السبت، يوليو 19

السقوط


السقوط
قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار
وقعت أحداث هذه القصة قبل سبعة عشر عاماً. لا زلت أذكر تفاصيلها بدقة كأنها اليوم رغم مضي السنوات الطويلة. تناول الحاج بركات كوب الشاي من يد أبي سعيد ورشف منه قليلاً بصوت عالٍ وهو جالس إلى جانبه في المحل. محلٌ قديمٌ ضيقٌ منزو ٍ في أحد الشوارع الضيقة. قلما يلاحظ أحد من المارة وجوده! معتم متهالك يثير منظره الكآبة! لا يوجد به تهويةٌ أو ثلاجةٌ ولا حتى مروحة!

جاء الحاج بركات ، كعادته كل يوم ، بعد العصر في أحد أيام شهر تموز اللاهب وقد هدأت الحركة بعض الشيء. الحاج بركات مغرم بسرد القصص ويروي تفاصيلها بدقة مذهلة. لكنه دائماً ينتظر الشرارة قبل أن يشرع في حكاية من حكاياته الطويلة! كان أبو سعيد يشكو من الازدحام والانتظار يوم أمس. أحس بوخزةٍ في صدره وضيقٍ في التنفس فأسرع به ابنه إلى المستشفى. رجلٌ عليلٌ متقاعدٌ رضي من الدنيا بهذا المحل الخَرِب. بالكاد يستطيع تحريك الاشياء من مكانها. كلُّ شيءٍ متكومٌ على بعضه، وربما شعر الزبائن بالشفقة عليه من الصناديق التي تتلف قبل أن يلمسها أحد. في الصيف تنبعث من المحل رائحة العفن. ولكنه إعتاد على الرائحة واعتاد زبائنه عليها أيضاً. لم تعد الرائحة تثير اهتمام زبائنه! بل صارت الاسعار حديث الناس. ولكن أبا سعيد كعادته يأخذ بواقي الخضار والفواكه ويبيعها بأسعار تقل عن المحلات في الحي! أخذ أبو سعيد يلعن الظروف فانتهزها الحاج بركات فرصة ليروي الحكاية!

"وقف الحاج صالح على طرف الميدان ينتظر الحافلة وهو يتكيء على عصاه التي ترافقه منذ خمسة عشر عاماً. يحمل كيساً من النايلون به مغلف بني. ليس غريباً عليه هذا الانتظار! صار مثل واجب يومي ثقيلِ الظّل! في السابعة والستين، لكن السكري والضغط قد أطاحا به. ولم يعد يقوى على المشي الا بمساعدة عكازه.

جو ربيعي في صباح خميس جميل. تهب نسائم هواء عليلة تحمل رائحة العشب الندي. هذه نهاية الطريق. ساحة عريضة يسميها الناس بالميدان. تلتقي فيها شوارعُ فرعيةٌ آتيةٌ من القرى المحيطة. يأتيها الناس من كل حدب وصوب. صارت مثلَ سوقٍ صغيرةٍ يفترش فيها الباعةُ أطرافَ الساحة. هنا ترى وتسمع كل أساليب المساومة بين مشترين فقراء وباعة ينتظرون الفرج! تخرج أصواتٌ عاليةٌ نشازٌ فجأةً فتمزق الهدوء. يلتفت الناس إلى مصدر الصوت ثم تعود الرؤوس لممارسة الرتابة اليومية. بدأ بعض الناس بالتجمع في انتظار الحافلة. المسافة إلى وسط المدينة بعيدة. أجرة الحافلة قروش قليلة يمكن احتمالها. لا يفكر أحدٌ من الواقفين في أخذ تاكسي! لا بد من انتظار الحافلة التالية! قد تأتي بعد لحظات قليلة، وقد تتأخر أكثر من ساعة حتى تصل!

يفتعل الركاب الواقفون أحاديث يتلهّون بها! تخرج تعليقاتٌ بصوتٍ عالٍ لعلّ أحداً يلتقطُ طرفَ الخيط ويبدأ الحديث! يتذمرون من طول الانتظار وتأخر الحافلة. وقد يحالفُ بعضَهم الحظُّ فيمر قريب أو صديق بسيارته فيتوقف له! تمر سيارة نقل كبيرة محملة بجرار الغاز، تقطع الصمت والملل. تطلق بوقها العالي الصاخب! فيتحول الحديث إلى الغاز وأسعار النفط!

أتى شيخ سبعيني من بعيد يجر جسمه النحيل بتثاقل. يتوقف أحياناً ويرفع رأسه ليتبين الطريق ويرى الناس من حوله. اقترب من الواقفين. همهم ببعض كلمات لم يسمعها أحد. وقف بآخر الدور وصار يتطلّع حواليه. بين حين وآخر يتمتم الشيخ سالم ويستغفر بهمهمات خافتة. بعد أن فرغ من أدعيته مشى قليلا ببطء حتى وصل عند الحاج صالح: "من زمان وأنت هنا يا حاج؟" "منذ نصف ساعة". "الله يتوب علينا من هذه الوقفة. إلى متى سنبقى واقفين؟ يضيع يومك وأنت تنتظر هنا". رد الحاج صالح: "شيء لا يطاق. يجب أن نشتكي عليهم". ضحك الشيخ سالم وقال: "يا ما اشتكيت. الوضع كما هو. بل صار أسوأ! الشركة تعبانة وحافلاتها تسير كالسلحفاة". سمع الحوارَ شابٌ كان يقف بالقرب منهما. قال بصوتٍ عالٍ: "لا تلتزم بوقت محدد للوقوف والوصول". رد عليه رجل خمسيني بنبرة سخرية كان يحمل في يديه بعض الاكياس: "يا سيدي لم نصل إلى هذه المرحلة! على الأقل نريد باصاً كل نصف ساعة"! فرد الشاب: "ما دام السائق لا يتحرك إلاّ بعد أن يمتليء الباص، فالوضع سيبقى كما هو"!

إن أفضل مكان لسماع القصص المريرة والهمهمات والشكوى هو موقف الحافلات! تتطور الأحاديث وتتشعب من تأخر الحافلة إلى الغلاء حتى تنتهي دائماً عند القضية الفلسطينية! وما دام الكل مجبراً على الانتظار ، فلا بد من الأحاديث التي تساهم في النسيان! وتعيد ذكريات أيام زمان!

أطلت الحافلة من بعيد بلونيها الأبيض والأحمر العتيدين. بدأ الناس في التقاط أكياسهم وأغراضهم والتحشّد عند رأس الدور! الوضعُ بائسٌ ومزرٍ ولكن الانتظار الطويل لا يسمح بتفويت الفرصة مرة أخرى! لا بد من المزاحمة والاّ ستنتظر مرةً أخرى! عندما فُتح الباب تدافع الناس. صعد الحاج صالح وهو يتكيء على حديد المقاعد، واختار مقعداً فارغاً قريباً من السائق وجلس! وضع العكاز أمامه وشعر أن الامور ستسير الآن على ما يرام. صعد الناس إلى الحافلة، وكل واحد يريد أن يجلس في مقعد فارغ وحده! صعد الشيخ سالم وجلس بجانب الحاج صالح. صعد باقي الركاب وبدأت الحافلة بالتحرك أخيراً.

تململ الشيخ سالم في مكانه ، عدل جلسته ووضع يديه على شماغه ، نظر جانباً إلى الحاج صالح وقال: لقد صار ركوب الباص بهدلة! إلى أين أنت ذاهب يا حاج؟
- إلى وسط البلد.. قالها بتنهد وأضاف: لتقديم طلب خط هاتف لبيت ابني
- ولكن تقديم الطلبات ليس في وسط البلد؟
- أعرف. سأستقل حافلة من المجمع في وسط البلد كي توصلني لمكاتب الشركة. ذهبت إلى هناك عدة مرات
- ولماذا تراجع أنت؟ أين ابنك؟
- مسافر. يعمل في الخليج. أبلغتنا الشركة أنه قد جاء الدور علينا
- منذ متى قدمتم الطلب؟
- قبل ثماني سنوات. حاولت كثيراً أن أستعجل التركيب. تدخلت لدى بعض الاصدقاء والمعارف ولكن دون نتيجة. قالوا أنه لا توجد أرقام جديدة لمنطقتنا!
- الشيخ سالم بابتسامة مهوّناً الامر عليه: لقد جاءنا الدور بعد مرور عشر سنوات!
- وأين أنت ذاهب؟
- إلى السجن.
- السجن؟ ولماذا؟ لا بد أنك تمزح.

توقفت الحافلة لتحميل بعض الركاب. صعدت بعض النسوة. كانت هناك مقاعدُ فارغةً في آخر الحافلة، لكنهنّ لم يذهبن اليها. بقين واقفاتٍ قرب الباب. كن يتلفتن في الجالسين لعل أحداً يخلي لهن مقعده. قام بعض الشبان من أماكنهم وذهبوا للمقاعد الخلفية فجلست النسوة مكانهم.
- قصة طويلة وغريبة لا عليك منها
- أرجو ألا يكون شيئاً سيئاً
- وهل السجن شيء طيب للحديث عنه؟ توقف لحظة وقال بنبرة حنين: لم نكن نعرف في زماننا مثل هذه الاشياء.
- زماننا لن يتكرر. ذهب ولن يعود.
شعر الحاج صالح أن الشيخَ سالم متحفظٌ ولا يريد أن يخبره عن السبب، فلم يكرر السؤال. بقي يجاريه كي يبقى الحوار متصلاً!
- هل هو قريب لك؟
- أجاب الشيخ سالم وهو ينظر بعينيه من النافذة إلى الشارع: نعم، ولولا ذلك لما تكبدت كل هذا العناء لأجله.
- هل هو ابنك؟
- لقد تعبت كثيراً في سبيله منذ أن دخل السجن
- شدة وتزول
قال ساخراً: لا أعتقد أنها ستزول. لقد بدأت الآن!

يدخّن السائقُ وهو يقود الحافلة. رجل ضخم قويُّ الجسمِ أسودُ الشعرِ عريضُ الشاربين يلبس قميصاً أبيضَ وقد صار مائلاً للسواد! سادت فترة صمت بين الحاج صالح والشيخ سالم. ينظر كل منهما إلى خارج الحافلة، أو يتأمل في الركاب الواقفين. صار الواقفون يتكدسون في الوسط. المسافة طويلة والحافلة تتوقف كل عدة مئات من الامتار. رحلة مضنية ومملة.
- منذ متى وأنت تزوره؟ هل سيبقى فترة طويلة؟
- منذ شهر. الله أعلم كم سيحكمون عليه
- ألم يحاكموه بعد؟
- ما زال في الحجز والمحاكمة جارية. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟
- ماذا حصل؟

يهب الهواء قوياً من النوافذ المفتوحة فيحمل معه دخان السجائر. بقيت الأصوات تتعالى كلما أراد أحد من الركاب النزول. المسافة من أقصى طرف ضاحية المدينة إلى وسطها مثل مشهد بانورامي. تمر الحافلة تارة بحي شعبي مكتظ بالسكان ، والبيوت كأنها صناديق متراكبة فوق بعضها، والأزقة ضيقة والأولاد يملأون الشوارع. وتارة تمر بحي بيوته من الفلل الفخمة والقصور والحدائق. مفارقات متواصلة!

قال الشيخ سالم: تزوج سعد منذ حوالي خمس سنوات. هو الرابع بين إخوته. توقف هنيهة ثم أضاف: إخوته الثلاثة تزوجوا قبله ورزقوا بأطفال. ولكنه بقي محروماً منهم. لقد أثر ذلك في نفسه كثيراً. ذهب للعلاج عند الاطباء دون فائدة.. كلما سمع عن معالج أو شيخ أو عطار ذهب إليه كالغريق الذي يتعلق بقشة. أنفق ماله واستدان من إخوته. ولكن بلا طائل.
- شيء صعب
- وأخيرا حملت. رأيت الفرح في عينيه وعينيها. صارت تراجع المستشفى بانتظام. صارت موضع اهتمام كل فرد في البيت. مضت شهور ونحن ننتظر قدومه. رجعت منذ شهر من المستشفى وهي تحمل طفلها ملفوفاً بين يديها مغتبطة به، وابني يكاد يطير من الفرح. لا أستطيع أن أصف الفرح في عيون أمه وأخواته. مضى أسبوعان ونحن في غاية السرور لأجل سعد وزوجته.

تغير صوت الشيخ سالم وصار خافتاً يشوبه الحزن. قال: أفقنا ذلك اليوم عند الفجر على صوت سيارات الشرطة تحيط بالمنزل. كان صوتها عالياً وأضواؤها تثير الخوف. نزل عدد من رجال الشرطة، وأخذوا يطرقون الباب.

دوّى صوت السائق فجأة عالياً: "لن يتوقف الباص مرة أخرى الاّ في المجمع بوسط المدينة. من يرغب في النزول فلينزل الآن". توقف الشيخ سالم عن الحديث. حمل أغراضه ونزل. شعر الحاج صالح بصدمة لم يكن قد أفاق منها بعد. بقي الشيخ صالح واجماً ولم يفق الاّ على صوت الركاب يجمعون أشياهم وينزلون. تفقد المغلف البني في يده. أمسك عكازة ونزل وهو يشعر بشيء من الدوار. وقف يفكر لحظات من أي طريق سيذهب. مشى خطوات بين السيارات. شعر بتعب وضيق في صدره. لم يعرف سبب هذا الشعور. هل هي القصة التي سمعها من الشيخ سالم ، أم عاوده المرض مرة أخرى؟ الجو حار عند الظهيرة وأشعة الشمس تلفح قوية. مشى وهو يرى الاشياء غائمة. إرتسمت لوحة سوداء أمام عينيه للحظات. شعر كأن الدنيا غرقت في ظلام دامس. مشى خطوات ولكن قدميه تخونانه. فقد توازنه للحظات. تماسك قليلا. لم يعد يرى أمامه بوضوح. شعر أن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله. وقعت العكازة من يده. هوى جسمه إلى الأرض وخرجت صرخة فجأة وسط اضطراب الناس الذين تجمهروا حوله.

فتح عينيه. كل شيء حوله قد تغير. نساء بملابس بيضاء يحدّقْنَ به من أعلى وهو نائم. لم يستوعب الأمر. بدأ يشم روائح نفاذة يعرفها من قبل. قال له شاب: أنت بخير الان. كل شيء سيكون على ما يرام. أنت في المستشفى. نظر إلى نفسه وتحسس رأسه ولم يعرف ماذا يقول. بقي في السرير نصف ساعة حتى بدأ يشعر أنه إسترد وعيه. تذكر الشيخ سالم في الحافلة هذا الصباح. تفقد عكازته كانت ما تزال حوله. جاءه طبيب وقال له: إن وضعك جيد. وبإمكانك أن تمشي. سأل: ماذا حصل لي؟
- لقد وقعت في الشارع وقد حملك الناس إلى هنا. مجرد دوار بسيط.
- متى سأخرج من هنا؟
- أنت على ما يرام. ولكن أريدك أن تذهب لقسم الأشعة لعمل صورة وتعود إلى هنا كي نعرف ماذا جرى لك.

وقف متثاقلاً متعبا ًوالصداع يشق رأسه وبصره ما زال مشوشاً. مشى متمايلاً على عكازه. بقي يمشي ببطء وتثاقل وهو يتكيء على الجدار. شاهد لوحة أمامه. فتح الباب ودخل. الغرفة معتمة بعض الشيء. حديد وإسمنت وطوب بأرضها. ألواح من الخشب وسقالات حديد ملقاة في كل مكان. عثرت قدمه .. وقع .. دوّى صوت ارتطام رأسه بالحديد. صرخ ولكن صرخته ضاعت في الظلام. بقي متكوماً يئن على الحديد ونَفَسُه يكاد ينقطع.حاول أن ينهض أو يصرخ. لكنه لم يقدر. تلاشت الأصوات خافتةً شيئاً فشيئاً حتى خمدت".

كان أبو سعيد يصغي إلى حديث الحاج بركات بكل توجس، وقد نسي أن يشرب الشاي حتى صار لونه أسودَ مثل السوس! وأضاف: ثلاثة أيام لم يدر به أحد حتى رآه عامل النظافة! دخل زبون للمحل. بدأ الزبون يتحدث مع أبي سعيد ولكنه كان سارح الذهن مشتت الفكر في عالم آخر. عندما انتهى الزبون من شراء حاجياته انتبه أبو سعيد أن الحاج بركات قد غادر المحل من غير أن يحس به!

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925-2004)

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف5:59 م

    السلام عليكم يااستاذ/اياد اشكرك على هذه القصة ففى اول القصة طرحت اهم قضية تشغل العالم الان وهى الارتفاع الفاحش للاسعار بالاضافة الى التكدس السكانى والفرق الطبقى بس انا زعلانة لموت الشيخ صالح ملحوظه(هو فى الاردن بيقولو فلافل زينا فى اسكندرية) ادام الله حياتك فنا(امال)

    ردحذف
  2. أشكرك على هذه القراءة الواعية للقصة وكلماتك اللطيفة. قصة ابن الشيخ سالم وزوجته من جهة وموت الحاج صالح هو جزء من السقوط الاخلاقي والانساني والحضاري. أرجو النظر الى تفاصيل قصة الرحلة في الحافلة والمهمة التي ينطلق كل منهما لاجلها على انها جزء من هذا الانهيار الذي أصاب حياتنا والسقوط القيمي. وشكرا لمرورك الجميل.

    ردحذف