السبت، مايو 1

بين ادوارد سعيد وفخري صالح.. دفاع عن الاب الروحي!

بين ادوارد سعيد وفخري صالح .. دفاع عن الاب الروحي!
بقلم: اياد ع. نصار



الجزء الثاني

يرى المؤلف أن إدوارد تأثر، كثيراً، بسيرة حياة البحار البولندي الذي جاب العالم على متن السفن البريطانية، وصار - في ما بعد - من أهم روائيي الادب الانجليزي. ووجد أن هناك ثيمة مشتركة بينهما لعلها كانت سبب انتباه ادوارد له ومن ثم اهتمامه به وكتابة أطروحته لنيل درجة الدكتوراة في جامعة هارفارد عنه، وكانت بعنوان "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية". وأغلب الظن أن إحساس ادوارد الذي عاش معه وظل يؤرقه حول النفي والاقتلاع من أرض فلسطين هو ما جذبه لجوزيف كونراد، ذلك الغريب الذي صارع لاثبات ذاته في الثقافة الانجليزية. كما يروي فخري صالح في هذا الفصل تفاصيل الحملة الصهيونية في بعض الصحف الامريكية والانجليزية التي بدأت صيف العام 1999 لتشويه صورة ادوارد سعيد واتهامه بتزوير سيرته.


يرى فخري صالح أن هدف الحملة كان التشويش على مشروع سيرة ادوارد الذاتية، التي أعلن عزمه على تأليفها. ولكن الهدف الابعد هو اسكات صوته الذي كان مدافعا عن الحق الفلسطيني في الدوائر الامريكية وفي وسائل الاعلام وفي المراكز الاكاديمية، ومحاولة إضعاف تأثيره بصفته المتحدث الأبرز بلسان الفلسطينيين في الغرب. والهدف الاخطر هو التشكيك في قصة المعاناة الفلسطينية برمتها، والتي خلّفتها النكبة من خلال اظهار ان ادوارد زوّر تاريخه. فعائلته - كما يقولون - ارتحلت عن فلسطين مبكراً (قبل العام 1948) وكأنما هذا هو حال الفلسطينيين الذي يدّعون آلام التشرد. ولكنه يرى ان كل هذه المحاولات التي استمرت ربع قرن لم تُجدِ نفعاً. وهنا تكمن أهمية سيرة ادوارد سعيد الذاتية، التي تفند الكثير من المزاعم التي قيلت حوله. وإذا كان إدوارد لم يضع كتابه "خارج المكان" من أجل الرد على الحملة، حيث كتبه خلال الفترة ما بين 1994 - 1998 ، بعد أن عرف عن اصابته بسرطان الدم (اللوكيميا) إلا أن الكتاب جاء في وقته. ويسجل ادوارد - في هذا الكتاب - وقائع حياته اليومية عبرة فترة زمنية طويلة أراد أن يبرز فيها تفاصيل المكان وتأثير الشخصيات في العائلة التي لعبت دورا في تشكيل وعيه مبكرا على حدود الحلم والوطن الذي ضاع.

أما كتاب ادوارد عن "فرويد وغير الاوروبيين" فقد أراد أن يبين فيه أن فرويد وقع أسير المركزية الغربية التي رأت أن اليهود جزء من سياق الحضارة الغربية ، بدلاً من تراثهم المشرقي، وهم- بالتالي - روجوا لهذه الرواية لأنها تخدم أغراضهم، خاصةً بعد بروز الاضطهاد الديني لليهود في شرق أوروبا. وأنه كان يعاني - عندما وضع أسس التحليل النفسي - من حالة الخوف والعصابية لما كان يجري لليهود في المانيا والنمسا، مما جعله يدرس ويحلل الوساوس والاضطرابات. ويطرح ادوارد سعيد مفهوم "الاسلوب الاخير" من خلال دراسته للاعمال الاخيرة لفرويد ومقارنتها بأعمال بيتهوفن الموسيقية الاخيرة. يرى إدوارد أن كثيرا من الكتاب والادباء والفنانين والموهوبين قد تأثروا في أعمالهم الاخيرة بمفهوم الموت، حيث ظهرت عليها مؤثرات وانحناءات تختلف عن أعمالهم السابقة، لكأنما يستشعر المبدع النهاية وتؤثر في وعيه – بوصفها هاجساً كبيراً - تصبح معه أعماله متوجهة نحو التفكير بالمرحلة الاخيرة.

يرى المؤلف أن أهمية كتاب "الانسانية والنقد الديمقراطي" تنبع من رغبة ادوارد سعيد في تحرير المذاهب الفكرية الغربية من المركزية الاوروبية التي تعطي السيادة للرجل الابيض، وفي اعطائها بعداً انسانياً كونياً يعترف بالثقافات الانسانية غير الغربية، فوضع كتابه هذا ليشرح فيها "مذهبه الانساني" و"الديمقراطية". ويقترح صورة أخرى للمذهب الانساني الغربي. بقي ادوارد سعيد مؤمنا بفكرة النزعة الانسانية والدعوة الى العدالة والمساواة والتحرر والتعلم برغم ما يثار ضدها وبرغم استغلال هذا المذهب من قبل الدوائر المركزية الاوروبية.

وعن علاقة ادوارد سعيد بتيارات ما بعد الحداثة والنقد والتاريخ، يتحدث المؤلف، في عجالة أيضاً، عن كتاب الباحث والناقد الهندي شيلي واليا "ادوارد سعيد وكتابة التاريخ" الذي يتضمن موقف إدوارد من تيارات ما بعد الحداثة كالبنيوية وما بعدها. فنرى انسجاماً ما بين نظرة إدوارد للمثقف العام، وما بين موقفه النقدي الذي تجلى في دراسة سياقات النصوص التاريخية والسياسية ودوافعها النظرية والعملية التي أدت الى انتاج النصوص، وأنه لم يكتف بقراءة النصوص الموضعية، ودراسة النصية والتناص كما فعل النقاد أتباع جاك دريدا الذي رأى أنهم أصبحوا أسرى للنص وحده.

لا بد لي من القول أن دور الناقد فخري صالح، المعروف بجهوده النقدية، لم يكن ظاهراً - كما عهدناه - فالكتاب هو تلخيص وتحليل وشرح أكثر منه تفاعل نقدي يبقى فيه للمؤلف هامش نقدي يعبر عن آرائه فيما يحلل أو يشرح. لقد وجدت أن الكتاب يقدم متقطفات موجزة لموقف إدوارد من الاستشراق ودور المثقف والثقافة، ويقدم عرضاً مقتضباً لأغلب توجهات إدوارد وأفكاره الاخرى في القضايا النقدية والمجتمعية. وربما يخدم ذلك غرض القاريء الذي يود أن يتعرف على الموضوع لاول مرة، ولكنه لا يلبي طموح القاريء المتعمق أو المتخصص الذي يسعى لقراءة عالم ادوارد سعيد عن قرب.

وباستثناء نقد موقف ادوارد سعيد السياسي، وهو ما عدّه فخري صالح نوعا من الموقف التنظيري غير العملي الذي لا يقدم بديلاً، فإننا لا نرى نقداً من قبل الكاتب لمجمل أعمال إدوارد الاخرى، بل - على العكس - نرى اشادة مطلقة بها. ولم أجد في الكتاب أي نقد لأي موقف أو وجهة نظر أو حتى اختلاف معها، بل إنه - عندما أورد نماذج من كتابات الاخرين الناقدة لاعمال ادوارد سعيد - سعى الى تفنيدها؛ فقد أورد، مثلاً، ما كتبته الناقدة والباحثة فاليري كيندي التي رأت أن إدوارد استبعد الكتابات النسائية من كتاباته واهتماماته، واستبعد النساء الفلسطينيات من تأملاته لحياة الفلسطينيين، وحتى استبعد الكتابات النسائية الاستشراقية بسبب طبيعة الثقافة الذكورية التي نشأ فيها. كما أورد نقد فاليري النظرياتِ والمناهجَ غير المتجانسة والمتعارضة، التي وظفها إدوارد في كتاب "الاستشراق"، من مثل: نظريات ميشيل فوكو، وانطونيو غرامشي، والمنهج الفلسفي الانساني، مما أدى الى وجود تعارضات أساسية في الكتاب.

وهنا نرى أن فخري قد انبرى للدفاع عن إدوارد حينما اعتبر أنه لم يرد تقديم قراءة مقارنة لصور الشرق في أعين المستشرقين، بل سعى الى تفكيك الخطاب الغربي وفهم منطلقاته النمطية التي أدت الى تشكله. ويرد فخري صالح على فاليري بأن سبب استبعاد إدوارد للكتابات النسائية الاستشراقية هو أنها كانت اكثر انصافاً من كتابات المستشرقين الذكور. ولا أظن أنه هذا سبب مقنع، فالمنطلقات واحدة ما دمنا نتحدث عن تفكيك دوافع الخطاب الغربي الاستشراقي ومنطلقاته وكيفية تشكله، بغض النظر عن جنس كاتبه. كما يجد فخري العذر لإدوارد حينما يفرد عشرين صفحة في كتابه "الثقافة والامبريالية" لرواية جوزيف كونراد بينما يكتب أسطرا قليلة عن رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال"، ورواية "بذرة قمح" للروائي الكيني نغوجي واثيونغو، حين يؤكد أن إدوارد حاول، بهذا الاستشهاد، تحليل فكرة التوسع الجغرافي للامبريالية. وعموماً فإن رد فخري مقتضب ولا يفصح عن أسباب جوهرية لينتقل الى الحكم على أن كتابها لا يقف على أرض صلبة! يبدو لي إن عاطفة الدفاع عن الاب الروحي هي التي تسيطر على فكر فخري صالح في كل ما يكتب عن ادوارد.

