أن تتخيل مدى الحديث الشيق الذي تثيره مع رفاقي المسافرين. وانت، ان سمحت لي بقول ذلك ، ليس استثناءاً!

الجمعة، يونيو 13

لقاء قصير

لقـاء قصير

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

إلتقى سعد بناديا في مقهى في ستكهولم .. كان سعد فلسطينياً في بداية الثلاثين من عمره يعيش مع أهله في الشتات. هاجر أبوه الى السويد في نهاية السبيعينات من القرن العشرين .. فقد كان أبوه من بين اللاجئين الذين فروا من مدينته يافا الى لبنان عام 1948 ، كان عمره عشر سنوات عندما خرج مع والده ووالدته، وتركوا كل شيء خلفهم. لم تحمل أمه معها سوى مفتاح بيتهم وبقجة من الملابس .. وقد ولد سعد في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان قبل هجرة والديه الى السويد بسنة .. إختار سعد كوباً من القهوة وكانت ناديا تقف قريبة منه تحمل مسجلا متنقلا على رأسها وأذنيها .. لاحظت تردده فتدخلت تنصحه بنوع معين. تبادلا التحية وبعض الكلمات. لم يعرف ما هي جنسية ناديا أول الامر. دعاها الى تناول القهوة معه.

ناديا: كنت استمع الى بعض أغاني فيروز .. يعجبني اسم يافا وبيسان!

سعد: يافا ..آه على أيام يافا. لا تذكريني .. أتذكر يافا وعمري عشر سنوات قبل النكبة. كنت ألهو على شاطيء يافا. وكان أبي يصطاد لنا السمك من بحرها بالمركب.

ناديا: ان شاء الله تعود المياه لمجاريها .. بصراحة ما حدث شيء صعب جداً.

سعد: وعندما وقعت النكبة تركنا بيتنا هناك، وحملت أمي معها مفتاح البيت. اتذكر كل شيء اتذكر بيتنا وشبابيكه. كان عمري حينها عشر سنوات.

ناديا: نعم. صعب جداً.

سعد: تركت المدرسة وكتبي عام 1948.

ناديا: لو لم تفتح عينيك هناك لكان الامر عادياً .. هل قلّبتُ عليك المواجع؟

سعد: لا أبداً قبل ايام احتفلنا بالذكرى الستين للنكبة.

ناديا: لكن الحمد لله ربنا عوّضكم.

سعد: عوّضنا؟ كيف عوضنا عن وطننا؟ وهل سمعتِ أنه تم تعويض اي أحد؟! صار عمري الان سبعين عاماً وانا أحلم بالعودة.

ناديا: 70؟!

سعد: نعم، فعندما وقعت النكبة كان عمري عشر سنوات كما أخبرتك في بداية القصة.

ناديا: هل تقصد أنك تركت المدرسة عام 1948؟

سعد: ألم اخبرك اني كنت ألعب على شاطيء يافا؟

ناديا: والان عمرك صار سبعين سنة؟؟

سعد: ألم اخبرك أن أبي كان يصطاد لنا السمك من بحرها .. كنت تقولين شيء صعب .. غريب ألم تنتبهي لكل هذه التفاصيل؟!

ناديا: وكيف لم أنتبه؟! ولكني أحببتك أن تكمل.

سعد: قلّبتِ عليّ المواجع .. أتذكر كيف كنت ألهو مع أصدقائي عندما كنا نعود من المدرسة. كدت مرة أغرق في بحر يافا.

ناديا: من الذي كان عمره 10 سنوات وقت النكبة؟ أبوك؟؟

سعد: أنا !

ناديا: والان تقول أن عمرك صار سبعين سنة؟

سعد: كان عمري عشر سنوات وقد توقف عند تلك السن منذ ذلك الوقت!

ناديا: يعني عمرك الان عشر سنوات؟

سعد: نعم

ناديا: أنا صحوت من النوم قبل قليل .. وجئت هنا لاتناول القهوة وليس بي قدرة أن أفك الغازاً الان.

