الأحد، فبراير 28

إمرأة في بلاد الحريم


قراءة في ديوان "إمرأة في بلاد الحريم"
بقلم: اياد نصار

أجمل ما في ديوان الشاعر جهاد أبو حشيش الذي صدر عام 2007 هو قدرته المزدوجة على تصوير معاناة الشاعر الداخلية، حين يتورط في حب إمرأة مكبلة بتاريخ طويل من أعراف وقيود الحريم، منذ أن "طاولت نخلة بأعناقها زرقة السماء"، ولكنها بقيت مزروعة مكانها بالارض، حيث تراكمت حول جذورها كتل من التراب القاسي، فمنعتها من الحركة، وفي الوقت نفسه، تصوير معاناة المرأة العربية التي فقدت إحساسها بهويتها الانسانية عبر تاريخ طويل من القمع الصامت والاغتراب الذي حوّلها الى قطيع من الحريم، يعاني الانفصام والتمزق ما بين داخلي متفجر يضج بالحياة، وخارجي ينوء بنفاق إجتماعي يتمثل بكتل الثلوج الراكدة التي تطفيء حرارة الكلام.

نجح الديوان بطرح معاناة المرأة العربية، من خلال طرح معاناة الشاعر في البحث عن علاقة انسانية، تستشف رؤى الروح ولذة الجسد، دون أن يُصادر دورها واختيارها، مما يلخص معاناة المرأة في "بلاد الحريم" التي تصبح في الديوان مرادفاً للشرق. وهنا ينتقل بشكل جميل ما بين الخاص الداخلي بلغة شعرية رقيقة متوترة موسيقية الى الفضاء الانثوي الانساني في صراعه لتقديم جماله واستكشافه لمعاني الحب والعشق. ومن المفارقة أن يهدي الشاعر قصائده للمرأة البرية التي يبحث عنها فلا يجدها، لأن نساء الحريم صارت زبداً بلا هوية، فهي ضحية مثل الشاعر.

في التمهيد الذي يقف في مقدمة ديوانه، يقيم الشاعر بكلمات شاعرية أجواء المسرح الذي ستجري عليه حوارات العشق ومناجاته المفعمة باللذة والالم في آن معاً، ويحدد أطره الفكرية: إرتجاف دون اباحة، وحب يغسل النفس المذنبة، ونخل مارق، في اشارة بارعة الى تاريخ طويل من السكوت والخنوع، فتأتي القصائد معلنة التمرد والمروق. ليل طويل. وأي ليل؟ ليل الظلام والسواد وليالي العذاب، فالشرق حكاية، وكل ما قيل فيها لغاية الان قليل، وهذا ما يبرر مشروع الديوان أنه يقتحم عالماً غامضاً ساحراً، ولكنه مفعم بالألم والشكوى والرجاء يبحث عن وسائل للتعبير عن ذاته. هذا العالم هو بلاد الحريم الذي يقيم الشاعر في ديوانه مسرحاً لأجلها، يقدم فيه صوراً متنوعة للعلاقة المتوترة بين الرجل والمرأة.

تمتليء القصائد بمفردات عالم بلاد الحريم منذ القصيدة الاولى "عتقت روحي"، فهناك الأرائك والخيل والملك والنخيل والجنة، في قصيدة تعلن فيها امرأة أنها عتقت روحها لأجل من تحب، ولكن كل تفاصيلها توحي بقمة الاستسلام أمام الحبيب، فهو كالملك فوق نخيلها وفي جنتها. وفي قصيدة "شرق"، فإن المتكلم رجل يدعو المرأة لكسر حاجز الصمت. فهذا الشرق كما يقول أرض الطغاة التي قد تحولت فيه النساء الى مدن محرومة تموت على شفاها الكلمات والقبلات، وتمارس الصيام كناية عن الحرمان وادعاء الفضيلة. وفي عبارة مثقلة بالمعاني يقول "إكسري طوق النجاة"، فقوانين بلاد الحريم وأنظمتها الاجتماعية التي تطرح على المرأة كأطواق نجاة ما هي الا أطواق استعباد، ولم يبق مكان لحب رائع فيه، فقد رحلت الحوريات الى غير رجعة.

تسود القصائد لغة رومانسية رمزية، تقدم صوراً سيريالية مركبة مجزؤة، تعتمد توظيف مفردات البيئة الخاصة بالشر، لتقدم أشواق وهواجس عالم المرأة المثقل بالقيود والمحظورات. تطرح قصيدة "مؤامرة" بايقاع سريع مفهوم المؤامرة، فهناك مؤامرة يقوم بها الرجل لمصادرة أي تحرك تقوم به المرأة قبل البدء وقبل الخاتمة، وهناك مفهوم المؤامرة الذي يرى في أي تعبير للحرية لدى المرأة نوعاً من المؤامرة على المرأة. وبهذا تصبح المرأة مستودع الكبت الذي توأد فيه رغباتها ومظاهر فرحها وحزنها، وتتجمد دموعها وصمتها وشفاهها وخصرها وكل شيء فيها من برد القمع وثلوج العزلة:

شفاهُك التي أجَّلتْ قبلاتِها
وخصرُك الذي يغيب في ثلوج ِ نارِك
كقطة ٍ مشاغبة
ونهدُكِ الوحيدُ كالأبراج
في مدينة ٍ مسالمة
شرق من النساء
شفاهُها المؤامرة

وبلغة الحنين والأمنيات الضائعة، وبلحن موسيقي واضح، تقدم قصيدة "أريد أن" توق الشاعر الى التحرر من مدن الحديد والزيف، وحلمه في أن نقول ما نريد ونكتب ما نريد في عالم يقدر القصيدة التي تصبح التعبير الاسمى عن الحب. تقدم القصيدة الامنية تلو الامنية بعالم آخر يحلق فيه الانسان كالفراشة. ولكن القصيدة تطرح مفهوم ان تكون القصيدة نفسها هي المكان والتعبير الاسمى، فهي محارة الكلام التي ينام فيها الشاعر، وهي المذبح الذي يتطهر فيه بعيداً عن عالم العبيد والاسياد، فهناك تتماهى الفوارق والحدود فنكتب ما نشتهي.

توظف القصائد بصورة مبتكرة عناصر الطبيعة الاربعة التي اعتاد القدماء أن يقسموها بين الماء والنار والتراب والهواء بشكل متكرر. وتكاد لا تخلو قصيدة من توظيفة ما لأحد هذه العناصر، فهناك جدائل النار وآيتها، وهناك مدن الثلج وأشواكها، وهناك ماء الغزال الذي يتحول الى نجمة في الكلام، وهناك الجمال الابيض الذي يصبح تراباً أو قمحاً أو بعض إله. كما نلحظ في أغلب القصائد هذا الكم الهائل من حر الرغبة وينابيع الوجد التي تتجمد من ثلج الوحدة على الشفاه. ولا تقف نيران العشق عند أحلام العاشق بل هي نفسها تمور في صدر العاشقة وعلى خدودها، ولكن تموت خلف الشبابيك.

يعود صوت المرأة العاشقة مرة أخرى في قصيدة "أموت في انتظاره" في لغة تتجرأ فيها على قوانين بلاد الحريم، وتبوح فيها بكل شفافية وحرارة بشكل يذكرنا بتمرد العاشقة الاندلسية على قيم المجتمع العربي وتعبيرها عن عشقها بكل جرأة وصراحة. قصيدة تمتاز بتوظيف الاصوات والالوان والاحاسيس والمتضادات:

في دفتري الصغير
تنام ألف غيمة وغيمة
شقاوتي صِنّارة
مدينة من النساء في دمي تموج
أشتاق للحرارة
فبعض ناري جنّة
وبعضها اشعاره
وحينما يلمني من الغمام
في قصائده
أنوثتي مناره
فاعذروني أن هتفت عِشْقَه
ومتّ في انتظاره

ولكن هذه الجرأة في التعبير عن العشق الانثوي لا تنسى أن تبتديء بالاعتذار وتنتهي بالانتظار!
يوظف الشاعر جهاد أبو حشيش اسلوب المتضادات والمقابلة لتعميق مفهوم المعاناة واستحالة الوصل:

وفي لعاب صمتها
يذوب ما نقول
تهزني كالنار
إذْ تهزّ خصرَها الثلوجُ
فبردها مدينتي ونارها ولوج
تجيء في الغياب خلسة ً
تموجْ
تقبل احتراقَها فراشة ٌ
فتنثني المروج

وفي قصيدته الجميلة "في بلاد الحريم" التي أهدت للديوان عنوانه، يقدم الشاعر مستوى رفيعاً من أفكار لمّاحة وإشارات صريحة وضمنية. تطرح القصيدة مظاهر معاناة العاشق والعاشقة في بلاد ما تزال تنتهك انسانية المرأة وتحولها الى مجرد أسيرة للذة في قصور الحريم، وتسلب حريتها حتى في التعبير عن ذاتها، وتنقل صوراً للصراعات النفسية الداخلية بين الرغبة في الانطلاق والتحرر وبين الخنوع. وينتقل الشاعر فيها باسلوب سلس ما بين الخاص والعام بشكل متبادل وبلغة متوترة ذات جمل قصيرة استطاعت أن تضع القاريء في أجواء الديوان. وما يميز هذه القصيدة هو بناؤها، فهي تتألف من خمسة مقاطع ومقدمة على نحو يذكرنا بأننا أمام عمل روائي. وفعلا هناك لمسة روائية في لغة القصيدة، فهي تسرد حكاية من شرقنا يبتدأ بالقول أن كل شيء مباح في شرقنا. ولكن المفارقة تظهر عندما نعرف أن كل شيء مباح هو كل ما هو غير إنساني: الخيانة والخديعة وجراح الحب!

تلخص مقاطع القصيدة تغييب الشعور بالذات لدى المرأة، حيث تصبح مجرد جارية في خدمة أوهام سوداء لا تعرف غير الدم والعنف، وتفقد حريتها. وتصبح مصدر متعة حسية جسدية عبرت عنها بعبارة رائعة:

إذا اشتهى قيثارتي
أُحضّر العشاء!
وبرغم ذلك فهي كالفراشة التي تحوم حول مصيرها لا تستطيع له فكاكاً. برغم القهر والعذاب، فإنها مصرة أن ينتصر الحب، والقلب لا يتوقف عن الاحتراق والشغب:

تفاح قلبي يابس مما إعتراه
وبعض قلبي من شغب
إن يزرعوا حولي الحواة َ
حجرُ وصوتي من لهب

نجح ديوان "امرأة في بلاد الحريم" من خلال لغة شعرية مشحونة مليئة بالصور، والتي تطرح دلالات وعلاقات جديدة للمعاني، وفي رؤية معاصرة تستلهم بعض أهم قضايا المجتمع العربي قديماً وحديثاً، في توظيف واستلهام صور متعددة من التراث الممتد من قلب الصحراء الى حواف الماء فيما يخص قيمة ومكانة المرأة.  كما نجح في اظهار المفارقة الصارخة التي يمثل أحد جانبيها مكانة المرأة في عمق القلب والوجدان بالنسبة للرجل العربي الذي يعبر عن ذلك كثيراً بأشعاره حتى حد الالم والبكاء، وفي الوقت نفسه يجرد هذا الحلم الجميل من حريته وذاته حتى يبني مدينة الخراب!

* نشرت في مجلة "أفكار" الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة الاردنية، العدد 252 للعام 2009.

هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف3:33 م

    السلام عليكم استاذ/اياد
    اولاً:اشكرك جداًعلى اختياراتك الجميلة جداً.
    اعجبنى كثيراً تعليقك حول الديوان كما اعجبتنى قصيدة(اموت فى انتظاره)
    ولكن اذا كانت تبدا بالاعتذار وتنتهى بالانتظارفذلك(حفظاًلاراقة ماء الوجه)
    فنحن النساء مهما بلغنا من الجراءة نظل دائماًنحب فى صمت.
    اشكرك على هذا الاختيار الذى شعرت وانا اقراءه انه مس شئ ما بداخلى.
    لك منى خالص الاعجاب والتقدير(امال)

    ردحذف
  2. اقدم خالص تقديري لتوقفك الجميل الذي يعبر دائماً عن وعي وتذوق قارئة من طراز رفيع تدرك معاني الكلام وتستشف قضايا الادب العربي المعاصر وتعيش مع جماليات البناء الفني للعمل وتصغي في النهاية لصوت النداء الداخلي الذي تخاطبه هذه الاعمال. وهذه هي كما أعتقد غاية الادب في أن يحرك شيئاً بوعي الملتقي وأحاسيسه يدفعه نحو التفكير والتأمل والعمل. تحياتي الكبيرة لك آمال.

    ردحذف
  3. عزيزي القاص إياد نصار

    تبرز من خلال تناولك لديوان الشاعر والصديق جهاد أبوحشيش مدى عمق ورسوخ حالة التنوع الإبداعي الملاصقة لكم... كما تبرز من خلال أسلوب مميز سلس -يعتمد شاعرية نادرة في الطرح على صعيد النثر في تناول الموضوعات الأدبية- حالة من التماهي مع النصوص إلى حد شعرت فيه بأن الناقد لا بد وأنه كان شريكاً أو محركاً لملكة إبداع الشاعر...

    لا أريد الخوض أكثر... لكن هذا المقال أعادني شهوراً للوراء هذا الصباح... إلى عصر ذلك اليوم، لتقفز إلى ذهني شرفة الزجاج المطلة على شارع السلط يدير لهاأبوحشيش ظهره، يحملق في شاشة الحاسوب، يوزع اهتمامه بحرفية المضيف وهو يرحب بالحضور دون ان يحول بصره عن تلك الشاشة، كنتُ أطيل إليه النظر لأخرج بانطباع ما ... ثم أقول لعل الصخب المتسرب عبر الشرفة من ذلك الشارع يعادل الصخب المتناثر من جوقة الحضور...

    تحياتي لك وللشاعر الصديق جهاد أبوحشيش

    ناصر الريماوي

    ردحذف
  4. صديقي المبدع الرائع ناصر الريماوي
    تعليقاتك مرآة ذوقكم المرهف وحسكم العالي بالكلمة وتشربكم أجواءالقصة التي ألحظها في كل كتاباتكم، فتحيل كل نص الى مناسبة للرسم التأثيري بعين متأملة تتفحص الاشياء والاصوات والالوان وترسم صورا بديعة. لا بد لي أن أعايش النص من داخله لأتعرف على بنيانه وأسلوبه ولغته، ومن خارجه في سياقه الاجتماعي والفكري لتكون المغامرة تجربة مدهشة. يجب أن أؤمن بالقضية التي يطرحها الديوان أو المجموعة القصصية لأخوض مغامرتها النقدية الجميلة، عندها أدرك مقدار المتعة التي أحس بها بعد أن أصبحت القضية قضيتي. أرجو أن تعرف كم يكن لكم الوجدان من محبة ومن تطلع أكيد لأعيش مغامرة قلمكم المبدع. كتاباتكم الجميلة تدهش أي قاريء للتوقف عندها ملياً. لنا حديث آخر في الايام القادمة. لك مني كل الوداد

    ردحذف