وفي الختام فانه ينبغي القول أنني من المعجبين بعصامية ادوارد سعيد الفكرية، ومكانته المرموقة، وصلابته امام الحملات الغربية التي وجهت له، والتزامه بالدفاع عن الحق الفلسطيني، وابراز معاناة الفلسطينيين، إلا أنني أظن أننا في حاجة لدراسة فكره وتسليط الضوء عليه - بعيداً عن هالة الاعجاب - فكل أعمال المفكرين والكتاب والفلاسفة تعرضت، عبر التاريخ الانساني، لانتقادات أو لمحاولات لنقضها أو للرد عليها أو لتطويرها، وهذا هو حال الفكر باستمرار.

* اللوحة أعلاه بعنوان حياة صامتة بجانب العود للفنانة النمساوية الانجليزية ايفون أيوب، نسبة الى زوجها اللبناني
** نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة 7/5/2010.

رابط المقالة بموقع جريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة - جريدة الدستور





هناك تعليق واحد:

  1. في مقدمة حديثي أنا حديثة العهد في قرءتي لأدورد سعيد ولست أناصره ولكنني أتحدث من منطلق فكري حول ما جاء في الدراسة بداية أنا أصف المعاناة التي يعيشها المرء من منطلق معاناته الشخصية وحتى لو تم نقد إدورد سعيد ومغالطة فكره ومدى تشكك من حوله فأنا أعتقد بأن معاناة إدورد سعيد نابعة من ما جرى في سياق حياته، ومهما نقده الآخرين فأنا في بعض جوانب حياته أجدها صادقة، فما الذي يدفع إدورد سعيد لكل هذا أهو الشهرة لا أعتقد من خلال قرائتي أستنتج أن إدورد سعيد صاحب قضية ومبدأ يصعب أن نجدها إلا عند الصفوة من الكتاب والأدباء.

    أن فكري يتماشي مع ما جاء في كتاب فريدو وغير الغربيين، أنني أؤكد على أن اليهود جزء من سياق الحضارة الغربية، ولكنني لا أفهم لماذا أستخدم مفهوم الأسلوب الأخير، ومفهوم الموت، هل كان يقصد أبعاداً أخرى غير ما جاء في الدراسة، أن الكاتب في أحيان كثيرة يستخدم رموزاً لعبارات مبطنه غير الظاهرة، وهذا ما يميز كتابته وفكره.

    الأنسانية والنقد الديمقراطي أنني أستعجب أن تكون أفكارنا نابعة من تقيدنا بأفكار قد تسحقنا أن ما فعله أدورد سعيد هو أن عبر عن فكرة أستقرت في نفسي سنيناً، فقبل أن أقرأ عن إدورد سعيد كنت أناقش فكره دون أن أعلم، وكأنني ألتقط إشارات وستفهامات من حولي دون أن أعلم وعندما قرأت الإنسانية والديمقراطية شعرت بأن إدورد سعيد قد كتب ما كان يجول ذهني وكأنه قرأني.

    لقد جرى أن تحدثت في أحد المحافل عن أن المذاهب الغربية يجب أن تكون مختلفتاً ومتحررتاً وفيها بعداً إنسانياً وهذا قبل أعوام من الآن وما أدهشني في لحظتها أن قال لي دكتوري في الجامعة كأن إدورد سعيد يتحدث فسألت بستغراب من إدورد سعيد فبتسم وقال إقرأي كتبه.

    إنها مفارقة كيف أن يلتقي فكر بفكر آخر وأنت لم تقرأ لهذا الآخر إنها حقاً مفارقة عجيبة.

    فخري صالح أنني أؤيدك بأنه لم يعطي عمله حقه بل كان سريعاً في ما كتبه وكأنه على عجاله من أمره أنني أتعلم في مدرسة النقد وأعلم بأن العمل المتكامل والأشخاص الذين يبذلون جهداً عليهم أن يكونوا أكثر صبراً، أنني وبصفتي قارئه في مجال النقد للكتاب هذه الدراسة لم تجذبني
    أبداً وكأن فخري صالح بدأ يشتاق لتعلم هجائية النقد من جديد أنني أجد فخري صالح لم يقرأ ما يكفي لإدورد سعيد.

    ردحذف