سعد: عندما هربنا من بيتنا حملت أمي معها بقجة .. كانت قطعة قماش كبيرة وضعت فيها ملابسنا.

ناديا: سعد ، أرجوك قل كلاما جدياً ... لا تمزح

سعد: هل يبدو الامر صعبا او غريبا الى هذا الحد؟ هل صار تاريخنا لا يثير انتباه أحد؟ إذاً فقد كنت أكتب قصة قصيرة خيالية!! وضحك ضحكة طويلة!

ناديا: انت لخبطتني ولم أعدْ أدري عن التفاصيل!

سعد: عندما قلتِ اسم يافا يعجبني استعدت في ذاكرتي كل تاريخ مدينتنا وخاصة النكبة. وتخيلت نفسي انني عدت ألعب على شاطيء يافا! أحببتك أن تعيشي معي تلك الذكرى الجميلة والمريرة في آن معاً. ولكن يبدو أنه كتب علينا أن نعيش قدرنا لوحدنا.

سعد: أين أنت؟ هل انت مشغولة؟ إذا كنت مشغولة ساتركك وأرجع الى بحر يافا!

ناديا: لحظة ( كانت مشغولة بالمسجل على أذنيها)
سعد: (طال انتظار سعد .. أخذ يتمتم بكلمات أغنية أذكر يوما كنت بيافا وشراعي في ميناء يافا) .. أخذ ينادي: ناديا؟ هل تسمعينني؟ ... (لا جواب) يبدو أنك فعلا مشغولة .. سأذهب الان الى بحر يافا للسباحة فيه! الى اللقاء .. سلام. وتركها وابتعد ....

الخميس، يونيو 12

النار

النار

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

حلَّ الغروب ونحن نلعب .. كانت في الجو قصفة ريح باردة .. لم نكن نهتم للبرد أو الوقت .. هكذا كنا .. نبقى نلعب حتى لا يعود بإمكاننا رؤية الكرة .. كنت في المقدمة .. كنت احاول أن اراوغ بالكرة ولكنني لم أستطع الاحتفاظ بها .. كانوا اكثر مهارة مني .. كنت أهجم فاخلصها منهم .. ولكنني لم أستطع المرور بها من بينهم .. كلهم سجلوا أهدافاً الا أنا .. إزددت شراسةً في اللعب .. أريد أن اسجل هدفاً في المرمى .. كنت أهجم بكل قوتي واندفاعي .. أسمع صيحات الاحتجاج والصراخ .. ولكنني لم أعبء بها .. ازددت حنقاً وغضباً .. يجب أن اسجل هدفاً .. أريد أن أثبت لهم انني لاعب ماهر .. كانوا يقولون أنني ألعب بخشونةٍ متعمدة .. هجمت على أحد الاشباح ذوي القامات الطويلة .. خلصتها منه .. مشيت بها خطوات معدودة .. تجمهروا حولي .. حاولت الانفلات من بينهم .. كنت أريد تمريرها لفارس .. كانت حركتي بطيئة .. لم أستطع .. تعثرت ووقعت على الارض .. ضاعت مني .. لقد خلصوها من بين أقدامي .. أخذ فارس ينظر اليّ بغضب.. أثارتني نظراته.. صرخت به ماذا استطيع أن أفعل .. لقد هجموا علي وأخذوها!
بقينا نلعب.. ولكن التعب نال منا كثيرا.. صرنا نلهث من شدة الاعياء.. لم أتمكن من تسجيل هدفٍ لغاية الان.. إزددت قهراً وغضباً مكبوتاً .. أمسكت الكرة حاورت بها قليلا، مررت من الاول .. حاولت أن أتجاوز الثاني .. أذهب يمنة ً فيتبعني .. كنت أحاول خداعه .. أخذ عليٌّ يصرخ كي أمررها له .. كان يخشى أن تضيع .. كنا قريبين من الهدف .. آه .. كادت أن تضيع مني .. صرخ علي وانفعل لأني لم أعطه الكرة .. بقيت اتحرك بها ولا أمررها له .. كنت أريد أن أسجل هدفاً .. آه ضاعت مرة أخرى .. لم يعد علي يحوّل لي الكرة .. صرت أراقب الكرة من بعيد! أذهب اليها فأجدها بمكان آخر .. نادراً ما تصلني .. هجمت عليها بكل قوة واندفاع وخلصتها وبقيت أجري حتى سجلت هدفاً .. كنت أريد أن أعبّر عن احتجاجي! صار الكل يصرخ .. أنت مجنون .. لا نريدك أن تلعب معنا .. كيف تسجل هدفاً في مرمانا!

صرت أفكر أنه يجب أن أتقن هذه المهارات التي يتقنونها بكل براعة .. كنت أتعجب كيف تعلموها .. كنت أشعر بيني وبين نفسي أنني موهوب .. ولكن لا حظّ لي في الكرة .. ليس هناك انسان كامل .. بدأت أدرك أن هولاء ليسوا أغبياء كما يقول المدرسون عنهم.. المدرسون أنفسهم لا يعرفون ولو شيئا قليلا من مهاراتهم في اللعب والمراوغة وتسجيل الاهداف.. بدأت اكتشف عالماً أخر غير الكتب والدرس .. اكتشفت أنني ضعيف وفاشل في الكرة .. صرت أحسدهم .. شعرت باحساس غريب داخلي .. هولاء ليسوا أغبياء كما كان أستاذ الرياضيات يصفهم .. لديهم قدرات ومهارات عالية .. من أين تعلموها؟! نحن معاً على مقاعد الدرس نفسها فكيف تعلموها؟! صرت اكتشف نقاط ضعفي .. اكتشفت ان هذا التفضيل الذي يمارسه المدرسون لا يوجد الا في أذهانهم وينعكس على علاماتهم!

حَلَّ الليل ونحن منهمكون في اللعب .. لم أسجل هدفاً واحداً لغاية الان .. لم يعد اصدقائي يحولون لي الكرة .. صار عندهم شك أن اتمكن من تمريرها من بين أقدام الاشباح الطويلة .. كانوا كالاشباح في سرعة حركتهم .. شعرت انه صارت عندهم قناعة أنني سأضيع الفرصة .. والمباراة حامية ولاتحتمل إضاعة أية فرصة .. لم يكن هناك تكافؤ بيننا .. كانت أجسامنا صغيرة وهم كالاشباح .. ولكن من غير المعقول ان يهزمونا في عقر حارتنا. الدنيا ظلام دامس.. لم يكن هناك ضوء في الشارع .. كنا في الساحة الترابية المحاذية للشارع .. ساحة كبيرة مهجورة منذ زمن بعيد.. ضرب فارس الكرة.. طارت بعيدا..لم نتمكن من الامساك بها.. من سيلحق بها ويحضرها.. الكل متعب وفي غاية الارهاق..لم يتحرك أحد للجري خلفها.. صار الكل ينتظر الاخر.. اصابنا الاعياء واليأس .. لم نشعر برغبة للحاق بالكرة .. صرنا ننظر في عيون بعضنا بعضاً .. جلس كل واحد مكانه على الرمل .. بدأ الاشباح يبتعدون .. قالوا تذكروا أننا هزمناكم .. كانت الاهداف أكثر من أن نحصيها! نحن سجلنا في مرماهم ولكنهم أمطرونا بالاهداف! لو بقينا نلعب حتى الصباح فلا أمل أن تتعدل النتيجة.
أيقن كل واحد كما يبدو أنه ينقصنا اللعب بروح الفريق .. فينا أنانية ظاهرة .. كل واحدٍ يريد أن يسجل بنفسه .. أصابتنا ساعتها خيبة أمل وإحساس باليأس ولكن رغبتنا الأنانية في الظهور ما تزال باقية .. إقترح عزام أن نسهر هنا .. نوقد ناراً نتدفأ بها .. إشتدت الريح وصار البرد يلسع الوجه .. جمعنا قطعاً من الخشب من هنا وهناك .. جمعنا اوراق شجر يابسة .. جمعنا أغصاناً .. كنا نلتقط أي شيء جافٍ يمكن أن نوقد به ناراً.

لقد جاءت الفرصة.. يجب أن يعرفوا من أنا .. لقد أحسست ان كبريائي قد جرحت .. يجب أن اتفوق عليهم .. لست الخروف الاسود .. ونحن نشعل النار ونبحث عن مزيد من الخشب والعيدان، بدأت النار تشتعل في صدري .. بقينا حتى صارت النار جمرا ورماداً .. غرقت الدنيا حولنا من جديد في ظلامٍ دامس .. الا من شيء قليل من وهج النار في الفحم .. ابتعدت قليلا وأشعلت ناراً في راحة يدي .. قلت بصوت عال كي يسمعوني:

- هل سبق أن رأيتم نارا تشتعل هكذا؟

- كيف فعلت ذلك؟! هل هذا سحر؟!

- هل سبق أن رأيتم يداً لا تحترق بالجمر؟

- شيء غريب فعلا!

- هل رأيتم أحداً من قبل يستطيع حمل النار بيديه؟

- كيف تقدر أن تحمل الجمر من غير أن تحترق يداك؟

كنت أنظر في وجوههم وسط الظلام .. تلتمع عيونهم في وهج النار بين يدي .. فأرى علامات الدهشة والاستغراب باديةً عليهم .. أخذت ابتسم وأضحك .. فكّروا أن لدي طاقةً خارقةً على احتمال النار .. شعرت بالزهو .. أريد التخلص من عقدة النقص التي ترافقني دائما في الكرة .. بقوا ينظرون في كفي الاثنتين وسط اشتعال اللهب فيهما .. احسست بحرارة في يدي.. كانت حرارة مقبولة يمكن احتمالها .. بدأ يزيد الالم من شدة حر النار ..أحسست بالنار تكاد تحرق يدي وهم يتفرجون ويتعجبون .. لم استطع أن أصرخ .. كان علي التحمل والصبر.. كنت أقاسي الامرين في تلك اللحظات..ازدادت حرارة النار في يدي..لا استطيع أن اخبرهم الحقيقة.. يجب أن أحتمل حرّها وخاصة أنهم يبحلقون بها كثيراً .. هذه ليست المرة الاولى التي أثبت لهم أنني خارق للطبيعة .. شعرت بالزهو.

عندما كبرنا صار فارس يذكرني بقصة النار كلما التقينا .. سأسميك بروميثيوس .. تذكرني بالبطل الذي أحضر النار من عند الالهة.. حاولت أن اقول له الحقيقة .. لم استطع!

تأخر الوقت وازداد الظلام سواداً .. بدأت سرعة الريح تخف تدريجياً .. بدأت تختفي ألسنة النيران تحت الجمر .. القيت بالنار من يدي .. تعجب الكل من قدرتي على حمل النار من غير أن تحرقني! نفضت يدي في الهواء.. وقعت قطع الفحم الصغيرة الحمراء المشتعلة من راحة يدي .. نفضت يدي مرة اخرى ليقع الرمل من راحة يدي! قال علي لو كان مشهور معنا لغلبناهم .. توجه بكلامه نحوي .. انت ضيعت اكثر من فرصة أعطيناك اياها .. لو انك لم تضعها لغلبناهم .. استمر الهرج والمرج .. الكل يحاول ان يبين أنه قدم ما عليه ولكن الاخرين هم السبب! صرنا ننفخ في النار كي تشتعل اكثر .. خرجت شعلة صفراء من بين الخشب المتفحم .. ثم ما لبثت أن خمدت .. استمرينا بالنفخ في النار ولكنها لم تشتعل .. كانت قطع الفحم قد ذاب أغلبها ولم يبق سوى جمراتٍ صغيرة .. صرنا نكسر قطع الفحم بالحجارة كي تنطفأ النار .. قال قاسم يجب أن نخبر مشهور وسمير .. يجب أن نرد للاشباح الصاع!

