الأحد، سبتمبر 12

حياة بين الاموات


حياة بين الاموات
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية يوم 13/9/2010
لست أدري.. هل كانت أمي السبب؟ أم أوهامي في لحظة ضعف؟ أم أفكاره الغريبة التي جاءت في غفلة من زمني ورسمت قدري؟ 


رحت الى آخر الدنيا معه، فوضعني في تقويم أناس غرباء، لم يكن يومهم يومي، ولا لسانهم لساني. شعرت أنني غريبة الوجه في أرض جرداء. لا أزال أتذكر تلك الليلة التي رجع فيها سليم الى البيت عند الفجر، وهو مضطرب وخائف، مثل قط يموء في ليل زمهرير. لم يكن كعادته. أدركت بأعماقي أن شيئاً قد حدث. سألته ، فلم يجبني غير الصمت. ألححت عليه، فهَمهم بكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً.. كظمت غيظي مثل كل النساء اللواتي يستشعرن ما يخفيه الرجال، ويصمتن خشية العاصفة. حاوت اقناعه أن يؤجل الزيارة ، لكنه أصر. أراد أن يتصالح معه قبل السفر. الدنيا حياة أو موت، كما قال. حاولت ثنيه، فلم أفلح. عندما رجع، بدا عليه القلق والتوتر. ظننته خائفاً من المغامرة. حاولت إقناعه بعدم السفر، لكنه عنيد.

- ليس عندك خبرة في الزراعة، فكيف تذهب؟ هل نقدر أن نعيش في مثل ذاك الحر؟

- أغلقت الابواب في وجهي، ولم يبق أمامي سواه. الراتب مغرٍ.

تركته يستريح، خشية أن يثور بي. وفي الصباح سافرنا الى الخرطوم.

يساورني القلق، فأكتمه في صدري. أحس بالفزع كلما تحركت بنا الطائرة فجأة.. الوقت يمر بطيئاً، والخوف يكبر في صدري، لكنني أكتم حزني عنه. عند وصولنا استقبلنا بعض أصدقائه في المطار، فارتحت قليلاً. أخذونا الى شقة مؤقتة ريثما يتسنى العثور على بيت مناسب. كان سليم يخرج الى العمل في الصباح فأبقى وحدي. أشعر بالقلق والخوف بين أربعة جدران في بلد غريب. عندما يعود، أمطره بأسلئتي. لعله الاحساس بالوحدة والملل. في اليوم الثالث حدثت مفاجأة لم أكن أتوقعها. رأيت سليم متردداً، وعلى شفتيه بوادر كلام يخبئه.. لكنه باح لي في نهاية المطاف. ستغلق الشركة أبوابها. صعقت.. خرجت مني شهقة لا ارادية.. نظرت اليه بتعجب. استغربت كثيراً. ولم أصدق.. لم يمض على وصولنا سوى أيام معدودة. أكد لي أن هذا ما حدث، وقد تقرر نقله الى فرعهم في كراتشي. شركة عالمية لها فروع ومزارع في دول عديدة. في اليوم الرابع كنت أنا وسليم على الطائرة المتجهة الى الباكستان. كانت رحلة طويلة ومتعبة. كنت متوترة وخائفة فلم أعش في حياتي بعيداً عن بيت أمي. لكن سليم طمأنني. الناس هناك مسلمون وعاداتهم قريبة منا. بدأت أسمع لغة لا أفهمها. يتحدثون بسرعة فأحس بالضيق. بعدما خرجنا من المطار رأيت في استقبالنا مجموعة من أصدقائه. سمعتهم يتحدثون العربية. شعرت بالارتياح. لن نكون وحدنا هنا. أخذونا الى محطة القطارات. ركبنا القطار حتى وصلنا بيشاور.

أمي كانت السبب.
قتلتني ببساطتها وحنانها وطيبتها. مضت الايام وأنا انتظر حظي كالحزينة. كل يوم أرى الحزن الصامت في عينيها، وأسمع زفرات الشكوى في أدعيتها التي تمتليء حسرة. مضت أعوام وأنا في هذا البيت القديم البائس. جدرانه مسودة متهالكة، والارض من حولنا خلاء موحش تعوي فيه الذئاب في الليل. ليس هناك كهرباء. يوماً بعد آخر زحف الناس الغلابى مثلنا وبنوا بيوتاً لهم أشبه بالخشش. إزدحمت المنطقة بعد سنوات، وصارت كالمخيم في إكتظاظها. منطقة مغبرة ذات طبيعة صحراوية بلا حياة! الشوارع متربة ضيقة، والمباني قديمة كالحة تثير في النفس الاحساس بالموت البطيء.

لم أعد أنتظر شاباً أو أتوقع خاطبة منذ سنوات. رضيت بنصيبي بسكوت وحزن كتمته في داخلي عن أعين الاخرين. لا أتذكر متى كانت آخر مرة أتى فيها رجال متزوجون يريدون أن يكيدوا زوجاتهم، أو أرامل يبحثون عن مربية لأطفالهم! روّضت نفسي على القبول بنصيبها. تلاشت آمالي سنة بعد أخرى. صرت في منتصف الثلاثينات، ولم يعد يأتي من يطلب يدي. المتزوجون والمطلقون والارامل لم يعودوا يطرقون بابنا.

بعد وفاة أبي إزداد خوف أمي عليّ. كانت تحمل همومي وخيبتي. كنت أحس ذلك في كلماتها. ذات نبرة قاسية تشف عن لوم وراءها كأنما تحمّلني مسؤولية مصيري. كانت تثيرني كلماتها. وحنين الامومة يثور في داخلي بين حين وآخر. أظنه جاء في لحظة ضعف وانتكاسة حينما صار البيت سجني. جاء في غفلة من أيامي ورسم قدري بألوانه السوداء.

إستولى على عقل أمي بهيئته الرزينة وثوبه. توجست من تشدده ، لكن أمي قالت إن من يعرف ربه يعرف زوجته. في منتصف الاربعين وقد طلّق زوجته. قال إنهما لم يتفاهما، لكني عرفت السبب الحقيقي بعدما تزوجنا. بعد زواجنا بسنة صار سليم عصبياً حاد المزاج، وترك العمل. خشيت أن أناقشه في الاسباب. سكتُ وتظاهرت بالفهم! مضت أشهر وهو يبحث عن عمل آخر. تعرف خلالها الى بعض الشباب، وصار يخرج معهم كل يوم. صار كثير الشكوى والتذمر. كنت أحاول أن أخفف من تأثيرهم عليه، لكنه لم يكن يسمع. صرت أحس أنه يائس من الحياة. زاد شعوره بالبطالة من نقمته على الدنيا. بدأت أخشى من التغير الذي أخذ يطرأ عليه. صار لا يسمح لي بأن أفتح التلفاز الا لمشاهدة الاخبار ثم يقفله، فكنت أنتهز غيابه مع أصحابه فأفتحه.

أمي كانت السبب.
لقد غيّر سليم حياتي. كانت لديه تصورات غريبة كأنما يريد تغيير شكل العالم. كان دائم الحديث عن همومه وإحساسه بأنه يجب أن يفعل شيئاً، فأحس بالقلق، لكني ألوذ بالصمت.

لو عرفت أمي مكاني الان، ماذا كان ليجري لها؟ لا مكان لي في الدنيا سوى هذه المقبرة التي أسكن فيها بين قبور الاموات. لم يعد الخوف من الموت يعني لي شيئاً. لكني أخاف على خولة. ماذا يصيبها عندما تدرك معنى الموت؟ هل تتحمل أعصابها الرعب؟ أسمع طوال اليوم كلاما لا أفهمه. ترطن نساء يلبسن البراقع الزرقاء من حولي كل الوقت. ليست هناك في تلك البقعة امرأة عربية سواي وسوى خديجة زوجة أنس. قصة خديجة تكاد تكون نسخة عن قصتي. جاء بها أنس من الجزائر ومعها طفلتان كأميرتين بشعرهما الاشقر ذي الجدائل المضفورة. لكن أمهما تلبسهما غطاء الرأس اذا خرجت بهما الى السوق. سليم زوجي، أو أبو البراء، كما يدعوه رفاقه هنا، لا يأتي سوى مرة في الشهر. يخشى أن تلاحقه الطائرات وتقصفنا جميعاً. في المرة الماضية دمرت الطائرات البيت الذي كنا نعيش فيه قرب الحدود. لحسن الحظ لم نكن ساعتها فيه. جاءت عند الفجر وألقت قنبلة اقتلعت البيت من أساسه وسوّته ركاماً. صرنا مطارَدين. لم نجد من مكان آمن سوى المقبرة. بنى سليم فيها بمساعدة بعض الرجال غرفة من الطين والحجر لي ولخولة. تأتي بعض النسوة أحيانا بصرر من قماش فيها بعض الطعام لنا، لكني لا أفهم لغتهن. ربما يفهمن كلماتي العربية. هكذا أحس وأنا أنظر الى وجوههن القاسية التي تروي ملامحها عذاب السنين.

أين كان ينتظرني هذا كله؟ صرت هاربة متخفية، وصار الشقاء عنواني الذي يلازمني. أهرب من خرائب الى خرائب، ومن واد الى واد، ومن كهف في الجبال الى آخر. لم تعد تهمني حياتي. أحس أن أيامي معدودة. ولكن من يهتم بخولة من بعدي؟ من يرعاها؟ أي يد حانية تنام عليها؟ من يرفو فستانها الممزق، ويمشط لها شعرها الاجعد؟ هل ستعرف أن تكتب اسمها ذات يوم، أم تبقى أمية مثلي؟

في كثير من الليالي وأنا أصارع الوحدة والخوف أتذكر أمي وأحنّ الى بيتنا القديم. ماتت قبل خمس سنوات من دون أن أراها، وأنا مشردة في أقاصي الدنيا. أحكي لخولة عنها وفي عيني دمعة. كنت أتمنى لو عاشت لترى ابنتي ذات الخمسة أعوام. لقد ولدتها في مخيم لعائلات المقاتلين العرب. كانت ظروف الولادة بدائية بائسة، ولولا مساعدة بعض النسوة لما عرفت ماذا أفعل. كم كانت قاسية وأمي ليست بجانبي. وسليم كان في مهمة قرب الحدود.

رأيت في المخيم بعض النساء اللواتي فقدن أزواجهن، وتقطعت بهن السبل. كل يوم كانت واحدة منا تصبح أرملة. بدا الامر كأنما كل واحدة تنتظر دورها. صار الموت شيئاً عادياً. صرت أخشى على خولة من مصير مجهول لو حدث لي شيء. كيف تواجه طفلة صغيرة الحياة في بلد غريب؟ أشعر بحنين الى بيت أمي، وأتساءل ما الذي أحضرنا الى هنا. ألم يكن لدينا من الهموم والشقاء ما يكفينا؟ فلماذا نحمل عذابات الاخرين أيضاً؟ وهل يحس الاخرون بنا وبحرماننا؟ أم أننا صرنا بيادق في معارك أكبر منا، تديرها رؤوس بها أحلام أكبر من أحلامنا؟ هل لحياتنا أي قيمة عندها؟ أحس أنني في مكان غريب عني، وأهله يرطنون بلغة لا أفهمها، فأشعر بالضيق. هل هذا هو قدري الذي كان ينتظرني؟ غريبة مشردة. بل صرت هاربة خطيرة تبحث عني كل جيوش العالم ومخابراته.

سمعت طرقاً قوياً سريعاً على الباب. أسرعت أفتحه وأنا خائفة متوجسة. كانت خديجة تبكي بصوت عال. وتضرب صدرها بيديها وتشد شعرها. معها ابنتاها، وثلاثتهن يبكين. أيقنت أن الدور جاء عليها. ضممتها الى صدري. كانت ترتجف من الصدمة. احتضنت الصغيرتين وأنا أمسح الدموع عن وجهيهما بيدي. غطى نشيج خديجة على صوتها. سمعت مثل قصة أنس الكثير هنا من النسوة وإن اختلفت الاسماء. تتكرر قصة خديجة مع كل امرأة تأتي هنا. أخذت أفكر في مصير خولة والالم يعتصرني. استيقظت من ذهولي على نحيب النساء من حولي، فانخرطت في البكاء معهن.

* اللوحة أعلاه بعنوان جزيرة الاموات للفنان سلفادور دالي (1904-1989)

رابط الصفحة في جريدة النهار

رابط الصفحة الكاملة pdf (انتظر قليلا ريثما يتم تحميل الملحق)


هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف7:34 م

    السلام عليكم استاذ/اياد
    قصتك جميلة جدا وتفاعلت معها كثيرا
    تمنياتى لك بدوام التوفيق واطلب من الله الاعانة على قراءة مافاتنى
    المعجبة بقلمك(امال)

    ردحذف
  2. أهلا بعودتك آمال ضيفة عزيزة وقارئة دائمة. لك مني كل المحبة والتقدير. أنت مثال للقاريء المتذوق الذي يحلل مضامين القصة ويقاربها بالنقد والتعليق على أسلوبها ولغتها.

    ردحذف
  3. الأستاذ العزيز اياد نصار

    سرقتني الإجازة والايام من أروقة هذا المكان، هذه القصة جميلة وسلسة، يعجبني فيما تكتب استاذنا العزيز ذلك السهل الممتنع الممهور بعلامة إبداعية مميزة لاتفارقك... شكرا لك
    وكل عام وانت بخير

    ناصر الريماوي

    ردحذف
  4. أهلا بطلتك الجميلة مرة أخرى على هذه الشرفة. ومرحبا بك دائما قاصاً مبدعاً ومثقفاً نشيطاً جديراً بالاشادة. أعتز بما سطرته حول اسلوبي في القصة القصيرة. أرجو لك كل نجاح باهر في مشروعك الابداعي، مع محبتي

    ردحذف