الجمعة، سبتمبر 3

مدارات الصمت

قصة قصيرة
مدارات الصمت
اياد نصار

* نشرت في جريدة الدستور / الملحق الثقافي بتاريخ 3/9/2010

كنت نائماً، وحدي، في الغرفة الضيقة. الارض طينية موحلة في الخارج، والشوارع مقفرة الا من بعض القطط التي اتخذت من الزوايا والاسوار المتهدمة مساكن لها. بدأت أربعينية الشتاء قبل أيام قليلة. البرد قارس، والمطر يتساقط رذاذاً خفيفاً. الغيوم داكنة، لكن أشعة الشمس الذابلة الباردة ما تزال تنفذ من بين القطرات على إستحياء. لم يتوقف انهمار المطر في الايام الماضية. دفقت السيول قريباً من جدار الغرفة، وسالت الشوارع بلون التراب الابيض الناعم. رحلت مقالع الحجر ومعامل الطوب والبلاط التي كانت هنا، ذات يوم، ولم يبق سوى معامل صغيرة متهالكة. أسمع صوت آلاتها الأجش ودوران سيورها من غرفتي. سنوات طويلة وأنا أسمعها. صرت أعرف مواعيد تشغيلها اليومي وإطفائها. عندما يرتاح العمال قبيل الظهر لتناول الافطار أشعر بالهدوء والراحة!



قبل أن آتي الى هنا، كانت المنطقة حقلاً للتنقيب عن الفوسفات. ثم هجروها فصارت أطلالاً. جبال كبيرة كئيبة من الرمال البيضاء والرمادية المتكدسة تملأ المكان. تدل المقالع المهجورة، والجبال القاحلة، والرمال، على الخراب. إمتصت ما تبقى من حليب الارض، وتركت المنطقة ضرعاً يابساً! تنتشر المعدات الحديدية الصدئة والمخازن المتهدمة في كل ركن. يقول العارفون إنها كانت في الماضي مزارع خضراء على جانبي السيل، ولكنه تلوث بنفايات المصانع ومات. تصلني رائحته الكريهة اذا هبت الريح في اتجاهي. نهب التنقيب خيرات الارض وأحالها أكواماً هائلة من الرمال والاراضي الجرداء، فأصبحت مهجورة، الا من الفقراء الذين لفظتهم الدنيا، مثلي، فاستقر بهم المطاف هنا.


أسكن، وحدي، على رأس التلة. المنطقة هادئة ولكنها موحشة. أسمع زمجرة الذئاب في الليل. ثم جاء جاري أبو محمود وسكن بجانبي. رجل كبير مريض أثقلت الايام جسده بكل الامراض، فحمله أبناؤه وبنوا له غرفة صغيرة بالكاد تكفيه ليرتاح فيها من تعب الحياة. كان أولاده يزورونه في البداية باستمرار. لم يكونوا يمكثون عنده سوى وقت قصير ثم يرجعون. صارت زياراتهم تقل يوماً من بعد آخر، وأخذ يسود المكان هدوء وعزلة من جديد. بعد سنة جاء أولاده، من بعد غياب أشهر. سمعت أصوات عجلات سيارتهم وأبوابها. ترجل بعضهم وبعضهم بقي في السيارة. لم أكن أسترق السمع، ولكن لم يكن سوى أصواتهم. كانت كلماتهم باردة. سمعتهم يقولون أنهم كانوا مشغولين خلال العيد فلم يتمكنوا من زيارته. طلبوا منه أن يسامحهم، لكنه بقي صامتاً ولم يرد. بعد دقائق قليلة سمعت أصوات محركات السيارة تبتعد.


بالامس إنتهت آخر ايام العيد. كانت المنطقة تعج بالسيارات وأصوات الرائحين والغادين، كأنما دبت الحياة، في المكان، من جديد. جاء رجال كثيرون، ونسوة، وشيوخ، وعجائز، وأطفال. لم يكن سوى مجرد تقليد تعودوه! لا يعدو الامر سوى واجب لا بد منه! يقطعون مسافات طويلة لكنهم لا يمكثون سوى دقائق معدودة صامتين أو يتمتمون ببضع كلمات. قبل العيد كانت المنطقة هادئة الا من السيارات التي كانت تأتي، خلال النهار، تنقل الساكنين الجدد ثم ترحل.


الحاجة فاطمة تسكن، وحيدة، على بعد خطوات مني. مضى عليها ثلاث سنوات منذ أن أحضرها زوجها وأولادها هنا. كانت تعاني ضغط الدم والسكري. جاء زوجها مرة مع أولاده لزيارتها، ثم لم يعد. بقي أولادها يزورونها، بين الحين والاخر، لكنهم لم يأتوا في العام الماضي. جاؤوا بالامس للسلام عليها. كانت تريد أن تبكي أمامهم من الشوق، ولكنها تماسكت وبقيت صامتة.


إستقر الجو في الخارج. توقف المطر وبدأت أشعة الشمس تلتمع على حبات الرمل والصخور. ما يزال الهواء بارداً، والارض رطبة من شدة المطر خلال الايام الماضية. عاد السكون الى المكان الا من عربات تأتي، بين الحين والاخر، تحمل الساكنين الجدد. أسمع أصواتها بمجرد أن تقترب من أسفل الوادي.


أسمع أصوات سيارة تقترب. يعلو صوت المحرك كلما اقتربت. أسمع أصوات عجلاتها وهي تدوس على الحصى. لا يدل الصوت على أنها تحمل ساكنين جدداً. نزل منها ثلاثة شباب وإمرأتان. اسمع أصوات خطوات أقدامهم وهي تقترب من جدار غرفتي. كنت متمدداً أفكر في تلك الايام عندما كنت بينهم. رائد وجابر ومهند ودلال وسنية. تقدم رائد أكثر حتى شعرت به يكاد يلامس رأسي. تبعوه بهدوء وأقعوا القرفصاء عن جانبي. تمتم رائد ببعض كلمات، وجابر يردد من بعده. مهند ساكت كعادته. هو أصغرهم. شقي كباقي الاولاد في سنه. كل سنة أرى في عينيه نضوجاً أكثر. لكنه، ربما، لم يستوعب بعدُ معنى أن تكون هنا وحدك. عندما جئت الى هنا كان صغيراً لم يتجاوز عمره سبع سنوات. بكى قليلاً، حينها، ثم نسي.


دلال ولدت قبل مهند بثلاث سنوات. تدرس، الان، في الثانوية. أخشى على مستقبلها. تحملت كل هموم البيت على رأسها. كانت دائما الاولى بين زميلاتها في الصف. لكن الظروف تبدلت. صارت أقسى من أن تحتملها. لقد تراجعت كثيراً في دروسها وتراجعت أحلامها، أيضاً. ظروف البيت ومرض أمها أكبر منها. عندما جئت هنا بكت بكاء شديداً أياماً متواصلة حتى جف ماء عينيها. لكنها نسيت مع مرور السنوات. لم أرها منذ أن فارقتها. هذه أول مرة تأتي لزيارتي منذ ثماني سنوات. آه كم تغيرت ملامحها وكبرت. لا أدري ما الذي حصل حتى جاءت لزيارتي هذا العام.


رائد حبي الاول ومصيبتي معاً. أفنيت عمري في سبيله. أكبرهم في الرابعة والثلاثين من عمره. نادراً ما يأتي لزيارتي. قلبه قاس ولا يعني له الفراق شيئاً. لا أحس أن في قلبه إشتياقاً لي. وربما جاء معهم لأنه يقود السيارة التي يأتون بها. تخرج من كلية الحقوق بعد سبع سنوات. لقد دفعت سنية في سبيل تعليمه كل ما تركته لها ورائي. كان يبذر بغير حساب. له شلة لا يعرف من الدنيا غيرهم ولا يكترث لأحد سواهم. يذهب لآخر الدنيا معهم ولا يأتي هنا الا مرغماً. كان يأتي لزيارتي قبل أن يتزوج، بين حين وآخر، ولكنه، بعدها، لم يعد يأتي أبداً. كانت في يديه مسبحة ملونة يحرك خرزاتها، وسمعته يردد بعض كلمات كمن يردد شيئاً حفظه عن ظهر قلب. لكنها كانت بلا روح.


جابر هو الوحيد الذي بقي يزورني كل سنة. في الثامنة والعشرين ولم يتزوج بعد. بعد أن وُلد رائد. لم تحمل سنية ست سنوات كاملة. لا أدري ما الذي أصابها حتى توقفت عن الانجاب. كنت أريد أن أرى أطفالي وأنا صغير. لم أكن أريد أن أتزوج سنية، لكن أبي أصر عليها لأنها إبنة أخيه برغم ما يجمعهما من تجهم وعناد وتنافر. وانتقل التنافر والعناد الى علاقتي بسنية. عصبية لا تحتمل كلمة. في بداية زواجنا، كانت تترك البيت لأبسط خلاف. وبعد أن وُلد رائد، انشغلت به. مرت سنوات وأنا أنتظر سنية أن تحمل وهي لم تكن تكترث. كنت أرى في عينيها وفي تصرفاتها الجفاء. أطيق كل شيء الا الجفاء. كان يحفر عميقاً في أعماقي ويبعدني عنها، شيئاً فشيئاً. أردت أن اثبت لها أنها لن تستطيع إخضاعي بهذه الاساليب. تزوجت من إمرأة أخرى. غضبت وثارت وتركت البيت حوالي السنة. تدخل وجهاء البلد، أخيراً، وأعادوها.


جابر إبني من مريم. لكننا لم نبق مع بعض سوى سنة واحدة. لم تطق مريم أن يكون لها ضرّة فعادت الى بيت أهلها، وتركت جابر صغيراً ولم تعد. كنت أخشى عليه في هذا الجو المحموم. لكن سنية ربته مثل أولادها. انتقلنا بعدها للسكن في منطقة أخرى بعيداً عن أهلي وأهلها. بدأت تعود المياه لمجاريها، وصارت سنية أكثر ليناً وحناناً. بدأت أكتشف ما لم أكن أعرفه في شخصيتها من جو المشاكل الذي كنا نعيش فيه.


عندما دفنوني زرع جابر بيديه شجرة زيتون، وصار يتعهدها بالسقاية كلما جاء لزيارتي. كانت تأتي سنية معه كثيراً، لكن المرض ومسؤولية البيت أنهكا جسدها المتعب. أراد رائد أن يمشي فسمعت جابر يقول له إنتظر. بقي جابر يدعو بصوت مرتفع. كانت كلماته تؤثر في كثيراً، وتقلّب علي المواجع، وتثير حنيني. بعد قليل تحركوا نحو السيارة. سمعت أصوات خطواتهم تبتعد. ثم عاد جابر وفي يده زجاجة ماء. سمعت صوت الماء المنسكب يسقي الشجرة عند شاهد قبري. ثم حل الصمت مرة أخرى.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الاردني ضيف الله عبيدات

رابط الصفحة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق