السبت، مايو 24

نحو عالم آخر

نحو عالم ٍ آخر
قصة قصيرة
بقلم: ايـاد نصار

دفع البوابة الخارجية الحديدية السوداء الثقيلة بيديه فانزلقت على مسارها .. لم يدق الجرس الخارجي فقد كان يعرف الفيلا جيداً .. مشى فوق الممر المرصوف بالرخام وهو يتطلع حواليه .. ما تزال الورود المتفتحة من مختلف الانواع والالوان الزاهية تزين المكان بحسنها ورونقها والنباتات والحشائش تملؤه إخضراراً يبعث على الاحساس بالروعة والهدوء. كانت رائحة الورود والحشائش تنشر عبيراً قوياً يزكم الانف بالشذى الذي يمكنك أن تشمه حتى بمجرد مرورك حول السور الخارجي للفيلا. كانت الاشجار العالية تحيط بها من كل جانب، والشجيرات الخضراء اليانعة تقف في كل زاوية. كانت الحديقة الخلفية آية ً في التنسيق والجمال. وصل الى المدخل العالي الكبير ذي الاعمدة ذات الطراز الروماني والتاجيات المنقوشة المزركشة والواجهات الحجرية المنحوتة بأشكالٍ جماليةٍ شتى والمقاعد الرخامية التي وضعت عليها أصايص الزهور.

كلما جاء لهذا المكان شعر بالمفارقة العجيبة بين واقعه وأمنياته الحالمة. دقّ الجرس .. فُتح الباب وأطلت ماري ذات الملامح الاسيوية السمراء .. كانت تبتسم كعادتها .. قالت بلغةٍ ركيكةٍ ونبرةٍ غريبةٍ: تفضل مستر فكري .. ماما عايده ستنزل بعد قليل .. دخل فكري الى الداخل وهو يبتسم. قال بصوتٍ خفيضٍ: أوكي. سأل ماري التي تتزنّر دائما بمريول التنظيف إن كانت السيدة عايده قد استيقظت من النوم. قالت نعم. مشى نحو المقاعد الوثيرة والتحف الفضية والكريستال التي تنتصب في كل مكان من البهو .. جلس قليلاً ووضع المغلف الذي كان يحمله جانباً .. أخذ يتفحص المكان بنظره .. لم يتغير شيء منذ ستة أشهر .. ما تزال براويز الصور الفضية الثمينة والرسومات المعلقة على الحائط وقوائم الانارة والقطع الزجاجية المنحوتة الصغيرة وآنية الورد الخزفية والشمع والاشكال والمجسمات المعدنية اللامعة على حالها .. وما تزال مزهريات الورد وأواني النباتات المتسلقة والممتدة الخضراء كما شاهدها آخر مرة. ولم يطل تأمله في المكان فقد قطع عليه رجلٌ قصيرٌ القامةِ مربوعُ الهيئةِ أسمرُ البشرةِ تبدو عليه ملامحُ عربيةٌ إفريقيةٌ إستغراقَه في تذكّر تفاصيل المكان في الخريف الماضي. لم يكن هذا الرجل هنا المرة الماضية. لا بدّ أنه جديد. يعرف فكري أن هناك عدداً من الخدم والفراشين يقيمون بالمكان عدا عن السائق. يراهم دائماً في حركة دائبة. مهمّتهم أن يبقى المكان نظيفاً يشع أناقةً وترتيباً! بدت علامات الابتسام والترحيب في وجهه وكلماته. قال: أهلا سيد فكري. المدام ستكون هنا بعد ربع ساعة. ماذا تحب أن تشرب؟ لقد حانت اللحظة التي يتمناها دائماً! فقد قدموا له مرة كركديه مثلجا بلونه القرمزي الفاتح. فصار يطلب الكركديه كل مرة! وهو لم يشربه منذ أن سافرت مدام عايده آخر مرة قبل ستة أشهر. قال: كركديه .. وأضاف متسائلاً: عفوا ما اسمك؟ أجاب: هاني.

تذكر فكري الشاب سيد ذا الثلاثين عاماً .. كان شاباً لطيفاً هادئاً، ولكنه تحول فجأة الى شخص غريب الاطوار .. أراد الانتحار وحمل السكين وهو يهدّد بقطع وريديه اذا لم تسمح له مدام عايده بالسفر. حدث ذلك العام الماضي. لم يطق أن يبقى هنا في الصيف من غير أن يرى أهله. كان خاطباً أيضاً. ولكن مدام عايده لم تأذن له، فقد سافر عدد من زملائه ممن صار لهم فترة طويلة، وأبقته هو كونه لم يكن قد مرَّ عليه سنة. لم تكن تتخيل ان يسافر كل الخدم وتبقى هي لوحدها .. كيف ستتصرف عندها، وهي سيدة معروفة في المجتمع وبيتها دائما عامر بالزوار والصديقات! أصيبت مدام عايده بالخوف والهلع من تصرفاته. وأحست بالرعب لو فكر أن يقتلها! فأدركت خطورة أن يبقى في منزلها. فاحتالت عليه حتى وصلت الشرطة. ولم يعد بعدها هنا نهائيا! بقيت مدام عايده تحت تأثير الخوف تحكي قصته لكل من تعرفه شهرين كاملين!

بعد لحظات جاءت كاميليا ذات الملامح الاسيوية السمراء الداكنة وهي تحمل الكركديه بكأس ٍ نفيسةٍ جميلةٍ على صينية فاخرة. كانت امرأةً كبيرةَ السن ، سمينة ً ، ولكنها ذات طاقة على الحركة الدائبة .. كانت لغتها العربية ركيكة جداً ولغتها الانجليزية بالكاد تفهمها. ولكنها دائما تضحك! كانت بارعة كما تقول عنها دائما مدام عايده بالطهي واعداد المأكولات والحلويات. كانت مدام عايده من الطبقة الارستقراطية التي ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب . ولكن الشيء الجميل أنها لم تنس يوماً قصة كفاح والدها الذي خرج من قريتهم لا يملك ما يدفع به أجرة الطريق حتى وصل العاصمة. وهناك عمل كأي صبي ترك المدرسة في مهنٍ شتى حتى انفتح له باب الحظ وابتسم له. بل ضحك له بملء شدقيه! فصار من أعيان البلد ومن كبار التجار فيها. كانت مدام عايده تحب ان تعكس الفخامة والثراء في كل قطعة تضعها في بيتها. يبدو أنها قضت عمرها كلها تجمعها. يوجد لديها ما يمكن أن يصنع متحفا بأكمله أو يؤثث قصراً من قصور أوروبا من العصور الوسطى!

كان فكري يعمل محاسباً في مؤسسة صغيرة للخدمات المكتبية والتجارية تديرها امرأة أعمالٍ كانت في بداية عهدها بالعمل التجاري. كانت قد حولت جزءا من منزلها ليكون مكاتبا للمؤسسة. لم تكن متزوجةً ويبدو أنها استسلمت للقدر واعتقدت أن القطار قد فاتها، لهذا قررت أن تفتح مؤسسة ً تعيش من ورائها. و كان أبواها كبيرين في السن ولم يعودا قادرين على مساندتها. فصارت تفكر كيف تعتمد على نفسها وتستقل بحياتها لو حصل لهما شيء. كان لديها حس فني تكتشفه بمجرد دخولك المؤسسة. اللوحات والتحف والقطع والهدايا المكتبية والعبارات ذات المعاني الذكية المعلقة هنا وهناك. كانت تعتبر نفسها من الاسر البرجوازية التي جعلت المناصب الحكومية والدها ذا شأن ٍ في البلد. وكانت دائما تحرص على مظهرها أن يكون متميزاً! كانت شهلا تدير المؤسسة بعقلية مهنية فيها شيء من السذاجة بعض الشيء. ولكنها كانت تتقاضى مبالغ كبيرةً لقاء خدماتها لتبقى تعيش في مستوى حياتها الذي تعودت عليه! وكانت تبرر ذلك بجودة ودقة ما تقدمه للزبائن من خدمات. لم تكن تطيق الخطأ والتأخير! ولهذا تغير الموظفون عندها مراراً! كانت تؤنب موظفيها بطريقةٍ لا ترحم اذا لم يراعوا الدقة والوقت! وبرغم رقة مظهرها، الا انها كانت قوية وذات قدرة عالية على الاحتمال والعمل لساعات طويلة. وبسبب قصر عهدها بالسوق وخفاياه وممارساته، فقد كانت تتعامل مع الاخرين ببساطة وصرامة، ولا تتقن فن المماطلة والوعود الكاذبة. ولهذا لم يكن لديها سوى زبائن قلة بالسوق، ولكن الذين كانوا يتعاملون معها كانوا يكفونها لبقاء المؤسسة على قدميها! ولكن بعد فترة كثر المنافسون وتطورت وكثرت أساليب الدعاية وجذب الانظار وصار الدخلاء يعرضون أسعاراً محروقةً لمجرد الحصول على الزبائن! كانت سوقاً شرسةً لا ترحم ولم تكن شهلا قادرة على التكيف معها. ولهذا حملت عصاها ورحلت الى البرازيل بمجرد أن تزوجت!

قبل أن ترحل قالت شهلا لفكري: لا أعرف ماذا أفعل مع مدام عايده. قال: ما بها؟ هل رجعت من السفر؟ وهل عادت تطلب منا ما كانت تطلبه سابقا قبل سفرها؟ قالت: كما تعرف فإنها صديقة قديمة وتتعامل معنا منذ فترة طويلة، وتعتمد علينا بكل شيء . كما أنك أنت من يعد لها سجلاتها وقيودها المحاسبية. ولا تعرف غيرنا ليقوم بهذه الاعمال. قالت شهلا لقد اتصلت بي مدام عايده عندما عرفت أنني سأغلق المكتب قلقة ًولا تعرف من سيتولى إعداد ما نعمله لها حالياً، وخصوصا أن هناك مناسبة على الابواب ستحتفل بها ، ولا بد من التحضير لها خلال أسبوع . كان فكري في خضم افكاره حينما كانت شهلا تسرد الموقف. فقد بقي معها حتى النهاية عندما ترك باقي الموظفين. بعضهم لم ينتظر بمجرد ان عرف نواياها فقد بحث عن فرصة أخرى في مكان آخر وإستقال من عندها، وبعضهم جاء اليوم الذي سلمتهم فيه آخر شيك وودّعتهم بكلمات مقتضبة، فكان وداعاً حزيناً بائساً. سيعودون للبحث عن مكان آخر في وقت عزّت فيه الوظائف! كانت هناك سهام التي تزوجت حديثاً. كانت تحتاج الوظيفة كي تساعد زوجها، وربما إقترن بها زوجها لانها تعمل! فقد انتشرت هذه الظاهرة هذه الايام بمجرد أن تعمل الفتاة يأتيها الخطّاب. تبقى سنوات في بيت أهلها من غير عمل ولا يتقدم لها أحد! فكر فكري في علياء إبنة جيرانهم. تخرجت من الجامعة بشهادة إمتياز في التاريخ ، وقعدت في بيت أهلها ثلاث سنوات، ولم يتقدم لها أحد لا من الاقارب ولا الغرباء رغم أنها جميلة. ولكن إستطاع والدها بعد جهدٍ جهيدٍ وبفضل علاقاته أن يحصل لها على وظيفة حكومية براتبٍ عالٍ وفي مؤسسة مرموقة. فتقدّم إبن عمّها لخطبتها في نفس الاسبوع وصار يُلحّ على والدها لعقد القران!

استغرب فكري من اهتمام شهلا بمدام عايده ولم تفكر به ولم تقل له كلمة واحدة أو تناقش معه شيئاً عن مصيره. هل كانت ستنتظر اليوم الاخير الذي تغلق فيه المؤسسة وتصفي اعمالها نهائياً وتتخلص من أثاثها والآتها وتسلّم الاعمال الباقية لاصحابها لتقول له شكراً؟! لم ينبس ببنت شفة في هذا الموضوع، فقد كان ينتظر منها أن تفتح معه الموضوع لكي تظهر على الاقل إهتماماً به يحتم الواجب عليها أن تفعله بعد أن خدمها طوال هذه السنوات. لم يكن فكري يتولى أعمال المحاسبة للمؤسسة وحسب، بل كان عملياً يقوم بكل شيء: الشراء والدفع وتسجيل الطلبيات والبحث عن اللوازم والادوات التي تحتاجها المؤسسة وإيصال بعض الاعمال الى أصحابها. وكان يتولى الاشراف على تجهيز طلبات مدام عايده حتى تكون حسب المواصفات التي طلبتها ويقوم بإيصالها لمنزلها. ولكن شهلا لم تفعل لغاية الان. وبدأ يردد بينه وبين نفسه المثل القائل سبع صنايع والبخت ضايع! صار يحس فكري أنها تتجاهل مسئوليتها، وربما لو ابدت تعاطفا معنويا بكلمات تطيّب خاطره بها لما أحس بغضب وغبن في داخله. من يوم أن تزوجت شهلا لم يعد العمل مصدر إهتمامها الاول، ولم تعد تهتم بأخبار موظفيها كما في السابق. الجميع بدأ يحس ويلاحظ قلة إهتمامها، وقالوا ربما لانها مشغولة بزوجها بعد سنوات طويلة من الانتظار!

قالت شهلا لفكري أنها وعدت مدام عايده أن تبحث لها عن شخص بديل، ولكنها لا تجد شخصاً مناسباً أكثر منه. وقالت بشيء من الشفقة عندما تتوقف المؤسسة عن العمل بامكانك العمل معها بشكل مؤقت حتى تجد لنفسك مكانا اخر. إستغرب فكري من الطريقة التي طرحت فيها مصيره، ولكنه بأعماقه لم يتوقع منها اكثر من ذلك فعلاقاتها محدودة وأصحاب المؤسسات التجارية وموظفو الدوائر والزبائن الاخرون الذين التي يتعاملون معها قليلون، ولم تَبْنِ عبر سنواتٍ من التعامل معهم أية صداقة تتيح لها مساعدته في البحث عن مكان مناسب عند أحد منهم. فلم تكن تحب الاختلاط بالناس كثيراً، ولم تكن من طبيعتها أن تخلط بين العمل والامور الشخصية، ولم تكن تحب أن تعرف عنهم أكثر مما تعرف لاغراض العمل. قالت له أرجوك اذهب اليها في الغد اذا أحببت وأخبرها أنك تستطيع القيام بتأمين كل طلباتها من خلال معارفك الخاصة ومعرفتك بالمكاتب الاخرى التي تقدم نفس الخدمات التي تطلبها والتي يمكن أن تساعدك في انجاز كل ما تطلبه، وبالتأكيد ستكافئك على ما تقوم به لاجلها.
وبينما هو مستغرقٌ بالتأمل في الاشياء الجميلة والنادرة التي تحيط به من كل زاوية في الفيلا الواسعة كأنها قصر، وبينما كان يفكر في كلام شهلا له بالأمس، سمع صوتَ خطواتٍ قادمة. كان هاني مرة أخرى يرجو منه أن يتفضل الى قاعة غرفة الجلوس حيث مدام عايدة بانتظاره. لما رأته أخذت ترحب به ترحيباً كثيراً على غير عادتها التي يعرفها. سألته عن أحواله وعمله. كانت تتكلم بسرعة دائما بالكاد يستطيع من يحدثها أن ينتهز فرصة للرد أو إبتداء الكلام. وقد عانى فكري من هذه الناحية ولكنه يبدو تعود عليها. لهذا إنتهز أول فرصة وقطع أسئلتها! قال لها: "الحمد لله على السلامة من زمان طويل لم نرك. أتمنى أن تكوني بخير. كيف كانت نتائج زيارتك للعلاج في بوسطن؟ ماذا قال الاطباء؟" رنّ جرس الهاتف فردت مدام عايده. كانت سوسن صديقتها تطمئن عليها. أخذت تروي لها رحلة السفر والعودة وطبيعة إقامتها في بوسطن. لا تتوقف الهواتف في بيتها عن الرنين. يعرف فكري ذلك منذ أن دخل بيتها للمرة الاولى قبل أكثر من أربع سنوات. بالكاد يستطيع أن يكمل معها حواراً قصيراً قبل أن يرن الهاتف. أحست مدام عايده أنها لم تجب بعد على أسئلة فكري التي يطمئن بها عليها. فقالت الكل يتصل للاطمئنان علي. ولكن كل شيء يسير على ما يرام وهناك تحسن كبير. ولكن مرحلة الخطر قد زالت. وأضافت لقد عدت الاسبوع الماضي. قال نعم أتذكر آخر مرة كنت أجلس هنا في شهر نوفمبر الماضي.

اتصلت بكاميليا فلما حضرت، قالت لها أحضري بعض الحلوى والقهوة لفكري. كانت السيجارة في يدها. لم تكن السيجارة لتنطفيء من يدها في السابق. كانت تدخن نوعاً نسائياً رفيعاً رقيقاً. وكلما طلب منها أحد أن تتركه أو تخفف منه، قالت هذا نوع قليل النيكوتين! تدخن منذ زمن طويل بعد أن تركها زوجها ورحل، وكان إبنها وإبنتها صغيرين في بداية حياتهما. تدل الصور الكثيرة بالابيض والاسود التي تملأ البراويز في أرجاء الغرفة لها معه ومع أطفالهما على السعادة التي يبدو كانت تظلل حياتهما. تتذكر سيرته دائما ولكنها لا تنسى أن تضيف اليها دائماً كيف تحملت المسؤولية لوحدها صغيرة في سبيل أولادها. لقد ترك زوجها ثروةً كبيرةً وراءه فقد كان رجل أعمال مشهور، كما أنها نشأت في أسرة ثرية إستطاع ابوها أن يبنيها ويجمع حوله أولاده. تناولت قدحاً من القهوة. تعشق القهوة مع السيجارة، ولا تنتهي أباريق القهوة عن طاولتها التي تكتب عليها ولا من أركان المنزل المختلفة. فحيثما جلست تحب أن تصب القهوة وتشرب مع السيجارة. يغلب على حديثها الحزن والشكوى فتشعر عندما تخبرك بما مرّ بحياتها من أحداث أنها رفيقة الاحزان طوال حياتها.

سرح فكري قليلاً وتذكر كيف كان وضعها النفسي قبل سنة من الان. لقد كان في زيارة عمل لها لتحضير بعض المواد والتجهيزات التي طلبتها في الصيف الماضي. كانت في غاية الاكتئاب والحزن والخوف. شعر بحالتها تماماً. فقد كانت ملامح الخوف والقلق بادية في تصرفاتها وفي كلامها، فأحس أن في الامر شيئاً ما. فقالت بكل شجاعة لقد أخبرها الاطباء انها مصابة بالسرطان. أصيب فكري بالذهول، ولم يصدق ما سمع. قال كيف ذلك؟ من أخبرك؟ قالت له الاطباء عندما كانت تقوم بعمل فحوص روتينية للضغط الذي تعاني منه. ورغم انها أفصحت عن مرضها بجرأة ولم تخف الامر عنه، إلاّ أنه كان يحس بمدى القلق والخوف الذي يعتمل في صدرها. كانت شديدة الاهتمام بكل ما يقع تحت يديها من طرق للعلاج ونشرات طبية. شعر فكري انها ربما تريد أن تتعلق بأي أمل مهما كان ضئيلاً كالغريق الذي يتعلق بقشة، فقد غيرت من أسلوب حياتها في الطعام والنوم، وصارت تقبل على تناول المكونات الطبيعية والوصفات العشبية.

وبينما كان فكري يتناول بعض الحلوى التي أحضرتها كاميليا، فقد دخل مجدي. فتوقف للسلام القصير على فكري كما يفعل دائماً. أهلا بك كيف أحوالك؟ صار لي فترة طويلة لم أرك. كيف الشغل معك؟ كان مجدي ابن مدام عايده. كان يدير مؤسسة خاصة به ساعدته أمه على افتتاحها .. كانت أمه لا ترفض له طلباً، وتحرص على تلبية رغباته وتدليله بشكل يفوق الوصف. ثم خرج. قالت مدام عايده لا أعرف من أين تأتيني المصائب. مجدي طلق زوجته. حاولت كثيراً أن اوفق بينهما لكنهما لم ينسجما مع بعضهما. ثلاث سنوات وهما تحت رعايتي وفرت لهما خلالها كل ما يطلبانه ليكونا سعيدين، ولكنهما لم يتفاهما. وأضافت غريب هذا الجيل الطالع. في زماننا لم نكن نعرف كلمة الطلاق. كانت المرأة تتحمل المر مع زوجها وتبقى الى جانبه. ماذا ينقصهم؟ عقولهم صلبة لا تلين وعندهم أنانية، كل واحد يفكر بنفسه قبل غيره. رنّ جرس الهاتف. تبين فكري من ردودها ان صديقة لها على الطرف الاخر تهنئها بالعودة.

أخذت مدام عايدة تشرح لفكري ما تحتاج الى اعداده هذه المرة. وهو يسجل ما تريد. في كل مرة يكون لديها طلبات معينة بخصوص ما ترغب عمله وهو يسجل مواصفات المواد والاغراض التي تحتاج الى تصميمها أو إعدادها ، فقد كان يعرف نوعية الاعمال التي يتم تحضيرها عند شهلا وكان يقوم هو بتجهيزها أحياناً وإيصالها اليها. لاحظ هذه المرة أن نظرتها المتشائمة الحزينة قد تلاشت قليلاً وأنها أصبحت أكثر إيجابية وتفاؤلاً. عادت الى حيويتها التي أطاح بها المرض. شعر فكري أن مدام عايده قد عادت بروح جديدة ولديها عزم على الاستمرار. شعر أن رحيل شهلا وإغلاق المؤسسة قد جاء في أوانه. إستشعر أن عودة مدام عايده ورغبتها في إستئناف نشاطها القديم سيعوضه عن ذلك. شعر بقليل من الارتياح.

في صباح اليوم التالي كان فكري يودع شهلا ويحزم أغراضه. سألته عن لقائه بمدام عايده فأخبرها بما حصل من اللقاء. ابتسمت وشعرت بالرضا ان فكري سيستمر بخدمة صديقة عمرها القديمة، وانه سيجد ما يعمل به بعد سفرها. تمنى لها التوفيق في حياتها الجديدة في البرازيل مع شريك حياتها الجديد. وعندما كان يغادر المكان تطلع في أرجائه حيث شهدت كل زاوية فيه وكل غرفة وركن منه ذكريات جميلة ومريرة معاً في السنوات الماضية. وبرغم النهاية التي لم يكن يتوقع ان تقع بهذه السرعة، فانه سيبقى يتذكر ما مر به. وأغلق بالباب خلفه بهدوء وهو ينظر الى اللوحة الصغيرة عند مقبض الباب:" معنا نحو عالمٍ آخر"!

هناك 4 تعليقات:

