الاثنين، أبريل 7

دموع لكل الأحزان


دموع لكل الاحزان

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

يعاودني الحنينُ إلى الماضي. يستبدُّ بي بوجعه ولذِّته المؤلمة. يسيطرُ على تفكيري. أشلاءُ صورٍ باهتةٍ غامضةٍ تندفع إلى ذاكرتي. كنتُ أظن أنها انتهت إلى الابد، لكنَّ الماضي لا يموت. لماذا يأسرُنا بحنينه المزمن؟ المكان من حولي مزدحم. يمرُّ أناسٌ كثيرون يجرون عرباتِهم. أرجلٌ تتلاحقُ مارةً بسرعةٍ من أمامي. تتباعدُ الأرجلُ فيظهرُ لونُ جاكيتها الاحمر. تعود الارجلُ والعرباتُ تمرُّ بازدحامٍ أمامي. لا يبين من ملامحها سوى شعرها الاشقر الطويل وجاكيتِها الاحمر وربطةٍ صفراءَ وزرقاء اللون معقودةٍ بأناقة حول عنقها. روائحُ العطر تعبق بالمكان.. قويةً ناعمةً ساحرة.. تحسُّ بها تتسلل بين مساماتِ الجسد وتلافيفِ الدماغ. ذكريات الماضي تتماثل غامضةً متداخلةً رماديةً تهب كالريح الباردة فيرتعش لها الجلد وتبرز حبيباته من الرعشة. أنسى الإحساس بالمارة من حولي. لم تعد سوى مجرد خيالات تمشي. أغمض عيني وأرجع إلى الخلف قليلاً أعتصر مخيلتي. بعضهم ينظر إليّ. يعتقدون أنني نائمةٌ من الانتظار والملل. أنسى نفسي تنبش كهوف الذاكرة! إغرورقتْ عيني فتناولتُ محرمة ومسحتها خشيةَ أن تفضحني. أتظاهر أني طبيعية وأنظر حولي لأتأكد أنه لم يرني أحد. أتحسس الكيس بجانبي. ما يزال بجانبي بورقه الملون الجميل.

بعد ساعةٍ سأترُكُ مدينتي وأرحل. لا أريد أن أجدد الألم. يكفيني ألمُ الغربة ورؤية العمر الضائع في بلاد البرد بعيداً عن ليمونة أبي وياسمينة أمي وشارعنا الموحل في الشتاء. لقد صار تاريخاً وبقايا ذكرياتٍ لأجلِ أن تسقطَ الدموع. أحسب أن عندي دموعاً أكثر من غيري! دموعٌ لكل المرارات والأحزان التي مررنا بها تروي عوسجاً ينبت في القلب. الوقت يمر بطيئاً وصور الماضي البعيد لم تُمْحَ من رأسي.

هل كانت تكفي ساعتان لأطردَ تاريخَ ستةٍ وعشرين عاماً؟ هل كانت جولةٌ عابرة في شوارع المدينة وأحيائها وحاراتها تكفي كي أرى وجهَ المدينة الجديد وأنسى تاريخَها المحفورَ في ذاكرتي بالدم والرصاص والدخان؟ هل يمكن أن تنطبعَ صورُ المدينة الجديدة وتنمحي تلك الصور التي أحملها منذ أن تفتحت عيناي على شوارع شاتيلا؟

بعد ساعة سأرحل عنها وربما لن ألقاها مرة أخرى في زحمة الايام وفي خاطري صورةُ علي الجنوبي بوجهه الاسمر وبوادرِ لحيته الشقراء كالزغب في وجههِ المتسامحِ عند أبواب مطعم خليفة في حارة حريك. سأرحل وفي خاطري ابتسامةُ مصطفى وهو يفتح لي الباب ويرحب بي في الشيّاح. سأرحل وفي خاطري صورة جوني يقدم لي كأساً باردة في سن الفيل بعد تعب المشوار. استحضرت سنوات عمري الضائع بين الرصاص والمتاريس وصالات المطارات وردهات الفنادق وأرصفة الغربة. هل هذا التراب هو ذات التراب المندّى بدموع أمي ودماء أخي؟ بعد ساعةٍ سأنظرُ اليها من الجو وأنا أعود لثلوج الألب وفي عيني دمعةٌ باقيةٌ قبل الغياب.

تجلس بجاكيتها الاحمر وربطة عنقها الانيقة على كرسيٍّ أمامَ واجهات العطور. يتوقفُ رجالٌ ونساء بين عارضاتِ العطور وخزائنِها ينظرون إلى العلب الفاخرة ويشمّون رشاتٍ منها على أيديهم. يمر كثيرون يحملون أكياس الهدايا. هل يا تُرى بقيت شجرةُ الليمون التي زرعها أبي؟ وهل ما زالت ياسمينة أمي تكبر وتمتد بأزهارها الثلجية البيضاء على الاسوار فتملأ شوارعَ المخيم برائحتها الزكية؟ لقد تغيرت معالم الشوارع والأزقة والساحات. رأيت وجه المدينة مثقلاً بمكياجٍ متداخل بالالوان.

أخذت أتامَّلُ والطائرةُ تحوم في سماء بيروت إستعداداً للهبوط ملامحَ المدينة والبحر والجبال. هل تغيرت المعالم التي عرفتها؟ كنت في عمان لمدة أربعة أيام في زيارة عمل قصيرة. منذ أكثر من ستة أشهر ونحن نحضر لها. أحسست بالرهبة عندما وقع اختيارهم علي. لم يعرفوا كم ستثير في نفسي الحزن ومرارة الذكريات. هل سأقدم شيئاً لاولئك الذين لم يخرجوا أو يسمعَ صوتَهم أحد؟ الغريق قد لا تنقذه قشة، ولكن ربما تخفف عنه ألم النهاية!

كانت لقاءاتٌ مرهقةً ومتواصلةً طوال أيام المؤتمر. كنتُ سعيدةً ومترددةً أول الامر، فهذه أول مرة أشارك بحدث بهذا الحجم. كان مؤتمراً إقليمياً عن اللاجئين والمشردين. قد لا يعني لكثيرٍ من الناس هنا شيئاً، وربما تختزن ذاكرتُهم عشراتِ اللقاءات التي أقيمت ولم يرجعْ واحدٌ إلى أرضه! لكنني كنت موزعةَ الاحاسيس والانتماء. جئت مندوبةً عن منظمة تطوعية سويسرية. ولكن هل أستطيع أن أتخلى عن جلدي؟

شعرتُ بحنينٍ وأنا في سماء بيروت إلى تلك السنوات. لقد رحل أبي وأنا صغيرة لم أتجاوز الستَّ سنوات. رأيت يومها في بيتنا رجالاً ونساء كثيرين يبكون. لم أستوعب معنى الموت حينها. ولكنني كنت خائفة من جو الحزن والدموع فأبكي مع الباكيات. بعدها بأشهر اختفى خالي. قيل إنه تسلل إلى الكويت ليعمل فيها ولم نره بعد ذلك. عندما وقعت المأساة كان عمري ثمانية عشر عاماً. لم أكن أعرف كثيراً عن تاريخنا. ولكن أزقة المخيم والطين والوحل في كل مكان كانت كفيلةً بأن أعرفَ كل شيء. علمتني رؤيةُ أخي غارقاً في بركة دمائه وسماعُ نحيبِ أمي وهي تدور بأزقة المخيم كالمجنونة معنى الخوف والضياع.

قررت عندما حجزت للسفر عائدة إلى جنيف أن أتوقف في بيروت. لا بأس من جولة سريعة. ساعتان قبل الاقلاع من جديد. لقد اشتقت لها. استبدت بي فكرةٌ غريبة واشتعل بأعماقي حنينٌ لرؤية بيتنا والمخيم. أردت أن أتخلص من تاريخ طويل من الالم وحرقة الذكريات. إن أفضل وسيلة لنسيان الماضي هو أن تواجهَه لا أن تهربَ منه. لا بد من المواجهة لأدفن جراحي القديمة للابد. صورة أخي صريعاً على باب حوش الدار. رائحةُ الضحايا متكومين فوق بعضهم البعض. ابنه الذي لم يبلغ عامه الثالث بعد يسأل عن أبيه فتقول له أمه سافر. إبيضّت عينا أمي عليه من الحزن وماتت بعده بسنة. وهاجرت آمنه وإبنها إلى البرازيل. تخرّجت قبل المأساة وبقيت في البيت أنتظر من ينقذني من هذا البؤس. لم يكن أمامي غير العمل لأنفق على نفسي فقد مللتُ إحسانَ الآخرين وشفقتهم. عملت في أشياء مختلفة ولكنها لم تكن مستمرة. إلى أن زاروني ذات يوم في بيتنا، وعرفوا قصتي. بقوا في بيروت لمدة سنتين. لم يكونوا يتحدثون العربية إلا بضعَ كلماتٍ للتحية، ولكن إحساسَهم بمأساتنا كان بادياً في عيونهم، فساعدوني على الهجرة.

ما تزال بائعةُ العطر ذات الجاكيت الاحمر وربطة العنق الصفراء والزرقاء منشغلةً مع المسافرين الذين يتوقفون قليلاً لشراء بعض الهدايا والسجائر ثم يتوجهون إلى بواباتهم المخصصة للاقلاع. أطلتُ النظر اليها وهي تتحركُ برشاقةٍ بلباسها الانيق وتبتسم ابتسامتها التي لا تفارقُ وجهَها. نهضتُ عن مقعدي وحملت الكيس الملون في يدي. سرت نحوها. اقتربت منها. ابتسمتْ عندما رأتني. بادرتني بالتحية. بادلتُها الابتسامة. سألتها عن رأيها في اختيار شيء للذكرى. قالت: ما رأيكِ بعطرٍ نسائي جميل قد وصل حديثاً؟ قلت لها: لست مغرمةً كثيراً بالعطور. أريد شيئاً آخر.. أريد شيئاً حزيناً! نظرت إليّ باستغرابٍ وقالت: حزيناً؟! فقلت: لأن عندي دموعٌ لكل الأحزان. نظرتْ اليّ مستغربةً. ولكني قطعت عليها تساؤلاتِها وقلت: نعم ، أنا كذلك. أخذتْ تتطلع هنا وهناك. مشت خطواتٍ وقالت تفضلي معي. مشينا معاً إلى ركن آخر مقابل. تناولتْ قرصاً مضغوطاً وقالت: "ليس هناك أجمل من هذه لتذكرك ببيروت" وأشارت إلى صورتها. وتناولت صندوق سجائر وقالت: "وأنت تستمعين لها ليس هناك ألذُ من دخان سيجارة يتصاعد حولك. تخيلي نفسك وأنت تحتسين فنجاناً من القهوة وتسمعين صوتها الرائع: "بيروت هل ذرفت عيونك دمعة؟". اشتريت الهدايا ومشيت خطوات. التفتُّ إلى الوراء فوجدتها تنظرُ اليَّ وتبتسم وتهزُّ يدها مودّعةً. رفعتُ يدي ولوّحتُ لها ثم ابتعدتُ.
* اللوحة أعلاه للفنان الفلسطيني كامل المغني (1943-2008) بعنوان استمرار اللحن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق