السبت، يناير 31

مجنون


مجنون

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

عندما قرر كاتب هذه القصة أن يكتب عني وعن مسألة جنوني فقد ضحكت باديء الامر بصوت عالٍ وظننت أنه يمزح. ثم عندما وجدت أنه لم يضحك إزاء قهقهتي، فقد قطبت حاجبي ومسحت شاربي وعدلت من نظارتي فوق أنفي وقلت: يبدو أنك جننت مثلي لتفكر حتى مجرد تفكير أن تكتب عن إنسان بل شبه إنسان فقد عقله. لا أقول هذا خوفاً من أن يعرف الناس عن علتي أو معاناتي. لم أعد أهتم لذلك. لم أخفيه سوى مرة واحدة ولكنني لم أفلح فيها! لم يعد الجنون شيئاً معيباً في أيامنا هذه. كل إنسان ينتابه الجنون في لحظة ما. بل ربما كثيرة هي هذه اللحظات التي تنتابنا. فلماذا تريد أن تكتب عني إذا كنا جميعاً نحس أننا قد جننا مما نراه ونسمعه؟ ربما أن لدي الجرأة لأقول أنني قد جننت، وربما أن غيري يخشى أن يواجه الناس بحقيقته. ولكني أصبحت أطلال ذكرى، أو بقايا حلم منهار، فماذا ستكتب عني؟ لم يعد يهمني ما ستكتبه فلم يبق لدي ما أشتري به الصحيفة التي ستنشر كتابتك! لم يبق لدي سوى قصاصات وأوراق صحف إصفرت منذ ربع قرن. هل أستحق أن يُكتب عني الان شيء؟ كنت أريد أن أكتبه بيدي لا أن يكتبه الاخرون. هل بقي متسع للكتابة عن جنوني الان؟ وهل هناك ما يستحق المحاولة؟ هل فقدت عقلك مثلي، أم أنه لم تجد ما تكتب عنه سوى بؤسي؟! وما قيمة الكتابة الان؟ ألا توافق معي أن ما يجري أغرب من الخيال؟ بل ضرب من الجنون ذاته؟

حاولت نزع الساعة من معصمي كي أشعر أنني تهيأت لجدال طويل. كان ما يزال يحدق بي وأنا أعدل النظارة فوق أرنبة أنفي وأحاول سحب نفس طويل من الارجيلة. لكنها يبدو خمدت فيها الروح. كنت أستنشق الهواء بعمق فتنتفخ أوداجي وتحمر عيوني وأنا أنظر بأمل الى الرأس المغطى برماد أبيض محترق علها تعود للحياة وتحمر الجمرة فوق دخان التنباك. من سيهتم بي وبجنوني؟ لقد حاولت إخفاءه عنهم الاسبوع الماضي كي يقبلوني. ولكن يبدو أن رعشة يدي ونظراتي فضحتني. ناديت على تيتو كي يستبدل لي الجمرة الذائبة. كان مشغولاً بتقديم الطلبات للرواد. بعد قليل جاء ومعه علبة حديدية صدئة يحمل فيها جمرات مشتعلة. أمسك بالملقط وأزاح الجمرة الذائبة جانباً ثم أخذ واحدة كبيرة ووضعها فوق كومة التبغ. بقيت أسحب نفساً وراء الاخر وأستنشق الدخان علها تحمّر مرة أخرى بدون جدوى. قلت لتيتو أن يصلحها. أمسك بطرف الانبوب ووضع قطعة بلاستيكية وأخذ يسحب أنفاساً قوية. بعد لحظات إحمرّت الجمرات وخرجت من فمه كتل من الدخان الابيض الكثيف.

الصالة طويلة واسعة جدرانها معتمة قليلاً من آثار الدخان، ومقاعدها الخشبية قديمة مهترئة مسودة عند زواياها. الصالة شبه فارغة الا من بعض الرجال الذين بدا عليهم الهرم وتعب السنين كأنما يودعون الحياة ببطء وصمت. وهناك تلفاز بالابيض والاسود في زاوية الصالة. يغني ناظم الغزالي "أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي". عدد قليل من الجالسين يلبس بدلة وربطة عنق ومعطفاً ثميناً ، ولكن أغلبهم يلبسون أسمالا عتيقة. يتحدثون بكلمات وهمهمات قليلة وعيونهم في الورق الذي بين أيديهم. كل شيء في المكان قديم. بعض الصور بالابيض والاسود في إطارات باهتة معلقة على الجدران. تركها اصحابها شاهدة على أن المكان كان ذا عز في يوم من الايام. يدور تيتو بين الجالسين بفناجين القهوة وكاسات الشاي في صينية بائسة. تيتو شاب مصري ما يزال في أوائل العشرينات. يعمل في هذا المقهى منذ ثلاث سنوات. صار يعرف كل الرواد باسمائهم وألقابهم. لا أتذكر متى صرت زبوناً مقيماً هنا ، ولكنه منذ دهر بعد أن عدت من فرنسا. لا يوجد مكان آخر أذهب اليه سوى هذا المكان. لقد قبلني كما أنا بكل علاتي بدون رتوش. لا أعلم لماذا أطلقت على تهامي إسم تيتو. ولكن كان الكل يسمعني أناديه تيتو فصاروا ينادونه مثلي.

ما قيمة أن تكتب عني؟ ومن سيهتم بي؟ لم أترك باباً إلا وطرقته عبثاً. أنا رجل هامشي أعاني منذ ربع قرن. كثيرون يعرفونني ، وكثيرون يعرفون أنني أجلس هنا طوال اليوم. لقد ماتت أحلامي ودفنتها بيدي. لم أعد أريد أن أكون صحفياً أومحرراً أو كاتباً أو حتى زوجاً! أريد أن أكون موظفاً.. عاملاً بأي شيء ولأي شيء لأشتري ما أدخن به. حتى سجائري الرديئة استلفها من الاخرين. ما قيمة رجل يستجدي مصروفه من أخته المتزوجة؟ تمنع أولادها من أشياء كثيرة لكي تعطيني. لم يبق لي مكان في الدنيا سوى قاع بيت درج صنعت منه بفضل الواح خشب محطمة مغبرة غرفة أنام بها آخر الليل. آه كم تغيرت الدنيا. قبل سنوات طويلة كنت أكثر واحد يبدو متأنقاً.. لم يخل الامر من رغبة في لفت انتباه فتاة أو إثارة إعجابها! لم أعد أذكر الان آخر مرة حلقت فيها ذقني! بلى تذكرت!

قبل أسبوع ذهبت لمقابلة مسؤول كبير بحثاً عن وظيفة، فطلبت من أختي أن تعطيني كي أشتري شفرة للحلاقة! لقد توسط لي عدد كبير من أصحاب النفوذ والاقلام عنده. قلت في نفسي وأخيراً ستقدر أن تستأجر بيتاً وتشتري سجائرك! بقيت أفكر بالموعد أياماً وأنا كلي أمل أنني ساجد أخيراً وظيفة أستقر بها. لقد عشت ربع قرن صدفة. لقد ماتت كل أحلام المستقبل ولم يبق سوى قصاصات أحتفظ بها في حقيبتي. يجب أن أبدو بمظهر جيد أمامه. سأكذب هذه المرة وأقول أنني بصحة جيدة. سأستخدم كل براعتي الصحفية لأدهشه بثقافتي كي أحظى بالوظيفة. لا يهمني نوع الوظيفة مهما كانت. سأعمل كاتباً لعرائض المستدعين لو إقتضى الامر! الكل يعرف ما مررت به. يعرفون أنني أعيش على حبوب مهدئة. لقد دخلت مرة المستشفى من نوبة حادة. لم أستطع أن أدفع ما طلبوه مني. بقيت الشرطة تبحث عني أياماً وأخيراً كتبت تعهداً أن أدفع المبلغ خلال أسبوع وإلا سأدخل السجن. نهضت مبكراً ولبست ملابس فادي سراً وخرجت كي أصل مع بداية النهار في الموعد المحدد. لقد تعودت على مشي المسافات الطويلة.

حملت معي حقيبتي الممزقة وخرجت. حقيبتي لا تفارقني. صارت وطني الذي أحمله أينما ذهبت. فيها ذكرياتي ومقالاتي التي كتبتهتا منذ ربع قرن. فيها قصاصات وأوراق صحف إصفرت واهترئت. عندما يستيقظ فادي ويعرف أنني لبست ملابسه سيغضب ويزبد ويشكوني لأمه ولكنه في النهاية سيسكت إحتراماً لخاله! فهل بعد كل هذا تريد أن تكتب عني؟ أنا مخلوق صغير خارج من إحدى الروايات الاسبانية فمن سينتبه لي؟ أرجوك لا تفعل عني فلن يحفل بي أو بقصتي أحد.