يوم أمس زارني وليد .. أخذنا نتذكر تلك الايام ونستعيد الايام الجميلة والمواقف المضحكة .. تذكرنا حمل النار في يدي من غير أن تحرقني .. تذكرت بيت الشعر الذي أسمعه دائماً .. اذا رأيت نيوب الليث بارزة ، فلا تظنن أن الليث يبتسم .. وتذكرت أن أسناني كانت تصطك من شدة الالم المكبوت وهم يعتقدون أنني اضحك! كنت احتمل الموقف لحظات ثم يبدأ بعدها الحر يسري في الجلد! كم مرت سنوات طويلة ولا أحد يعرف السر غيري .. سأموت وسيضيع السر معي! المسألة أصبحت صورتي أمامهم .. كان وليد عنيداً ومشاكساً، ودائما نصطدم ببعضنا .. كان مثل ديك يحاول ان يفرض سيطرته على أرض ما يعتبرها مملكته .. كان أكثر واحدٍ يشعرني بجفاء الصداقة! كان ماهراً في لعب الكرة، ولكنه أقل براعة من مشهور وسمير .. كان مشهور نصيرنا وقت الشدة .. كان المدرسون دائما يتسلطون عليه بالضرب والاهانة لانه لم يكن ينجز الواجبات .. ولكن عندما تأتي حصة التربية الرياضية يصبح حبيب الجميع! وفي نهاية العام عند تقديم المهرجان في ساحة المدرسة يصبح نجم المهرجان والكل يصفق له بما فيهم المدير!

التقيت بمشهور قبل ثلاث سنوات .. تذكرت أنه كان دائما يسرق مفتاح السيارة الكبيرة ويسوقها ووالده نائم .. وذات مرة أخذ المفتاح خلسة ووالده نائم عند القيلولة .. وخرج بالشاحنة .. كانت الدنيا ربيعاً والارض ما تزال رطبةً مبلولةً من الشتاء .. كانت الارض الحمراء طينية .. سطحها ناعم يكاد يلمع من صفائه .. لقد خرج بها ونحن نشاهد جرأته في قيادة شاحنة وهو ما يزال فتى صغير .. بعد قليل تجمهر الناس حوله.. لقد إنغرست عجلاتها في مستنقع طيني .. ولم يعرف كيف يخرجها!! في ذلك اليوم أكل علقةً ساخنةً ولم نعد نراه لمدة أسبوع! بعد أن تخرج مشهور من المدرسة، صار يعمل عند والده .. انقطعت اخباره عني منذ ذلك الحين .. وحينما التقينا ذات مساء في مناسبة عند أحد الاصدقاء .. رأيته جالساً أمامي .. لم أعرفه أول الامر .. ولكن عندما بدأ يتحدث شعرت أن صوته ولهجته ليست غريبة عني .. أثناء تناول الطعام جلست بالقرب منه.

- عفوا هل أنت مشهور؟

- نعم، تفضل؟

- غير معقول هذه الصدفة.. بعد كل هذه السنوات؟!

- يبدو أنك تعرفني؟

- ألم تعرفني؟! انظر في وجهي جيداً.. تفرّس في ملامحي .. أين مهارتك أم نسيت أيام الكرة .. سقى الله تلك الايام

- آه .. الوجه يبدو مألوفاً لي .. لحظة أتذكر .. لا تخبرني الاسم .. آه فارس؟

- لا

- علي؟ ولكن علي كان اسمر البشرة.

- لا

- ذكّرني؟ أية اشارة تساعدني على التذكر!

- كنت أضيع الفرص وانت تصرخ وتغضب لانك تتعب في ايصالها لي عند المرمى!!

- غسان؟! آه غسان أكيد!

وضحكت .. قام وأخذ يعانقني .. سلمنا على بعضنا بحرارة .. وجلسنا نأكل ونتذكر .. ذكرته بيوم الشاحنة في الطين!

- أين انت الان؟ ماذا حصل معك؟

- عندي شركة نقليات .. عملت مع أبي في البداية ثم افتتحت شركةً للنقل .. صار عندي الان اسطولاً للشاحنات ينقل البضائع بين العقبة وعمان وبغداد و دمشق .. نذهب في كل الاتجاهات الى الخليج ومصر وشمال افريقيا والى اسطنبول. لقد وفقني الله .. كنت في البداية أنقل الاخشاب والحديد .. ثم قررت أن افتتح مصنعاً للحديد .. وانت ماذا حصل معك؟

- لقد درست هندسة كيماوية وتخرجت وعملت في مصنع للشكولاته أول الامر! ثم مللت من طعمها! فانتقلت الى مصنع للدهانات!

ضحك مشهور وقهقه طويلاً .. لقد تذكر يوم النار! سألني مشهور عنها .. أما زلت تقدر ان تحمل النار في يدك؟ أخبرني الان عن السر! ضحكت وقلت لم يكن هناك سر .. استطيع حملها الان!! ضحك وقال هيا أخبرني عن السر؟
قلت ألم تكن تنتبه عندما كنت ارمي الجمرات الصغيرة من يدي الى الرمل الذي يقع منها؟!!! ضحكنا طويلاً. قال لقد بقينا نفكر طويلا كلما التقينا كيف كنت تستطيع ان تحملها!

- أنت كنت تحمل الكرة وأنا كنت أحمل النار!

الاثنين، يونيو 9

الساعات


الساعات.. البحث عن الحب وإيقاف الزمن الهارب

مقاربة نقدية لقصة الساعات للدكتورة هند أبو الشعر
بقلم اياد نصار

استمتعت وتأملت كثيرا قصة الساعات للكاتبة المبدعة د.هند ابو الشعر. انها قصة رمزية مكثفة ذات أبعاد نفسية وفلسفية عميقة.

تدور القصة حول امرأة تملّكها الاهتمام المفرط بذاتها. تنظر الى نفسها في المرآة ، كأنما هي نرجس في الاسطورة الاغريقية الذي ينظر في صفحة الماء فيرى انعكاس صورته. تنظر بطلة القصة الى ذاتها نظرة الفنان الماهر الذي يستغرقه الاهتمام بالتفاصيل، وتسيطر عليها فكرة الاهتمام بالشكل. تفتتح القصة بمشهد المرأة تنظر الى نفسها في المرآة ، وفي ذلك توظيف رمزي للدلالة الى النظر الى أعماق النفس ومحاولة اكتشاف الذات. وهي فنانة تنظر الى جمالها بعين الرضا، وكأنما تريد اعادة بناء شخصيتها على النحو الذي تريده هي. تود أن تعيش في حلم ترسم معالمه بريشتها. ثم هناك رحلة أخرى في زوايا الذاكرة. تتذكر الانسان الذي أحبته وسافرت معه الى حلب. يرمز الوشاح الذي استوقفها في واجهة احد المحلات وأراد هو أن يشتريه لها الى الحب الذي يحيط بها ويملأ عالمها. ويبدو واضحاً أنها تبحث عن الحب الذي صار من الذكرى، ولكن الخوف من الزمن يسيطر عليها. يبدو واضحا في القصة الرغبة العارمة لديها في النظر الى واجهات المحلات. إنها الرغبة في امتلاك ما تفتقده. وهناك اشارة جميلة لماحة الى القلق الذي تعيشه. فهي تنتظر الحب ولكن العمر يمضي. لم تستوقفها كثيراً الاشياء باستثناء الساعة. والساعة تصبح الهاجس الذي يجسد الرغبة بايقاف الزمن والامساك بالجمال فلا يتغير!

إن الاحساس بالزمن وتقدم العمر قد أصبح "فكرة مرعبة في أعماقها". تسعى للتغلب عليه من خلال الاهتمام بذاتها وجمالها. إنه ليس مجرد الخوف من الزمن ، بل هو في جوهره الخوف من الموت. لهذا يتكرر ذكر لحن الرجوع الاخير عدة مرات قرب النهاية في اشارة الى الحب الذي مات للدلالة أن الخوف من الموت صار هاجساً قاتلاً. لذلك لم تستطع التخلص منه وأسرعت تشتري ساعة جديدة. ست ساعات ترمز الى قصص الحب الفاشلة التي مرت بها. ست ساعات توحي بقصة خلق الكون في ستة أيام.. ست ساعات تمثل الحواس الخمس وسادسها الحدس. إن احساسها بالزمن وخوفها من الموت قد أصبح يشغل ويؤرق كل حواسها. القصة تربط دقات الساعة بخفقان القلب. انها الحياة تدور الى نهاية محتومة. وحتى عندما قررت خلع الساعات فقد بقي الاحساس الرهيب بهروب الجمال وفرار اللحظة الآنية قوياً في أعماقها.

الساعات هي محور القصة. الساعات رمز العمر الذي يمضي ويهرب منا سريعاً بلا توقف. وهي ترمز الى رغبة المرأة العارمة في تخليد العمر عند لحظة معينة، واهتمامها المفرط بمظهرها ولباسها هو دلالة على رغبتها في تخليد الجمال عند لحظة معينة فلا يزول والامساك بالزمن الهارب كي يقف. تستحضر فكرة القصة بشكل غير مباشر حلم بيجماليون الذي خلده في نحته لتمثال جالاتيا. تلك المرأة والمثل الأعلى في الجمال التي وقف الزمن عندها فلا تموت. لكنها تبقى جامدة بلا روح فيضجر منها، ويدعو الآلهة أن تدب فيها الروح. ولما تخرج للحياة يعمل فيها الزمن فعله. يبدأ جمالها بالتبدل والعمر بالرحيل. فينفطر قلب بيجماليون من الحزن. كما تستحضر في الذهب باسلوب غير مباشر محور رباعيات الخيام التي تدعو الى الاستمتاع بالحب والجمال والحياة ومتع الدنيا ما دامت هناك حياة في الجسد ، فغداً ينتهي كل شيء. ويشير بحثها عن الساعة السابعة الى فكرة سبع ساعات كرمز لأيام الاسبوع. بل هي رمز العمر كله. هي رمز الكون.

القصة في غاية الجمال النابع من أن البحث عن الحب والسعادة والخلود هو هاجس الانسان الاول. وأن الانسان وان استطاع تخليد الجمال بالفن الا أن الزمن يقهر الحياة. فلا أحسن من رحلة اكتشاف الذات ولكن من المهم أن نقبل أنفسنا بعد ذلك.
لغة القصة تمتاز بأنها قصيرة سريعة تناسب ايقاع الزمن الهارب. ابدعت المؤلفة في استخدام رمز الساعة..وتكرار صوت تك تك عددا من المرات لتعميق الفكرة.

أتطلع الى المزيد من ابداع د. هند أبو الشعر


الساعات
قصة قصيرة
بقلم د. هند أبو الشعر


انتهت من تصفيف شعرها ، تطلعت إلى المرآة برضى ، أفرحتها الألوان الربيعية الدافئة ، فتفقدت وجهها ، تحس بأنها تمتلك يد فنانة مدهشة ، وهي ترسم العينين بدقة ، تتأمل الوشاح المزركش ، حريري مترف ، يرف قلبها لملمسه ، وتستذكره معها في (حلب) كانا معا ،يسيران في الشوارع القديمة ، استوقفته بلهفة ، أمسكت بالوشاح المعلق على الواجهة ، ابتسم ، أحست بأنه يريد أن يشتري لها (حلب) كلها ، وسرعان ما لفت عنقها بالوشاح ، سارا معا ، وصباح حلب الوديعة يصاحبها إلى (القلعة) انبعثت رائحة العطر من الوشاح ، وتذكرته من جديد..

- سأراه اليوم بعد أن أنتهي من الدوام..

صرخت كالملسوعة:- اللعنة.. حان موعد الدوام

لملمت الأشياء بسرعة ، الخاتم ، والقراط ، فضياتها الجميلة، زفرت وهي تبحث عن ساعتها: يجب أن تكون فضية.. ؟ توقفت وهي تستخرج علبة الساعات.. ساعاتها كثيرة.. كثيرة ، تريد الساعة الفضية.. الساعة الفضية فقط.. كومت الساعات أمامها.. واحدة ،اثنتان.. ستا.. ست ساعات.. .. ؟

- ما اغباني.. لماذا كل هذه الساعات.. ؟؟ قرصها الخوف فجأة ، انبثقت فكرة مرعبة في اعماقها ، ارتعشت وهي تتذكر أن كل هذه الساعات تدق حولها ، تدق حول معصمها.. تدق في قلبها ، تضخ الدم.. وانها تحسب الزمن.. نعم الزمن.. أي زمن.. أي زمن.. ؟

قالت بنبرة خائفة:- يا إالهي ، لم يسبق لي أن فكرت بهذا الأمر.. نعم ، إنها تحسب الزمن.. ؟ قررت فجأة بأنها ستتجاهل الساعات ، وأنها لن ترتدي الساعة الفضية ،وأنها قد تهدي ساعاتها لصديقاتها.. ؟

حملت حقيبتها ، كان صوت الدقات المتتالية يلاحقها.. تك.. تك.. تك.. ست ساعات ، يا للقسوة.. ست ساعات تعد الزمن وتلاحقها، تذكرت ان في غرفة نومها ساعة ، وفي الصالة ساعة ، وفي السيارة ساعة،وفي ساحة الجامعة ساعة ، وفي الساحة العامة ساعة كبيرة.. وعلى كل معصم ساعة تراه أمامها ساعة.. شعرت بالخجل يتملكها وهي تتذكر ان هناك أناسا لا يملكون ساعة واحدة ، وأنها نموذج بشع للانانية.. ؟ - ست ساعات ، وغيرك لا يملك ساعة واحدة.. ؟ - أنت شريرة ؟ - أنت .. ؟

سارت بعصبية قطعت الصالة، طرقات حذائها موسيقى جنائزية ، لاحقتها دقات ساعة الصالة.. تك .. تك.. تك.. اختلطت بموسيقى خطواتها ، ارتعشت.. هل هذا هو لحن الرجوع الأخير ؟؟اندفعت بسرعة ، قررت أن تغلق باب الحديقة ، أن تصفقه ليتغير صوت لحن الرجوع الاخير ، وفتحت باب سيارتها ، ألقت حقيبتها على المقعد المجاور ، صاحبتها الساعة المثبتة أمامها.. تك.. تك.. تك؟- اللعنة.. متى ستوقف عن حساب الزمن الباقي.. متى.. ؟

أدارت المحرك، سارت بسرعة جنونية، توقفت فجاة ، نزلت من سيارتها ، ووقفت بذهول أمام واجهة المعرض المضاءة ، كانت بالساعات من كل الأحجام والأصناف ، صرخت كل الساعات في المدى تك.. تك.. تك.. تك.. عزفت كل الساعات لحن الرجوع الاخير.. ابتسم الرجل الواقف أمام الواجهة بفرح ، كأنه لا يصدق أنه يبدأ البيع في هذه الساعة المبكرة.. قالت باستسلام :- اريد ساعة.. أريدها حالا.. أرجوك.

* من المجموعة القصصية " الوشم "