  1. نجحت في رسم صور القصه و شدي الي متابعتها حتي النهايه ... رأيت ابطالها من خلال كلماتك و كأنني معهم .. سأرد علي قصتك بكلمات كتبتها في الرحيل أيضا
    قصة قصيرة بعناون الآخر
    كان في ذلك الصباح ثملا بقوة الصدمه ، مثقلا بألم تلك الطعنة القاتله .
    لم يشعر برغبة بالنهوض من فراشه أو مباشرة عمله , لم يتوقف جرس التليفون عن الرنين بالعديد من الارقام التي يعرفها والتي لايعرفها لكنه لم تداهمه حتي الرغبه بالرد .
    ظل في فراشه يتابع تساقط المطر من الشباك الصغير المجاور لا يتحرك ولا يتحرك شئ مما في رأسه و المنزل بأكمله غارق في صمت كئيب لا يتحمله .
    لقد عجز هو الفنان البارع عن رسم لوحته الخاصه . رفضت يداه أن تتعبد في أهم لوحاته .. كان طبيبا يرسم الابتسامه علي وجوه الناس و كانت يده ترسم بالمشارط اعظم لوحات في الفن .. فن معالجة الداء .
    لم يتعود أن يرسم بدونها ، تذكر كيف تركته هكذا دون أدني كلمه تعتذر له فيها عن الرحيل .. استسلمت للاخر دون مقاومه .
    لماذا لم تقاوم من أجله ألم يكن سببا كافيا للمقاومه ؟
    كان لها كل شئ .. نجاحه و ثقته و الدعاء الذي يسمعه بعد إنجاز عمله كان لها و لن يكن بعد الآن لانها رحلت و تركته هائما في مدينة مشاعره ..
    قالت له أنها لا تستطيع الرفض فهي مجرد فتاة تحت السيطرة و هناك أمور لا تستطيع أن تكون صاحبة الأمر فيها .. هكذا الدنيا و هكذا نحن .
    و استمرا بعد تلك الكلمات لعامين متتاليين و لم يعر هو للآخر اهتماما رغم معرفته بقدومه يوما ما لا يعلمه هو ..
    إلا أنه لم يتوقف عنه الامل في الفوز بها و لم يتوقف هو عن الحلم .
    كان يراه في عينيها يوما بعد يوم و لم يصدق .
    حاول بشتي الطرق قتله لكنه لم ينجح و في عينيها يوميا كان الآخر يؤكد له أنه لن يفوز .
    لم يكن بامكانه منعها مدام فشل في إنهاء الآخر ، و كيف يمكنه إبقائها معه للأبد ليحافظ علي كل مالها من نجاح.
    حتي جاءته تلك المكالمه التي أخبرته بالنهايه ..
    جاء الاخر ليكون ولا تكن .
    جاء الاخر رغما عنه في لحظة لم يحبها قط .
    الآن فقط تركته و ذهبت لتؤكد أول فشل في حياته .. فشل لم يحققه مع مرضي اخرين عالجهم من الآخر ....
    كانت مريضته و زوجته .......

    لكن لدي سؤال اخير هل انت اياد نصار الممثل و المذيع حقا ؟انتظر تعليقك علي قصتي القصيره اذا تفضلت ...

    ردحذف
  2. اشكرك جزيل الشكر على كتابة التعليق على القصة
    أولا: لا.. انا ليس الممثل الاردني . مجرد تشابه اسماء. ولكنه فنان يمتلك رصيد من الاعمال التي حظيت باهتمام عربي واسع
    ثانيا: بالنسبة لقصتك "الآخر" فهي تمتلك عناصر القصة بشكل واضح وقد أحسنت في نقل صور المكان والزمان وتجسيد الشخصيات والاهتمام بعالمها الداخلي لنقل حالاتها النفسية ومعاناتها وحلمها. كان هناك تركيز على الطبيب وعلى وصف مشاعره الداخليه وخيبة أمله والمرارة التي احس بها لان من أحبها قد تركته ولم تعره اي اهتمام، ربما لانها لم تكن صاحبة قرار وبذلك اصبحت هي الاخرى ضحية. ولكن كان بالامكان تطوير القصة لاعطاء المزيد عن الشخصيات الاخرى وتصوير حالاتها للنفسية وطموحاتها وآمالها وطريقة تفكيرها. فنحن لم نعرف عن المرأة سوى الشيء القليل ومن خلال عيون البطل. ولم نعرف عن الشخص الاخر الذي سرق منه الحلم اي شيء نهائيا سوى انه كان بينهما صراع للفوز بها. خلت القصة من الاسماء وقد يكون ذلك مقصودا عندما لا يكون للشخصيات هوية او حضور او تعاني من التهميش في المجتمع او تعاني من الشعور بالاغتراب. ولكن في هذه القصة ربما كان يمكن للاسم ان يضيف بعدا للشخصية.. لديك قدرة جميلة وبارعة على الاهتمام بالجانب النفسي واستخدام لغة فنية موحية، ولكن أنصحك بالابتعاد عن اللغة المباشرة او التي يبدو فيها الرواي وكأنه يقحم نظرته المثالية على الشخصيات او السرد. موضوع القصة الرئيسي جميل جدا وأعتقد انه كان بالامكان الاسترسال فيه لتناول جوانب اخرى مثل خلفية العلاقة بينهما وكيف بدأت وتطورت ولماذا تعرضت لهذه الهزة من فقدان الثقة، وما هي الاشكاليات التي أبعدتهما عن بعض بالاضافة الى طرح المواقف والقيم الاجتماعية التي تفرض نفسها على الشخصيات وتحدد مصيرهم في الحياة، كما كان بالامكان الحديث عن هموم الحياة اليومية والعمل.. الخ وأخيرا يحتاج النص الى مراجعة لغوية وشكرا لك مرة أخرى.

    ردحذف
  3. سيدي الفاضل
    أولا شكرا جزيلا علي اهتمامك بقصتي القصيرة و تعقيبك عليها ... و انها لصدفة سعيده ان اجد هذه المدونه وسط عشرات المدونات التي كنت ابحث فيها عن مدونة للقصه و انه ايضا لتشابه اسماء بينك و بين الممثل البارع اياد نصار ...
    لن أطيل عليك الحديث و لكني سأحاول أن أدافع عن بعض الجمل حول قصتي ...فأنا لست قاصة بارعه و لكن مجرد هاويه حصلت علي بعض الجوائز من خلال مدرستي الثانويه و الجامعه و علي الجانب الاخر عاشقه لقراءة الروايات و القصص ..
    فأنا أعمل مخرجة للأفلام الروائيه القصيرة و مصورة فوتوغرافيه ... اما عن قصتي فالاسماء لم تكون سوي أشياء هامشيه لانها لم تكن المحور الحقيقي للقصه و انما كان المحور هو الصراع مع الاخر ألا و هو الموت و هنا ممكن أن يتعرض لهذا الموقف العشرات من الاطباء و المرضي مهما اختلفت أسماؤهم لكن مشاعرهم واحدة لا اختلاف فيها .
    و الاخر هو قيمة ثابته في حياتنا لا تتغير ولا نستطيع اضفاء المسميات عليها او ظروف لان الاخر عادة يأتي مفاجأه حتي لو توقعنا وفاة شخص مريضا فنحن لا نحب أن نصدقه ... و الخلفيات الاجتماعيه و الثقافيه للأبطال لن تكن سوي مجرد سرد بعد النهايه التي وضعها الآخر .. كل ما هنالك أنني حاولت فقط أن أصف موقف كان فيه الآخر أقوي .. علي أية حال سعيدة أنا بنقدك لقصتي القصيرة و سعيدة بتلك المصادفه .

    ردحذف
  4. انها لفرصة سعيدة أن يجد الانسان مخرجا او فنانا في مجال التصوير ليس يعشق الادب الابداعي كالقصة او الرواية وحسب بل يكتبها ويعيش لحظات ولادتها. هناك تلازم كبير، ويضيف شيئا ذا قيمة للعمل الابداعي عندما يكون المخرج لديه حس فني وادبي وجمالي. هذا المزج بين رؤية الحدث من زاوية فكر وقلم الكاتب وعين الكاميرا المبدعة يضيف بعدا فكريا وجماليا لانه يركز على الحركة ولغة الجسد الايمائية وردة الفعل على وجوه الشخصيات. كما يصهر كل المشاهد في النهاية في بوتقةواحدة هي ذات الرسالة التي يحملها العمل للمشاهد. أتمنى لك التوفيق في أعمالك الفنية الاخراجية وفي كتابة القصة القصيرة ونطمح الى رؤية اعمال أخرى.

    ردحذف