الأحد، يونيو 1

في انتظار الشيخ نعيم!


في انتظار الشيخ نعيم!

قصة قصيرة بقلم:
ايـاد نصار

في يوم ٍ صيفي حار ٍ ومغبرٍ من شهر تموز اللاهب في عام 2250 م كان خالد يشعر بالحر والعرق يتصبب من جبينه فيسيل على وجهه ورقبته. كان يجلس في غرفة المعيشة الواسعة وهو يقلب نظره بين الشاشة الكبيرة أمامه وبين السقف والنافذة العريضة الى يمينه المطلة على الفرندة . كان يشعر بالضجر والملل والغضب. لم يكن بمقدوره أن يبقى ساكنا. بقي يمسح العرق عن جبينه ورقبته بكثير من الضيق الذي بالكاد يطيقه. الصيف أفضل فترة لاختبار قدرة الانسان على التحمل! وكم يرسب الناس في هذه المدينة مع أول موجات الحر بالصيف! صار الغضب والثوران والشعور بعدم القدرة على الاحتمال سمتهم. وليته الحر وحده فحسب، فقسوة ظروف الحياة تفقدهم ابتسامتهم وأعصابهم معاً!

تناول هاتفه الشخصي ولمس أحد المفاتيح .. فُتحت الشاشة وظهرت صورة رجل يجلس الى مكتب وأمامه بعض الملفات التي يبدو عليها أنها قديمة بعض الشيء! كان متجهما من غير سبب. وضع صوت الطرف الآخر على خيار الصوت العالي. قال خالد بهدوء: لقد مضى على شرائي للجهاز اسبوعان ولم يصل لغاية الان. ماذا بقي من الصيف؟ متى سنشعر ببرودة الجو في مثل هذه الايام الخانقة. وبدأ صوته يعلو ويتحول للشكوى. كان الرجل على الطرف الثاني يرد بعصبية هو الاخر. شاهد خالد صورته وهو يحرك يديه وحاجبيه بغضب ظاهر. قال: لم نتمكن من توفير جهاز جديد بديل لك. أرجوك أن تتحملنا. هناك طلب كبير من الناس وسنلبي طلبك باسرع ما يمكن. قال خالد: أولاً لقد أرسلتموه بعد تأخير لمدة أسبوعين وإذا به غير صالح للتشغيل. كم يجب أن أنتظر الآن لاستبداله؟ أنتم تماطلون ، من حقي أن تعطوني جهازاً جديداً الان أو أن تعيدوا لي المبلغ . لم يقنع خالد بتلك الحجة التي سمعها للتو وتحول الحوار سريعا الى إشتباك. بدأت نبرات الصوت العالي تطغى ولم يعد أحدهما يصغي للاخر. تحول الكلام الى صياحٍ بصوتٍ عالٍ. صار يهدد خالد بالشكوى رسميا ، ولكن لم يجد كلامه صدى كما كان يتوقع، فصار يميل للتهدئة والتسوية! استمر الرجل الآخر على الطرف الثاني يرد بغضبٍ واضحٍ وصوتٍ عالٍ يتخلله بعض الاستهجان. قال خالد: الى متى سنبقى في هذه المعاناة؟ متى ستلتزمون بوعودكم؟ ليس ذنبي. قال الرجل الاخر سنحاول ولكن لا نعدك خلال يومين. قال خالد: لو كنت أعرف أن الامر كذلك لما فكرت أصلاً بالمكيف الضوئي. ولكن كل ذلك يحدث لأن الشيخ نعيم ليس هنا. أنتم السبب عن رحيله بتصرفاتكم. ولكنه سيعود قريباً. الله يرحم أيام زمان. لم أر ذلك ولكني سمعتهم يقولون كانت الامور تسير بشكلٍ رائع.

شعر بقرارة نفسه أنه يجب أن يتحمل مهما قدموا له من أعذار. فالامر لا يحتمل مصيبتين بيومٍ واحد.
تذكر بكل غضبٍ ومرارةٍ وأسى موقفه وهو يقف أمام ضابط الشرطة وهو يعتذر له أنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً من أجله . شعر بحنق شديد يثور بداخله. قال له معتذراً قبل أن يصفعه بجملته القانون لا يحمي المغفلين! حاول أن يحتج أو يجادل الموقف. لم يعطوه مجالاً. كان احتيالاً وسرقةً وسلباً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حاول أن يوضح للضابط تفاصيل ما جرى. لعل هناك سبيلاً لاعادة السيارة. كان يستمع له من غير تركيز. جاء ضابط آخر وقال لا نستطيع أن نفعل شيئاً كثيراً. من ناحيةٍ قانونيةٍ فأنت بعته السيارة وقبضت الثمن. وتوقيعك على صك البيع يشهد بذلك وتوقيع الشهود. لم يكن يخطر بباله ان تصل عقلية الاحتيال الى هذا الحد!
جاءه في تلك الليلة جارٌ يسكن قريباً منهم في الحي. كان يضع لحيةً كثيفة. فتح خالد البوابة بالريموت كنترول. سمع الصوت يقول أنا أبو الوفا وقد جئت بخصوص السيارة. فتح خالد الباب ورحب به. أهلا بك فرصة سعيدة. قال: لقد رأيت الاعلان عن بيع سيارتكم الخمرية اللون. منذ فترة طويلة وأنا أرغب في الحصول عليها. كانت تعجبني كثيراً كلما رأيتها تمر من أمام البيت، وقد سألت وعرفت أنكم ترغبون ببيعها. أحبها كثيراً وأخيراً من حسن حظي سأحصل عليها. قال خالد لقد اضطرتني الظروف لبيعها. لم أكن أرغب بذلك. سيارة رائعة وقد نشأت علاقة حب بيني وبينها. دخلت خادمةٌ بعد قليل قدّمت القهوة للضيف. كانت القهوة الوسيلة التي اعتمد عليها أبو الوفا للتأثير على خالد ليخفض السعر! استمر الكلام في تكتيكات البيع والشراء. كلما كان يصل الامر الى نقطةٍ مسدودةٍ كانت الجيرة والقهوة والحب الاخوي هي المفاتيح التي تلعب دور السحر في التأثير على الطرف الاخر! وأخيراً تم الاتفاق على السعر وباقي التفاصيل.

في اليوم التالي وبعد المعاينة والفحص، ذهب الاثنان الى ادارة السير لاجراء عملية البيع واتمام الاوراق الرسمية. أحضر أبو الوفا معه صديقين. كان الجو ودياً وكان ابو الوفا يكثر من الحديث عن الدين. لم تخل جملة واحدة من إشارة هنا وهناك. كان بارعا في استخدام لغة مفخّمة محشوة بفنون البلاغة وعبارات التدين والتقوى التي تعوّد عليها. وبينما كانا ينتظران الدور للوقوف أمام كاتب العدل لاجراء المعاملة، رنّ الهاتف الشخصي لأبي الوفا. ولم يكد يرد بكلماتٍ مقتضبةٍ حتى انفجر بالبكاء. ثم كتم نحيبه وحاول أن يتمالك نفسه. هجم صديقاه عليه يسندانه للوقوف بعد أن بدا أن قواه قد خارت. قالا له ما الامر؟ ماذا حصل؟ قال وهويبكي والدموع تفر من عينيه بصوت متهدج متقطع: أمي. أمي.. الله أعطاكم عمرها. وبقي يبكي. قال أحدهم للاخر خذه أنت أوصله للبيت. الموقف لا يسمح الان باتمام المعاملة. تدخل الآخر. لقد وصلنا عند أخر مرحلة.. لم يبق سوى الدفع والتوقيع. دعه يوقع هنا على الطلب، وإذهب أنت وأوصله للبيت فهو منهار. ونحن سنكمل الاجراءات. فأخذه من حينه متكئاً على كتفه وسار به مبتعدا. وأضاف الآخر: أنا سأتمم المعاملة . يا أخي انت لاحظت الظرف. الموقف صعب على أبي الوفا. ليس من اللائق أن ندعه ينتظر. ولكن في المساء لمّا نذهب اليه في البيت للعزاء سنأخذ منه المبلغ. لم يقل خالد شيئاً. كان موقفاً عصيباً للغاية. نادى كاتب العدل على إسمه وسأله هل بعت سيارتك له قال نعم . هل قبضت الثمن قال نعم. ووقّع على الاوراق وخلال فترة وجيزة تم كل شيء.

ذهب في المساء لزيارة أبي الوفا للعزاء. كان يشعر برهبة من الموقف. ماذا سيقول له وكيف سيعزّيه، وكيف سيطلب نقوده منه في هذا الظرف الصعب. اقترب من المنزل. لم يكن هناك ما يدل على بيت عزاء. تطلع حواليه لعله أخطأ العنوان. لا.. المكان هو نفسه. إستغرب إن كان العزاء في مكان آخر. رنّ الجرس خرج أبو الوفا بلحيته الكثيفة. قال له منذ مدة طويلة وأنا أحلم بها وأخيراً حصلت عليها. إنتهى الموضوع. وقبل أن يستوعب خالد حقيقة الامر سمعه يقول إذهب لمن تشاء. أعلى ما في خيلك إركبه .. السيارة صارت لي. أصيب خالد بذهول غير عادي. لم يصدق الامر. إمتدت الايدي في اشتباكٍ عنيف. تجمهر الناس حولهما. أخذ خالد يشتم ويتوعد ويهدد .. وأبو الوفا يتحدى بكل صلف.

صار يحاول إقناع الضابط أن يفعلَ شيئاً. أن يحتجزه .. أن يهدده كي يسترجع سيارته. وذهب كل رجائه أدراج الرياح .. هدأ خالد قليلا..أدرك ان الوضع اسوأ مما يبدو في الواقع .. حاول ان ينسى الموضوع .. انشغل بمتابعة الشاشة .. لم يكن هناك ما يثير اهتمامه .. كان شارد الفكر في محنته .. بعد قليل كان قد نسي التفكير فيها قليلاً .. نظر خالد الى إبنه الصغير ذي السنوات العشر يقرأ في القصة التي إشتراها له قبل أسبوع. رآه مستغرقاً بها وكأنه لم يسمع ما دار بينه وبين مدير المعرض بشركة المكيفات. جلس بجانب إبنه وأخذ يحاول ان يقرأ القصة معه. لمح صورة جميلة تجذب الانظار بألوانها في وسط الصفحة. سالت حبيبات العرق على وجهه وبللت رقبته. تناول منديله وأخذ يمسحها بتبرمٍ واضح. لم يكن أمامه شيء يفعله في هذا الجو سوى الضجر. نسي حالته وهو ينظر الى القصة. جذبته قليلاً من أولها فأخذ يتابع من سطرٍ لآخر. تناول القصة من يدي شادي، وقال سأقرأ عليك القصة فركّز معي. قال وهو يمسح العرق: أحضر لي كأساً من الماء. لم أعد أطيق الحر.

ولما عاد شادي الى مكانه، استأنف خالد القراءة: "قال عجوز كبير يبدو على وجهه آثار الزمن القاسية ومرارة الايام وهو يئن من الالم على سريره: مهما تأخرت عودته فلا بدّ أن يعود الشيخ نعيم. عشت طول عمري أنتظره. لا بدّ أن يعود الشيخ. ولكن أعمال الناس هي السبب. أنهم لا يريدون عودته. وقال المهندس المشرف على المشروع للدّهان: ما هذا العمل؟ لم يكن الاتفاق هكذا؟ ألم يعد هناك إلتزام؟ أو ضمير؟ رحم الله ايام الشيخ نعيم. وقال بنبرة فيها العتب الممزوج بشيء من خيبة الامل والغضب المكبوت: كانت كل الاعمال تتم على أحسن ما يرام حتى من غير إتفاقٍ مكتوبٍ أو توقيع اتفاقيات. سقى الله تلك الايام. كيف راحت؟! لا يعود ما ذهب. وقال محاولاً الضغط على الدّهان مراد. أوووف من الغش. أتمنى ان يعود الشيخ، كي تعود تلك الايام" . سأل خالد شادي فجأة: هل تفهم معنى ما سمعت؟ تردد الولد في الاجابة. بقي خالد ينتظر وفجأةً تحوّل الى إنسانٍ عصبي يتحدث بصوت غاضب يائس. ما لك؟ أجبني؟ هل فهمت القصة لحد الان؟ هل تعرف ماذا تعني؟ نظر شادي في عيونه قليلاً ولم تحرُ له إجابةٌ من التردد والخوف. قال له: استمع الى هذا الجزء لعلك تفهم الان. وتابع القراءة: "قال الراكب وهو ينظر بعين الشك والريبة الى العداد في سيارة الأجرة: لا بد أن هناك خطأ ما، من غير المعقول أننا قطعنا كل هذه المسافة وأن يسجل العداد هذه الاجرة. هذا مبالغ فيه كثيراً. لا بدّ أن العداد غير صحيح . رد السائق بعصبية ٍ ظاهرةٍ وصوتٍ عالٍ: العداد بأحسن حال. لم يلعب به أحد. ربنا يغنيني عن مال الحرام. أنا من المستحيل أن أتلاعب به. هذا الكلام غير مقبول ولا أقبل منك الاتهام. فرد الراكب: كلكم تقولون هكذا. كلكم تدعون العصمة. ومن يقوم إذن بكل هذه الاعمال التي نسمع عنها؟ أين راحت أيام الشيخ نعيم. سقى الله تلك الايام. لم نكن نسمع عن هذه القصص. كيف سيوفق الله الناس وهم هكذا. أرجو أن يعود الشيخ، وساعتها سنرى ماذا يحصل لأمثالكم".

وقلب خالد الصفحة وقرأ على الصفحة التالية: "قال صاحب الخضار وهو يجادل رجلاً يبدو عليه الغضب الكامن في أعماقه، أسعار الخضار مرتفعة من منشأها أصلاً. فقال الرجل وهو يجامل من باب إدامة الحوار بينهما رحم الله أيام زمان. كان يتكلم وكأن حقداً هائلاً سيدوّي من شدة التبرم والاحساس بالعجز يعتمل في صدره. وأضاف كمن ينتقم لنفسه : ولكن انتظر سيعود الشيخ نعيم وعندها ستصبح كل الاشياء رخيصة. فرد البائع وهو يبتسم ابتسامةً صفراء من باب النكاية: صحيح هذا الغلاء فاحش. ولكن هذا عقاب للناس لانها كفرت. نستاهل ما يحصل لنا. نتمنى أن يعود الشيخ. وتحول صوته الى الهدوء وأضاف سيأتي بلا شك. ستصبح الحياة سهلة وكل الاشياء متوفرة بفضل عدل الشيخ نعيم. من غير المعقول ان يستمر الوضع كما هو عليه. سيأتي يوماً ما ويعيد الامور الى نصابها"!

أغلق الوالد الكتاب قليلاً وسأل ابنه: هل فهمت القصة؟ هل تعرف متى حدثت أحداثها؟ ويبدو ان السؤال باغته على حين غرة! قال الاب: ألم تقرأ متى تم طباعة الكتاب على الغلاف؟ انه قديم جداً. لقد صدر الكتاب في عام 2008. قال شادي فجأة مستدركاً ومن يكون هذا الشيخ نعيم؟ أنا لا أفهم شيئا. ولكني أسمع الكل في المدرسة يتحدث عن الشيخ نعيم. أسمع المدرسين يقولون إن الشيخ نعيم هو الذي سيحل كل هذه المشكلات. قال خالد نعم. سأل شادي ومنذ متى وأنتم تنتظرونه؟ منذ متى تبحثون عنه؟ لم ينتبه الاب لسؤال إبنه، ولكنه استمر يسأل شادي عن العنوان المناسب الذي يقترحه لهذه القصة؟ قال شادي: في انتظار الشيخ نعيم!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف10:24 م

    السلام عليكم استاذ/اياد شعرت بالاسى كثيراً عندما قرات هذه القصة فهى تعبر بجدية عن حالنا الذى وصلنا له الان وهو غياب الضمير(الشيخ نعيم)والامبالة وعدم الشعور بالمسئوليةوكثرة تردد عبارة(وانامالى هوانااللى حصلح الكون)وكل ما نفعله هوانتظار (الشيخ نعيم)اى صحوة الضميركان الامر اشبه بمعجزة سوف تهبط علينا من السماء كالمطرونقف فى انتظارها بمنتهى السلبيةفدعنى اقول(لايغير الله مابقوم حتى يغيروا مابانفسهم)فمع كل هذا الوهن وعدم التفكير فى اشياء اجابية تخرجنا مما نحن فيه (لاحينفعنا انتظار نعيم ولا حتى خليل)يعجبنى فى القصة مشهد الموظف الجالس على مكتبه وامامه دفاتر قديمه وهذ يدل على الروتين ليس الممل بل القاتل الذى يقف امامه المواطن قليل الحيلةلا يردد سوى عبارة واحدة (حسبى الله ونعم الوكيل)والحاج ابوالوفا للاسف منه الكثرين ممن يستخدمون الدين كستار لاباحة الجرائم وكل ذلك تحت شعار(قال الله وقال الرسول) المضحك ان بعد مروركل هذه السنين عندما يسال الطفل عن عنوان للقصةيقول انتظار الشيخ نعيم الى متى سوف ننتظر كنت اامل انيقول عنوان اخر(ان الاوان) اسفه للاطاله عليك اتمنى لك التوفيق الدائم عاشقة قلمك(امال)

    ردحذف
  2. أشكرك امال على قراءتك وتعليقك على تفاصيل الحبكة وشخصيات القصة وعنوانها والقضايا التي تطرحها. وكل التقدير على كلماتك اللطيفة. أشكرك على تحليلك للقصة بعين ناقدة تستطيع قراءة ما خلف السطور. ولكن هناك مستويات مختلفة من النظر الى العمل وتحليل معانيه ومراميه واسلوبه الفني مما يشكل تحديا فكريا للقاريء وتمرينا ذهنيا يدعوه للتفكير والتأمل في كلا الجانبين الادبي والفكري. وشكرا لمرورك الجميل

    ردحذف