عندما دخلت مكتبه الفخم قال لي إن هاشم بك إتصل به لأجلي. وإن الاستاذ عادل من مكتب الوزير وصى علّ كثيراً ، وإنه سيبذل جهده لمساعدتي. فرحت وأنا أسمع كلماته. ساعة الفرج قد حانت أخيراً. قال لي إنه ليس هناك شاغر حالياً ولكن... وقبل أن يكمل هززت رأسي .. لقد إنكسر شيء ما بداخلي.. صرت خبيراً بكل أنواع الاجابات هذه! لم تكن صدمة فقد تعودت عليها. كانت خيبة أخرى تضاف الى سجلي الطافح بالخيبات. قال لي إنه بامكاني التقدم بطلب لترخيص بسطة في السوق الشعبي، أو التقدم بطلب لصندوق المعونة الوطنية وهو سيدعمه من خلال معارفه! نظرت اليه والمفاجأة عقدت لساني. لقد قبلت حتى أن أكون ساقياً للشاي لديهم أما أن تصل الامور هذا الحد؟ وآذلاه .. وهل تظن أنني جننت نتيجة صدفة جينية؟! قال لي الطبيب إن أعصابي لم تحتمل كل هذا البؤس.

لقد صار يعطف علي تيتو ويقدم لي الشاي والقهوة دون مقابل. صرت زبوناً دائماً أقضي الساعات هنا. ولكن أين سأذهب؟ بيت أختي صغير لا يتسع لصغارها العشرة، وزوجها حالته تثير الحزن والشفقة، ومع ذلك تحملتني. لا أعرف لولاها أين كنت الان. أخي الاكبر لديه بيت كبير ولكنه لا يسأل عني الا أيام العيد. بعد أن توفيت أمي وأنا في الجامعة لم يبق لي سوى أختى الفقيرة. كانت أمي تقول لي أن أبي كان يوصيها عليّ دائما قبل أن يموت. لم أعرف أبي ولا أتذكره. مات وأنا لم أبلغ بعد سنتين.



كل الذين أعرفهم أصبحوا في مواقع مهمة، وأنا بقيت هنا. كل الذين تخرجوا معي صاروا يقبضون بالالاف! لست غاضباً من أحد. ولكن هل ضاقت الدنيا بصحفي مجنون مثلي؟! كلما أنشئت صحيفة جديدة كنت أعمل فيها، ثم أكتشف أنهم يريدون أن يدفعوا لي مرتباً تافهاً بالاقساط. لقد وضعت كل نظرياتي وأحلامي منذ زمن في حقيبتي المهترئة في سبيل أن أجد مكانا لي. لقد عملت حتى في صحافة التسويق والسياحة! عندما تخرجت كنت أحمل في حقيبتي روايات جمال الغيطاني ودواوين أحمد مطر وكتب هيكل، وأتخيل نفسي كاتباً معروفاً. سأكتب عن أي شيء الان لأجل أن أعيش. عندما تخرجت كنت ثائراً متمرداً أريد أن أغير العالم بقلمي. آه كم كنت غبياً. لقد هاجمت السفارة ذات يوم لأن طوابير المهاجرين كانت تنتظر تحت الشمس الحارقة ساعات خلف أسوار عالية مغلقة بدون جدوى. فاتصلوا بي وأعطوني تأشيرة! شعرت أن باب الامل قد إنفتح لي. كانت رحلة الميلاد والموت معاً. كنت دائماً أنظّر عن فلسفة الوجود والاختيار والزمن. كان كل شيء يستحق المحاولة والتجريب. كم كنت معجباً بالبوهيميين الذين يجربون كل شيء بروح الفنان! لقد أتعبني هوى حسناء باريسية وكلفني كثيراً. كانت الليالي تتحول الى أحلام وخيالات تحت ضباب الدخان المتصاعد وأنا أتعاطاه من يدها. كان كامو يقول "لن تكون سعيداً ابداً اذا بقيت تبحث مم تتكون السعادة، ولن تعيش أبداً إذا بقيت تبحث عن معنى الحياة". فماذا تريد أن تكتب عني الان؟ وهل بقي فيّ شيء يستحق الكتابة بعد؟ أخبرهم أن عمران مهران قد إنتهى.


* اللوحة أعلاه بعنوان رجل جالس بجانب الصبار للفنان المصري سمير رافع (1926 - 2003)

السبت، يناير 24

إمرأة في حفل توقيع!


إمرأة في حفل توقيع!

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قالت أنها ستسافر الى المكسيك أو إندونيسيا لو اقتضى الامر. لم تستطع أن تخفي ألماً بدا واضحاً في نبرة صوتها المتهدج المتلعثم. كنا نصغي اليها تروي مأساتها بحزن وحسرة. لكنها لم تبك. بقيت متماسكة. أدركتُ أن قوتها الظاهرية تخفي ضعفا كامناً. في آواخر الاربعينات وتدخن بأناقة! شعرها قصير يصل الى كتفيها وذهبي مصبوغ لكن اللون الاسود والشيب الابيض يتموجان فيه كلوحة الوان تجريدية. ترتدي بلوزة قطنية بيضاء مخرمة عند الاردان وحول الرقبة وفتحة الصدر. أخبرتني في أول لقاء أنها تزوجت وهي صغيرة وضاعت زهرة شبابها في المطبخ! فاجأتنا بصراحتها الجريئة. قال لي أحدهم هامساً: "أوقفها. لا يليق بهذا المكان أن تتحدث بأمور خصوصية هكذا. ليس مكانها هنا". لكنني تظاهرت كأنني لم أسمع.

نجلس في مقهى مزدحم في وسط المدينة يلتقي فيه عادة الكتاب والفنانون. المقهى يعج بالرواد هذه الليلة. الاضواء الصفراء خافتة ودخان السجائر والاراجيل يتصاعد كحلقات تتبدد في الهواء. تملأ صور جيفارا الجدران وهناك رسوم بالابيض والاسود لفيروز ومارسيل خليفة. على طاولتنا صندوق خشبي مزخرف مغطى بلوح من الزجاج ، فيه ورود مجففة وعملات ورقية مختلفة من دول شتى للذكرى. في زاوية المقهى منصة جلس عليها عازف عود، ولكن الرواد مشغولون بأحاديثهم فلم يصغ اليه أحد. ينظرون اليه وهم يتطلعون في أرجاء المكان فتحس كأنهم مستغرقون في الاستماع!

قالت سمية بتأفف: "لا أستطيع العيش هنا. الحياة هنا صعبة ومليئة بالمشاكل. لقد تعودت على العمل والسفر. الكل هنا يحسب عليك خطواتك". جاء نادل ومعه فناجين قهوة وضعها أمامنا. على غير عادة هناك كأس طويلة مليئة بسائل أخضر كالعشب. وضعها أمام عامر. نظرت اليه. فهم مغزى نظراتي. قال: "ليمون بالنعناع. كم هو لذيذ. يتقنون صناعته في هذا المقهى". تناولت فنجان القهوة. رشفت قليلاً. كانت مرة كالعلقم. تلفّت أبحث عن نادل. كانوا مشغولين بتوزيع الطلبات. نظرت الى عامر وهو يحتسي ذلك الشراب المخضوضر. بلعت ريقي. لقد شربت خمسة فناجين قهوة منذ الصباح. وددت أن أطلب مثل شراب عامر. خفت أن يفسروا ذلك بالحسد أو الغيرة. رشفت مرة أخرى من القهوة على مضض وأنا أبحث عن النادل كي يستبدلها بأخرى. قال هادي وهو يقلب صفحات كتاب في يده: هل قرأت كتابه؟
- نعم ، لقد عشق الحانات فلا يكتب الا عنها ومنها!
- تخيلته مثل أبي نواس في حانة في بغداد
- يعرف حانات بغداد كلها واحدة واحدة! وكتب عنها
- يبدو أنه نقل معه حاناته الى عمان
- لقد وضع نسخاً من كتابه لدى الحانة التي يتردد عليها باستمرار. يزورها كل عدة أيام ليشرب بثمن ما يباع منها!
- يبدو أنه ما زال يحن الى حانات بغداد!
- لقد جاء الى عمان منذ عدة سنوات وبقي مقيماً فيها
- كم دمرت الحرب حياة الكثيرين
- إنه يخوض حروبه من قبل الاحتلال. متمرد فوضوي وصعلوك!

جمال مشغول مع سعيد في تحضير كلمة الافتتاح. بدأ المصورون والمحررون يتوافدون على المقهى. غلالات الابخرة والروائح ودخان السجائر تتصاعد وسط الأضواء الخافتة. فنان يضع رتوشه الاخيرة على لوحته أمام الجميع. أراد أن يقدمها ذكرى لعميد في حفل توقيع كتابه. في الزاوية جلس عازف العود يدوزن عوده وهو يضع قبعة سوداء على رأسه. بين حين وآخر يعلو صوت العود بألحان شرقية فيها مسحة حزن صوفية. يحتضن العود ويهز رأسه ويدندن.

ساد صمت قليلاً، قطعته متسائلاً: "هل يوجد عندكم مثل هذه المقاهي"؟ قالت بحسرة: "لم أر سوى المحلات. لم أعرف في حياتي سوى البيت والمحل. أشتغل من الفجر الى آخر الليل". عادت تبث مأساتها من جديد. التقينا المرة الماضية هنا. كانت تجلس مع جمال وتشكي له معاناتها كأنما تريد أن تبكي. قدمني جمال اليها. ولكننا سرعان ما إندمجنا في الحديث عن همومها.

"لم يكن قد مضى على وجودنا سوى أربع سنوات عندما وقعت الكارثة في نيويورك. ذهبنا بحجة السياحة وأقمنا هناك في بلدة بالقرب من شيكاجو. رزقت خلالها بولدين. كان شاكر يعمل لدى تاجر فلسطيني في أحد محلاته الكثيرة المنتشرة في الولايات. الحي مليء بالسود وبالمهاجرين من الشرق الاوسط. كنا نعتمد كثيراً على السود في التجارة. يشترون بكل ما يملكون كأنما يعيشون ليومهم. واذا لم يكن معهم يشترون بالدين"!

توقفتْ هنيهة لالتقاط أنفاسها ثم قالت بنبرة منكسرة حزينة: "عندما تزوجت شاكر كان يعمل مع أبيه في قطع الحجر الابيض والبناء. وعشنا في بيت أهله. تزوجته وأنا صغيرة. لم يسمحوا لي أهلي أن أكمل تعليمي. كان شاكر في منتصف العشرينات. لم نرزق بأطفال أول الامر. كان يعمل طوال النهار في قطع الحجر تحت أشعة الشمس الحارقة، وأنا كنت كالشغالة في البيت لدى أمه. لم اشعر أنني في بيتي. ذقت حياة مريرة لم أحس فيها بطعم السعادة. بدأ شاكر يفكر في الهجرة. أغلب أقاربه يعملون في أمريكا. كثيرون ذهبوا لا يملكون قوت يومهم والان صار لهم قصور. بدأ يشعر شاكر بالمفارقة. هولاء الذين كانوا يعملون معه بالحجر صار لديهم محلات وسيارات. صاروا حديث الناس في المجالس، وهو يرسف في الغبار حتى تشققت يداه ورجلاه".

رشفتْ من فنجان القهوة ثم تابعت: "ذهب أول الامر لوحده ، وأنا بقيت لوحدي هنا. عانيت الامرين. بكيت بصمت في كثير من الليالي. لم يكن أمامي سوى الصبر. علمتني تجربة أختى مع أبي معنى الخنوع بصمت ووفرت على نفسي المعاناة وبقيت صامتة أحترق من الداخل بانتظار السفر. بعد ستة أشهر إتصل بي شاكر وذهبت للسفارة وحصلت على تأشيرة، فتنفست الصعداء".

توقفتْ قليلاً ثم قالت: "عندما وطئت قدماي أمريكا رأيت عالما غريباً جديداً عليّ لم أر مثله من قبل. مدينة نظيفة خضراء، كل شيء فيها جميل. فرحت أول الامر كثيراً بالهروب من سجن بيت أهل زوجي! لكنني صرت حبيسة هنا. شاكر يخرج في الصباح ويعود عند الفجر وأنا أبقى وحيدة. قتلني الملل وأنا سجينة في البيت. ذقت معنى الوحدة بين أربعة جدران! لم أحس بمعاناة الغربة كما يدعون، فلم يكن هناك من أحن للعودة اليه سوى أمي التي ماتت بعد ثلاثة أشهر من وصولي الى هنا فجأة. بدأت أتعرف على بعض السيدات في الحي اللواتي كانت حالتهن مثلي. ووجدت الالوف مثلي سجينات الغربة! أخذت أعلم نفسي بنفسي وأقرأ كل ما تقع عليه يداي. عندما وصلت عرفت أن شاكر انفصل عن إبن عمه وأخذ يعمل في محلات أخرى. يحمل المهاجرون مشاكلهم ومتاعبهم وعاداتهم معهم أينما ذهبوا! عرفت أن المال هو كل شيء في النهاية. وأخيراً تمكن شاكر من فتح محل خاص به. كنت أساعده أحيانا فيه".

جاء عميد ومعه عدد من أصدقائه. سحب عميد كرسي وجلس بجانبي. قال لي إنهم حجزوا جواز سفره لأنهم وجدوه يسير مخموراً في الشارع! لم يكن غاضباً أو حتى متأثراً. فلا مكان سيسافر اليه بعد بغداد التي لم يعد يستطيع السفر اليها! وهو لن يبارح المدينة أصلاً! أخذ المصورون يلتقطون صوراً لعميد وهو يبتسم والسيجارة في فمه. بعد قليل كان يجلس الى طاولة ضيقة وكان سعيد وجمال يجلسان عن يمينه ويساره. ألقى جمال كلمة طويلة بصوت رتيب ضعيف بالكاد كنت أسمعه. بعد دقائق فقدت الاهتمام وسط الصوت وحركة الزوار والنادلين. إستمرت سمية تشكو. قالت إنها بحثت عن شاكر في الاردن فلم تجده. وستسافر الى إندونيسيا. لن يهرب منها أينما ذهب. وإذا لم تجده ستسافر الى المكسيك. حتماً سيكون هناك!

كانت سمية تتكلم بدون توقف. لم تعطني حتى فرصة للسؤال. لم تتوقف الا عندما جاء النادل. قالت: "كان شاكر متديناً يتردد على المسجد هناك وله بعض الاصدقاء فيه. وعندما وقعت كارثة البرجين في ايلول، فقد شكّت السلطات به. جاء رجال المباحث ذات يوم الى بيتنا واقتادوه معهم. إعتقلوه شهرين لم نكن نعرف خلالها عنه شيئاً ثم رحلوه على طائرة رغماً عن إرادته الى الاردن. كنت خائفة وشعرت بالضياع. إحترت ماذا أفعل. هل ألحق به وأترك كل شيء هنا؟ ومن سيسدد الديون التي حصلنا عليها لشراء المحل؟ وهل أعود مرة أخرى لبيت أهله الذي عانيت فيه الامرين؟ كنت محتارة مشتتة التفكير لا أدري ماذا أفعل؟ فقد كان تسفيره شيئاً غير متوقع؟ كنت أرتعد خوفاً وأقول لنفسي ماذا سأفعل هنا لوحدي؟ من سيدير المحل في غيابه ومن سيرعى الطفلين؟ لا أستطيع إدارة المحل فلا عهد لي من قبل بالتجارة ولغتي ضعيفة. كنت أفكر بالاولاد؟ وماذا سيحصل لهم اذا تركتهم لوحدهم؟ لم أكن أحب العودة. تساءلت بيني وبين نفسي كثيراً: "هل أترك كل شيء بنيته هنا يضيع؟ كنت خائفة من إدارة المحل لوحدي، ومرعوبة في أعماقي لأقصى حد. بقيت فترة وأنا مترددة. أخذت أداوم في المحل مكان شاكر لكنني كنت خائفة ولا أعرف كيف يشتري البضائع. إستأجرت مربية للاولاد وأخذت أرعى المحل وأتعلم يوما بعد آخر. كنت على اتصال مع شاكر دائماً أستعين به. حاول العودة عدة مرات ولكنه لم يستطع. سافر الى المكسيك وحاول التسلل الى أمريكا لكنهم قبضوا عليه على الحدود وأعادوه. ويوما بعد آخر بدأت تتكشف لنا الحقيقة المرة. لم يعد هناك أمل لشاكر بالعودة الى أمريكا. وصار يلح عليّ بالعودة. بعد هذه السنوات لم يكن سهلا علي أن أترك كل شيء تعبت لاجله. ثم حصلت بعدها على الاقامة. لم أكن أتخيل أن أعود للبيت في عمان بعد أن تعودت على العمل والسفر وأسلوب الحياة هناك.

نظرت في عيوني ولم تنتظر سؤالي وقالت: "كان الاختيار صعباً. كان شاكر يتصل بي كثيراً ويرجوني أن آخذ الاولاد وأعود. لاحظ ترددي فبدأت تدب المشاكل بيننا. كان يرجوني وأحيانا يتوسط لدى أهلي كي يتصلوا بي لاقناعي بالعودة لكنني رفضت. كان متضايقاً مما حصل ومن هذا الافتراق القسري، فصار يتعامل معي بلغة مختلفة وأسلوب متسلط آمر. لم تعجبني طريقة كلامه معي ، فلم أعره إهتماماً. أخذ يهددني بأن علي أن أعود وإلا سيخطف الاولاد ولن أراهم بعد ذلك. طالت الايام والحال بيننا على هذه الشاكلة. حتى عرفت ذات يوم أنه سافر الى أندونيسيا. أخبرني أنه ذهب لأجل التجارة، ولكنني عرفت فيما بعد من بعض القادمين أنه تزوج هناك. لم استغرب من ذلك فقد قلت إتصالاته بنا وبأولاده. ولم يعد يلح علي بالعودة. شعرت أن في الامر شيئاً ولكن لم أكن أظن أن تصل الأمور الى هذا الحد. بكيت أول الامر بيني وبين نفسي. ولكني حقدت عليه كثيراً. لقد طعنني في أعز شيء عندي. زاد إصراري على البقاء هنا. قررت أن أحرمه من رؤية الاولاد. ولكن حجم المسؤولية كان يقلقني .. بل يرعبني. تحملت مسؤولية المحل والبيت والاولاد لوحدي. ولكنني كنت على وشك الانهيار. صارت المصلحة تتراجع. وكثرت الديون".

رأيت عميد يمسك بالميكروفون. أخذت أصغي لكلماته. لاحظت علي سمية ذلك فتوقفت عن الحديث. كان عميد يبتسم وهو يتحدث عن نفسه وأسرته وعن كتابه. قال إنه لما تخرج من الجامعة فقد إبيضت عينا أبيه من الحزن حتى مات! كان يتمنى أن يدرس إبنه الهندسة لكنه درس الفلسفة! ثم لحقت به أمه بعده بسنة!

أخذ عميد يقرأ صفحات من كتابه الجديد ويبتسم وهو يقرأ بعض الكلمات. عدت أنظر الى سمية فوجدتها متأهبة للحديث مرة أخرى. قالت: "بعد أن تزوج شاكر إسودت الدنيا في عيني وشعرت باحتقار لكل جنس الرجال. صرت أكرههم وأرى الخيانة في عيونهم. لم أعد أثق بأي أحد منهم. لكنني لم أستطع الصمود في المحل لوحدي، وخشيت أن أفقد كل شيء. خشيت ألا أستطيع سداد الدين فانتهي بالسجن ويضيع أولادي مني. حتى دخل عندي ذات يوم رجل في بداية الثلاثينات من العمر. تحدثت معه مثل أي زبون آخر يدخل المحل. لكنه إستوقفني باسلوبه وكلماته. لم يكن مثل الاخرين. شعرت أنه ما زال جديداً على نمط الحياة وأساليبها هنا. سألته عن عمله فأخبرني أنه ما يزال حديث العهد في البلدة. قال لي إنه جاء الى أمريكا قبل ثلاثة أشهر وبقي يعمل سراً. صدق حدسي، فقد لمست أن المال لم يفسد طباعه بعد! أخذ يتردد على المحل بين حين وآخر حتى نشأت صداقة بيننا. أخبرته بقصتي وعرفت منه أنه ترك أسرة كبيرة فقيرة وجاء الى هنا ليساعدهم مادياً. تذكرت بدايتنا أنا وشاكر. بدأت أشعر أنه يتقرب مني. صار يبادرني ببعض الحركات كالمراهقين الصغار! بدأ قلبي يميل اليه. لكنني خفت من أن تتطور الامور بيننا. ماذا سيقول الناس فأنا ما زلت متزوجة من شاكر الذي هجرني وأحضر لي ضرة! ماذا سيقول الاولاد وقد بدأوا يدركون الاشياء من حولهم. لكن العاطفة ثارت في أعماقي من جديد. شعرت أن هناك من يهتم بي كإمرأة. وأحسست أنني بحاجة الى من يقف الى جانبي في إدارة المحل. عرضت على مجدي أن يعمل معي في المحل فوافق".

سمعت صوت تصفيق عال. إنتبهت حولي.. لقد فرغ عميد من قراءة نصوص من كتابه وقد تجمع بعض الناس حول طاولته كي يوقع لهم الكتاب. نهضت وذهبت الى نهاية المقهى وإشتريت كتابه وأسرعت به اليه كي يوقع لي عليه. عندما جاء دوري ضحك وقال: لقد غفرت لك! أعرف أنك لم تسمع ولا كلمة واحدة مما قلته! ولكني أدركت أنك تجلس بجانب إمرأة جميلة! لم تحول عينيك عنها طوال الوقت! عدت أحمل الكتاب فرحاً به. شاهدتني سمية فأمسكت به وأخذت تتصفح فيه. قلت: وماذا حصل لك مع مجدي؟ قالت : "كان حنوناً طيباً قوياً حمل عني كل شيء. لقد إرتحت له ورأيت حرصه علي وعلى المحل. حتى جاء يوم وأخبرني أنه يود الحديث معي بموضوع هام. خفت من كلماته. خشيت أن يكون البنك قد حجز على المحل! لكنه فاجأني حين عرض علي الزواج. إضطربت وصدمت أول الامر. ذهلت ولم اتوقع مثل هذا الامر. غير أنه أصر على طلبه. أخبرته أنني ما أزال متزوجة من رجل رحل ولن يعود. بقي يحاول معي. كنت خائفة ومترددة. خشيت نظرات الناس. ماذا سيقولون عني. تزوجت من رجل يصغرها بسنوات كثيرة. سيقولون لقد تركت أولادها وركضت خلف عامل لديها. زاد خوفي أكثر فرفضت. لكنه بقي يلح علي ويقنعني. كنت أعي بداخلي أنني أحتاج الى وجود رجل بجانبي. لكنني كيف أتزوج وأنا متزوجة من رجل تركني قبل سنوات وتزوج غيري! أخذني مجدي ذات يوم الى شيخ وقال إنه سيسمع قصتي وسيفتي ماذا أستطيع أن أعمل. فلما سمع قصتي أفتى لي بجواز الطلاق منه. فطلقت نفسي منه. فاتحت أولادي بالموضوع. رفضوا أول الامر ثم وافقوا عندما تأكدوا من رغبتي. وافقت على الزواج من مجدي. كان رجلاً طيباً لكنه كان متزمتاً قليل الكلام".

توقفتْ قليلاً لتشرب الماء. بدأ الاضطراب والحزن عليها أكثر من ذي قبل. قالت: "بعد فترة صرت أشعر بتغير من جانبه. لم يعد ذلك الانسان الطيب اللين المحب. صار شرساً يستخدم لغة جارحة أحياناً. لقد أحببته بشغف من أعماقي ووجدت أن حياتي صار لها معنى بوجوده. صرت أحتمل تصرفاته الغريبة معي أحيانا لأجل البيت والمحل. شعرت أنه ندم على زواجه. لم يكن يصرح بذلك لكن نظراته كانت كافية. كان يتحدث مع أهله، ولم يخبرهم أبداً ولا مرة عن زواجنا. عندما كنت أساله عن السبب، كان يقول لي أنه يود أن يخبرهم بذلك عندما يعود وجهاً لوجه. ولكن متى سيعود؟! إنه يقيم هنا بشكل غير شرعي وربما تمضي سنوات قبل أن يتمكن من العودة. صرت أشعر أنه ربما تزوجني لأغراض الاقامة. كانت صدمتي به أقوى من صدمتي بشاكر. لقد أحببته بشدة وحمل عني هموم المحل فترة لكنه صار يتغيب عن البيت أياماً. عندما تزوجنا لم يكن يملك من الدنيا شيئاً سوى ثيابه. عاد ذات ليلة متأخرا كثيراً. كنت أغلي من الشعور بالتجاهل والنكران وأنتظر رجوعه. وعندما دخل البيت لم أستطع الانتظار فأخذت أصرخ عليه وأعاتبه. صار يرد علي فاحتدم النقاش بيننا. ومن غير أن أدري فقدت أعصابي فقلت له: قبل أن نتزوج لم تكن أصلاً شيئاً. لقد صنعت منك رجلاً وزوجاً! كان للجملة رنة أخرى. لقد تكهرب الجو فوراً. أدركت ساعتها أنني قلت شيئاً من غير حسبان. لقد إكفهر وجه مجدي لكنه نظر الي بحنق وغضب وخرج من البيت. لم أعد أراه بعد ذلك. بقيت أسأل عنه فلم أجد له أثراً. خلال هذه الفترة إضطريت للعودة للمحل مرة أخرى فاكتشفت أنه كان يأخذ ايرادات المحل ولم يكن يدفع الاجرة حتى تراكمت علي".

نظرت الى عامر أمامي. كانت نظراته فيها شيء من الغضب. أظن أنني أدركت سبب ذلك. كان يلكزني من تحت الطاولة بقدمه! خفت أن أسالها عن النهاية فيغضب. لكنني بقيت في داخلي متشوقاً لأعرف ماذا حصل. ناديت على النادل لأدفع له الحساب. وبينما نحن ننتظر رجوعه بالباقي قلت لسمية هامساً: لن أخرج قبل أن أسمع النهاية. معك دقيقة واحدة! لكزني عامر بطرف يده لكزة قوية من تحت الطاولة! كدت اضحك ولكني تمالكت نفسي. قالت: "مرت سنتان كنت خلالها ألوم نفسي على ما قلته لمجدي، ولكنني كنت أراجع ذاتي فأحس أنه لم يتزوجني لذاتي بل لأجل محلي والاقامة. لقد وفرت له بيتاً وعملاً وكل شيء! وعندما أيقنت أنه لن يعود لي فقد ذهبت الى ذات الشيخ الذي أخذني اليه مجدي ذات يوم وطلقت نفسي منه"! نظرت الينا والاستغراب يملأ وجوهنا. نهضت وقالت: "هذه هي الحياة. وهذه بعض قصص الغربة التي لا تعرفون عنها شيئاً"!



* اللوحة أعلاه بعنوان فتاة تنظر الى المرآة للفنان الاسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973)


الأحد، يناير 11

العودة


العودة

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قالت أمي ببساطتها المعهودة: جين وكاميليا طيبتان جداً. تأتيان لزيارتي كل يوم ثلاثاء.
قلت مستغرباً: ومن هما جين وكاميليا؟
-: ألم ترهما؟! حسبتك تعرفهما.
-: لم يسبق أن رأيتهما عندنا! فكيف سأعرفهما؟!
-: تأتيان كثيراً في يوم عطلتهما. ولكنك لا تكون هنا. بنتان سويسريتان تعيشان في حي خرفان المجاور. واستدركتْ بحسرة: تعيشان لوحدهما. لم تتزوجا. أشفق عليهما أحياناً!

الدنيا قبيل الغروب في بواكير آذار. الطقس ربيعي والمشهد من حولي يدفعني للتأمل وإستشعار سكون الطبيعة ورهبتها! تخترق الطريق الجبال الصخرية والوديان والسهول الخضراء. تملأ أزهار الاقحوان الفضاء والارض مثل بساط أخضر والاشجار متأنقة بأوراقها. أجلس في المقاعد الامامية وأتكأ على مسند الكرسي وأنظر من زجاج مقدمة الحافلة كما أفعل كل خميس في رحلة العودة. تتوالى صور الطبيعة مثل مشهد بانورامي. كنت أود أن أقترب منها أكثر. أن أمسكها بيدي وأتاملها طويلاً. ولكن سنوات مضت وأنا مجرد عابر سبيل لا يناله منها سوى النظرات.

تسير الحافلة بسرعة كبيرة. تتمايل عند المنعطفات فأحس أنها على وشك الانقلاب. الموسيقى النشاز تملأ السكون الجاثم بكل فجاجة. لم أكن أصغي الى كلماتها ولكنها تخترق أسماعي رغماً عني، فتثيرني بركاكة عباراتها. كنت متعباً من أسبوع حافل وأتلهف للوصول الى البيت كي أرتمي على أول صوفا أجدها! عادت أمي تقول:
- طيبتان كثيراً. تأتيان لزيارتي بانتظام كل اسبوع.
- هل تتحدثان العربية؟! سألت مستغرباً من انطلاق أمي في الحديث عنهما!
- تتحدثان بلغة ركيكة بلكنة غريبة لكنها مفهومة!
- لا أصدق أنك بنيت هذه الصداقة معهما من دون لغة مشتركة للتخاطب!
- سترى عندما تأتيان المرة القادمة.

تعجبت من قدرة أمي على هذا التعايش من غير أن تكون قد دخلت مدرسة في حياتها. واستغربت كيف استطاعت أن تبني صداقة معهما. وأدركت كم تنطوي صدرونا نحن المتعلمين على غرور فنظن أن التفاهم بين البشر يحتاج الى شهادات!
- وكيف تعرفت عليهما؟
- التقيت بهما صدفة في السوق المجاور وهما تشتريان بعض الاغراض.

نسكن في حي المهاجرين. حي شعبي فقير في بيت صغير قديم يقع في قاع درج طويل بالكاد يتسع لنا. تحب أمي أن تشتري أغراض البيت بنفسها. تذهب للسوق صباح كل سبت، وتشتري المؤونة وتعود قبيل الظهر. تعود وهي تنوء بحمل الاكياس في يديها. رجوتها عدة مرات ألا تحمل تلك الاكياس. فتقول لي: ومن سيحملها عني؟! أذهب للسوق وأخوك نائم حتى الظهر. لا يستيقظ حتى لو دوّى صوت مدفع عند رأسه. أبقى أنادي عليه وهو يرفع رأسه متأففاً يريد أن ينام. فكنت ألوذ بالصمت من إجاباتها!

تجلس الى جانبي في الحافلة فتاة قد غطت وجهها الا من عينيها. بقيت ساكناً وعرفت أن الرحلة ستكون طويلة! أشعر بعدم الارتياح حيال جلوسي بجانبها، فكل التفاتة الى جانبي لرؤية المشهد خارج النافذة ستثير الظنون والصمت المتوتر. تجلس متسمرة في مكانها طوال الطريق. أحس أنها تتصنع الوقار أو أنها تجبر نفسها على الجلوس هكذا لإظهار الرزانة.

- جين وكاميليا تجمعان تبرعات للايتام وتساعدان النسوة في الحي. ولكني حزينة لأنهما في غاية الجمال ولم تتزوجا! يضيع شبابهما هدراً!

الحافلة مليئة بالركاب. أغلبهم من الشباب والبنات العائدين من الجامعة في عطلة نهاية الاسبوع. أنهمك عدد منهم بأحاديث هامسة خشية المتطفلين. الكل يحمل كتباً وأوراقاً ودوسيهات في حجره، ولكن لا أحد يقرأ في شيء أمامه. بدأت الشمس بالانحدار في الافق، مثل كرة برتقالية كبيرة. تمر اللحظات والكرة تنحدر وتغيب. أتحسر.. بعد قليل سيحل الظلام ويختفي كل هذا الجمال على طول الطريق. أتعجب كيف يكون شكل الحياة في هذه البقاع في الظلام.

- هل تعملان مع برنامج أو جمعية للاغاثة ومساعدة الفقراء؟
- أخبرتني كاميليا أنهما ستسافران الى غزة لتقديم معونات للاطفال الايتام. لقد جاءتا الى عمان قبل ثلاث سنوات. وتعملان مع منظمة دولية لمساعدة عائلات الأسرى في سجون الاحتلال. ينقلن الرسائل من المساجين الى عائلاتهم في غزة والضفة الغربية.

حل الظلام تدريجياً فلم يعد في مقدوري أن أرى الاخضرار. أخذت أقرأ في الصحيفة. صرت أقرأ صفحاتها بتمعن على غير المعتاد كي أقتل الوقت! حتى صفحات النعي توقفت عندها كي أرى كيف يتصرف الناس مع الموتى! يبدو أننا لم نطور أسلوبنا في هذا المجال بعد كل هذه السنوات الطويلة!
- ومتى ستأتيان المرة القادمة؟
- لقد أخبرتهما عنك المرة الماضية وعن دراستك. أتمنى أن تأتيا وأنت هنا.

بدأت الحافلة تنحدر من المناطق الجبلية الى سهل البقعة. بدأت تختفي الجبال العالية وتظهر أضواء البيوت الكثيرة على إمتداد السهل. تزدحم الطريق بالسيارات. تمتد بيوت الصفيح والطرقات الطينية في المخيم على جانبي الطريق الطويل. مخيم كبير شاسع يضم مئات الالوف. البيوت ذات سقوف من الزينكو، وقد إزدحمت طرقاته بالعربات والعجائز والاطفال والمحلات التي تبيع كل شيء! أسطح البيوت مثل غابة كثيفة من الاطباق اللاقطة وهوائيات التلفزيون! تذكرت شيلا قبل عدة سنوات. إمرأة انجليزية عملت سنوات في كينيا في تعليم اللغة هناك. كانت رقيقة حساسة ، تخاف من أي شيء ، ودائمة الابتسام والحركات الايمائية! عندما مرت من هذا الشارع لاول مرة وهي في طريقها للجامعة، ذهلت من عدد هوائيات التلفزيون فوق أسطح بيوت المخيم! إستكثرت ذلك على ساكنيه. كانت تظن أن الناس بعد خمسة وأربعين عاماً ما يزالون يعيشون تحت الخيام! ولكن ذهولها حرك في داخلي هاجساً مكبوتاً. هل ما يزال كل هولاء يفكرون بالعودة؟! كم من المفاتيح التي حملتها أمهاتهم ما تزال معهم؟
- وماذا قالتا عن معاناة الناس هناك؟
- قابلتا عددا كبيراً من الشخصيات المعروفة. لقد أرتني كاميليا الصور!
- معقول؟ كيف حصل هذا؟
- بفعل نشاطاتهما الواسعة وتنقلهما المستمر فقد صارتا تعرفان كل شيء عن المنطقة.

بدأت الحافلة تدخل حدود المدينة. الاضواء تتلألأ.. والشوارع مزدحمة بالبشر والسيارات. نظرت عبر النافذة. ما تزال الفتاة جالسة في مكانها بلا حركة وهي تنظر الى خارج النافذة. المحلات متلاصقة على طول جانبي الطريق بلوحاتها الفوضوية وحجارة أرصفتها المتكسرة. توقفت الحافلة. نزلت وحملت حقيبتي ووقفت أنتظر سيارة. كان كلام أمي عن جين وكاميليا ما زال يتردد في خاطري. حاولت أن أتخيلهما. أحسست من كلام أمي أنهما فتاتان كبيرتان صلبتا العود حتى تقوما بهذه المهمة لوحدهما وتتحملان حياة الغربة في بيئة قاسية ليست كتلك التي إعتادتا عليها. قالت أمي:

- شكت لي كاميليا من المرارة التي يعيشها الناس تحت الاحتلال. قالت لي أنها بينما كانت تقف ذات مرة على باب أحد البيوت وهي تحنو على طفل يتيم صغير. أحست بيوم القيامة يقوم من حولها. لقد دوّى الصوت وارتفعت كرة النار قريبا منها. لقد سقطت قذيفة في حوش الدار فقتلت الام وصارت جثتها أشلاء. كاد أن يغمى عليها وصارت تصرخ من الصدمة حتى فزع الناس.

أوقفت سيارة أجرة صفراء وطلبتُ منه أن يوصلني الى منزلنا. كنت متعباً. خفت أن يفتح السائق معي موضوعاً كالعادة من الملل الذي ينتابهم طوال النهار وهم على الطرقات! مرهق وليس بي رغبة في الحديث! بقيت هادئاً ويبدو أنه كان مستغرقاً بسماع الاخبار فلذت بالصمت! كانت ما تزال صور الطريق الجميلة تمر أمام عيني. تذكرت شيلا مرة أخرى.
وقفت السيارة في نهاية الشارع. منزلنا في آخر الدرج الطويل أسفل الشارع. نزلت ببطء أتكيء على الجدار. دققت جرس المدخل فسمعت صوت مزلاج الباب ينفتح. طلت أمي بوجهها البشوش الباهي. عانقتني ودخلت. رأيت فتاتين في نهاية العشرينات من العمر وذات شعر أشقر جالستين تنظران الى التلفزيون. قالت أمي: هذا سامي الذي حكيت لكما عنه. وصل الان من إربد. ابتسمتا وسمعتهما تقولان بعربية بلكنة أجنبية أهلا وسهلاً . التفتت الي أمي وقالت: هذه جين وكاميليا. لقد وصلتا أمس من رام الله. سمعت أمي تتمتم وتدعو لهما بالستر والزواج! ضحكت في سري! جلست قليلاً وتركت أمي تودعهما على طريقتها الخاصة ودخلت للداخل لارتاح من عناء طريق العودة.


* اللوحة أعلاه بعنوان حيرة للفنان العراقي أمين العزاوي

الاثنين، يناير 5

مرثية لعيون غزة


مرثية لعيون غزة


اياد نصار


لغزة َ في القلبِ خمسمئةِ غصّة

لا بل سبعمئةٍ .. لا بل الفٌ

تَسْرِقُ من ذاك الطفلِ المعجون ِ

برائحةِ التراب معنى الحياة

وتسلبه أية َ فرصة


لا بل قد لا تكفي الارقامُ

ولا الحروفُ ولا كلُ الالوانِ

الحمراءِ والسوداءِ

ولا حزنُ القصة


لتصنعَ مرثية ًَ للحياة

وولادةً الموت على سريرِ

كل طفلٍ نام

ولم يبق منه شيءٌ

كي يفيقَ على أنّات أمه

تودّع الحياةَ برقصة


في عرسِ الدم المصبوبِ

تحتَ السقفِ الذي سحق

إخوته..

بلا رأفةٍ أو عذرٍ

ومتى كان للقتلِ سوى في غزةَ َ

رخصة؟


ومن سيحملُ ما تبقّى من وجههِ

في ليل البرد والصقيع

أو يقيمُ لمن إغتالوا براءته

محكمة ً مختصة؟


آهٍ لقلبي كم توالت عليه كلَّ ليلة

من جنون من كان يوماً رفيقاً

كوابيسُ

ومن جحيمِ البعيد والحقد والرصاصِ

غصّةٌ تلوَ غصّة


"أضاعوني وأي فتى أضاعوا"

ليومِ النار تصعدُ للسماء

تحملُ دمعة ًَوشوكة ًفي الحلق

وتضعُ عند قبورهم

ورداً قد ذبل

على منصّة


رأسُك يا صغيرتي يتدلّى

وخصلاتُ شعركِ احترقت

فلا يدٌ حانية تمسّده

ولا قلبٌ يبثِّكِ عندما

نغرقُ في ذاكرة الصمتِ

وتصلُ العاصفةُ السوداء

حنانَه

وحرصَه


فامضِ يا صغيرتي

الى نجوم الفجر

واتركي لنا ليلَ انتظارنا

نلوكه على الشاشة

حصة مباشرة فحصة!


* اللوحة أعلاه بعنوان بعد الغارة للفنان الفلسطيني اسماعيل شموط 1930 - 2006

الأحد، يناير 4

تهديد صديقنا كولبي


تهديد صديقنا كولبي

قصة الروائي الامريكي دونالد بارثيلمي
ترجمة وتقديم: اياد نصار

المؤلف:
عاش الروائي والقاص الامريكي دونالد بارثيلمي ما بين عامي (1931 - 1989). ولد في مدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا. كان والده يعمل أستاذاً للهندسة المعمارية بجامعة هيوستن. درس الصحافة في ذات الجامعة. عمل لفترة قصيرة محرراً لصحيفة عسكرية أمريكية في كوريا مباشرة بعد انتهاء الحرب الكورية في خمسينيات القرن العشرين. ولكنه سرعان ما عاد للولايات المتحدة وعمل مراسلاً لصحيفة هيوستن بوست بولاية تكساس، ومديراً لمتحف الفنون المعاصرة في هيوستن، واستاذاً في عدة جامعات أمريكية مثل بوسطن ونيويورك. اتسمت علاقته بوالده بنوع من الصراع والاختلاف في التوجهات. ففي حين كان والده يؤيد الحركات الطليعية في الفن والجماليات، إلا إنه لم يكن يتقبل المدارس الفكرية كالتفكيكية وما بعد الحداثة، مما ساهم في تعميق هوة الخلاف بينهما.

نشر مجموعته القصصية الاولى بعنوان (إرجع يا دكتور كاليجاري) عام 1964. وقد نالت هذه المجموعة شهرة كبيرة وحققت له مكانة في الاوساط الادبية حيث إبتكر فيها شكلاً للقصة القصيرة حاول العديدون من بعده تقليده. نشر في العام 1968 مجموعته الثانية (ممارسات لا يمكن الحديث عنها .. أعمال غير عادية). ثم تتابعت أعماله القصصية في شكل عدة مجموعات نشرها في السنوات التالية ومنها: (حياة المدينة) عام 1970، و(حزن) 1972، و(هواة) 1976، و(أيام عظيمة) 1978. كما ألف أربع روايات تمتاز بأسلوب التشظي والتفكيك وهي: (بياض الثلج) 1967، و(الاب الميت) 1975 والتي تطرق فيها الى جوانب من شخصية والده، و(الفردوس) 1986، و(الملك) وقد نشرت بعد وفاته عام 1990.

يمتاز أسلوب بارثيلمي بالقصة المكثفة المختصرة التي سماها بعض النقاد قصة قصيرة قصيرة! وفيها يقدم حدثاً قصيرا محدداً يبتعد فيها عن سرد الوقائع. كما تتسم قصصه بالتركيز على تقديم مواقف تنطوي على الادراك المفاجيء لجوهر أو طبيعة الاشياء الكبرى، وبهذا يصبح البطل كمن يحل لغزاً في نهاية المطاف أو يجد القطعة الناقصة التي تكمل الصورة! تأثر بارثيلمي كثيراً بمفكرين وفلاسفة وكتاب كان لهم دور بارز في تطور الفكر وتيارات ما بعد الحداثة مثل: باسكال، وهيدجر، وكيركيغارد، واينيسكو، وصامويل بيكيت، وسارتر، والبير كامو.

القصة:
كان بعضنا يهدد صديقنا السيد كولبي لمدة طويلة بسبب الطريقة التي كان يتسم بها سلوكه. والان فقد تجاوز الحد كثيراً، لذلك قررنا إعدامه. كان كولبي يجادل أنه إذا كانت المسألة أنه قد تجاوز الحد كثيراً وحسب (لم ينكر أنه قد تجاوز الامر كثيراً) فهذا لا يعني بحد ذاته أنه يجب إعدامه لأجل ذلك. الافراط في التجاوز كما قال شيء يفعله كل شخص أحياناً. لم نعر منطقه في الجدال أهمية كبيرة. وسألناه أي نوع من الموسيقى يود أن يتم عزفه خلال الاعدام. قال إنه سيفكر بالامر، ولكن ذلك سيستغرق منه بعض الوقت ليقرر. أشرت له أنه ينبغي عليه أن يقرر قريباً لأن هوارد الملحن يتعين عليه عندها أن يستأجر موسيقيين ويدربهم، وأنه لا يمكنه أن يبدأ بذلك إلا إذا عرف ما هي الموسيقى التي سيتم عزفها. قال كولبي أنه كان على الدوام شغوفاً بسيمفونية الموسيقار آيفيس الرابعة. قال هوارد أن ذلك مناورة لكسب الوقت، وأن كل واحد يعرف أن آيفيس* من المستحيل أن يمثل ويحتاج أسابيع من التمرين وأن حجم الفرقة السيمفونية وجوقة الانشاد ستجعلنا نتجاوز ميزانية الموسيقى بكثير. وقال لكولبي: "كن منطقياً". فقال كولبي أنه سوف يحاول التفكير بشيء أقل كلفة.

كان هيو قلقاً بشأن صياغة بطاقات الدعوة. ماذا لو وقعت إحداها في أيدي السلطات؟ إن إعدام كولبي هو بلا شك ضد القانون ، ولو علمت السلطات مسبقاً عن الخطة، فإنهم على الاغلب سيأتون وسيفسدون كل شيء. قلت أنه بالرغم من أن إعدام كولبي هو بلا شك ضد القانون، إلا أن لدينا حقاً أخلاقياً مثالياً لأن نفعل ذلك لانه صاحبنا وينتمي لنا من عدة زوايا مختلفة ، وأنه فوق ذلك كله قد تجاوز الحد كثيراً. إتفقنا أن تتم صياغة الدعوات بطريقة لا تجعل الشخص المدعو يعرف على وجه اليقين لاجل ماذا تمت دعوته. إتفقنا أن نشير الى الحدث بعبارة "حدث يتعلق بالسيد كولبي ويليامز". وتم إختيار نص أنيق من دليل وإخترنا كذلك ورقاً بلون الكريم. قال ماغنوس بأنه سيشرف على طباعة بطاقات الدعوة، وتساءل إن كنا سنقدم المشروبات للضيوف. قال كولبي أنه يعتقد ان المشروبات فكرة جيدة لكنه قلق بشأن النفقات. أخبرناه برفق بأن النفقات لا تهمنا، وإنما ما يهمنا هو أننا نريد دعوة كافة أصدقائه الاعزاء، ولو كانت هناك مجموعة من أصدقائه الاعزاء لم تستطع الحضور أو أن نقوم بهذا الشيء بقليل من الفخامة ، فماذا كان سيصيب العالم ولماذا ساعتها؟ سأل كولبي إن كان باستطاعته أن يتناول مشروبات أيضاً قبل الحدث. قلنا له: "بالتأكيد".

كان موضوع العمل التالي هو المشنقة ذاتها. لم يكن أحد منا يعرف الكثير عن تصميم المشنقة، لكن توماس المعماري قال بأنه سوف يبحث عنه في الكتب القديمة ويرسم المخططات. الشيء المهم بحسب ما يتذكر هو أن يفتح باب خشبة المشنقة جيداً. وقال إن حساب العمال والمواد يجب ألا يزيد عن أربعمائة دولار على نحو تقريبي. قال هوارد: " يا اله العزة". وتساءل إذا كان الخشب الذي يفكر به توماس هو خشب الورد؟ فقال توماس: كلا، نوع جيد من خشب الصنوبر. وسأل فيكتور إن كان منظر خشب الصنوبر غير المدهون سيجعله يبدو من النوع الخام؟ ورد توماس بأنه يمكن استبداله بخشب غامق من الجوز بدون أية مشاكل تذكر.

قلت على الرغم من أن كل الامر يجب أن يتم حقاً على نحو ملائم وكامل، إلا أنني أيضا فكرت بأن أربعمائة دولار للمشنقة علاوة على نفقات الشراب والدعوات والموسيقيين وكل شيء أمر مكلف جداً، فلماذا لا نستعمل مجرد شجرة - شجرة بلوط جيدة المنظر أو ما شابهها. وأشرت أنه إذا كان الاعدام سيكون في شهر حزيران/ يونيو، فإن أوراق الاشجار ستكون في عز إيناعها، وأنه ليس فقط ستضيف الشجرة نوعاً من الاحساس الطبيعي، ولكنه أيضاً تقليدي بالمعنى الحرفي للكلمة، وخاصة في الغرب. وذكرنا توماس الذي كان يرسم رسومات للمشنقة على ظهر المغلفات بأن الاعدام في الهواء الطلق يجب أن يراعي إحتمال سقوط المطر. قال فكتور أنه يحب فكرة إجرائها في العراء، وربما على ضفة نهر، ولكن يجب الانتباه الى أن القيام بها بعيداً عن المدينة يعني صعوبة إحضار الضيوف والموسيقيين .. الخ الى الموقع ومن ثم مرة أخرى الى البلدة.

وعند هذه النقطة فقد نظر الجميع الى هاري الذي يدير مصلحة لتأجير السيارات والشاحنات. قال هاري أنه يظن أنه يستطيع جمع عدد كاف من سيارات الليموزين لتولي تلك المهمة ولكن يجب دفع أجور السائقين. وأشار بأن السائقين ليسوا أصدقاء كولبي وبالتالي يجب ألا نتوقع أنهم سوف يتبرعون بخدماتهم مجاناً، مثلهم مثل ساقيي الشراب والموسيقيين. وقال أنه لديه حوالي عشرة سيارات ليموزين والتي يستعملها عادة للجنائز، وأنه يمكنه تأمين دزينة أخرى على الاغلب من خلال الاتصال باصدقائه في هذا النوع من العمل. وقال إنه اذا عملناها خارجاً في الهواء الطلق، فيجب التفكير في خيمة أو صيوان لتوفير غطاء على الاقل للشخصيات الرئيسية والفرقة الموسيقية لأنه اذا أمطرت أثناء الاعدام فسيبدو الامر كئيباً. أما إن كان يفضل المشنقة أم شجرة، فقال إن الامر سيان لديه، وأنه حقاً يعتقد أن الخيار يجب أن يترك لكولبي كي يقرر ماذا يختار ما دام الامر يتعلق بإعدامه هو. قال كولبي لقد تجاوز كل شخص الحد كثيراً في الماضي أحياناً ولم نكن متزمتين في أحكامنا مثل دراكو*. قال هوارد بحدة واضحة بأن كل ذلك قد تمت مناقشته، فما الذي يريده هو: المشنقة أم الشجرة؟ سأل كولبي إن كان بالامكان أن تكون هناك فرقة للاعدام بالرصاص. قال هوارد لا، لا يمكنه ذلك. وقال إن فرقة الاعدام ليس لها حاجة سوى مجرد إرضاء غرور كولبي المعصوب العينين وفي فمه قمع السيجارة الاخيرة وأن كولبي في ورطة بما يكفي بدون أن يشغل كل واحد بحركات مسرحية لا داعي لها. إعتذر كولبي بأنه لم يقصدها على ذلك النحو، وأنه يختار الشجرة. عجّن توماس رسومات المشنقة بين يديه التي كان مشغولاً بها بقرف.

ثم برزت مسألة الجلاد أو العشماوي! قال بول هل نحتاج بالفعل الى جلاد؟ لأننا اذا إستخدمنا شجرة فيمكن تعديل حبل المنشقة الى المستوى المناسب، وبإمكان كولبي أن يقفز عن أي شيء مثل كرسي أو مقعد أو سواه. وعلاوة على ذلك قال بول إنه يشك إن كان هناك جلادون يعملون لحسابهم يتجولون في البلاد الان وخاصة أنه قد تم الغاء عقوبة الاعدام مؤقتاً وأنه يتعين عليه السفر لاحضار واحد من انجلترا أو إسبانيا أو واحد من دول أمريكا الجنوبية، وحتى لو فعلنا ذلك فكيف يمكننا أن نعرف مقدماً بأن الرجل محترف في مجاله، جلاد حقيقي وليس مجرد هاوٍ باحث عن المال قد يفسد العمل كله ويخزينا جميعاً أمام الاخرين؟ إتفقنا جميعاً بأنه يتعين على كولبي أن يقفز عن شيء ما، وأنه يجب الا يقفز عن كرسي، لأننا شعرنا بأن ذلك سوف يبدو عملاً يفتقد للذوق: كرسي عتيق يقف هناك تحت شجرتنا الجميلة. واقترح توماس الذي يبدو معاصراً في هيئته ولا يخاف من الابتكار أن يقف كولبي على كرة مطاطية دائرية كبيرة طول قطرها عشر أقدام. وقال هذا كفيل أن يؤدي الى السقوط من ارتفاع كافٍ. ويمكن إزاحتها من الطريق بسهولة اذا غير كولبي رأيه فجأة بعد القفز. وذكرنا بأنه بالاستغناء عن جلاد فإننا نضع جانباً كبيراً من المسؤولية عن نجاح الامر على عاتق كولبي نفسه، وأنه بالرغم من أنه متأكد بأن كولبي سوف يتصرف بمسؤولية ولن يخزي أصدقاءه في اللحظة الاخيرة، إلا أنه عُرف عن الرجال بأنهم يترددون قليلاً في أوقات مثل هذه، وأن الكرة المطاطية ذات العشر أقدام والتي يمكن تصنيعها بشكل رخيص سوف تضمن تنفيذاً ناجحاً حتى خط النهاية!

وعلى ذكر الخط ، فإن هانك الذي بقي صامتاً طول الوقت تكلم فجأة وقال إنه يتساءل إن لم تكن فكرة أفضل لو أننا إستعملنا سلكاً بدلاً من الحبل، فهو أكثر فعالية وأكثر رأفة بكولبي. بدأ التشاؤم يبدو على كولبي قليلاً، وأنا لا ألومه في ذلك لأن هناك شيئاً مريعاً جدا في التفكير بأنه سيتم إعدامك بسلك بدلاً من حبل. إنه يعطيك نوعاً من الشعور بالبغض عندما تفكر به. وأعتقد أنه كان من غير المناسب تماماً من هانك أن يكون جالساً هناك يتحدث عن السلك بينما نحن قد حللنا للتو مشكلة ما الذي سوف يقفز عنه كولبي برشاقة بفكرة توماس عن الكرة المطاطية. ولهذا قلت بسرعة بأن السلك غير مطروح أبدا لأنه سوف يجرح الشجرة ويحفر في الغصن المربوط به عندما يقع كولبي بكامل ثقله ، وأنه في هذه الايام التي يزداد فيها احترام البيئة فإننا لا نريد ذلك. أليس كذلك؟ ونظر الي كولبي نظرة إمتنان وانفض الاجتماع.

لقد سار كل شيء على ما يرام في يوم الحدث (كانت الموسيقى التي اختارها كولبي في النهاية شيئاً عادياً، للموسيقار إيلجار* وقد عزفها هوارد والصبية الذين معه جيدا جداً). ولم تمطر وقد حضر الحفل عدد كبير من الناس، ولم ينفد ما أعددناه من الشراب أو أي شيء آخر. وطليت كرة المطاط ذات العشر أقدام بلون أخضر غامق وانسجمت تماماً مع الجو الريفي. وأكثر شيئين أتذكرهما جيدا في كل هذه الحكاية هي نظرات الامتنان تلك التي رمقني بها كولبي عندما قلت ما قلت عن السلك وحقيقة أنه لم يتجاوز أحد الحد كثيراً بعد ذلك مرة أخرى.


* آيفيس: شارلز إدوارد آيفيس، موسيقار حداثي أمريكي عاش خلال الفترة 1874 - 1954 .

* دراكو : سياسي إغريقي من أثينا، شرع القوانين. إمتدح الناس حياديتها، ولكنها لم تكن محبوبة لقسوة أحكامها.

* إيلجار: السير إدجار وليم إيلجار موسيقار رومانتيكي انجليزي عاش بين 1857 - 1934 .


* اللوحة أعلاه بعنوان ليل للفنان الالماني التعبيري ماكس بيكمان (1884 - 1950)

الخميس، يناير 1

محمد طمليه


محمد طمليه .. سخرية تخدش "الحياد" العام وتتحدى الموت!
(1957 – 2008)


بقلم اياد نصار

يعتبر الاديب والقاص محمد طمليه الذي رحل عنا هذا العام وترك في قلوبنا حزناً لا ينضب عليه رائد الادب الساخر في الاردن. وتعكس قصته القصيرة ومقالاته الصحفية التي تعتمد الاسلوب القصصي ونمط حياته الشخصية الصورة الابرز تعبيراً عن أدب المهمشين والفقراء والبؤساء والصعاليك الذين قضى حياته مسكوناً بهم ، يدافع عنهم ، وينحاز لهم ، ويطرح قضاياهم بسخرية ناقدة مرة ، ولغة موجزة متقشفة. ولد محمد عبد الله مصطفى طمليه في قرية أبو ترابة، شمال مدينة الكرك جنوب الاردن عام 1957 وتعود أصوله الى قرية عنابة بقضاء الرملة. عاش صِباه في مخيم الحسين في مدينة عمّان. وقد قال عن ذلك: "كل ما في حوزتي من تجارب سخافات مع أنني اعتبر طفولتي في قرى الجنوب وانتقالي عند اليفوع للعيش في "مخيم الحسين" وضعية خاصة جعلتني أكون "أردنياً من أصل فلسطيني"، و"فلسطيني من أصل أردني" وقد بنيت كل مواقفي السياسي منها تحديداً على أساس العلاقة "الكاثولوكية" بين الشعبين الشقيقين".

درس اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأردنية وتخرج منها عام 1979. وقد أعتقل مرارا بسبب مواقفه السياسية في أثناء فترة دراسته في الجامعة. عمل طمليه سكرتيراً لرابطة الكتاب الأردنيين خلال الفترة ما بين (1984- 1987)، ومديراً إدارياً لجاليري الفينيق للثقافة والفنون. ورئيساً لتحرير صحيفة الرصيف في العام 1991، ثم رأس تحرير صحيفة قف. كان كاتباً لعمود يومي في عدد من الصحف الأردنية منها: الشعب، الدستور، العرب اليوم، البلاد، الرصيف. وفي السنوات الأخيرة إتخذ زاوية ساخرة على الصفحة الأخيرة في صحيفة " العرب اليوم " التي بدأ الكتابة بها منذ تأسيسها عام 1997، وواظب على الكتابة فيها حتى أواخر أيامه. كان عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين، وفي اتحاد الأدباء والكتاب العرب. حصل على جائزة رابطة الكتاب الأردنيين في مجال القصة القصيرة عام 1986.

توفي في 13 تشرين الاول /اكتوبر عام 2008 وعمره 51 عاماً بعد معاناة استمرت أربع سنوات مع مرض السرطان الذي أصيب بهِ في نهاية العام 2004 في اللسان، وذلك بعد خروجه من وعكة صحية شديدة كانت ألمت به خضع فيها لعلاج متعدد. وبعد اصابته بالمرض فقد تلقى عدة جلسات علاجية في عدة مستشفيات في الأردن، كما دخل في غيبوبة قبيل وفاته في المدينة الطبية بعمان. ترك موته صدى حزيناً في المشهد الثقافي والصحافي الأردني. وقد شيع مئات من الصحافيين والكتاب والقراء جثمانه من بيت والدته المتواضع الذي كان يتحدث عنه دائماً في قصصه ومقالاته في منطقة وادي الحدادة ذات الكثافة الشعبية الفقيرة.

لم تكن السيجارة تفارق أصابعه، ولم يتزوج في حياته، وقد قال مرة ساخراً أنه نسي أن يتزوج من زحمة الحياة. وعن نظرته للمرأة والزواج فقد كتب يقول في مقالته "ورطة": "كل النساء رائعات وليقل كل رجل ما يشاء من أوصاف رقيقة في حق صاحبته ولكني اسأل بجد: هل وجود المرأة في الحياة ضروري؟ اقبل بها كخالة متزوجة وتعيش مع أسرتها في "الزرقاء" أو كأخت مطلقة وما عدا ذلك فإنني لا اوافق"!

عرف عنه أنه كان متمرداً على الواقع ويعشق حياة الصعلكة التي أورثته سوء الصحة والمرض ومتاعبه ويضيق ذرعاً بالاطر والتقاليد والانظمة التقليدية التي تحاول أن تحد من نزوعه الفطري الغاضب في النظرة للامور. ومن طريف الامور أن رئيس تحرير جريدة الدستور التي عمل بها فترة طويلة الدكتور نبيل الشريف قال في تأبينه: "يكاد يكون محمد طمليه الكاتب الوحيد في تاريخ الدستور الذي كسر كل القواعد فعيّن أربع مرات وهذا يدل على أهمية قامته الابداعية والادبية"!

كان طمليه القاص والصحفي الاكثر التصاقاً وتعبيراً عن هموم الناس وقضايا الطبقة الفقيرة التي جاء منها ولم ينسلخ عنها حتى وفاته. وسخر قلمه للدفاع عن هموم الناس المهمشين والمنسيين والمتعبين والذي اقترب منهم اكثر في زاويته اليومية "شاهد عيان "التي بدأها في صحيفة الدستور ثم جريدة الشعب، التي توقفت عن الصدور، ثم في صحيفة العرب اليوم حتى وفاته. وفي مقالة ساخرة عن حياته قال إنه يعتبر نفسه: "الأضحية الوحيدة التي أخذها ملحدون إلى حج مرفوض سلفا! وأنه العريس الذي ذهب في اجازة شهر العسل "بمفرده" وأنه الجندي الذي مات بآخر رصاصة أطلقها في الاحتفال بوقف اطلاق النار"!

يُعَدّ طمليه الذي كان يعتبر نفسه من أصول ماركسية من مؤسسي الكتابة الساخرة في الأردن. ورغم أن كتاباته تتخذ قالباً ساخراً إلا أنه كان يعتبر أنها في الاساس كتابة جادة بعيدة عن التهريج. ومنذ مقالته الأولى في صحيفة "الدستور" في زاويته المعروفة "شاهد عيان" في العام 1983، فقد كرس صورته لدى القراء بوصفه كاتب مقال ساخر. مثل ما لبث أن أصبحت الكتابة الساخرة "ظاهرة" في الصحافة الأردنية منذ فترة التسعينيات التي شهدت شيوع المناخ الديمقراطي للتعبير. وكان واحدا من الكتاب الذين حظيوا بشعبية كبيرة ومحبة من قرائه التي ازدادت بعد انتشار خبر اصابته بالمرض.

يمتاز اسلوبه بالواقعية الشديدة والبساطة والمفارقات والمواقف الساخرة العبثية حد البكاء أو الضحك، وتنتقل عباراته بسرعة ما بين روح ناقمة أو ضاحكة بسخرية في ذات المقال وبقدرته على توظيف لغة قصصية موجزة تمتليء بالتشبيهات الغريبة التي صارت جزءاً من قاموسه. ويغلب على كتاباته أجواء الحسرة واسترجاع الطفولة والتشاؤم والمرض وخيبة الامل، ولكنه برغم كل ذلك ينجح في تقديم شخصية تتعلق بالحياة وتتحدى الموت بشجاعة. يقول بلغة ذكية مفعمة بالالم واليأس الذي يصل حد الاضحاك: "متنا بما فيه الكفاية، ونموت يومياً، ولكن المثير للسخط هو أن موتنا ما يزال بدائياً ومتخلفاً ويحدث بسهولة متناهية وبما يوحي أننا عجزنا عن تكديس خبرات مفيدة في هذا المجال: كأننا نموت للمرة الأولى"!

إستطاع أن يؤسس لنفسه خطاً أدبياً يعتمد فيه على لغته المتقشفة الخاصة به وتعبيراته وتشبيهاته وأجوائه العبثية التي تلتصق بأحلام وهموم الفقراء. يعتمد في مقالاته على لغة سردية لها أجواؤها وأمكنتها الخاصة التي تعكس ذات الامكنة التي عاش بها محمد طمليه. ومن بين شخوصه التي تتردد في أعماله وتلتصق بالذاكرة شخصية "أم العبد" التي صارت مثل حنظلة ناجي العلي.

تعتبر مجموعته القصصية "المتحمسون الاوغاد" التي أصدرها عام 1986 الأشهر بين أعماله، وتعد علامة بارزة في تاريخ تطور القصة القصيرة في الأردن، وقد تم تحويل بعض قصصها إلى أفلام سينمائية قصيرة.

مؤلفاته في مجال القصة:
1-جولة العرق (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1980.
2-الخيبة (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1981.
3-ملاحظات حول قضية أساسية (قصص) الزرقاء: مطبعة الزرقاء الحديثة، 1981.
4-المتحمسون الأوغاد (قصص) عمان: رابطة الكتاب الأردنيين، 1986.
5- (يحدث لي دون سائر الناس)، كتاب مشترك مع صديقه رسام الكاركاتير عماد حجاج، عمان، 2004.
6- اليها بطبيعة الحال، (قصص) عمان: منشورات الاهلي، 2007.



* اللوحة أعلاه بعنوان "إبن الانسان" للفنان البلجيكي السوريالي رينيه ماغريت
(1898 - 1967)