السبت، ديسمبر 25

صباحات جنين.. التاريخ الروائي للنكبة الفلسطينية


"صباحات جنين" لسوزان أبو الهوى
التاريخ الروائي للنكبة الفلسطينية

إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 24/12/2010

تعد رواية "صباحات جنين" للروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى قصة نجاح باهرة خلال فترة وجيزة ، تثبت حضور صوت نسائي ملتزم بقضية أرضه وشعبه في الغرب ، وقدرته على فضح أكذوبة الرواية الصهيونية التي ارتكزت دائماً ، كما تقول قارئة أمريكية في رسالة بعثتها الى مؤلفة الرواية ، على إظهار أن العرب أشرار ، وأن ما جرى في فلسطين لم يكن جريمة بحق شعب آخر ، وتؤكد ، كما تقول بطلة الرواية ، بأن "الحقيقة التي لا مناص منها أن الشعب الفلسطيني دفع ثمن الهولوكوست".


تحتل "صباحات جنين" حيزاً كبيراً من المشهد الابداعي لأدب الاصوات المهاجرة هذه الأيام في الغرب ، وتحظى بتحليلات نقدية وتغطيات إعلامية متزايدة ، كما ترجمت الى عشرين لغة حتى الآن ، وستصدر نسخة معربة من الرواية في عام 2011 . ودعيت مؤلفتها الشابة للحديث عن كتابها وعن سيرتها في جامعات ومؤسسات ومهرجانات أدبية عدة في الولايات المتحدة وفي بريطانيا ، حيث شاركت في مهرجان الكتاب في لندن ، وفي دول أوروبية أخرى مثل النرويج والنمسا وايسلندة ، وأجريت معها عدة لقاءات صحفية من قبل بعض الصحف والمحطات الاعلامية الأجنبية المعروفة ، وهذا يدل على مدى الانتشار الذي تحظى به. كما تعرضت أبو الهوى للنقد بعد نشرها للرواية من قبل كثيرين ، ومن ضمنهم حاخام يهودي في نيويورك الذي زعم أن روايتها مختلقة ، ما حدا بالمنظمين لجلسة نقاش تشارك بها المؤلفة حول روايتها ، وتحت الضغط ، الى قصرها على مجرد حفل للتوقيع على نسخ كتابها.


وصفت الدكتورة حنان عشراوي الرواية بأنها: "رواية قوية وحساسة تلخص التجربة الفلسطينية بأمانة عالية وعاطفة مؤثرة". وقالت "تكشف سوزان أبو الهوى عن مهارات لغوية وتخيلية لديها ، ما ينبيء أنها ستكون أديبة لامعة..".


جاءت "صباحات جنين" التي صدرت في شهر شباط 2010 في نيويورك في 338 صفحة ، وتصنف الرواية التي تحكي قصة معاناة عائلة فلسطينية تتعرض للتهجير وسلب أراضيها عبر أربعة أجيال منذ عام 1941 وحتى الوقت الحاضر ضمن الرواية التاريخية ، وتركز على تأثير الصراع العربي الاسرائيلي على حياتها وواقعها ومستقبلها. وتروي معاناة شخصياتها من الفلسطينيين ، وخاصة أثناء الحروب التي لم تتوقف منذ ما يزيد عن ستة عقود ، من خلال قصة آمال التي تولد في مخيم للاجئين الفلسطينيين. يحمل الاسم دلالات رمزية تنطوي على التبشير بالأمل والنصر مهما طالت المعاناة ، يقول الأب حسن لابنته آمال في الفصل الثاني: "إن آمال بمدّ حرف العلة تعني الأماني والاحلام والكثير منها".


وقد شبّه الناشر أهمية الرواية في تعريف القارىء الغربي بمأساة الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم برواية "ربان الطائرة الورقية" للافغاني خالد حسيني حول مأساة الأفغان في بلادهم التي مزقتها الحروب.


صدرت طبعة سابقة من الرواية تحت عنوان "ندبة داود" ، وكانت تتسم بالتسلسل الزمني عن دار نشر صغيرة أغلقت بعد ذلك. وعندما بدأت الرواية تحقق نجاحات بعد ترجمتها الى الفرنسية ، فقد عرضت عليها دار نشر بلومزبري في الولايات المتحدة إعادة نشرها بعد تغيير العنوان ، واستخدام تقنية الانتقال بين صيغ الزمن المختلفة ، وهكذا ولد العنوان الجديد "صباحات جنين". وصار عنوان الرواية القديم هو عنوان الفصل الثالث في الرواية بصيغتها الجديدة. وفي حين أن شخصيات الرواية خيالية ، إلا أن أحداثها وأمكنتها وزمانها بنيت على أحداث واقعية حقيقية في أماكن حقيقية تسرد ملحمة النكبة الفلسطينية وحتى الوقت الحاضر.


تتكون الرواية من ثمانية فصول ، يتكون كل منها من عدة أجزاء. يحمل الفصل الأول عنوان "النكبة" ويتكون من سبعة أجزاء يدعى أولها "الحصاد" ، وفي نهاية هذا الفصل تولد آمال بطلة الرواية في عام ,1955 ويُدعى الفصل الثاني "النكسة". أما الفصل الثالث "ندبة داود" ، فيتكون من ثلاثة عشر جزءاً ، ويتحدث عن مأساة الأسرة بفقدان أحد أبنائها ، وينتهي بانتقال البطلة الى ملجأ للايتام في القدس. ويعد الفصل الخامس ، الذي جاء تحت عنوان "قلبي في بيروت" ، بالاضافة الى الفصل الثالث ، أطول فصول الرواية. ويلاحظ كثرة استخدام الكلمات العربية في متن الرواية وفي عناوين الفصول والاجزاء الى حد أن المؤلفة أرفقت في نهاية الكتاب ملحقاً طويلاً هو في الحقيقة قاموس بالكلمات العربية الكثيرة التي ترد في الرواية ، والتي يحتاج القارىء الغربي الى شرح معانيها بالانجليزية ، من مثل: النكبة ، والنكسة ، والغربة ، وزغاريت ، وسناسل ، وفلاحين ، وكوفية ، ومناقيش ، وكنافة ، وفول ، وحمص ودلعونا..الخ وعبارات من مثل: السلام عليكم ، والبقية بحياتك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وغيرها من العبارات الدارجة.


كانت البذرة الأساس للرواية ، كما ذكرت أبو الهوى ، هي رواية لغسان كنفاني ، رغم أنها لم تذكرها بالاسم وهي "عائد الى حيفا" ، والتي تنسى فيها عائلة فلسطينية خلال ذهول النكبة والتهجير طفلها في البيت فتجده عائلة يهودية استولت على البيت عقب حرب عام ,1948 كما كان للدكتورة عشراوي فضل في ولادة الرواية ، فقد أرسلت رسالة الى المؤلفة بعد أن قرأت لها مقالة تسرد فيها جانباً من طفولتها ، قائلة: "إنك تستطيعين كتابة سيرة من طراز رفيع. نحن بحاجة الى هذه الرواية". ولا بد من الاشارة الى أن الرواية تعتمد كثيراً على السيرة الذاتية للمؤلفة ، حيث أنها ذهبت في عام 2002 برفقة عدد من الكتاب والصحفيين والفنانين الغربيين الى مخيم جنين ، بعد المذبحة الوحشية التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية فيه في عام ,2001 وقالت بعد ذلك: "منحتني الفظائع التي رأيتها الرغبة الشديدة في البوح ، وكان صمود سكان مخيم جنين وشجاعتهم وانسانيتهم مصدر إلهامي".


ولدت سوزان أبو الهوى في مخيم جنين عام 1955 لأبوين لاجئين من فلسطين عام ,1948 وعندما وقعت حرب حزيران في عام 1967 ، نزحت عائلتها مرة أخرى الى الكويت ، وقد انتقلت الى الولايات المتحدة وهي في سن صغيرة ، حيث عاشت ودرست الطب ، وقد حصلت على شهادة الماجستير في عام ,2001 أسست أبو الهوى منظمة غير حكومية تسمى "ملاعب لفلسطين" ، وهي مؤسسة تهدف الى بناء ملاعب للاطفال في الاراضي المحتلة ومخيمات اللجوء. وبالاضافة الى روايتها ، تكتب مقالات في عدة صحف مثل ديلي نيويورك نيوز ، وشيكاغو تريبون ، وكريستيان ساينس مونيتور ، وفيلادلفيا إنكويرر.


تكتب أبو الهوى بأسلوب يعرف كيف يخاطب القارىء الغربي ويكسب عقله من خلال التركيز على الجانب الانساني للمأساة أكثر من تركيزها على الجانب السياسي الذي يكتشفه القارىء ضمناً. تمتاز الرواية بزاوية الرؤية الانسانية المتأثرة بالتوجهات الغربية ، لكنها تفضح منطلقات الأسطورة الصهيونية التي سيطرت على الاعلام الغربي ، دون الاغراق في الوطنية ، أو التقسيم الساذج الذي يرى الاشياء بالأبيض والاسود ، والذي لا يلقى عادة تعاطفاً كبيراً من القارىء الغربي. يمتاز الأسلوب بالقوة والعمق والدقة ، كما يعكس النص الروح الفلسطينية للشخصيات في لغتها وحواراتها وانشغالاتها.


ورغم أن المؤلفة تجيد مخاطبة القارىء الغربي بلغته التي يفهمها ، لكن لهجة الاسترضاء تبدو واضحة في بعض الأحيان ، ففي حوارات البطلة الاخيرة مع ابنتها سارة ، وبينما كانت الدبابات تتوغل في مخيم جنين ، تشرح آمال مآسيها التي مرت بها الى سارة ، وكان من ضمن ما قالته أنها حزنت "ثلاثة آلاف مرة على ضحايا الحادي عشر من أيلول" ، في إشارة الى الضحايا الذين قضوا في انهيار البرجين. وفي موضع آخر تقول آمال لشقيقها اسماعيل ، أو داود كما سمته زوجة الجندي الاسرائيلي الذي اختطفه من أمه خلال الهروب من قريتهم وربته كيهودي: "أنت وأنا بقايا إرث لم يتحقق ، ورثة مملكة من الهويات المسلوبة".


تفتتح الرواية بموقف متوتر يلخص معاني المواجهة والصراع في مشهد قصير في عام 2002 في مخيم جنين المدمر حينما تتقابل آمال، التي تأتي ضمن مجموعة من الأجانب للتحقق من الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل ، وجها لوجه مع جندي اسرائيلي يحمل السلاح. وتتساءل آمال إن كان المسؤولون "سيعبرون عن الأسى لموتها الخطأ كمواطنة أمريكية ، أم ستصبح حياتها تحت رحمة الاصابات العرضية" ، وسرعان ما نكتشف أن بطلة الرواية مواطنة فلسطينية أمريكية عائدة من المنفى ، وأن حجم الجريمة التي رأتها على أرض الواقع كان مؤثراً من ناحية انسانية الى درجة أثار فيها الذكريات الحزينة ودفعها الى البوح. ويحيل المشهد سريعاً الى بداية القصة الحقيقية في عام ,1941


تبدأ أحداث الرواية تاريخياً في قرية عين حوض شرق حيفا في فلسطين. وتحكي قصة عائلة الحاج يحيى أبو الهيجا ، التي تعيش مثل أية عائلة فلسطينية من الفلاحين قبل اغتصاب أراضيهم على زراعة الارض ، وتتمركز حياتهم حول قطاف الزيتون والتين ، في تقاليد متوارثة تقوم على حب الأرض والارتباط بها. للحاج يحيى ولدان هما درويش وحسن ، وخلال موسم الحصاد يقول حسن لأبيه إنه سوف يسافر الى القدس. يحذره والده من المشوار ، لأنه يعرف أن ابنه يريد أن يرى صديق طفولته اليهودي ، آري بيرلشتاين ، وهو ابن بروفيسور ألماني هرب من النازية. برغم الصراع بين العرب واليهود ، فإن توظيف علاقة الصداقة القوية بين حسن وآري ، مقصود لإظهار أن فلسطين كانت موطناً للتسامح وتعايش الاديان ، وأن العداء الفلسطيني للاسرائيليين ليس أساسه الدين.


تصور الرواية في أجزائها الاولى أجواء حياة العائلة التي تشغلها قضايا الارض والزراعة والزواج. تتعرض القرية الى أحداث مأساوية تعبث بهدوئها واستقرارها ، ألا وهي نكبة عام 1948 ، ثم نكسة حزيران ,1967 "في زمن بعيد ، وقبل أن يمر التاريخ فوق التلال ويعبث بالحاضر والمستقبل ، وقبل أن تقبض الريح الارض من إحدى زواياها وتسلبها اسمها وشخصيتها ، وقبل أن تولد آمال ، عاشت قرية صغيرة شرق حيفا بوداعة على التين والزيتون والحدود المفتوحة وضوء الشمس". وهكذا تجبر النكبة عائلة أبو الهيجا على مغادرة قريتهم ، واللجوء الى مخيم جنين ، ليكتشفوا أن العالم لم يسمع بمأساتهم. "في الأسى الذي لا يحتمل لتاريخْ دُفن حياً ، فقد سقطت السنة 1948 من التقويم الى المنفى ، وتوقفت عن عد الايام والشهور والسنين ، وصارت ذكرى لامتناهية للحظة في التاريخ تنتظر العدالة أن تسود".


تحكي الرواية ، من خلال قصة آمال ، مأساة الفلسطيني الذي إغتصبت أرضه ، وحطّمت الحروب حياته وأحالتها الى دوامة مستمرة من القهر والظلم والصراعات والانتقام ، وحولته الى إنسان مقهور مشرد وضحية حلم لغرباء لا ينتمون للأرض. إنها رواية عن الحب والحرب ، عن الظلم والنسيان ، عن الماضي الجميل والحاضر البائس ، عن الفقدان والخسارة ، عن الطفولة والزواج والأمومة. وتوظف أسلوب تعدد الاصوات السردية ، فهناك صوت ضمير الغائب العليم ، وصوت آمال ، وصوت شقيقها يوسف. كما توظف الرواية اسلوب الانتقال بين صيغ الزمن المختلفة.


من الاحداث المهمة في الرواية ، قيام الجندي الاسرائيلي موشيه بخطف الطفل اسماعيل شقيق آمال ، من بين يدي أمه داليا في فوضى التهجير القسري لسكان القرية. يقدم الجندي الطفل لزوجته العاقر جولانتا ، التي تطلق عليه عليه اسم داود. ينشأ الطفل في العائلة الجديدة ويصبح يهودياً. لكن له ندبة على وجهه تسبب بها شقيقه يوسف الذي أوقعه في مهده. ظلت الندبة في وجه الطفل وكبرت معه ، وهي التي تدله على الحقيقة.


يمثل فقدان الطفل أزمة كبيرة للأم. شعرت آمال أن أمها أصبحت منسحبة من الحياة وفقدت التعبير عن الحب ، وخاصة بعد أن عانت من الاجهاض عدة مرات قبل ولادة آمال ، ومن ثم فقدان زوجها. وتربط آمال فيما بعد سلوك أمها التي حطمتها حادثة فقدان ابنها بنصيحة قالتها ذات يوم: "مهما تشعرين احتفظي به لنفسك".


وفي مخيم جنين ، صار البؤس والشقاء والحرمان عنوان حياتهم. ينظر الحاج يحيى الى أشجار الزيتون التي تركها خلفه عبر خط الهدنة ، ويظل يفكر بحسرة بتلك الكروم التي لم يعد يستطيع الوصول اليها. وأخيراً يقرر التسلل للعناية بها ، رغم معرفته أنه قد يقتل بنيران اليهود. وحينما يرجع الى المخيم ، فإنه يحضر معه في يديه قطافاً من أشجار الزيتون ، ويقول: "اللعنة .. هولاء لا يعرفون شيئاً عن الزيتون. إنهم غرباء ، ولا يربطهم بالأرض شيء. لو كان عندهم انتماء للأرض ، لأجبرتهم الأرض أن يحبوا الزيتون".


يقول الراوي بعد مقتل الحاج يحيى على أرضه التي أصر أن يرجع اليها سراً: "لقد كشف موته الحقيقة... كيف يمكن للمرء أن يتخيل أنه لم يعد بوسع رجل أن يعود الى ممتلكاته ، وأن يزور قبر زوجته ، وأن يأكل فاكهة أربعين جيلاً من كدح الأجداد ، دون أن يلقى حتفه؟ لم يخطر ذلك السؤال ببال اللاجئين الذين حيرتهم مأساة الانتظار الأبدي".


تصف الرواية التغيرات التي طرأت على حياة الفلسطينيين بعد الكارثة. وفي تلك الظروف ولدت آمال حفيدة الحاج يحيى وابنة ولده حسن. ويصف المقطع التالي طبيعة الحياة في المخيم حينما كانت آمال وأختها هدى صغيرتين لا تعيان ما يدور حولهما من مصائب: "لقد كنا ممتلئتين على نحو ساذج بأحلام وطموحات ، غير عارفتين بأننا كنا نفاية العالم الذي تركنا لنعيش في بؤسنا ونخطو على برازنا".


تدحض الرواية وفي مواضع كثيرة زيف الأكذوبة الصهيونية التي تحاول تكريس ارتباط اليهود بفلسطين ، ولعل النص التالي من أبلغ الفقرات التي تتناول هذه المسألة: "نظر في صمت الى الدليل الذي صار الاسرائيليون يعرفونه ، وهو أن تاريخهم مصنوع من عظام الفلسطينيين وتراثهم. لم يعرف الأوروبيون الذين جاءوا لا الحمص ولا الفلافل ، لكنهم قالوا فيما بعد أنها من المطبخ اليهودي العريق. لقد استولوا على فلل القطمون واعتبروها بيوتاً يهودية قديمة... لقد جاءوا من بلاد غريبة واكتشفوا قطعاً نقدية تحت الارض من أيام الكنعانيين والرومان والعثمانيين وباعوهم على أنها مصنوعات يهودية".


ينتقل الحدث الى حرب عام 1967 ، حيث تعيش آمال أياماً مرعبة ، تزرع في نفسها الخوف ، وتترك آثاراً نفسية وعاطفية لا تمحى ، كما يختفي والد آمال ، الذي اعتاد أن يقرأ لابنته قصائد من الشعر في ساعات الصباح ، وهو ما يلمّح اليه العنوان ، وقيل إنه قتل في أحد المذابح ، ويتعرض شقيقها يوسف الى الاعتقال ، ويلتحق بالمقاومة. وتتعرض آمال نفسها الى إطلاق النار عليها من قبل الجنود الاسرائيليين ، وتترك الاصابات آثاراً دائمة في بطنها.


هناك قصة أخرى على الجانب اليهودي تجري في الوقت ذاته الذي تجري فيه قصة آمال ، إنها قصة شقيقها اسماعيل الذي صار داود ، والتحق بالجيش الاسرائيلي. بعد حرب عام 1967 يخبره زملاؤه الجنود بأن أحد السجناء واسمه يوسف يشبهه الى حد كبير. وفي محاولة للتخلص من أية تلميحات عن الشبه بينه وبين فلسطيني ، فإنه يضربه عند حاجز طريق. يصبح داود فيما بعد مدمناً على الكحول ، لكنه يسعى لمعرفة حقيقة أصله من خلال اتصاله بآمال.


يتم إرسال آمال الى ملجأ للايتام في القدس بعد وفاة والدها ، وهناك تفوز ببعثة الى الولايات المتحدة عام 1973 ، وتحاول إعادة اكتشاف نفسها تحت اسم "ايمي" الامريكية ، لكنها تعاني في الغربة من التناقضات بين نموذج الحياة الغربي ، وبين قيمها وثقافتها في المخيم. تقول آمال عن حياتها الجديدة: "لقد مُسخت الى هجين عربي غربي لا تصنيف له ، ولا جذور له وغير معروف.. لقد ضعت في دوامة التقلب الثقافية"،


تفقد آمال الاتصال بشقيقها يوسف وفي ذات يوم من عام 1981 يأتيها فجأة إتصال منه ، وهو في بيروت ، فتعرف أنه انضم الى الثورة الفلسطينية. تأتي آيمي الى بيروت للقاء شقيقها. وهكذا التئم شملهما مرة أخرى بعد ثلاثة عشر عاماً. وهناك تقع آمال في حب طبيب فلسطيني اسمه ماجد ، وتعود الى الولايات المتحدة وهي حامل منتظرة التحاق زوجها بها. وفي الوقت الذي بدأت حياتها تستقر ، وقعت حرب عام 1982 وحصار بيروت ، فيقتل زوجها ، وتربي طفلتها سارة بمفردها ، لكنها لا تريد لابنتها أن تعرف شيئاً عن فلسطين ، أو السياسة ، أو الحروب. تحس آمال بأن الامومة قد أعادت اليها الرغبة في الحياة ، وقد عبرت عن ذلك بقولها: "هذه الطفلة الضعيفة زرعت في إرادة الرغبة في الحياة ، وقد كرهتها لذلك ، لأن كل ما أردته حينئذ هو الموت".


وفي الفصل الاخير الذي يحمل عنوان "ثمن فلسطين" ، تستدير الرواية الى بدايتها ، وتواجه آمال الجندي الاسرائيلي الذي يحمل بندقية موجهة الى رأسها ، وتعبر عن وعي فلسفي بالموقف وشجاعة تستشعر عذاب الضمير لدى الطرف الآخر: "إنه يعرف ذلك الشعور ، ويتمنى أن يتخلص منه... لكنه لم ير وجه ضحيته من قبل. إن عيني المليئة بحب أم وهدوء امرأة ميتة ، تراه أقل مما هو عليه بقوته وأعتقد أنه سيبكي. ليس الان ، ولكن لاحقاً ، حينما يكون وجهاً لوجه مع أحلامه ومستقبله. أشعر بالحزن نحوه. الحزن على طفل يصير قاتلاً".


تنتهي الرواية بكلمات يوسف في المنفى في تونس ، الذي حمل معه مرارة قتل عائلته في صبرا وشاتيلا ، وعاش تحت خوف إتهام كان منه بريئاً هو تفجير السفارة الامريكية في بيروت. تصف آمال الموقف بقولها: "لقد قتلوا أخي الجميل غيابياً عندما ذبحوا زوجته فاطمة. وقلبه الان ينبض بقوة الغضب".


تضم الرواية بين دفاتها تراجيديا فلسطينية في إطار قصة سياسية واجتماعية. وتبدد الكثير من الصور النمطية والافكار الخاطئة التي روّجها الإعلام في الغرب من خلال قصة درامية مأخوذة من التاريخ ، قدّمتها في إطار قصة انسانية بدلاً من الصراع السياسي.


في كثير من الحوارات التي أجريت معها أكدت أبو الهوى أن الرواية الاسرائيلية ما تزال تهيمن على الاعلام الغربي ، وتمنع الرواية الفلسطينية من الانتشار ، لكنها متفائلة في أن الكتاب الفلسطينيين قد بدأوا في لفت أنظار القارىء الغربي الى حقيقة محنتهم. تقول في هذا الجانب: "نرى الان انبعاث الكتاب الفلسطينيين ، والموسيقيين والفنانين في الغرب ، وها نحن الان نمثل الجيل الثاني والثالث من الفلسطينيين الذين يعيشون في المنفى ، إن صناعة النشر في الغرب تبحث الان عن الرواية الفلسطينية".


يبدو واضحاً من الرواية أن الكاتبة تؤمن بأن المستقبل هو لآمال كما يدل اسمها ، وللشعب الفلسطيني الذي ترمز اليه وتجسد حكايتها حكايته ، أنها تقف على الجانب الصحيح من التاريخ. وفي جواب على رسالة قارئة أمريكية كتبت تقول: "صحيح أنني أنفقت الكثير في هذه المسألة ، ولكن هناك عقوداً من الزمن وأجيالاً عدة ، وعدة دونمات من أملاك العائلة ، وعائلة لاجئة مشتتة. وماذا يشكل هذا كله؟ هذا وطني. تاريخي. عائلتي. أبناء وطني. تراثي وإرثي الوحيد. المكان الذي أنتمي اليه. المكان الذي لا يسمح لي بالعودة اليه بسبب ديانتي"... وأضافت: "إنكم تقفون على الجانب الخاطيء من التاريخ.. إنكم على الجانب الآخر من إرث نيلسون مانديلا".

رابط المقالة بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر ريثما يتم تحميل الصفحة)





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق